احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي

17-تلاحظ أن كثيراً من النقد الذي توجهه الطوائف الفكرية ضد الخطاب الشرعي يقولون فيه الشيء ونقيضه، وهذا شيء مثير للاستغراب فعلاً، فمثلاً تراهم يقولون لك: لماذا الخطاب الشرعي غائب عن القضايا المعاصرة؟ ثم تراهم بعد ذلك ينقلبون ويقولون لك: لماذا يدس الفقيه أنفه في كل شيء؟!

وتراهم مرةً يقولون لك: لماذا الخطاب الشرعي عنده موقف سلبي من الاستفادة من الغرب؟ ثم ينقلبون في موطن آخر ويقولون لك: لماذا تشتمون الغرب وأنتم تستفيدون منه في كل شيء من الإبرة إلى الطائرة؟!

وتراهم مرةً يقولون لك: لماذا الخطاب الشرعي يكرس الاستبداد السياسي والخنوع للنظام السياسي؟ ثم ينقلبون ويقولون لك: يجب أن ننقي الخطاب الشرعي من الأفكار الخطيرة حول الخروج والتكفير والعنف؟!

وتراهم مرةً يقولون لك: لماذا أنتم تقدسون مرجعياتكم العلمية وتمنحونها سلطة مستبدة وتضيقون ذرعاً بوجود اجتهادات متنوعة؟ ثم ينقلبون عليك في موطن آخر ويقولون: إلى متى وأنتم لا تجيدون إلا التفرق والاختلاف حتى أصبح عندنا أقوال فقهية بعدد طلاب العلم أنفسهم؟!

وتراهم مرة يقولون لك: مشكلة الخطاب الشرعي أنه يتدخل في نيات الآخرين حين ينقدهم، فهذا قصده كذا وهذا قصده كذا. ثم ينقلبون في موضع آخر ويقولون: الدعاة الإسلاميين لا ينطلقون من منطلقات عقدية وإنما مغازلة للجمهور وبحث عن تصفيق الأتباع ونحو ذلك؟!

وهكذا في سلسلة تناقضات تبدأ ولا تنتهي، حتى أنني أحياناً صرت أستمتع بتخيل النقد النقيض، فإذا سمعت أحدهم ينتقد الخطاب الشرعي بقضية ما، صرت أتخيل القضية النقيضة لذلك، وأتوقع أنه سيقولها يوماً ما.

18-تلاحظ أن هذه الطوائف الفكرية تردد دوماً سؤالاً يدور حول قضية (الحلول والبدائل) فيقولون لك كثيراً: أين الحلول والبدائل التي قدمها الخطاب الشرعي في قضايا الاقتصاد والإعلام والسياسة ونحوها؟ (طبعاً للأمانة فكل من سمعته يطرح هذا السؤال لم أره قدم هو حلاً واحداً، لكن دعنا نكمل تحليل الإشكالية) وهذا السؤال ناشئ عن غياب التمييز بين المحور الموضوعي/التكليفي الذي هو مسؤولية الفقهاء، والمحور الفني/الوضعي الذي هو مسؤولية الخبراء، وبالتالي فإن خبراء الاقتصاد هم الذين ينتجون الحلول والبدائل الاقتصادية، وخبراء الإعلام هم الذين ينتجون الحلول والبدائل الاعلامية، ونحو ذلك، وأما الفقهاء فمسؤوليتهم تحليل الشرعية ودراستها على ضوء علوم الوحي.

ثم إن مطالبة الفقهاء بابتكار الحلول في (العلوم الطبيعية والإنسانية) ينطوي في حقيقته على الاستهانة بهذه العلوم! لأن القدرة على فهم هذه العلوم (الطبيعية والانسانية) واستيعابها فقط يحتاج إلى دهور وسنوات طويلة من الدراسة المنهجية المنظمة, ثم مواصلة القراءة والبحث, وورش العمل مع المختصين في ذات المجال. ومع ذلك فكثير ممن يدرسها ويفهمها ويستوعبها يجد مشقة كبيرة في الإبداع فيها وابتكار الحلول والبدائل، لصعوبتها وصعوبة الإبداع فيها وتقدمها المستمر، فكيف نطالب الفقيه والمحدث والمفسر أن يبدع الحلول في هذه العلوم, وأربابها وخبراؤها المختصون فيها منذ دهور يشق عليهم ذلك؟!

وكون الفقيه لا يمكنه أصلاً أن يقوم فنياً بابتكار الحلول في العلوم الطبيعية والانسانية, لا يمكن أن يتضح إلا بالأمثلة: فهل يستطيع علماء الشريعة أن يبتكروا حلولاً فنية في طرق الإجهاض الحديثة, والتلقيح الصناعي, وطفل الأنابيب, والهندسة الوراثية, وهرمونات التوأم, وزراعة الأعضاء, والآليات الفنية للتجميل, ونحوها من النوازل الطبية؟

وهل يستطيع علماء الشريعة أن يبتكروا حلولاً في قضايا اقتصادية فنية متخصصة مثل التحكم في التضخم, وإدارة المخاطر, والقياسات الاكتوارية لمحفظة التأمين, أو ربط العملات, أو آليات التسويق, ونحوها؟

بالطبع لا .. لأنهم غير مؤهلون تفصيلياً بالعلوم الطبيعية والإنسانية التي تمكنهم من القيام بالدور الفني، بل كل متخصص من الباحثين يملك تأهيلاً إجمالياً فيما تخصص فيه، ففقهاء المعاملات لديهم تأهيل إجمالي في العلوم المالية، المتخصصون في الفقه الطبي لديهم تأهيل إجمالي في الصور الطبية محل البحث، وأما التأهيل التفصيلي فهذا ليس من صميم عمل الفقيه، ولا يمكنهم أن يدعوا تخصصاتهم ويعيدوا تأهيل أنفسهم تفصيلياً في هذه العلوم الدقيقة والمتخصصة، التي تستدعي دهوراً ليبدع الانسان فيها، إذن ما الحل؟ الحل أن نعزز تواصل الفقهاء والخبراء، ونزيد ميزانيات البحث العلمي الرسمية.

19-لاحظت لدى بعض الفضلاء المهمومين بمعالجة ظواهر الانحراف الفكري مقولة يرددونها، وهي أن (الانحراف الفكري المحلي إفراز لفشل الخطاب الشرعي في تحقيق النهضة وعمارة الدنيا)، وبعضهم يقول (الانحراف الفكري المحلي نتيجة عكسية لخطاب التزمت الفقهي).

وهذه بكل صراحة مقولات تفسيرية لا تصمد أمام التحليل العلمي، فالقول بأن الانحراف الفكري انعكاس لفقهنا المتزمت مقولة غير دقيقة بتاتاً، يؤكد ذلك أنه من المعلوم أن الفقه السائد في مصر وتونس والمغرب العربي وتركيا وغيرها من بلاد الإسلام هو فقه متسامح يميل للروحانية أكثر من الالتزام الفقهي؛ ومع ذلك خرج من هذه البلدان أعتى رموز العلمنة والزندقة والإباحية، فلماذا وجدت العلمنة والزندقة في بلدان لا تعرف الوهابية والسلفية؟! الجواب أن قانون “الكفر والنفاق” مرتبط أصلاً بالأهواء التي تجد في الإسلام والوحي قيوداً تزعجها، فتبين أن هذه المقولة التفسيرية مقولة مغلوطة كلياً.

