احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي

سابعاً: الخطاب الشرعي ومقاصد الشريعة

تعتقد الطوائف الفكرية المعاصرة المناوئة للخطاب الشرعي بأن الخطاب الشرعي غائب تماماً عن مقاصد الشريعة، ويرددون دوماً بأن الخطاب الشرعي لو تبنى “الشاطبي” لكنا في غير الحال التي نحن فيها الآن، وحين يحاول الباحث تحديد النتائج التي يعولون على الشاطبي والموافقات، وما المخرجات التي يراهنون عليها من توسيع وجود الشاطبي وموافقاته في العقل المسلم، يجد أنها تدور حول محورين:

الأول: أنهم يعتقدون أن تواجد الشاطبي في العقل الفقهي سيدفع باتجاه “تكثيف حضور المصالح الدنيوية” في الخطاب الشرعي، باعتبار أن مقاصد الشريعة تتضمن أولوية الحفاظ على النفس، والحفاظ على المال، ونحوها، ومثل هذه الأمور لا يوفرها الفقه التقليدي.

والثاني: أنهم يعتقدون أن الشاطبي ومقاصد الشريعة سيولدان ثورة فقهية لـ”تحرير العقل المسلم” من التعقيدات الفنية الفقهية، لأن علم مقاصد الشريعة يدور حول “كليات عامة” يستطيع الجميع المشاركة فيها، وبالتالي ستضمن هذه المنهجية التخلص من سلطة النصوص الجزئية، وسلطة السلف، وسلطة الشيخ، وسلطة سد الذرائع، ونحوها من السلطات التي كبلت العقل المسلم، وهذا ما يفتح المجال واسعاً لدور العقل، والرحابة مع الاختلاف، والتسامح الفقهي، ونحوها.

هذان المحوران (تكثيف حضور المصالح الدنيوية، وتحرير العقل المسلم من السلطات الفقهية التقليدية)، هما أبرز الرهانات التي دفعت الطوائف الفكرية المعاصرة لكثرة استحضار الشاطبي والموافقات ومقاصد الشريعة، ونقد الخطاب الشرعي المعاصر بأنه يقوم بعملية مقاطعة صامتة للشاطبي وموافقاته.

ما مدى يا ترى صحة هذا النقد؟ وما مدى علمية هذه الرهانات؟

لن أذيع سراً إن قلت للقارئ الكريم أنني لم ألتقِ بأحدٍ من مناوئي الخطاب الشرعي الذين يتحدثون عن الشاطبي إلا وسألته: هل قرأت الموافقات؟ فهل تصدق أن الجواب يأتي دوماً برفض خجول!

وأنا إلى هذه الساعة لم أقابل أحداً ينتقد الخطاب الشرعي بعدم تبنيه للشاطبي وهو قد قرأ فعلاً الموافقات للشاطبي.

في كل مرة أحاور شخصاً من مناوئي الخطاب الشرعي عن الشاطبي والموافقات لا أستطيع كظم تبسمي، لأن هؤلاء لو قرؤوا الشاطبي والموافقات فعلاً لفروا منها فرار المستجير من الرمضاء بالنار.

الشاطبي أصلاً يقع في الجناح المحافظ من الفقهاء، وحياته رحمه الله كانت صراعاً مع ظاهرة التساهل الفقهي والعقدي، وكتابه الموافقات من أعنف الكتب في تقويض الأطروحات العلمانية والليبرالية والتنويرية واليسارية في قراءة الإسلامأجعنف ، لما يتضمنه من فصول رصينة التصميم والبرهنة في ترسيخ تعظيم النصوص الجزئية، ومرجعية السلف في فهم الإسلام، ومركزية الآخرة، ونحوها من أصول أهل السنة المصادمة لطريقة الطوائف الفكرية المعاصرة.

فكيف لا أتبسم وأنا أرى مدعياً يختار أقسى القضاة عليه؟!

حسناً، لنحاول أولاً أن نفهم من هو الشاطبي عبر التعرف على السياق الفقهي/التاريخي الذي تحرك فيه، ثم نعرض جزءاً من مفهومه وتصوره لمقاصد الشريعة، ونختم هذا الفصل بعرض شيء من منتجات الخطاب الشرعي المعاصر في علم المقاصد.

-أزمة الشاطبي مع ظاهرة التساهل الفقهي:

كان الشاطبي في “بداية طلب العلم” يدرس عند الشيخ أبي سعيد ابن لب (782هـ) خطيب جامع غرناطة في الأندلس، وكان الشيخ ابن لب معروف بـ”التساهل الفقهي” في الفتيا في بعض الأحيان، فإذا جاءه مستفتٍ في مسألة خلافية لم يبحث في الأرجح دليلاً بل يفتي بأهون القولين على المستفتي، وهي طريقة “أخذ الأهون على الناس في الخلافيات”، وكان الطالب إبراهيم بن موسى الشاطبي غير مقتنع في بداية الأمر بهذه الطريقة، وتحاور الشيخ مع طلابه –بمن فيهم الشاطبي- وانفض المجلس ولم يقتنعوا بطريقته، فدعاه شيخه هو ومجموعة من الطلبة ذات يوم وناقشهم طويلاً حتى أقنعهم بقضية “تخيير المستفتي في المسائل الخلافية”، وقد روى الشاطبي نفسه هذه القصة في كراسة صغيرة كتبها أثناء بداية الطلب وكان اسمها “الإفادات والإنشادات” (وهي مطبوعة حالياً) وأكثر فيها من الفوائد عن شيخه أبي سعيد بن لب هذا، سندع الآن الشاطبي يحكي لنا هذه الواقعة، وأعتذر مسبقاً عن نقل النص بطوله ولكن قيمته التاريخية أجبرتني على ذلك، يقول الشاطبي:

(إفادة: كنت يوماً سائراً مع بعض الأصحاب إذ لقينا شيخنا الأستاذ المشاور أبا سعيد بن لب -أكرمه الله- بقرب المدرسة، فسرنا معه إلى بابها ثم أردنا الانصراف، فدعانا إلى الدخول معه إلى المدرسة، وقال أردت أن أطلعكم على بعض مستنداتي في الفتوى الفلانية وما شاكلها، وأبين لكم وجه قصدي إلى التخفيف فيها -وكان قد أطلعنا على مكتوب بخطه جواباً عن سؤال في يمين أفتى فيها بمراعاة اللفظ والميل إلى جانبه، فنازعناه فيه في ذلك اليوم، وانفصل المجلس على منازعته- فأرانا مسائل في “النهاية” و “أحكام ابن الفرس” وغيرهما، وبسط لنا فيها بما يقتضي الاعتماد على لفظ الحالف وإن كان فيه خلاف ما لنيته، بناء على قول من قال بذلك من أهل المذهب وغيرهم، وقال: أردت أن أنبهكم على قاعدة في الفتوى وهي نافعة جداً ومعلومة من سنن العلماء وهي أنهم ما كانوا يشددون على السائل في الواقع إذا جاء مستفتياً. وكنت قبل هذا المجلس تترادف علي وجوه الإشكالات في أقوال مالك وأصحابه، فلما كان بعد ذلك المجلس شرح الله بنور ذلك الكلام صدري، فارتفعت ظلمات تلك الإشكالات دفعة واحدة، لله الحمد على ذلك ونسأله تعالى أن يجزيه عنا خيراً وجميع معلمينا بفضله) [الإفادات والإنشادات، ص153]

ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يواصل الطالب إبراهيم بن موسى الشاطبي طلبه للعلم، ويتبحر في الاطلاع على أقوال السلف وفحص النصوص الشرعية، فاكتشف أن طريقة شيخه أبي سعيد بن لب في “الأخذ بالأيسر في الخلافيات” أنها طريقة مناقضة لأصول الشريعة، فلما صار الإمام الشاطبي معدوداً من “أهل الفتيا” في الأندلس في زمن شيخه أبي سعيد بن لب ذاته، صار لا يفتي الناس بهذه الطريقة التي اعتاد شيخه أن يفتي الناس بها، بل صار يحمل الناس –في المسائل الخلافية- على الأرجح وليس على الأيسر، وصار ينافح عن هذا المنهج عبر التنظير الفقهي والتطبيق الفتوي.