كما أننا لو أتينا لدراسة التاريخ لاكتشفنا أن (الانحراف عن الوحي) ليس ناشئاً أصلاً عن القصور الدنيوي للمسلمين، بل وجد (الانحراف عن الوحي) في أزهى عصور الوعي والتقدم، ففي عصور الحضارة الإسلامية في أواسط الإسلام وفي الأندلس وجدت أعتى أشكال الزندقة العقائدية والأدبية، وأنماط من تحريف معاني الكتاب والسنة بما لا يعرفه الانحراف المعاصر أصلاً! وفي تجارب الأنبياء التي بلغت الكمال والتي هي القدوة، وجدت أعتى أنواع الانحرافات من (كفر) خارج الدولة المسلمة، و(نفاق) داخل الصف المسلم، فهل وجود (الكفر والنفاق) في تجارب الأنبياء الدعوية دليل على فشل الأنبياء في حياتهم المدنية؟ وهل وجود الزندقة والضلالات العقدية والأدبية في عصر الحضارة الإسلامية دليل على فشل هذه الحضارة الإسلامية في بناء الدنيا؟

إذا كانت تجارب الأنبياء هي الكمال والقدوة، فلماذا إذن وجد في عصورهم أغلظ صور (الكفر والنفاق)؟ هل ذلك دليل على فشل الأنبياء والرسل -حاشاهم- في منهجهم الدعوي؟ أم ذلك دليل على أن قانون الكفر والنفاق مرتبط بـ(الأهواء) كما بين ذلك القرآن؟

الدليل التاريخي يؤكد أن (الزندقة والانحراف) ليست في الأصل انعكاساً للقصور الدنيوي، بل هي في الغالب أهواء ولذائذ تجد الوحي يصادمها، لكنها تستغل القصور الدنيوي لتبرير وجودها.

وبناء على التجربة التاريخية للزندقة والانحراف، نستطيع أن نؤكد بكل وضوح أنه لو بلغ المسلمون اليوم أرقى مراحل التقدم المدني فسيبقى أهل الأهواء يكتبون ضد : “إنما الخمر..رجس” , “للذكر مثل حظ الأنثيين” , “والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما” , “وأحل الله البيع وحرم الربا” , “والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام” , “ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض” .. إلخ من المحكمات التي تتعارض مع أهوائهم.

هؤلاء الزنادقة والمنحرفون لديهم موقف سلبي جوهري من قيود الوحي، لديهم مشكلة مع أحكام شرعية نص عليها القرآن، وليست القضية كلها نهضة ولا حضارة ولا عمران.

وأين تكمن خطورة هذه الفكرة المغلوطة وهي (أن الانحراف الفكري إفراز لفشل الخطاب الشرعي في تحقيق النهضة)؟ تكمن خطورتها أنها تقود بعض الأفاضل إلى الرضوخ لتبديل بعض الأحكام الشرعية لاستمالة هؤلاء المنحرفين، ثم يكتشف بعد فترة أن المشكلة لدى هؤلاء أكبر بكثير مما يتصور، وأنهم يريدون مسلسل التخفيضات من الأحكام الشرعية أن يستمر، لأن الأصل المنحرف يتسرب منه من التطبيقات المنحرفة ما لا يحصى، فلا هو الذي حافظ على الشريعة، ولا هو الذي استمال هؤلاء للتدين.

20-تلاحظ أن الطوائف الفكرية يرون حياة الناس وصحافتهم ومجالسهم ملأى بشؤون مختلفة، من أخبار سياسية، وحديث عن الرياضة، والفن والسينما، والشعر النبطي، وأخبار الحوادث والجنايات، وترهات أخرى كثيرة، فتراهم يشاركون الناس في كل هذه القضايا بكل أريحية، فإذا تحدث أحد الفقهاء أو الدعاة عن قضية عقدية أو فقهية قفز حرصهم على الأولويات كأنما نشط من عقال، وصاروا ينوحون أنتم أشغلتم الناس بقضايا العقيدة والفقه عن مصالحهم إلخ، ولا أدري لماذا لا يرون أن هذه الأوقات الهائلة التي تذهب سدى أنها هي المسؤول الحقيقي عن إضاعة أوقات الناس؟! لا أدري لماذا يمنحون الترفيه شرعية عظيمة في أن يأخذ أوقات الناس، ولا يمنحون عُشر هذه الشرعية لتداول معاني الكتاب والسنة؟! لا أدري لماذا لا يتذكرون القضايا الكبرى ومصالح الناس إلا حين يجيء الحديث عن الإيمان والدعوة!

21-من المفارقات الطريفة التي لاحظتها عند كثير من الطوائف الفكرية أنهم يقولون (الكلام عن جهم بن صفوان وبشر المريسي وعمرو بن عبيد والنظام ونحوهم هذا كله نبشٌ في قبور التاريخ ونحن اليوم في عصر جديد مختلف كلياً له مفكروه وإشكالياته) ثم إذا ذهبت وأخذت أقلب مقالاتهم وجدتهم منهمكون في النبش في مقابر التاريخ الأوروبي! فتجدهم في غاية الزهو ووهم الأهمية وهم ينسخون ويلصقون من أسماء فلاسفة القرن السابع عشر (بيكون، هوبز، ديكارت، سبينوزا، جون لوك، ونحوهم) أو فلاسفة القرن الثامن عشر (فولتير، روسو، هيوم، كانط، ونحوهم)، بل وأكثر طرافة من ذلك حديثهم التبجيلي المستفيض عن سقراط أفلاطون وأرسطو ونحوهم من فلاسفة التاريخ السحيق، فصارت الإشكالية عندهم ليست في (القبور)، وإنما في (جنسية صاحب القبر) نفسه، فتكتشف أن ذلك الذي يؤذيهم ويسمونه غبار التاريخ يتحول بقدرة قادر إلى رذاذ التاريخ المنعش اللطيف!

فإذا قلت لهم: أنتم تتكلمون الآن عن فلسفات أوروبية بائدة لها مئات السنين، فلماذا تستغربون من أهل السنة إذا عرضوا في دروسهم للجهم والمريسي والنظام؟ قالوا لك: (أنت جاهل، هذه الفسلفات لاتزال لها امتداداتها، وآثارها المعاصرة موجودة إلى اليوم، وكثير من النظريات المعاصرة تعود جذورها إلى تلك الفلسفات!) فتقول لهم: وكذلك أفكار الجهم والمريسي لا تزال آثارها موجودة إلى اليوم، وكثير من المدارس العقدية المعاصرة تعود جذورها إلى أفكار تلك الشخصيات! فما الفرق إذن؟! لن تجد جواباً !

22-لاحظت في هذه الطوائف الفكرية أنها لم تستوعب بشكل عميق الفارق بين (علم السلف) و (علم المفكرين المعاصرين) بالإسلام والوحي ومراد الله ورسوله، ولايزال كثيرٌ منهم يجّوز أن تكون طريقة المنتسبين للفكر المعاصر أعلم وأصح في فهم الإسلام من أئمة المسلمين في القرون المفضلة، ويقول لك مالمانع أن يكون كلام هؤلاء المعاصرين عن المقاصد والسنة النبوية وأصول الفقه ونحوها أصح من طريقة السلف؟!

أتذكر أحد هؤلاء يحب القراءة لبعض الفرانكفونيين العرب الذين يكتبون في إعادة تفسير التراث، ويردد دوماً بأنه يريد فهماً عقلانياً للإسلام! قلت له يوماً: إن كنت تتوقع أن هذه الشخصيات التي تقرأ لها والتي تعرف أنت أنها أخذت نصوص التراث عن المستشرقين، وكثير منهم معاقر لأم الخبائث، ومع ذلك تتصور أن هؤلاء سيفهمون الإسلام بأصح مما فهمه أمثال سعيد بن المسيب وابن المبارك وعطاء والزهري والأوزاعي والثوري ومالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ونحوهم ممن أفنوا أعمارهم في جمع السنة، وتمحيصها حديثاً حديثاً، واستيعاب فتاوى أصحاب رسول الله، مع دقتهم في معرفة لسان العرب، وشدة احتياطهم من الفتوى بلا علم، وفوق ذلك كله تصونهم وتقواهم وتعلقهم بالله، إذا كنت ترى أن أصحابك الفرانكفونيين ربما يكونون أفضل فهماً لمراد الله ورسوله من هؤلاء، فهذه والله غاية الخرافة والسذاجة، وليس في ذلك من العقلانية حبة خردل!

ياعزيزي أرجوك فكّر بعقلانية: كيف تقارن أمثال سعيد بن المسيب وعلقمة وعطاء ومسروق ونحوهم من كبار التابعين الذين درسوا بين يدي أجلة أصحاب رسول الله، بأصحابك الفرانكفونيين الذين درسوا على يدي المستشرقين؟!

ياعزيزي سعيد بن المسيب حامل علم عمر بن الخطاب حتى كان ابن عمر يسأله عن أقضية عمر، واختص بأبي هريرة حتى زوّجه ابنته، ومجاهد بن جبر عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية يسأله عن معناها، وعطاء بن أبي رباح كان يفتي في المناسك وأصحاب رسول الله شاهدون، والحسن البصري لقي خمسمائة من الصحابة، ومن قرأ في تاريخ كبار التابعين ورأى مؤهلاتهم العلمية وقف مشدوهاً إكباراً لأولئك العظماء، فهل تتوقع أن يكون هؤلاء المنتسبون للفكر المعاصر الذين لايعدون أن يكونوا مجموعة من الهواة للكتابة حول التراث الإسلامي، هل تتوقع أن يكونوا أعلم وأكثر جدية في البحث عن مراد الله ورسوله من أولئك؟! هذا تدمير للعقلانية يا عزيزي، ولا صلة له بتاتاً بها، أرجوك العقلانية أشرف بكثير من هذه التصورات الساذجة، قل أي شئ إلا أن تقول لي هذا مقتضى العقلانية، تصوراتك هذه لاتختلف عن من يتصور أن مجموعة من الشباب الذين اقتنوا مؤخراً عدداً من الكتب التعليمية المترجمة عن الفلسفة من معارض الكتاب أنهم من الممكن أن يكونوا أعلم بالفلسفة من أساطين الفلسفة المعاصرين اليوم. فهل هذا كلام معقول؟!

23-من الأمور التي لفتت انتباهي عند الطوائف الفكرية المعاصرة كثرة الخلط بين (النقد) و (التجني) ، فتراهم يقولون لك متذمرين: لماذا لاتقبلون النقد؟ لماذا ترفضون التصحيح؟ فإذا قلت له: تفضل ما النقد الذي لديك؟ اكشتفت أنه كله سواليف متناثرة من التجني والبهتان.

من المهم هاهنا أن نؤكد بصورة واضحة أن نقد الخطاب الشرعي المعاصر ليس مبدأً مرفوضاً من الأساس، بل وليس مقبولاً فقط، بل هو مطلب شرعي لأنه جزء من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل فقهاء ودعاة الخطاب الشرعي –بلا استثناء- مارسوا شيئاً من النقد والتصحيح والتصويب كلٌ في مجاله، فالفقهاء ينتقدون دوماً الأخطاء الفقهية، والتربويون ينتقدون دوماً السلوكيات الخاطئة، وهكذا. ولكن هذا النقد مشروط دوماً بأن يكون نقداً علمياً مبرهناً، وليس شائعات مجالس يستهلكها كسالى المعرفة وضحايا الإعلام المسيس.

والحقيقة أن أكثر النقد الذي يطرح هذه الأيام لاصلة له بالعلمية من قريب ولا بعيد، فالتجني على الاسلاميين أصبح موضة رائجة هذه الأيام, وأنا شخصياً صار عندي موقف سلبي جذري من أي شخص يركب هذه الموضة، فالتجني والشماتة وتصوير الحال على غير ماهو عليه مرفوض بكل حدة.

فبعض هؤلاء الذين ركبوا الموجة إذا أتى ذكر الاسلاميين فلا نجد عندهم إلا غمطهم قدرهم, وتغييب محاسنهم، فالاسلاميون عندهم إما أن يتهموهم بما ليس فيهم, وإما أن يشتموهم بما هو من محاسنهم.

فاتهامهم بما ليس فيهم: كاتهامهم برفض الأفكار الحديثة لمجرد كونها حديثة، واتهامهم بتهميش قضايا الأخلاق، واتهامهم بالتبعية الفقهية للسياسي. وأما شتمهم بما هو من محاسنهم: كذمهم لتعظيمهم فقه السلف وعنايتهم به, وذمهم لقلقهم من التغريب, وذمهم لرفضهم العقائدي الصلب للأفكار المنحرفة.

أما ذكر محاسن الإسلاميين, والتحديات التي تواجههم, وغربتهم في هذا العصر, وكونهم القائم بأمر الاسلام في هذه الظروف العالمية الشديدة؛ فهذا مما لايخطر على بال أولئك أصلاً, فضلاً عن أن ينوهوا به، وبعض هؤلاء يعتبر نفسه من الإسلاميين ومع ذلك صار عوناً على إخوانه الذين يهمهم أمر الاسلام, وصار خطأ آحاد إخوانه في نصرة الاسلام أعظم في نظره من جرائم الكتَّاب المنهمكين في تحجيم أمر الاسلام وتضييق نطاق التدين.

24-من الأمور المؤلمة أنك تجد كثيراً من رموز الطوائف الفكرية الذين يلمزون أهل السنة بأنهم لايتحدثون عن الظلم، وأنهم يجب أن يقاوموا الظلم؛ أنك تجد هؤلاء الرموز أنفسهم واقعون في مراتب فظيعة من الظلم، كظلم القرآن بتحريف كثير من آياته، وظلم السلف بالتهكم بفقههم، وظلم أهل السنة بالتجني عليهم، ونحو ذلك، ثم يتغنون بوجوب مقاومة الظلم، وليتهم صححوا مظالمهم قبل ذلك.

25-من الأخطاء المنهجية التي لاحظتها في الطوائف الفكرية تحميل الخطاب الشرعي مسؤولية المتنكرين والدخلاء والمتسللين، فنحن نعرف أن الفقيه الشرعي له منزلة في قلوب المسلمين ولله الحمد، فترى بعض الشخصيات المرتزقة تتزيا بزي الفقهاء وتتظاهر بمظهرهم لتحقيق بعض المكتسبات السياسية كمنصب أو أعطيات ونحوه، فالإنسان الصادق في حب الشريعة وأهلها وأهل السنة، تجده ينفي نسبة هذه الشخصيات للخطاب الشرعي، وبالتالي ينزه الخطاب الشرعي وأهل السنة من أفعالهم، ولكن الشخص الذي في قلبه هوى وشحناء ضد أهل السنة تجده يفرح بنسبة هذه الشخصيات للخطاب الشرعي ليتوصل إلى إدانة الخطاب الشرعي بسلوكيات هؤلاء المرتزقة.