ثم كتب كتابه الموافقات، وسيطر عليه في جزء كبير من الكتاب الرد على طريقة أبي سعيد بن لب، فعقد فصولاً كثيرة كلها تدور حول نقض هذه الطريقة، أي نقد طريقة “التيسير على المستفتي بالأهون في الخلافيات”، ومن الفصول التي عقدها لذلك: تتبع رخص المذاهب، أن مقصد الشارع إخراج المكلف عن داعية هواه، وغيرها.

ثم لما انتهى من الفصول النظرية لنقض هذه الطريقة التيسيرية، عقد فصلاً آخر جاء في مطالعه قوله:

(ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة، فضلاً عن زماننا؛ تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة).[5/84]

وحكى في هذا الفصل من حكايات وطرائف المفتين الذين يتساهلون في الفتيا على أساس الخلاف.

ومع براعة هذه الفصول التي عرضها الشاطبي، وقوة البرهنة فيها، إلا أنه يبدو لي شخصياً أن أعمق برهان عرضه هو توضيحه بأن هذه الطريقة التيسيرية تجعل “الخلاف” أقوى حجية من “الوحي” فيصير الخلاف حاكماً على الوحي، وليس العكس، كما يقول الشاطبي:

(مما في اتباع “رخص المذاهب” من المفاسد: الانسلاخ من الدين بترك “اتباع الدليل” إلى “اتباع الخلاف”، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط) [5/102]

وشرح تساؤلات أصحاب هذه الطريقة التيسيرية التي تتذرع بالخلاف فقال:

(فصل: وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار “الخلاف في المسائل” معدوداً فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم..، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال “لِمَ تمنع والمسألة مختلف فيها؟” فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة) [5/92]

وأشار الشاطبي إلى احتجاج أصحاب “التيسير على أساس الخلاف” بذريعة أن “الخلاف رحمة” وتلمس من حكايته لأقوالهم ما عايشه معهم من مواجهات في هذه القضية كما يقول:

(جعل بعض الناس “الاختلاف رحمة” للتوسع فى الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد, ويقول “إن الاختلاف رحمة”، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له “لقد حجرت واسعًا، وملت بالناس إلى الحرج، وما فى الدين من حرج” وما أشبه ذلك، وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة) [5/94]

ويشير الشاطبي إلى أن التذرع بالخلاف للتيسير يفضي إلى الإباحة المطلقة كما يقول:

(إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى فى النازلة بالإباحة وإطلاق العنان) [5/95]

وعرض الشاطبي هذا الأمر في صورة إيمانية مؤثرة جداً حيث يقول:

(إذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له “أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق” فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: “فى مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت؟” فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع..، وتسليط المفتي العامي على “تحكيم الهوى” بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه؛ رمي في عماية، وجهل بالشريعة) [الموافقات، 5/96]

ونتيجة لهذا الواقع الفقهي المتدهور فقد اعتنى بشكل كبير بإشكالية “مسائل الخلاف” وخطورتها على سلطة الوحي، ومن معالجاته لها قوله:

(فإن في مسائل الخلاف “ضابطاً قرآنياً” ينفى اتباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان؛ فوجب ردها إلى الله والرسولr، فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول r) [5/81]

ولما صار الشاطبي يحارب طريقة “التيسير على أساس الخلاف” من خلال التأصيل الفقهي والعمل الفتوي؛ نشبت بينه وبين أستاذه أبي سعيد بن لب وحشة ومنافرة، وصار أستاذه ابن لب يتهم الشاطبي بـ”التزمت الفقهي”، وانتشرت هذه التهمة بين طلاب أبي سعيد بن لب وعامة مستمعيه في دروسه، فكتب الشاطبي بعد ذلك كتابه “الاعتصام”، وخصص له مقدمة حزينة روى فيها مجموع التهم التي توجه له، وتحدث فيها عن “غربة الإسلام” بكلام يزفر بالمعاناة، ومن هذه التهم التي وجهت له أنهم حمّلوه ونسبوا إليه تهمة “التنطع الديني” كما يقول:

(وتارة أُحمل على “التزام الحرج والتنطع في الدين” وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزَم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذاً في المذهب الملتزَم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب “الموافقات”) [الاعتصام، 1/28].

وعرض تهماً أخرى كان يبدؤها بقوله (وتارة نسبت إلى.. وتارة نسبت إلى.. الخ).

والحقيقة أن الخلاف مع ابن لب لم يتوقف فقط عند قضية “التساهل الفقهي” ، بل تعداه إلى مشكلة تساهل ابن لب في “البدع العبادية” المنشرة بين عامة الناس في الأندلس، حيث كان ابن لب يتبنى تقسيم البدعة إلى الأحكام التكليفية الخمسة، مما يعني أن بعضها بدعة مستحبة وبعضها بدعة مباحة الخ، وهذا أوجد أرضية خصبة لترسيخ تساهل الناس في البدع العبادية التقليدية، فبعد أن رد الشاطبي في كتاب الموافقات على طريقة ابن لب في “التساهل الفقهي”، ألف الاعتصام ورد عليه فيه –أيضاً- في قضايا “التساهل العقدي” مع البدع، ولذلك كانت الإشكالية الجوهرية في كتاب الاعتصام هي أن “ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها” كما هو عنوان الباب الرئيسي في الكتاب، وهو استحضار واضح لتأصيلات ابن لب في قضايا البدع التقليدية.

بل ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فطلاب الشاطبي أنفسهم، يردون على ابن لب انتصاراً لشيخهم الشاطبي، كما يقول المقّري :

(ولأبي سعيد ابن لب كتاب في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل؛ انتصاراً لشيخه أبي إسحاق الشاطبي) [نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 5/514]

ما سبق جزء رئيس من مكونات السياق التاريخي/الفقهي الذي سيطر على اهتمامات الإمام الشاطبي، ويظهر فيه مناهضته لظواهر التساهل الفقهي والعقدي، ومدى معاناته من الضغوط الاجتماعية في هذا المجال.

لننتقل الآن إلى فحص وتحليل الصور التي يتخيلها مناوئوا الخطاب الشرعي عن الشاطبي.

-الشاطبي وتصورات المناوئين:

أول التصورات الشائعة بين الطوائف الفكرية حول مقاصد الشريعة والموافقات والشاطبي ظنهم أن هذا العلم يؤدي إلى “التقليل من قيمة الجزئيات”، وبالتالي –كما يعبرون- تحرير الناس من مراعاة النصوص الجزئية، والاكتفاء بالاحتكام إلى كليات ومقاصد الشريعة العامة، بل يزيدون على ذلك برد كثير من النصوص الجزئية لأنها في نظرهم تخالف ما يرونه كلياً أو مقصداً من مقاصد وكليات الشريعة العامة، ولكن الشاطبي/المقاصدي – الذي يحتجون به – على خلاف ذلك، كما يقول الشاطبي في ضرورة مراعاة الجزئي والكلي كليهما:

(كما أن من أخذ بالجزئي معرضاً عن كليه فهو مخطئ، فكذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه) [3/174]

وأكد على ضرورة مراعاتهما كليهما فقال:

(الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع، لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك الجزئي كذلك أيضاً، فلا بد من اعتبارهما معاً في كل مسألة) [3/176]

وله من العبارات المتناثرة في ثنايا الكتاب في التأكيد على قيمة الجزئيات الكثير ومن ذلك:

(فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي) [2/96]

(الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها) [2/96]

(الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله) [2/96]

وأما في حالة تعارض الكلي والمقصد الشرعي العام مع نص جزئي، فليس صحيحاً أن الشاطبي/المقاصدي يشطب النص الجزئي ويلغيه مباشرة، بل يجمع بينهما كما هي طريقة أئمة الإسلام جميعاً، كما يقول يقول رحمه الله:

(إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد، [إذ كليّة] هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي) [3/176]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي يتضمنان “تضخيم شأن المصالح الدنيوية” لتخليص الخطاب الشرعية من مركزية النظرة الأخروية، وسبب وهمهم أنهم يقرؤون بعض العبارات المنقولة عن الشاطبي في أن الشريعة موضوعة لمصالح العباد، فيظنون أن المقصود هي المصالح المادية الدنيوية، بينما الشاطبي ليس هذا مقصوده، بل المصلحة عنده هي المصالح الدنيوية والأخروية، والمصالح الدنيوية ليست إلا وسيلة للمصالح الأخروية، كما أن المصدر في تعيين المصالح ليس ميولنا ورغباتنا الشخصية بل الشريعة هي التي تعين المصالح، كما يقول الشاطبي:

(المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة؛ إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور، أحدها: ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عباداً لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت) [2/63]

ولذلك فإن الشاطبي يؤكد في مواضع كثيرة من الموافقات بأن الأصل العام أن مصلحة حفظ الدين مقدمة على مصلحة حفظ الأموال أو النفس ونحوها، ومن أمثلة أقواله:

(واعتبار الدين مقدم على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع) [2/265]

(وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما) [2/511]

وهذه الهرمية التي يقررها الشاطبي استنبطها من استقراء الأحكام الشرعية كالجهاد الذي فيه قتل النفوس من أجل إعلاء كلمة الله، وقتل نفس المرتد من أجل مصلحة الدين، وقتال نفوس تاركي الزكاة من أجل الحفاظ على ظهور هذه الشعيرة، ونحو هذه التطبيقات الشرعية التي تتضمن أن مصلحة حفظ الدين أعظم من بقية المصالح، وقد أشار لذلك في مواضع كثيرة، وكان يكرر أن حفظ الدين أعظم من حفظ النفس، وحفظ النفس أعظم من حفظ المال، على هذا الترتيب، ومن ذلك مثلاً قوله:

(النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال؛ كان إحياء النفوس أولى. فإن عرض إحياؤها إماتة الدين؛ كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك) [2/64]

ومن تصوراتهم الشائعة ظنهم أن المقاصد والشاطبي يؤديان إلى توسيع “سلطة العقل” على حساب النصوص، بينما الشاطبي/المقاصدي يضع العقل في “مرتبة تبعية” للنصوص، كما يقول الشاطبي:

(إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرِّحه النقل) [1/125]

بل إن الشاطبي/المقاصدي يشكك في قدرة العقل على معرفة المصالح بالاستقلال عن النصوص الشرعية كما يقول:

(العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد القائل “إن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها” فذلك لا نزاع فيه) [2/78]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تدفع باتجاه “تضيق سلطة النصوص” على الحياة العامة، والتخلص من ما يسمونه “المغالاة في تديين الحياة العامة”، بينما الشاطبي/المقاصدي يرى عكس ذلك كما يقول:

(ليس ثم مسكوت عنه بحال؛ بل هو إما منصوص، وإما مقيس على منصوص) [1/274]

ويقول أيضاً:

(لا عمل يُفرض, ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة، إفراداً وتركيباً، وهو معنى كونها عامة) [1/108]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تعني “فتح باب الاجتهاد” للجميع بمجرد النظر الشخصي الخاص في النصوص، بينما الشاطبي كان يدفع باتجاه تضييق باب الاجتهاد إلا لمن ملك أهلية دقيقة جداً، حتى أنه أوجب بلوغ مرتبة الاجتهاد في لغة العرب للمجتهد في الشريعة كما يقول:

(لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب) [5/57]

وتحدث عن هؤلاء الذين ينظرون في النصوص بلا دراسة لكلام العرب:

(فإن كثيراً من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير)[1/39]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تحرر المسلم المعاصر من “سلطة السلف”، بينما الشاطبي/المقاصدي يغالي في ترسيخ مرجعية السلف في مواضع كثيرة متناثرة في الموافقات سنلتقط منها هذه الشواهد:

(وليس ثم إلا صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ) [3/281]

(كل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه) [3/284]

(الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلو كان ثم فضل لكان الأولون أحق به) [3/280]

(فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف) [3/288]

وغيرها كثير من هذا النمط.

ومن الاعتبارات التي دفعت الشاطبي للتمسك بـ”مرجعية السلف” في فهم النصوص إيقاف دائرة التأويل الباطل للنصوص وتضييقها، كما يقول الشاطبي:

(لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحداً من المختلفين في الأحكام، لا الفروعية ولا الأصولية؛ يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة، فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون) [3/289]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي ستحرر الناس من “سلطة الشيخ” التي كبلت المسلمين كما يقولون، بينما الشاطبي/المقاصدي يتوسع كثيراً في تأسيس سلطة علماء الشريعة بما لا يوجد عند غيره من علماء المسلمين أصلاً، حتى أنه جعل العالم في الأمة يقوم مقام النبي r فيهم، كما يقول:

(المسألة الأولى: المفتي قائم في الأمة مقام النبي r ) [5/253]

ثم ذكر الأدلة الشرعية من آيات وأحاديث على ذلك.

بل واعتبر المفتي يقوم بدور تشريعي ولذلك يجب التسليم له كما يقول:

(المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة؛ إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول؛ فالأول: يكون فيه مبلغاً، والثاني: يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده؛ فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق) [5/255]

وفي ختام هذا الفصل الذي كرسه لـ”مرجعية علماء الشريعة” ختمه بهذه الخلاصة:

(وعلى الجملة: فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقِّع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي، ولذلك سموا أولى الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله) [5/257]

بل إنه نهى عن “الاعتراض على العلماء” ووضع لذلك فصلاً مستقلاً فقال:

(المسألة الثالثة: ترك الاعتراض على الكبراء محمود، سواءً كان المعترَض فيه مما يُفهم أو لا يُفهم)[5/393]

ثم ساق منظومة من الآيات والأحاديث للاستدلال على هذه القاعدة ثم قال:

(فالذى تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق، والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع، إذا سئل عن نازلة فأجاب، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها، أو لا تقع من فهم السامع موقعها؛ أن لا يواجَه بالاعتراض والنقد، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح) [5/400]

ويظن هؤلاء بربط في غاية الغرابة أن “الشاطبي امتداد لابن رشد”، ويضعونهما في منظومة تشريعية وفلسفية واحدة، ويقول بعضهم أن منهج الشاطبي في “أصول الفقه” هو العمل المكمل لمنهج ابن رشد في “الفلسفة”، وأنهما يشكلان منظومة تشريعية جديدة، وهذا الكلام عكس الواقع تماماً، فالشاطبي مارس قطيعة مع ابن رشد وليس امتداداً له، وفكرة أنه امتداد له لا يقولها من قرأ الموافقات فعلاً، فالشاطبي لديه موقف حاسم في رفض طريقة ابن رشد، وكان الشاطبي يحتج في مناهضة طريقة ابن رشد بمنهج السلف، ومن ذلك قول الشاطبي:

(وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ”فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل “إن الأمر بالضد مما قال” لما بعد في المعارضة، وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي r والجم الغفير؛ فلينظر امرؤ أين يضع قدمه) [4/198]

بل اعتبر أن البحث الفلسفي لا يزيد المرء إلا خبالاً كما يقول:

(ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولاً بالشريعة؛ فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالاً) [5/404]

واعتبر الشاطبي أن البحوث النظرية إنما هي طريقة الفلاسفة المخالفة لطريقة المسلمين كلهم، كما يقول:

(تتبع النظر في كل شيء، وتطلب علمه؛ من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم، ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يُخالف السنة؛ فاتباعهم في نحلةٍ هذا شأنُها خطأ عظيم، وانحراف عن الجادَّة.) [1/54]

بل اعتبر الشاطبي أن كل العلوم النظرية التي لا ينبني عليها ثمرة تكليفية أنها سبب للفتنة كما يقول:

(فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم) [1/53]

ولذلك ذم علم المنطق وقرر أنه لا حاجة له أصلاً في فهم الشريعة، كما يقول الشاطبي في عبارات كثيرة هذا بعضها:

(لا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية) [5/421]

(التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية) [5/418]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تعني التخلص من “أغلال سد الذرائع” ومنح الحياة فسحة كما يقولون، بينما الشاطبي/المقاصدي يعتبر “سد الذرائع” أحد أعظم مقاصد الشريعة، وخصص له فصولاً طويلة ساق فيها الأدلة عليه، بل هو لا يسيغ المخالفة فيه باعتباره عنده أصلاً مقطوعاً به كما يقول:

(سد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع) [3/263]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تدفع باتجاه “تحجيم أدلة الشريعة” ليتسع للناس حرية الحركة في الحياة العامة كما يقولون، والواقع أن الشاطبي/المقاصدي ليس كذلك، بل إن الشاطبي يتوسع في الأدلة لدرجة أنه يعتبر “عمل الصحابة” نوعاً من السنة النبوية، كما يقول:

(ويطلق أيضا لفظ “السنة” على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد؛ لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه) [4/290]

ثم قال في تلخيص ذلك:

(وإذا جمع ما تقدم؛ تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه: قول النبي r وفعله وإقراره..، وهذه ثلاثة، والرابع: ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء) [4/293]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تدفع باتجاه “التساهل الفقهي”، بينما الشاطبي بضد ذلك كلياً، ومن أمثلة فتاواه أنه اعتبر تارك صلاة الجماعة لا تقبل شهادته كما يقول:

(صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته؛ لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول r من دوام على ترك الجماعة؛ فهم أن يحرق عليهم بيوتهم) [1/211]

واعتبر أن كشف الرجل لرأسه إذا جرت العادة بتغطيته قادح في عدالة الرجل كما يقول:

(كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح) [3/489]

بل ويرى الشاطبي أن “النهي عن المنكر” لن يخلو من الإساءة للآخرين عرضاً، ومع ذلك فإن هذا لا يقدح في شرعيته، كما يقول:

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام، وإخماد الباطل على أي وجه كان، وليس بسبب في الوضع الشرعي لإتلاف مال أو نفس، ولا نيل من عرض، وإن أدى إلى ذلك في الطريق، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس) [1/374]

وقرر أيضاً منع المرأة من الولاية العامة، ومنع المرأة من ولاية إنكاح نفسها، كما يقول في المصالح التي راعتها الشريعة في جانب المعاملات ما يلي:

(وفي المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها) [2/23]

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تتضمن “ترسيخ ظاهرة الاختلاف” واعتباره ظاهرة صحية، بينما الشاطبي/المقاصدي أكثَرَ من الحط على الاختلاف في فهم الشريعة واعتباره ظاهرة مرضيّة، كما يقول في بعض معالجاته لهذه القضية:

(فإنه –أي الشارع- رد المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد) [5/60]

(والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثيرة، كلها قاطعة في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد) [5/61]

وعندما عرض عبارة “اختلاف العلماء رحمة” رد عليها من خلال الداخل المذهبي نفسه، كما يقول:

(وأما قول من قال “إن اختلافهم رحمة وسعة” فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: “ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد”) [5/75]

هذه جولة خاطفة في المقارنة بين الصورة التي يتم ترويجها حول الشاطبي، والشاطبي الفعلي كما هو، وكل من سمع كلام هؤلاء عن المقاصد والشاطبي، ثم قرأ كتابه، فإنه سيكتشف حتماً أن هناك شاطبيين وليس شاطبياً واحداً، هناك الشاطبي الحقيقي الذي كتب الموافقات، وهناك الشاطبي المزيف الذي تمت دبلجته في المعامل الفرانكفونية وتسويقه كنسخة مقرصنة للمستهلك الكسول الذي لا يفحص مدى موثوقية ما يسمع.

هذا يعني أن الشاطبي تعرض لحملة تغريب مكثفة، ونجحت هذه الحملة –للأسف- لأننا أمام جيل يستهلك الشائعات الفكرية عن التراث الإسلامي دون أي حس علمي في تمحيصها، وهذا يعني أيضاً أن (علم مقاصد الشريعة) و (الموافقات) و (الشاطبي) بحاجة لحملة مضادة لاستنقاذها من عمليات التزييف المنظم، والحيلولة دون استغلالها في تبرير مفاهيم الإباحية الفقهية.

هذا هو المحور الأول وهو تحليل حقيقة الشاطبي وكتابه وعلم المقاصد الذي توسع في شرحه، لننتقل الآن إلى المحور الثاني لهذه الإشكالية: هل يعرف الخطاب الشرعي المعاصر أبحاث المقاصد؟

الحقيقة أنه إذا اتضحت حقيقة المقاصد والشاطبي فيبدو أننا لسنا بحاجة لهذا السؤال الثاني أصلاً، ولكن مع ذلك سنشير لبعض النماذج من دراسات الباحثين الشرعيين في علم المقاصد:

(المختصر الوجيز في مقاصد التشريع) عوض القرني، (مقاصد الشارع الضرورية: دراسة نظرية تطبيقية) محمد بن علي المري، (اعتبار المقاصد في الشريعة) عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد، (تهذيب الموافقات) للجيزاني، (مقاصد الشريعة في حفظ المال وتنميته) محمد سعد المقرن.

فضلاً عن الدروس الشرعية المنتشرة والمسجلة في شرح كتاب الموافقات للشاطبي (وممن لهم شروح على الموافقات: الشيخ ابن غديان، الشيخ عبدالكريم الخضير، د.مساعد الطيار، د.يوسف الغفيص، وغيرهم).

يبدو الآن أننا انتهينا من مناقشة أهم ما يتصل بإشكالية علاقة الخطاب الشرعي بعلم المقاصد والشاطبي، لننتقل الآن إلى إشكاليات أخرى.

ثامناً: الخطاب الشرعي ومعارك الصفات

تتفق جمهور الطوائف الفكرية المعاصرة على نقد علاقة الخطاب الشرعي بمباحث “الأسماء والصفات الإلهية”، ويرون أن الخطاب الشرعي يقيم معارك لا داعي لها حول قضايا المعطلة والممثلة ونحوهم، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى تكثيف الجهود في قضايا المدنية والحقوق والأخلاق.