ومن الأمثلة الحية على ذلك، أن المسلمين ولله الحمد جبلت نفوسهم على حب المتدينين والثقة بهم، فيأتي بعض المحتالين فيتزيا بزي المتدينين فيرخي لحيته ويبالغ في تشمير ثوبه ويضخ تيارات البخور في مكتبه ويفتح مساهمة عقارية يقضم بها أرصدة البسطاء، فالباحث الصادق ينفي نسبة هذه الشخصية للأخيار والمتدينين، وصاحب الهوى الذي يريد إسقاط الخطاب الشرعي تجده يتعامى عن ذلك ويقول: (انظروا إلى المطاوعة يأكلون أموال الناس) فانظر كيف يحمل الفضلاء مسؤولية المحتالين!

وأقرب مثل لذلك أنني رأيت مرة أحد الباحثين الماركسيين يحمل الصحابة مسؤولية أفعال بعض المنافقين التي ذمها الله في القرآن! فإذا كان هذا المنافق تسلل إلى الداخل المسلم وتستر بأنه من أصحاب محمد فكيف تحمل الصحابة مسؤولية هذا المحتال!

ومن أطرف الأمثلة أنني سمعت أحدهم يقول (أن هناك عينات من الآباء يحولون بين بناتهم وبين الزواج ليستأثروا برواتبهن، وهذه نتائج الخطاب الديني الذكوري عندنا للأسف ) فقلت له: ياسبحان الله، الآن تركت كل كلام أهل العلم عندنا في تحريم العضل والتشنيع فيه وأنه من أفحش الظلم، وذهبت تستدل ببعض المقصرين وتنسبه للخطاب الشرعي!

26-لاحظت أن ثمة شريحة واسعة داخل الطوائف الفكرية لديها (علمانية في فقه الأولويات) فهي تقر معك بثبوت كثير من القضايا الشرعية، لكن إذا جئت لترتيب الأولويات تراها ترتب الأولويات بحسب ذوقها وميولها الشخصي، وليس بحسب ترتيب القرآن، وكثيراً ماكنت أسمع أحدهم يقول لي (ليست المشكلة في كون قضايا التوحيد والبدع والفضيلة مهمة ولكن أين فقه الأولويات في عصرنا؟) فإذا بدأت تتحاور معه حول هذا السؤال المجمل اكتشفت أنه قد صمم جدولاً للأولويات من وحي ميوله الشخصية. وهذا كله خطأ كارثي، فكما أن هذه القضايا مصدر شرعيتها القرآن، فكذلك فإن ترتيبها مصدره القرآن، فالقرآن هو المصدر المطلق في ترتيب الأولويات، فما عظمه القرآن يجب أن نعظمه فنكثف الدعوة إليه ونحذر من الخطأ فيه، وما أخره القرآن يجب أن نقتصد فيه فنقتصد في الدعوة إليه ونتسامح في الخطأ فيه.

ومثل هذا التفريق عندهم أعني التفريق بين (شرعية القضايا، وترتيب الأولويات بين القضايا) فيحتكم في الأولى للقرآن، ويحتكم في الثانية لذوقه الشخصي؛ له نظائر عندهم، من ذلك تفريقهم بين (النص والتفسير) فيقول لك نحن نؤمن بالنص ولكن نخالف في تفسير النص، فهو يتوهم أن منهج تفسير النص لايرجع فيه للنص ذاته! فكما أن أولئك علمنوا (فقه الأولويات) بفصلها عن حاكمية القرآن، فإن هؤلاء علمنوا (منهج تفسير النص) وفصلوه عن حاكمية النص ذاتها.

ومنهج تفسير النص منصوص عليه، ومن أمثلة ذلك: قاعدة فهم القرآن على مقتضى الوضع العربي بما يتضمنه من أساليبها في العموم والخصوص ونحوها من خصائص اللغة العربية (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ) ، وفهم القرآن بمنهج الصحابة (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْ)، وقاعدة رد المتشابه إلى المحكم (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، وقاعدة تتبع موارد اللفظ في النصوص (ليس كما تقولون أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه “يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم” )، وقاعدة مراعاة الترتيب في النصوص (أبدأ بما بدأ الله به)، وهذه أمثلة فقط، وثمة نماذج كثيرة لكيفية دلالة النصوص على منهج تفسير النص ذاته.

27-طوال مناقشاتي الشخصية مع نقاد الخطاب الشرعي كنت أحرص على الوصول لرؤية علمية، لكن كانت تواجهني عقبات كبيرة، ومن أهم هذه العقبات مشكلة (المراوحة في محل النزاع) وهي إشكالية في المنهج المعرفي، وخلاصتها أن المناقش لايستطيع أن يمسك بالسؤال الذي يدور حوله النقاش بل يتقلب باستمرار، ويعيد صياغة السؤال بشكل مناقض، ويقفز إلى سؤال آخر دون وعي، وهذه الإشكالية تسبب لي شخصياً متاعب كبيرة في النقاش معهم، وسأضرب لذلك مثلاً:

يأتيك شخص متأثر بالتيارات الفكرية المعاصرة ويقول لك (مشكلة الخطاب الشرعي أنه غائب بتاتاً عن دراسة وبحث المستجدات المعاصرة) تقول له: حسناً، لنركِّز النقاش، سأذكر لك نماذج كثيرة من دراسات الباحثين الشرعيين في القضايا المعاصرة، فإذا ذكرت له بعضها، يقول لي (ولكنهم يعالجون المسائل في هذه الدرسات بطريقة أصول الفقه الموروثة عن السلف، وهذه طريقة تقليدية انتهت). لاحظ في جوابه هذا كيف قلب الإشكالية دون وعي، فإشكاليته الأولى: أن الخطاب الشرعي لايدرس المستجدات، وإشكاليته الثانية: أن الخطاب الشرعي يدرس المستجدات، لكنه يدرسها بطريقة أصول الفقه عند السلف! فيتبين بعد ذلك أن مشكلته الحقيقية ليست في دراسة المستجدات من عدمها، وإنما مشكلته الحقيقية مع منهج السلف في فهم الإسلام!

ومثال آخر لذلك: يأتيك شاب من ضحايا التيارات الفكرية المعاصرة فيقول لك: (مشكلة الخطاب الشرعي أنه غائب تماماً عن قضايا الحقوق والفساد المالي والرشوة ونحوها) فتذكر له نماذج من معالجات الخطاب الشرعي لمثل هذه القضايا، فيقول لك (ولكنهم يتكلمون عن قضايا أخرى مثل الصفات ومعارك الليبرالية الفارغة وغيرها). فانظر كيف قلب إشكاليته كلياً، ففي البداية كان يدعي أن أهل السنة لايتحدثون عن الحقوق المالية، ثم تحول وصار يقر بأن لهم طرح حول القضايا المالية ولكن لماذا يطرحون قضايا عقدية وفضيلية أخرى؟! فتبين أن مشكلته الفعلية ليست في منح الحقوق المالية اهتماماً وإنما في إلغاء الاهتمامات الشرعية الأخرى.

وهكذا تجد التلون والمراوغة والتقلب في الاسئلة والاشكاليات، وإعادة صياغتها بطريقة تنقض الدعوى السابقة، فيبقى في المراوحة والترنح بين أسئلة فلاشية تنقدح من كل جانب.