ولكن هذا الاتفاق العام بين هذه الطوائف الفكرية على إدانة الخطاب الشرعي في علاقته بمباحث الصفات يخفي خلفه تفاوتاً جوهرياً في طرح رؤيتهم حول قضية “الأسماء والصفات والإلهية”، وعبر حوارات متعددة مع هذه الأطياف الفكرية اتضح لي أنهم ليسوا على مرتبة واحدة في النظر لهذه القضية، بل هم –حتى نكون موضوعيين أكثر- يتفاوتون إلى ثلاث مراتب، كل مستوى منها يطرح الإشكالية بمنظور مختلف، وهذه الإشكاليات الثلاث هي: عدم شرعية المبحث، وغياب المخالف، ومغالاة الجهد المبذول.

وللتوضيح أكثر، فالمرتبة الأولى منهم يرون أن مبحث الصفات الإلهية من الأساس هو مبحث ترفي لا قيمة له، وأن اشتغال أئمة السلف به كان من الأصل خطأً تاريخياً يجب ألاّ نكرره.

وأما المرتبة الثانية: فيرون أن هذا المبحث مشروع ومحترم، وأن اشتغال أئمة السلف به كان اشتغالاً مبرراً ويعكس عمق فقههم في دين الله، ولكننا في عصرنا اليوم لا نحتاجه لغياب المخالف فيه، فلم يعد لدينا اليوم “جهم بن صفوان” ولا “المريسي”، ولا يوجد أحد في عالم اليوم كله يتبنى “خلق القرآن”.

وأما المرتبة الثالثة: فيرون أن هذا المبحث مشروع ومبرر، وأن المخالف فيه موجود وحاضر في عالم اليوم، لكنهم ينتقدون الخطاب الشرعي باعتبار أنه أولى هذا الموضوع أكبر من حجمه، فحجْم التعبئة الصفاتية يفوق حجم المخالف في الصفات في عالم اليوم، فهم لا يدْعون إلى إلغائه، وإنما إلى تقليص الجهود العقدية فيه لتتناسب مع حجم المخالف.

هذه ثلاثة مراتب من النقاد يتفاوتون هرمياً في نمط النظرة إلى قضية الصفات، فبعضهم ينكر شرعية المبحث من الأساس، وبعضهم يثبت شرعية المبحث وينكر وجود المخالف، وبعضهم يثبت شرعية المبحث ووجود المخالف لكن ينكر تضخيم الجهود بما يفوق الاحتياج الفعلي.

يبدو لي أنه لا يمكن أن نناقش هذه القضية إلا بفرز المناقشة حسب هذه المراتب الهرمية الثلاث، وهذا ما سنحاوله في الفقرات التالية.

-شرعية مبحث الصفات:

فأما الإشكالية الأولى المتعلقة بجدوى هذا المبحث العلمي من الأساس فهي تقودنا إلى التساؤل حول قيمة الصفات الإلهية ذاتها، أين تقع “الصفات الإلهية” في جدول أولويات الوحي؟ أو ما الموقع الذي تحتله “الصفات الإلهية” من الإسلام؟

حسناً، حين نتأمل (أركان الإيمان الستة) التي يقوم عليها الدين كله نجد أن أعظم ركن من أركان الإيمان هو (الإيمان بالله) والإيمان بالله ليس إيماناً مجرداً، أي ليس إيماناً بجهل أو تحريف، بل هو إيمان مبني على العلم بالله، وبأسماء الله، وصفات الله التي تليق به والصفات التي لا تليق به، فلو أن إنساناً يؤمن بالنبي محمد r لكنه يحرف أوصافه فيصفه بصفات لا تليق به، أو يجحد صفات الكمال التي اختص بها نبينا محمد r؛ فإن إيمانه بالنبي r يكون إيماناً مقدوحاً فيه بقدر ما جحد من أوصافه صلى الله عليه وسلم، وكل من كان بأوصاف النبي r أعلم فإنه في الإيمان به أكمل.

وكذلك (ركن الإيمان بالملائكة)، فلو أن إنساناً يؤمن بالملائكة لكن ينسب إليهم أعمالاً وأوصافاً لا تليق بهم، أو يجحد أوصافهم اللائقة بهم والتي أتت في النصوص؛ فإن إيمانه بالملائكة يكون مقدوحاً فيه بقدر ما جحد، وكل من كان بأوصاف الملائكة اللائقة أعلم كان إيمانه بهم أكمل.

وهكذا (ركن الإيمان بالله) ولله سبحانه المثل الأعلى، فكل من كان بأوصاف الله اللائقة به أعلم كان إيمانه أكمل، وكل من جحد شيئاً من صفات الله اللائقة به نقص إيمانه بقدر ما جحد.

وحين نحاول تحليل مبحث “الصفات الإلهية” نجد أنه ببساطة يدور كله حول ركن الإيمان بالله، أي حول تحقيق الصفات الإلهية اللائقة بالله، والرد على التحريفات والشبه التي تريد جحد شيء من هذه الصفات العظيمة، ولم يأخذ هذا المبحث وزنه عند السلف إلا لتعلقه بأعظم أركان الإيمان وهو الإيمان بالله، وكل مساس بالصفات فهو مساس بالموصوف جل وعلا.

فهل يمكن أن يكون العلم المسؤول عن أعظم أركان الإيمان “الإيمان بالله” مبحثاً ترفياً لا قيمة له؟

ثم إذا تدبر المرء كتاب الله فلا بد أن يلفت انتباهه عناية القرآن الشديدة بتضمين أغلب الآيات شيئاً من أسماء الله وصفاته، فكثير من الآيات تختم بمثل قوله تعالى (السميع البصير) ، (عليم خبير) ، (غفور شكور) ، إلخ. فهل يمكن أن يكون حضور الأسماء والصفات الإلهية بمثل هذه الكثافة في القرآن وتكون شيئاً ثانوياً لا قيمة له؟

ثم إذا تدبر المرء الآيات والسور التي عظمها رسول الله، والتي بين أنها أعظم القرآن، رأى ذلك راجعاً لما تضمنته من الصفات الإلهية، وسنشير لبعض الأمثلة:

فأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، وإذا حاول القارئ تحليل مضامين آية الكرسي وجدها من أولها إلى آخرها في توصيف الله سبحانه وتعالى، بل الآية أصلاً مخصصة لسرد أوصاف الله جل وعلا، فذكرت من أوصافه جل وعلا إثباتاً أو سلباً: الألوهية، الحياة، القيومية، نفي السنة والنوم، ملك السماوات والأرض، العلم، نفي الأود، العلو، العظمة.

والحديث الذي بين فيه النبي r أن هذه الآية أعظم آية؛ كان لي معه قصة طريفة، لنقرأ الحديث سوياً، حيث جاء في صحيح مسلم:

(عن أبى بن كعب قال قال رسول الله: “يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال “يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟” قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحى القيوم. قال” فضرب في صدرى وقال: “والله ليهنك العلم أبا المنذر” ) [صحيح مسلم، 1921]

وأما قصتي مع هذا الحديث فهو أنني حين قرأته لأول مرة، كنت مشدوداً لجواب أبي بن كعب، كيف عرف أبيّ بمحض تأمله الشخصي أن آية الكرسي هي أعظم آية؟ كنت أقول لاحقاً ربما لو سئلت أنا مثل هذا السؤال لدار في خلدي أنها “آية الدين” لما فيها من تنظيم الحياة العامة، أو آية “يا أرض ابلعي ماء ويا سماء اقلعي” لما فيها من روعة البيان التصويري الأدبي، أو نحوها من الآيات، لكن أن تكون آية الكرسي فليس لدي أي خلفية توحي لي بأنها أعظم آية، لكن أصحاب النبي r لما كانت تربيتهم على يدي رسول الله علموا أن “الأسماء والصفات الإلهية” هي أعظم موضوع من موضوعات القرآن، وبالتالي فالآية التي تتضمن ذلك ستكون حتماً هي أعظم آية، وهذا الحديث لا أعرف حديثاً في التدليل على عبقرية فقه أصحاب النبي r وعمق فقههم في دين الله وتبحرهم في حقائق الوحي أكثر منه، ولذلك ظهر في هذه القصة التي رواها أبيّ شدة عجب النبي r وفرحه بجواب أبيّ حتى أنه ضرب في صدره وقال “ليهنك العلم”، ولاحظ أنه خص “العلم” أي أن معرفة أن الأسماء والصفات الإلهية هي أعظم موضوع من موضوعات القرآن يدل على علم صاحبه.

لننتقل لقصة أخرى تتحدث عن أعظم آيات القرآن وسوره وسنرى فيها –أيضاً- حضور موضوع الصفات الإلهية وعمق فقه الصحابة في دين الله، هذه القصة هي القصة التي تضمنت منزلة سورة الإخلاص، دعونا نطالع القصة، حيث جاء في صحيح البخاري في مطلع كتاب التوحيد:

(عن عائشة أن النبي r بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ”قل هو الله أحد” فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي فقال: “سلوه لأى شيء يصنع ذلك؟” فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي r : “أخبروه أن الله يحبه”) [صحيح البخاري، 7375]

هذه القصة يقشعر لها جسد المؤمن، فسورة الإخلاص بآياتها الثلاث كلها مكرسة لصفات الله، من مفتتحها إلى ختامها، فوصفت الله بأنه: أحد، صمد، نفي الوالدية والولدية، نفي المكافئ والمثيل.

فانظر بالله عليك كيف كان عمق فقه هذا الصحابي في تعظيم هذه السورة لما تضمنته من الصفات الإلهية.

فهذه النماذج في عناية الصحابة وتعظيمهم لسور وآيات معينة بسبب تضمنها للصفات الإلهية، ثم سرور النبي r لذلك ومدحهم بكمال العلم، وإخباره عن حب الله لصنيعهم، كل ذلك يؤكد أن أصحاب النبي r لا مقارنة بينهم وبين من بعدهم في الوقوف على أسرار معاني الإسلام والإيمان وأولويات الوحي، فإذا قارنت ذلك بكثرة من يتساءل اليوم متهكماً بجدوى العناية بالصفات الإلهية انكشف للباحث فعلاً حجم الفارق الفلكي بين الصحابة وبين الطوائف الفكرية في فهم الإسلام.

ثم إذا تدبر المرء –أيضاً- كيف نبه النبي r أصحابه على أن عامة المطالب الشرعية هي أصلاً من مقتضيات أسماء الله وصفاته، فالتشريعات هي آثار لصفات الله، ويربط النبي r كثيراً بين (الصفة الإلهية) وبين (التشريعات) ليبين هذه العلاقة، ومن ذلك مثلاً أنه قال كما في البخاري:

(إن الله وتر، يحب الوتر) [صحيح البخاري، 6410]

وقال أيضاً في ربط آخر كما في مسلم:

(إن الله جميل يحب الجمال) [صحيح مسلم، 275]

فانظر في هذه النماذج كيف أن تشريع فضيلة الوتر إنما هو فرع عن كون الله موصوف بكونه وتراً، وتشريع فضيلة الجمال فرع عن كون الله سبحانه من صفاته أنه جميل، وهكذا، بل حتى (الرحم) التي أمر الله بصلتها؛ إنما هي مشتقة من اسمه تعالى كما في البخاري:

(إن الرحم شجنة من الرحمن) [صحيح البخاري، 5988]

والمراد أن هذا الربط بين (الصفة الإلهية) و (التشريع) له نظائر كثيرة في النصوص، كما أن الله يحب المؤمن القوي لأنه سبحانه موصوف بأنه القوي، ويحب المحسن لأنه سبحانه موصوف بأنه المحسن.

وهكذا سائر المطالب الشرعية الأخرى تراها في حقيقتها “فرع عن صفات الله”، فتوحيد الألوهية هو موجب أسماء الله (الأحد، الإله) ونحوها.

وتوحيد التشريع، أعني إفراد الله بالحكم والتشريع؛ هو موجب ومقتضى أسماء الله (الحكم، السيد) ونحوها.

ورجاء الله هو مقتضى أسماء الله (الرحمن، الرحيم) ونحوها.

والخوف من الله هو مقتضى أسماء الله (الجبار، المنتقم) ونحوها.

وهذا المعنى في علاقة (الصفات الإلهية) بـ (التشريعات) وأن سائر أنواع العبودية هي من آثار صفات الله؛ أشار له أئمة السنة كثيرا، حتى قال ابن القيم في مدارج السالكين: (رجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات) ولذلك كله قال تعالى (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180] فأمرنا أن نتعبده بمقتضى أسمائه جل وعلا.

ومن أشد الأمور إثارة للانتباه في موضوع الصفات الإلهية مقارنة موقف السلف من (فاعل الكبيرة) و (فاعل التأويل)، فنحن نعرف أن السلف وقفوا مدافعين ضد تكفير أصحاب الكبائر كالزاني والمرابي وشارب الخمر، وحشدوا النصوص الكثيرة التي تدل على أن أصحاب الكبائر لايجوز تكفيرهم.

ضع هذه الصورة السابقة في ذهنك، ثم قابلها بموقف السلف حين ظهرت أفكار (تأويل الصفات الإلهية) وكيف استفظعوا الأمر وحاربوه ووقفوا جميعاً بحزم صارم ضد المؤولين، وأطبق جماهير السلف على تكفير الجهمية، وكفّروا شخصيات أخرى اشتهرت بتعطيل الصفات.

ياترى هل كان هذا التطابق في الموقف مجرد توافقٍ عرضي؟ هل يقف أئمة أتباع التابعين المنتشرون في أمصار الإسلام في الشام والحجاز ومصر وغيرها ذات الموقف الرهيب ويكون هذا شيئاً عرضياً وليس هناك مبررات موضوعية دفعته إلى الوجود؟

لماذا شنع أئمة الإسلام في توافق عجيب وأطلقوا عبارات غليظة في شأن من أنكر صفة الكلام أو الاستواء ونحوها، ولم يقولوا عشر معشار هذه العبارات في الزاني والمرابي وشارب الخمر؟

يستحيل بحسب العادة أن لايكون هناك براهين ظاهرة جداً قادتهم إلى هذا التوافق، يستحيل أن لاتكون هناك أدلة قاطعة حملتهم على تعظيم باب العلم بالله وشناعة تأويل الصفات وأن الضلال فيه أشنع من الكبائر.

نحن بحاجة هاهنا إلى نماذج من مواقف السلف، ولكن نصوص السلف في هذه الإشكالية غزيرة جداً، لذلك سنكتفي بشواهد من مواقف (الأئمة الأربعة) الذين سارت الأمة على مذاهبهم، وسنرى كيف استفظعوا تأويل الصفات الإلهية.

فأما الإمام (ابوحنيفة) فقد جاء إليه جهم بن صفوان شخصياً وتناقش معه في وجوب تأويل الصفات الإلهية لتنزيه الله فلما سمع ابوحنيفة مقالته قال له (اخرج عني ياكافر) [المسايرة لابن الهمام، وأصول البزدوي].

وأما عمرو بن عبيد أشهر شخصيات المعتزلة في عصره فقال عنه ابوحنيفة (لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام) [ذم الكلام للهروي، وابن أبي العز على الطحاوية].