28-ومن المشكلات المنهجية الطريفة عند الطوائف الفكرية أنك حين تطالبهم بنماذج يذكرون لك شواهد تفيد نقيض دعواهم تماماً، ومن ذلك مثلاً: أن يأتيك شخص ويقول لك مشكلة الخطاب الشرعي أنه يغالي في طاعة ولاة الأمور حتى أنه يمنع الإنكار لأنه معصية لولي الأمر، فإذا ذكرت له نماذج من إنكار الفقهاء والدعاة في مسائل كثيرة وضعها النظام السياسي، قال لك (ولكنك تعرف أن فرقة منسوبة للشيخ ربيع المدخلي تمنع ذلك كله) فتقول له: وكيف وقف الإسلاميون تجاه هذه الفرقة؟! إن وقفتهم الحازمة تدل على نقيض مقصودك!

ومن أمثلة ذلك أنك تجدهم يقولون الفقهاء يغيرون مواقفهم تبعاً للسياسي، فإذا قلت أعظني مثالاً لو سمحت؟ يقول لك: انظر اختلاط كاوست كيف أفتت بعض الشخصيات الوزارية الرسمية بجوازه، فتقول له: وكيف وقف الإسلاميون تجاه هذه الشخصيات؟ إن وقفتهم الحاسمة والحادة تدل على نقيض مقصودك!

وأحدهم قال لي مرة: الإسلاميون يرفضون استنباط شئ جديد من النصوص لايوجد في كتب السلف، قلت له: أعطني مثالاً على ذلك قال: موقفهم السلبي من ظلال القرآن لسيد قطب، قلت له:

إذا كان سيد قطب وقع في هنات يسيرة خالف فيها عقيدة السلف، ومع ذلك تجد تفاني الإسلاميين في النقل عنه واستعذاب مقطوعاته فهذا يدل على نقيض قصدك جذرياً! إذا كان هذا موقفهم مع من استنبط وأخطأ، فكيف موقفهم مع من استنبط ولم يخالف السلف؟!

وهكذا يذكرون دوماً شواهد تفيد نقيض مقصودهم.

29-لاشك أن هداية الجميع مطلب شرعي، لكننا سنتكلم هاهنا عن الأولوية أيهما أولى (هداية أهل الأهواء الفكرية ذاتهم؟ أم حفظ الشاب الداعية الصادق من هذه الأهواء الفكرية؟) لاحظت بعض الأخيار تأخذه الحماسة في التأثير على أهل الأهواء فيلجأ إلى أن يستميلهم بإرضائهم بالموافقة على صحة بعض طعونهم في الخطاب الشرعي، ظناً منه أنه ببذل هذه المداهنة العلمية سيتألفهم لمنهج أهل السنة، لكن الواقع أن مثل هذا يعود بخسائر أكبر على طالب العلم والداعية الصادق الباحث عن الحق، ولذلك، فإنه يجب أن تكون الأولوية لحماية الشباب الصادق من أهل الأهواء ببيان زيف أفكارهم، فإن اهتدى أهل الأهواء الفكرية فبها ونعمت، وإن تمسكوا بأهوائهم فلسنا على استعداد للتفريط بإيمان الشباب المسلم وديانتهم وعبوديتهم لأجل أهل أهواء يشترطون على النص.

30-أوجه القصور في الخطاب الشرعي المعاصر:

تعرفنا في الجولات السابقة على الشائعات النقدية التي تستهلكها الطوائف الفكرية المعاصرة المخالفة لأهل السنة في منهج الإصلاح والنهضة، واكتشفنا سوياً حجم زيفها وبطلانها، فالسؤال الآن: إذاً ماهي أوجه القصور في الخطاب الشرعي المعاصر؟

فالحقيقة أن الذي يبدو لي شخصياً أن هناك محورين أساسيين تظهر فيهما تجليات القصور:

المحور الأول: نقص التغطية في كل المجالات، فحجم الجهود المبذولة في كل الميادين غير كافية إلى الآن، وسأضرب أمثلةً لذلك:

تشهد المجتمعات المسلمة اليوم ألواناً من الوثنية التقليدية، كالاستغاثة بالحسين وسؤاله تفريج الكربات، وهذه المظاهرة موجودة في مجتمعنا المحلي ذاته، وثمة دراسات ذكية وممتازة درست واقع المزارات المعاصرة المنتشرة في البلدان الإسلامية وكشفت نتائج مرعبة من شيوع الوثنية التقليدية، وهذا هو عين الشرك الذي ذهبت أعمار الرسل والأنبياء في محاربته، ومع ذلك لاتزال جهودنا تتقاصر عن معالجة أعظم قضية أهمّت الأنبياء واستولت على هرم أولوياتهم، بل وصلنا إلى درجة أكثر انحطاطاً حيث صار بعض المنتسبين للفكر عندنا يتعامل مع هذه المظاهر بكل برود وكأن حق الله الأعظم لم ينتهك! بل وقد يسخر ممن يؤرقه هذا الأمر ويسعى في معالجته، بل وبعضهم يعتبر معالجته نوع من “الطائفية”!

ومن صور القصور أيضاً، أن كثيراً من المجتمعات المسلمة تعاني من (شرك التشريع) أي عدم افراد الله بالطاعة في تشريعاته، فتسن القوانين تلو القوانين التي تنتهك أحكام الله في المعاملات والجنايات وغيرها. وهذا الشرك الذي قال الله عنه {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} الشورى،21 . فسمى تشريعاتهم شركا. وقال تعالى عنه أيضاً: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} التوبة،31. فجعل طاعتهم شركا. وقال تعالى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} الفرقان،43. فجعل طاعة الهوى بما يخالف أمر الله نوع من “تأليه الهوى” .

ومن أعظم مايبين مركزية (توحيد التشريع) في مشروعات الأنبياء لللإصلاح أن الله تعالى حين ذكر “الرسل” و”الكتب السماوية” -وهما يمثلان ثلث أركان الايمان الستة- رسم وظيفة الكتب السماوية بصورة أخاذة حيث يقول تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]. فبالله عليك تدبر هذا الشمول الذي ذكرته هذه الآية عن وظيفة الكتب السماوية “ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه” وقارنه بواقع الحال اليوم.

والمراد أن جهودنا في معالجة شرك التشريع الذي هو من أعظم نواقض وقوادح التوحيد لاتزال أقل بكثير بكثير من المستوى المطلوب، بل وظهر لدى البعض نغمة جديدة صار يشعر أن قضية (تحكيم الشريعة) قضية جيدة ولكنها ليست أولوية، المهم هو الحقوق المالية، فاختزلت الشريعة كلها في الحقوق المالية!

ومن أمثلة قصور الخطاب الشرعي أن المؤسسات الإعلامية الكبرى اليوم تكثف نشر المواد الإعلامية التي تدفع باتجاه تطبيع العلاقات غير المشروعة بين الجنسين، وتقويض الحواجز الشرعية، وحفظ الأعراض واحد من أعظم مقاصد الشريعة الخمسة، ومع ذلك لاتزال جهودنا دون مستوى المواجهة.