بل نهى عن الصلاة خلف من يعطل الصفات الإلهية فقال ابوحنيفة (من قال القرآن مخلوق فلايصلين أحد خلفه) [تاريخ بغداد للخطيب]

وأما الإمام (مالك بن أنس) فوصل الأمر عنده إلى الفتيا بالقتل لمن جحد الصفات، كما سئل مرة عن صفة الرؤية (قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يرى؟ فقال مالك: السيف السيف) [ اللالكائي]

وأفتى مرة أخرى بالسجن والجلد حتى الموت (عن بن نافع قال: كان مالك بن أنس يقول: من قال القرآن مخلوق يوجع ضرباً ويحبس حتى يموت) [ الاعتصام للشاطبي المالكي، الشريعة للآجري]

وكان يعرف المتأثرين بأفكار التأويل ويغلظ عليهم، كما قال عبد الرحمن بن مهدي:(دخلت على مالك وعنده رجل يسأله، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرو بن عبيد) [ذم الكلام للهروي]

وأكثر ما يلفت الانتباه في تعامل الإمام مالك مع الصفات الإلهية مايعتريه من الرهبة من الله عندما يسمع كلام المؤولين، كما في قصته المشهورة:

(عن جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده، وقد علاه الرحضاء -أي العرق-، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال ..) والقصة بطولها معروفة. [التمهيد لابن عبدالبر المالكي ]

فانظر بالله عليك هذه القلوب الحية، وستعرف لم اختصهم الله بالإمامة في الدين؟! وقارن هذا التعظيم لباب العلم بالله بما تتجرأ به الطوائف الفكرية من استهتار بمنزلة هذا الباب العظيم.

ويهمنا هاهنا بالطبع أن نشير إلى أن الإمام مالك نفسه نبه إلى أن الخطأ الاعتقادي أفدح من الكبائر ذاتها، كما يقول:

(عن ابن نافع قال: سمعت مالكا يقول: لو أن رجلا ارتكب الكبائر كلها بعد ألاَّ يشرك بالله، ثم تخلى من هذه الأهواء والبدع دخل الجنة) [حلية الأولياء لأبي نعيم]

وأما الإمام (الشافعي) رحمه الله فقد جاءه حفص الفرد وكان يتبنى –أيضاً- تأويل الصفات لتنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ولذلك كان يجعل القرآن مخلوقاً ليسلم من إثبات كلام مسموع، فكفّره الشافعي صراحة:

(سمعت الربيع يقول: لما كلم الشافعي حفص الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق. فقال له الشافعي: كفرت بالله العظيم) . (قال الربيع: فلقيت حفصاً، فقال: أراد الشافعي قتلي) [تبيين كذب المفتري لابن عساكر، سير النبلاء للذهبي]

ومن أخطر الأمور التي نبه إليها الشافعي هي أن تحريف الصفات يفضي إلى اختلاف الموصوف ذاته:

(قال الجارودى: ذُكر عند الشافعي ابراهيم ابن اسماعيل بن علية، فقال: أنا مخالف له فى كل شئ، وفى قول لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول، أنا أقول لا إله إلا الله الذى كلم موسى عليه السلام تكليما من وراء حجاب، وذاك يقول لا إله إلا الله الذى خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب) [الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، لابن عبدالبر]

ونبّه الشافعي أيضاً على قضية أن التأويلات في الذات الإلهية أخطر من الكبائر، كما يقول الشافعي بعد أن تناقش مع المعطّلة:

(لقد اطلعت من أهل الكلام على شئ والله ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله؛ خير من أن يبتليه الله بالكلام) [تبيين كذب المفتري لابن عساكر]

وأما الإمام أحمد فنصوصه في هذا الباب أشهر من أن تذكر، ومعروف أنه كفّر من أنكر الصفات وقال بخلق القرآن، وتعرض للاعتقال الشهير على يد ثلاثة خلفاء المأمون والمعتصم والواثق.

وهذا القول ليس خاصا فقط بـ(الأئمة الأربعة) أصحاب المذاهب التي سار عليها المسلمون، بل حتى أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة التي اندثرت، ولاحظ معي هذا العرض التاريخي الذي يلخصه الإمام ابن تيمية:

(وقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين: الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق؛ حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم، ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك) [الفتاوى 5/39]

الشواهد السابقة كانت لتوضيح الموقف الجذري لـ(أئمة الفقه المتبوعين) من قضية تعطيل الصفات، وأما موقف (أئمة الحديث) فسنأخذ النماذج من أصحاب الكتب الستة التي عليها مدار الإسلام، فأما الإمام البخاري فقد ختم صحيحه بـ(كتاب التوحيد والرد على الجهمية) ، وأما الإمام مسلم فلم يضع أبواباً لصحيحه أصلاً، وأما الإمام ابوداود فقد بوب في سننه وقال (باب في الرد على الجهمية). وأما الإمام الترمذي فبعد أن ساق أحاديث الصفات الإلهية قال (وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه) ، وأما الإمام ابن ماجة فقال (باب فيما أنكرت الجهمية).

فهؤلاء هم أئمة الفقه المتبوعين، وهؤلاء أئمة الحديث المعتمدون، وكلهم مطبقون على استفظاع تعطيل الصفات الإلهية، فهل يمكن أن يكون هؤلاء كلهم ضلوا في هذه القضية، ومنحوا الصفات الإلهية أكبر من حجمها؟!

وسنضطر هاهنا أن نتوقف عن عرض المزيد من الشواهد، ولكن كلي أمل في القارئ الكريم أنه إن أراد المزيد من الشواهد أن يراجع واحداً من ألذ المصادر في عرض معالجات أئمة السلف للصفات بنزعة تاريخية مرهفة، وهو كتاب (العلو) لمؤرخ الإسلام الذهبي.

والمراد أننا حين نرى كيف تتابع أئمة السلف المتبوعين في التشنيع البليغ على تأويل الصفات الإلهية، وأنهم قالوا فيها مالم يقولوه في المرابي والزاني وشارب الخمرة، واعتبروها قضية في غاية الخطورة، واستحضر الإنسان مع ذلك عبقرية أولئك الأئمة، وسعة إحاطتهم بالنصوص، ودقة معرفتهم بلسان العرب، وصدقهم في البحث عن مراد الله ورسوله بعيداً عن ضغوط الأهواء الخارجية، وكمال ورعهم وتقواهم وعبوديتهم، وإطباق أمة محمد r على التدين بفقههم، وشهادة الشارع لهم بأنهم خير القرون، وتوافقهم العجيب مع تباعد الأمصار على ذات الموقف، حين يجمع الباحث أطراف الصورة التاريخية، ثم ينتقل للطوائف الفكرية المعاصرة ويرى كيف يستهترون بباب الصفات الإلهية، ويستهينون بالغيرة والحمية لباب العلم بالله، ويتهكمون بسعي أهل السنة لإصلاح التصورات الخاطئة حول هذا الباب العظيم، إذا جمعت ذلك كله فإنك لا يمكن أن تنفك عن الشعور بالرثاء والشفقة لهؤلاء المساكين، كيف بلغوا هذه المراتب من الجهل الفظيع في دين الله.

وخلاصة ذلك أنه إذا كانت “الأسماء والصفات الإلهية” هي طريق العلم بالله الذي هو أعظم أركان الإيمان بالله، وإذا كانت أعظم آيات القرآن وسوره إنما استمدت عظمتها مما تضمنته من الصفات الإلهية، وإذا كانت العبودية كلها اتباع لمقتضى الأسماء والصفات الإلهية، وإذا كان أئمة السلف المتبوعين عظموا شأن الصفات الإلهية وقالوا في تأويلها مالم يقولوه في أصحاب الكبائر؛ فكيف يقول مسلم عاقل بأن الأسماء والصفات الإلهية موضوع هامشي لا قيمة له ولا داعي لتصحيح التصورات الخاطئة حوله؟

وبعض الناس -نتيجة جهلهم بمنزلة الصفات الإلهية في الوحي- لوجاءهم رجل وأنكر (اليوم الآخر) لوقع في أنفسهم وقعاً شديداً أعظم مما لو أنكر (صفات الله) سبحانه وتعالى، وهذا بسبب غياب الوعي بتراتبية القضايا في الوحي، ولذلك يقول ابن تيمية:

(إنكار صفات الله أعظم إلحاداً في دين الرسل من إنكار معاد الأبدان؛ فإن إثبات الصفات لله أخبرت به الرسل أعظم مما أخبرت بمعاد الأبدان) [درء التعارض، 5/309]

ثم استدل ابن تيمية على ذلك بأن السور التي عظمها الله ورسوله كآية الكرسي والفاتحة والاخلاص كلها تتضمن من أسماء الله وصفاته أعظم مما تتضمن من تفاصيل اليوم الآخر.