ومن أمثلة قصور الخطاب الشرعي أن الطوائف الفكرية المنحرفة تضخ على الشباب اليوم آلاف المقالات التي تتضمن شبهات تزين للشاب المسلم تقحم الشهوات دون تأنيب ضمير، وفيها من تحريف معاني الوحي والتزهيد بفقه السلف واللهج بتعظيم الكفار شيئاً عجباً، وغالبها تقريباً يدور حول إعادة صياغة أحكام الإسلام بما يتناسب مع قيم ومفاهيم الثقافة الغربية عبر الاعتماد على الخلافات والشذوذات الفقهية، فإذا وجدو شذوذاً فقهياً صار المرجح في المسألة ليس النص، وإنما مدى القرب والبعد عن قيم الثقافة الغربية، ولذلك تنتهي هذه الأفكار دوماً إلى (التفسير المادي للإسلام) أي إبراز الجانب المادي في التشريعات وتغييب بقية المحتويات العقدية والفقهية، ومع ذلك لاتزال جهودنا في مكافحة هذه الطوائف الفكرية المنحرفة دون المستوى المطلوب.

ومن أوجه القصور أن كثيراً من المناصب والولايات المؤثرة على حياة المسلمين صارت تعطى لغير الأكفاء، وكثير من العقود الحكومية صار ينخرها الفساد من الداخل، وهذا أثر جوهرياً على المصالح الخدمية للمسلمين بشكل عام، وأزمتي الإسكان والصحة بشكل خاص، ولاتزال جهودنا في المطالبة بالإصلاح دون المستوى المطلوب.

هذه نماذج فقط، والمراد منها التأكيد على أننا بحاجة لمضاعفة الجهود على جميع الجبهات، العقيدية والفضيلية والمالية وغيرها، فليست مشكلة الخطاب الشرعي أنه غالى في جانب وترك جوانب أخرى، بل مشكلة الخطاب الشرعي أنه لا يزال غير قادر على تلبية الاحتياجات في جميع الحقول.

والفرق بين أهل السنة وأهل الأهواء الفكرية في تحديد مواطن القصور، أن أهل السنة يطالبون دوماً بجميع الأبواب الشرعية، ويعظمون شأنها جميعاً، لأنها كلها من الدين عندهم، وأما أهل الأهواء فيضربون المطالب الشرعية بعضها ببعض، فأهل السنة يقولون دوماً يجب أن نجتهد في كل الفروض الكفائية، وأهل الأهواء يقولون –مثلاً- أوقفوا جهود التوحيد والفضيلة وتحدثوا في الحقوق المالية فقط. ومن يدعو لمضاعفة الجهد على كل الجبهات فهذا دليل على أنه يريد الأخذ بالدين كله، ومن كان يريد ضرب المطالب الشرعية بعضها ببعض فهذا دليل على أن في نفسه هوى.

المحور الثاني: قصور الأخطاء الفردية: لايمكن القول بأن فقهاء ودعاة الخطاب الشرعي معصومون، بل يحدث من الأفراد جميعاً بلا استثناء أخطاء فردية عرضية، فالإنسان يضعف أحياناً في العلم والعمل، يضعف في العلم فيتأول، ويضعف في العمل فيعصي، والواجب علينا جميعاً أن نتناصح في هذه الأخطاء الفردية.

لكن من المهم التنبيه إلى أن الأخطاء الفردية لاتحسب على قواعد وأصول أهل السنة ذاتها الموروثة عن خير القرون، فتجد بعض الشباب يأتيك ويقول لك: (الخطاب الشرعي لايعتني بقضايا الأخلاق) فإذا ذكرت له نماذج واسعة من منتجات قضايا الأخلاق، قال لك (أنا أتذكر الشيخ الفلاني غضب مرةً وقال كلاماً، والشيخ الفلاني يهمل في عمله، ونحو ذلك) فمثل هذه الوقائع هي أخطاء شخصية لأفراد وليست أخطاءً لمنهج أهل السنة ذاته! هل يصح أن نأخذ مثلاً القصور البشري الذي اعترى بعض الصحابة ونقول إن منهج النبي في التعليم خاطئ؟! والمراد أن وقوع الخطأ من الأفراد يجب أن يعالج كأفراد، لا أن ننقلب على الخطاب الشرعي ذاته.

هذان محوران أرى شخصياً أنهما بحاجة للعناية لتنمية الواقع الإسلامي.

-خاتمة: وأخيراً ما الدافع لكتابة هذه الورقة؟

الحقيقة أن أعظم دافع لي لكتابة هذه الورقة، وهذه المناقشات السابقة، أنني رأيت نتائج مرة لهذه المقولات النقدية التي تروجها الطوائف الفكرية. بكل صراحة ووضوح أعرف الكثير من الشباب الذين التقيت بهم، أو جرت بيني وبينهم محاورات، أو حصل بيننا اتصال بالمراسلة، وحكوا لي شيئاً من أخبارهم، فرأيت فيها والله العظيم ما يملأ النفس حزناً وكمداً، ترى الشاب عليه سيماء الصلاح والخير، مشتغلاً بشيء من معاني الوحي أو حفظ نصوصها، ومهموماً بالدعوة إلى الله، بل يحمل هم المسلمين في كل مكان، ويحاول تزكية نفسه بشيء من العبادات، ويمضي بقية وقته في شأنٍ وظيفي من شؤون دنياه، ثم لا يلبث أن يتعرف على هذه المقولات النقدية التي تروجها الطوائف الفكرية، فيشحنونه ضد الخطاب الشرعي، ويصدعون ثقته بفقهاء أهل السنة ودعاتهم، فلا يزالون به حتى ينفصل عن مقابس الإيمان، ومغذيات التدين، فيهجر القرآن تدريجياً، وينسى كثيراً من معاني الوحي التي تعلمها، وتتضرر عبادته بشكل ملحوظ، بدءاً بالنوافل مروراً بالواجبات وانتهاءً بالشذوذات الفقهية، وتصبح مجالسه كلها حنق وتذمر من المتدينين والأخيار، وتنبني بينه وبينهم الحواجز تلو الحواجز، ويصورون له أنهم وإياه سيبنون النهضة والحضارة، وهم والله لا حضارة دنيوية ولا دينية، بل كثير منهم يتحول إلى اللهو ومساهرة الأفلام، والشغف بالسفر للخارج.

بل والله العظيم أن أحدهم –وهو قارئ نهم- قال لي بكل صراحة: (أنا لي أكثر من عشر سنوات أصلي الفجر إذا ذهبت للعمل الساعة الثامنة) يقولها لي بكل برود والله على ما أقول شهيد، فانظر كيف مات الدين في القلب، إن أسوأ من إطباقه على ترك الصلاة لا مبالاته بما وقع منه، وهذا لا يقع إلا بمن غادر تعظيم الله قلبه، وهذا الشخص لا يكف عن المشاركة دوماً في قضية (كيف نفهم الإسلام؟!) والله شيء مقرف جداً.

شباب صار وقتهم بين الأفلام والسياحة وتضييع العبادات، لا يكفّون عن توجيه النصائح لعلماء أهل السنة كيف يفهموا الإسلام؟!

على أية حال فإن المقصود هاهنا أن (شحن الشباب ضد فقهاء ودعاة أهل السنة) صار له دور فعال في توهين التدين في النفوس، وكلما لاحظت هذا الأثر أخذت أتعجب من المعاني العظيمة التي أشارت إليها تلك الآية:

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الحشر، 10

امتلاء القلب بالغل لأهل الفضل والخير –سواءً أصابوا أم أخطأوا- ليس قضية هامشية بتاتاً، بل هي أول عثرةٍ في منحدرات الأهواء السحيقة.

ولتتأكد من كلامي تأمل في واقع الطوائف الفكرية المناوئة للخطاب الشرعي، وستجد فيهم جميعاً ضعف الصلة بالقرآن، والضعف العبادي العام.

ولذلك فإن من أعظم ما يحرق هذه الطوائف الفكرية المخالفة لأهل السنة والجماعة في منهج الإصلاح والنهضة: الدعوة إلى تلاوة القرآن وتدبر معانيه، وتدبر الأعمال التي يحبها الله ويذكرها ويعيدها ويحث عليها، فهذا القرآن العظيم أعظم (منظِّم للأولويات)، وهو (الجدول الصحيح) لترتيب المطالب الدينية، وقد رأيت شباباً كثيراً كانت لديهم إشكاليات كثيرة بسبب القراءة في بعض الكتب والمقالات الفكرية المنحرفة، فأوصاهم بعض المتخصصين بتلاوة القرآن وتدبر معانيه، فما هو إلا فترة يسيرة حتى زالت عنهم الغشاوة كلها، وتبين لهم المطالب التي يريدها الله من العباد، ودرجاتها وأولوياتها، فصاروا بحمد الله يعظمون ما عظمه القرآن، ويستهينون بما استهان به القرآن، ويقدمون ما قدمه القرآن، ويؤخرون ما أخره القرآن، وأصبحت الرؤية عنهم شديدة الوضوح.

فما يريده الله ويحبه ويريده من العباد ليس لغزاً، الله أنزل هذا الكتاب ليقرأه عموم الناس فيفهموا منه مراد الله تبارك وتعالى، وأصول المطالب الشرعية.

خذ مثلاً: ذكر الله (الصلاة) في كتابه، بلفظها ومشتقاتها كالمصلين والصلوات، في بضعة وتسعين موضعاً مفرقة في عشرات السور المكية والمدنية، فهل من الممكن أن يذكر الله الصلاة في هذه المواضع التسعين وتكون شيئاً هامشياً بالنسبة لله؟! هل القرآن يستحضر الصلاة بهذه الكثافة بالثناء على أهلها ومعاقبة تاركها وتكون شيئاً ليست الأولوية في الخطاب الدعوي والإصلاحي؟! هل يمكن أن تكون الصلاة بهذه الكثافة في القرآن وليست هي الأولوية في بناء الحضارة والتقدم الانساني؟!

وشرع الله أحكام الشريعة كلها على الأرض إلا الصلاة فقد عرج بالنبي r إلى السماء لكي يتلقى تشريعها من الله مباشرة، فكيف بالله عليكم يقدم البعض خطابا يسميه (خطاب حضاري وإصلاحي ونهضوي إلخ) وتكون الصلاة فيه أشبه بالشأن الشخصي!

ومن قرأ كتاب إمام أهل السنة في زمانه محمد بن نصر المروزي المسمى (تعظيم قدر الصلاة) فوالله إن كان في قلبه ذرة صدق في البحث عن مراد الله ورسوله فإنه لا يمكن أبداً إلا أن تتأثر رؤيته للإصلاح والنهضة كلياً، وبالمناسبة فهذا الكتاب من أعظم الكتب في بيان إشكالية الإرجاء الفقهي، وقد كان الشيخ العلامة عبدالله السعد يعظم شأن هذا الكتاب جداً، وقد رأيت من حسن صلاة الشيخ عبدالله شيئاً كان يهزني هزاً، فوالله إن تنفله قبل بداية الدرس (حين كنت أحضر شرحه لسنن الترمذي قبل عشر سنوات) وما فيه من حسن القيام والركوع، وإخباته حين الهوي إلى السجود، شيئاً يجعلني أوقن أن الرجل يعيش مع الصلاة عالماً آخر، وهذه العبودية أرزاق من الله جل وعلا نسأل الله من فضله.

وتكلم الله عن جنس “ذكر الله” في عشرات المواضع من القرآن، وأما آحاد الأذكار وأنواعها كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير فهذه لا يمكن إحصاؤها في القرآن إلا بكلفة، فهل يمكن أن يكون الله أفاض في وصف الذكر بهذه الكثافة ويكون ليس من أعظم أولويات الخطاب الدعوي والإصلاحي؟، هل الله جل وعلا يغرر بالعباد فيحثهم على ما لا يريده منهم؟!

وكذلك ما جاءت به الرسل من الشعائر العظيمة الظاهرة التي يحبها الله (كالركوع, والسجود, والاعتكاف, والصوم, والذبح, والنسك, والأذكار..) وسائر هذه الأعمال العظيمة امتلأ بها القرآن، وأثنى الله على الأنبياء بحرصهم عليها.

ومن قرأ هذا القرآن ورأى ما فيه من تعظيم الله لتزكية النفوس بالعبادات القلبية الباطنة، ثم رأى غياب هذه العبادات عند هذه الطوائف الفكرية، أدركه الرثاء والألم لأحوال هؤلاء المساكين الذين ضيعوا أعظم مقاصد القرآن ومطالبه.

أعظم وأهم وأسمى إصلاحات الأنبياء هو ماجاؤوا به من “المعرفة الإلهية” بما تتضمنه من تصورات صحيحة عن الله والغيب, وبما تتضمنه من عمارة القلوب بالتأله لله، وتزكية النفس البشرية بعبودية القلب لله، فهذه العبادات القلبية التي جاء الرسل بتزكية النفوس بها (والتي يسميها الفقهاء العبادات القلبية، ويسميها علماء السلوك الإسلامي مقامات الإيمان) أطنب القرآن في تشريفها وبيان حب الله سبحانه لها.

فما جاءت به الأنبياء من تزكية النفوس وترقيتها وتنويرها بالعبادات القلبية هو أعظم ماجاءت به الأنبياء والرسل، فأول قضية في جدول أولويات الرسل عمارة القلوب بالله، والعبادات القلبية كثيرة ومن أصولها: الإخلاص, والمحبة, والخوف, والرجاء, والتوكل, واليقين, والصدق, والانقياد, والتذلل, والصبر, والاستعانة, والتوبة، ونحوها.

وهذه العبادات امتلأ بها القرآن، فهو يبتدئ بالأمر بها أحياناً، وأحياناً أخرى يثني على من فعلها، وأحياناً أخرى يذم من أهملها، وأحياناً أخرى يعلق بها على الأحداث والقصص، فيفسر النجاح والاستنارة بها، ويفسر الإخفاق والانحطاط بغيابها، إلى غير ذلك من أنماط التعبير التي استعملها القرآن في تأكيد أولوية عمارة القلوب بالله.

فالرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- علموا الناس كيف تمتلئ قلوبهم بالإخلاص وتجريد النية وتصفيتها لله، وامتلاء القلب بحب الله، والخوف والخشية والوجل من الله، ورجاء ثواب الله، والتوكل عليه سبحانه وتفويض الأمور إليه والاعتماد التام عليه، وتشبع القلب باليقين القاطع بالله والنبوة والمعاد، وانقياد القلب وتسليمه وخضوعه وانصياعه واستسلامه لله ورسوله وأوامرهما ونواهيهما، والتذلل لله بما يتضمنه من التضرع والاستكانة والإخبات لله سبحانه وتعالى , والانطراح بين يديه, وإظهار الافتقار لله, والحاجة إليه والتمسكن بين يديه. ففي النفوس فاقة فطرية لا يملؤها إلا الإقبال على الله, وفي القلوب صدع لا يرأبه إلا الانحناء بباب الجواد الغني سبحانه، والصبر على قضاء الله وأقداره الكونية، والاستعانة والاستغاثة والاستنجاد بالله ليعيننا على عبادته, وليعيننا على شؤون دنيانا، ومعاودة التوبة والإنابة والتماس المغفرة والصفح من الله, وأن يبوء الانسان ويقر ويعترف بإثمه وذنبه.