وبعض الناس يقول: (حسناً نحن نعرف أن الصفات الإلهية لها منزلة عظيمة، لكن ما علاقة ذلك بكوننا يجب أن نحارب التأويل فيها) وهذا في الحقيقة كلام غير علمي بتاتاً، فأهمية الصفات الإلهية تقتضي أهمية تنقيتها من أي تحريف تحت أي غطاء كان، وهل يعقل أن يكون الموضوع في غاية الأهمية، ويكون تحريف نصوصه في غاية الهامشية؟! ولذلك قال تعالى (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) [الأعراف:180] فأي تحريف لأسماء الله إلحاد فيها، وأمر النبي r بحفظ الأسماء الإلهية كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (لله تسعة وتسعون اسماً من حفظها دخل الجنة) [مسلم،6985] وحفظها يتضمن حفظها من التحريف في معانيها.

والحقيقة أن الاستهانة في صيانة الصفات الإلهية من التحريف لا يصدر إلا عن شخص تساهل أصلاً في قيمة الصفات الإلهية ذاتها وعظمت في قلبه شؤون دنيوية أخرى، ويستحيل أن نصدق عقلاً أن ثمة شخصاً يعظم صفات الله، ويستهين في ذات الوقت بتحريف نصوصها! هذا افتراض لا يقبله العقل.

وثمة فريق آخر يقول: (أن ما جرى من الفرق العقدية المخالفة لأهل السنة في الصفات الإلهية لم يكن تحريفاً عن عمد، بل نيتهم حسنة، وإنما أرادوا تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، فلماذا نضخم ونشنع على أقوالهم؟) وقائل هذا الكلام لم يستوعب تفريق أهل السنة بشكل إجمالي بين الفعل والفاعل، أو بين النوع والعين، فكون الإنسان نيته حسنة ووقع في مخالفة شرعية متأولاً فهذا لا يبرر هذه الفعلة، وإنما هذا قد ينفعه عند الله في العفو عنه، فحسن النية لا يبرر أن نترك الخطأ على ما هو عليه، وكون مقصوده “التنزيه عن مشابهة المخلوقين” لا يعني صحة عمله.

ولنضرب مثلاً يوضح ذلك، لو أن إنساناً جاءنا وقال أنا أؤمن بالنبي (محمدr) لكني أنكر أن يكون من صفاته أنه أسري به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء في ليلة، لأنني لو أثبت له هذه الصفة فسيفضي به ذلك لكونه يشابه الطيور، ولتنزيه النبي r عن مشابهة الطيور فإني أنكر الإسراء والمعراج وأتأول الآية (سبحان الذي أسرى بعبده) بأن المراد بها سمو روحه وصفاء نفسه وامتدادها ونحو ذلك، ولغة العرب لا تأبى مثل هذه المجازات. فمثل هذا الكلام هل سيقبله العاقل؟! بل سيبلغ هذا الجحد في نفوس المؤمنين مبلغاً عظيماً، وسيستبشعون أن تنكر صفات النبي r التي أثبتها القرآن لمجرد توهمك أنه سيشابه من هو دونه بذلك. والمراد أنه لو قام هذا الشخص وقدم لنا مئات التأويلات لتأويل قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) مشفوعة بعشرات القرائن الدالة على حسن نيته في هذا التأويل، لما شفع ذلك في قبح فعله عند أهل الإيمان، فكذلك من جاءنا وجحد كون الله في العلو، أو أن الله مستوٍ على عرشه، أو أن الله يتكلم، أو أن الله ينزل للسماء الدنيا، وجاءنا بالأدلة العقلية الكثيرة لتأويل نصوص هذه الصفات مبيناً حسن نيته في تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، لما كان ذلك كله شافعاً له في قبح هذه الفعلة، وإن كنا نكل الفاعل إلى الله.

وهكذا أيضاً لو جاءنا شخص وألغى “الحدود الجنائية الشرعية” كلها كقطع السارق ورجم المحصن ونحوها، وأقام من القرائن ما لا يحصى على أن مقصوده حسن، وإنما أراد دفع الشناعة عن الإسلام بأنه دين وحشي ونحو ذلك، فهل نيته الحسنة تبرر فعلته وتأويلاته تلك؟ والمراد أن حسن نية المؤولين لاتشفع لهم في ترك التأويلات على ما هي عليه.

والحافظ ابن حجر حين رأى أئمة القرن الثالث الذين رجع الناس إليهم في الفتيا مطبقين على التشنيع على هذه التأويلات احتج بذلك على رفض التأويل إجمالاً في عبارة تضمنت تصويراً تاريخياً أخاذاً كما يقول في فتح الباري:

(وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة؛ فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة)

وجوهر المسألة كلها وسرها الدقيق أن تحريف الصفات الإلهية تحريف لباب العلم بالله، والعلم بالله أشرف وأجل مطلوب للعباد، وكلما عظم الموصوف عظمت صفاته، وكلما عظمت الصفات عظم شأن التحريف فيها، فإذا كان الملك من ملوك الأرض لا يرضى تحريف أوصافه ومناقبه، فكيف بملك الملوك –ولله المثل الأعلى- أن يرضى بتحريف صفاته جل وعلا.

حسناً، انتهينا الآن من الإشكالية الأولى في الصفات الإلهية وهي (منزلة الصفات الإلهية في الإسلام)، لننتقل الآن إلى إشكالية الفريق الثاني الذي يقر بأهمية الصفات الإلهية وتنقيتها من التصورات الخاطئة، ولكنه ينكر وجود المخالف في هذه القضايا في عالم اليوم.

لا تعليقات حتى الآن

  1. شكرا على نقل هذا البحث .فيه امور مفيدة كثيرة

  2. اجو المزيد من البحوث عن الخطاب الشرعى المنزل ونرجو من الاخوة العلماء تبنى هذا الخطاب حتى نكون من الفئزين ومزيد من حرية الانسان وتجريد الطغيان ونرجو تحميل هذا الكتاب العظيم

  3. هذى المشكله يجيك بزر مثل هالسكران ويحدد ويفرض وجهة نظره السقيمه من استخدام الدين
    حسب مايصوره عقله السقيم من الغرور الذى طبل له بعض المبزره من من نفس عقليته
    التى جعلها وصيه على خلق الله من المسلمين بحكمه على من يخالف تفكيره السقيم
    ولو كان فى عقله ذره من العقل لحتكم لقول رسوال الله وخير البشريه محمد صلى الله عليه وسلم
    ( هل شققت عن قلبه ) ولكن اكثر البزران مغرورون بتطبيل دفوفوف الاخوان المسلمين
    الذين يستخدمون الدين للوصل الى قمة السلطه وفرض التخلف على بلادهم لزيادة دعس
    خشومهم للحصول على اطماعهم وبالطبع هذا ليس تعميم فالاكثريه منهم على غباء
    وجهل بسبب تطبيل وتعظيم مثل ما اصاب اخونا البزر ابراهيم السكران

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر + تسعة =