وهذه العبادات القلبية العظيمة التي اعتنى بها الأنبياء والرسل، وصرفوا جوهر جهودهم في تزكية الناس بها، تنفي آفات النفوس وأدواءها، وتطهرها وتنقيها، فأدواء النفوس هي أضداد هذه العبادات العظيمة، فإذا ضعفت هذه العبادات القلبية امتلأت حقول القلوب بالحشائش الضارة.

فضعْف الإخلاص يورث الرياء وحب الظهور والشرف, وهوس الشهرة, ونزوة التصدر والرياسة, وحب العلو على الأقران, والتزين للمخلوقين.

وضعف الخوف من الله يورث الجرأة على انتهاك المقدسات, ويسبب الهلع والخشية من مخلوق ضعيف عاجز مثلك.

وضعف الرجاء يورث القنوط من رحمه الله, وترك العمل تحت ضغوط إحباطات اليأس من عفو الله، والرجاء لا يكون إلا مع العمل، أما الرجاء بلا عمل فيسميه القرآن “الأمن من مكر الله”.

وضعف التوكل يورث تعلق القلب بالمخلوقين, وانصرافه إلى ملاحظة الأسباب والغفلة عن مسبب الأسباب ذاتها.

وضعف اليقين يورث تسرب شيء من الارتياب والشكوك، وتزعزع الحسم بالله وكتابه وسنة نبيهr, ويسبب تصدع الثقة بوعد الله وأن الله ناصر دينه ورسله.

وضعف الانقياد يورث التردد في التسليم لله ورسوله, وتنامي الاعتراضات الخفية الباطنة على الشريعة, والتبرم بنصوص الكتاب والسنة, والسعي للتخلص منها بشتى الطرق الخفية: مثل التأويل والتحريف الملتوي، أو التذرع بالخلاف الفقهي، أو تضخيم دعوى اختلاف الزمان، أو التعلل بالمقاصد لإسقاط النصوص، أو التعلق بالكليات لجحد الجزئيات، ونحو ذلك من التقنيات والوسائل التي تدور حول شهوة التخلص من الانقياد للنص.

هذه رأس تعاليم الأنبياء، وتلك جوهر وصاياهم .. لمن كان فعلاً يبحث عن مراد الله ورسوله..

فإذا تدبر الباحث الصادق هذه الحقيقة في القرآن وفي وصايا الرسل واهتماماتهم، وإذا تأمل عمق العبادات القلبية في مشروعات الأنبياء للإصلاح، ورأى غفلة غالب الطوائف الفكرية عنها؛ علم أن حاجة هذه الطوائف الفكرية إلى التزكي بالقرآن وعمارة القلوب بالله تفوق كل الحاجات البشرية اليوم.

ولا يوقن بهذه الحقيقة إلا من امتلأ قلبه بتعظيم الأنبياء والرسل واليقين بأن ماجاؤوا به هو أعظم وأسمى من كل ما تتداوله البشرية من اهتمامات وأولويات وأفكار وفلسفات ونظريات وخطابات.

وهذا القرآن العظيم شرح ماجاءت به الرسل من حفظ “العفة والفضيلة” ومقاومة الرذيلة, ووسائلها المفضية إليها, فثمة منظومة متماسكة كرسها الوحي الإلهي لقطع الطريق على كل طرق الرذيلة ومساربها، كمنع الخلوة, والخضوع بالقول, والحجاب, وغض البصر, والدخول على المحارم, وقوله: الحمو الموت, والتعطر في الطريق, ومنع السفر بغير محرم, وغير ذلك من النصوص التي تكشف أن من مقاصد الشريعة سد الطرق المفضية إلى تطبيع العلاقات غير المشروعة بين الجنسين.

وما جاءت به الرسل من حفظ العلاقات الاجتماعية في تراتبيتها كبر الوالدين وحقوق الرحم والجوار وغيرها، وحفظ الحقوق المالية, كمنع الربا, والغرر, والغش, والرشوة, والاحتكار, والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل.. إلخ.

والعقوبات الجنائية العظيمة التي جاء بها الوحي, وحفظ الأرض من الفساد الجنائي, وأن الوسيلة التي يجلها الله ويرضاها هي القصاص, وقطع السارق وجلد الزاني والقاذف, ونفي من أقام علاقة غير مشروعة وهو لا زال غير متزوج إلى غير بلده سنة كاملة, والرجم بالحجارة للمتزوج الذي يقيم علاقة غير مشروعة حتى يلفظ آخر أنفاسه.

هذه العقوبات الجنائية التي شرحها القرآن لاستقرار المجتمع وليكون متقدماً راقياً، لاتزال الأمم غير المسلمة اليوم منحطة حائرة أرساها لم تهتد إليها، ولا تعرف الوسائل التي شرعها خالق الإنسان ذاته.

وكذلك ماجاءت به الرسل من الأخلاق العامة كالصدق وترك الكذب, وحفظ عرض المسلم وعدم غيبته, النميمة.. إلخ.

والعناية بالفروض الكفائية التي تقوم بها مصالح المسلمين, والوسائل المادية التي تتحقق بها رسالة الإسلام, وهو ما يعبر عنه الوحي بمفهوم القوة.. إلخ.

فهذا جزء من معالم دعوة النبيr التغييرية، ومشروعات الأنبياء للإصلاح كما عرضها القرآن، وهذه هي الحضارة الشاملة والنهضة المستوعبة وليست حضارة الآلة والمادة واللذة.

والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ابوعمر

ابراهيم السكران

iosakran@yahoo.com

28 ذي الحجة 1430هـ

لا تعليقات حتى الآن

  1. شكرا على نقل هذا البحث .فيه امور مفيدة كثيرة

  2. اجو المزيد من البحوث عن الخطاب الشرعى المنزل ونرجو من الاخوة العلماء تبنى هذا الخطاب حتى نكون من الفئزين ومزيد من حرية الانسان وتجريد الطغيان ونرجو تحميل هذا الكتاب العظيم

  3. هذى المشكله يجيك بزر مثل هالسكران ويحدد ويفرض وجهة نظره السقيمه من استخدام الدين
    حسب مايصوره عقله السقيم من الغرور الذى طبل له بعض المبزره من من نفس عقليته
    التى جعلها وصيه على خلق الله من المسلمين بحكمه على من يخالف تفكيره السقيم
    ولو كان فى عقله ذره من العقل لحتكم لقول رسوال الله وخير البشريه محمد صلى الله عليه وسلم
    ( هل شققت عن قلبه ) ولكن اكثر البزران مغرورون بتطبيل دفوفوف الاخوان المسلمين
    الذين يستخدمون الدين للوصل الى قمة السلطه وفرض التخلف على بلادهم لزيادة دعس
    خشومهم للحصول على اطماعهم وبالطبع هذا ليس تعميم فالاكثريه منهم على غباء
    وجهل بسبب تطبيل وتعظيم مثل ما اصاب اخونا البزر ابراهيم السكران

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 + خمسة =