احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي

الخطاب الشرعي والأفكار الحديثة:

ومن صور النقد الشائعة أيضاً قولهم: (عالم اليوم يموج بأنواع التيارات والأفكار والمدارس والتحولات الفكرية، بينما الخطاب الشرعي لا يعرف عنها شيئاً ولا زال يصارع الجهمية والكلابية). وهذا الكلام غير علمي ولا يمثل دراسة موضوعية لواقع الخطاب الشرعي، فمن دراسات الخطاب الشرعية حول الأفكار والتيارات والتحولات الحديثة:

(موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي) حسن بن محمد الأسمري، (نظرية المعرفة في الفلسفة الأوربية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر) صالح بن عبد الرحمن الشريدة، (نظرية الواجب الأخلاقي عند كانط: دراسة ونقد) أحمد معاذ حقي، (مفهوم الوحي عند التأويلية المعاصرة) لطيفة المعيوف، (التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية: دراسة عقدية) هيفاء بنت ناصر الرشيد، (البرمجة اللغوية العصبية المعربة: دراسة عقدية) هند بنت علي المطرود، (تأثير النظريات العلمية الحديثة في الفكر التغريبي العربي المعاصر) للشيخ د.حسن بن محمد الأسمري، (الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين) سعيد بن عيضة الزهراني، (الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر) سعيد بن ناصر الغامدي، (الحداثة في العالم العربي) محمد بن عبد العزيز العلي، (حزب البعث مبادؤه وأهدافه) إبراهيم بن محمد الدوسري، (دعوة التقريب بين الأديان: دراسة عقدية) أحمد بن عبد الرحمن القاضي، (اليزيدية، وعلاقتها بعبادة الشيطان: دراسة عقدية) فهد بن علي المساعد، (المدرسة العقلية الحديثة) ناصر بن عبد الكريم العقل، (التيار الوجودي في الفكر العربي المعاصر: دراسة نقدية عقدية) هاني بن عبدالله الملحم، (التحولات العقدية المحمودة في صفوف الإمامية في الفترة (1320-1420): عرض ونقد) خالد محمد البديوي، (التكفير عند جماعات العنف المعاصرة: عرض ونقد) إبراهيم بن صالح العايد، (حديثو العهد بالإسلام ومشكلاتهم: دراسة عقدية) أحمد بن عبدالله الحسين، (موقف الصوفية من الاستعمار: دراسة عقدية) وفاء بنت حمد الخميس، (الحضارة الإنسانية في القرآن: عوامل نموها وانحطاطها) عبدالكريم عبدالعزيز الشملان، (علماء الشريعة و بناء الحضارة) وهي دراسة موسعة لشيخنا عبدالله بن ابراهيم الطريقي.

بل لا تكاد توجد طائفة ومدرسة فكرية مشهورة ولها أثر وامتداد إلا وتجد المختصين العقديين قد طرحوا حولها كثيراً من المعالجات والدراسات بحسب اجتهاداتهم، ويبدو أن هذا الاتهام قديم نوعاً ما، حيث إنه في الحقبة الماضية حين كانت التيارات الفكرية في العالم العربي هي القومية والاشتراكية ونحوها، كان بعض المعنيين بمناقشة هذه الأفكار يرى أن الخطاب الشرعي غائب عن هذه الأفكار، مما استدعى شخصية بوزن “ابن باز” وهو الأب العلمي للخطاب الشرعي المعاصر أن يرد على هذه الفكرة حيث يقول رحمه الله:

(العلماء في السعودية يعرفون مشاكل العصر, وقد كتبوا فيها كثيرا, وأنا منهم بحمد الله, وقد كتبت في ذلك ما لا يحصى) [مجموع فتاوى ابن باز، 8/242 ].

على أية حال .. هناك أيضاً محاور أخرى يرى نقاد الخطاب الشرعي أن الشرعيين لم يقدموا حولها أية دراسات، لكن يبدو لي أنه من غير اللائق بوقت القارئ أن نواصل عرض النماذج حتى لا تتحول هذه الورقة إلى ببليوجرافيا، وفي تقديري أن الباحث الموضوعي يستدل بهذه النماذج على ما سواها، أعني أن الباحث الموضوعي إذا رأى أشهر ما يطرح الناقدون نقدهم حوله -كقضايا الاقتصاد والقانون والحقوق والسياسة والطب والأفكار والفلسفات- وأن هذه التعميمات التي أطلقوها تعكس بعدهم الكلي عن موضوع نقدهم، وجهلهم الفظيع بواقع الخطاب الشرعي ، فإن ذلك سيورثه –على الأقل – تحفظاً تجاه الدعاوى الأخرى ومدى صلة الخطاب الشرعي بإشكالياتها.

ولذلك سننتقل الآن إلى إشكالية مختلفة.

ثالثاً: الخطاب الشرعي وقضايا الأخلاق

يردد كثير من مناوئي الخطاب الشرعي قولهم بأن الفكر الديني المحلي استغرق في القضايا الشكلية كاللحية والإسبال، وترك قضايا الجوهر الأخلاقي كالأمانة والإحسان إلى الناس وحقوق الغير ونحوها، حتى صار التدين شكلياً، وصار مفهوم التدين مرتبطاً في الوعي الشعبي بقضايا القشور، وقد لاحظت أن أكثر قضية أخلاقية يرددها هؤلاء المناوئين هي قضية “قيم العمل” أو “احترام المهنة”، وأنها قيمة أخلاقية غائبة كلياً في الخطاب الشرعي، مما أدى إلى تحوله إلى تدين مظهري مجوف غير حقيقي.

هذه الفكرة/الشعار تتكر كثيراً كثيراً، فما مدى يا ترى علمية هذا الاحتجاج؟ وهل فعلاً أن الخطاب الشرعي يهمل قضايا الأخلاق كالأمانة وقيم العمل والوظيفة؟، نحتاج في فحص مصداقية هذا النقد وموضوعيته إلى عرض نماذج من منتجات الخطاب الشرعي في قضايا الأخلاق.

سنأخذ عينيتن يصدق عليهما أنهما ممثل نموذجي، فنموذج من الفقهاء أصحاب الفتيا، ونموذج من الدعاة واسعي الانتشار، لكي يمكن أن نكون قدمنا حكماً أقرب للدقة في تصور واقع الخطاب الشرعي.

فمن شريحة الفقهاء أصحاب الفتيا: لنأخذ العلامة الإمام ابن عثيمين، وهو أهم مرجعية فقهية سنية معاصرة على الإطلاق، فبسبب كثرة نتاج الشيخ في قضايا “قيمة العمل وأخلاقيات المهنة” جمعت فتاواه المبثوثة فبلغت مجلداً كاملاً مخصصاً فقط لفتاوى الموظفين، كما جمعت له رسائل أخرى عن الطبيب وغيره.

والشيخ ابن عثيمين معروف بكثرة احتياطه في جانب (أمانة العمل الوظيفي) باعتباره عقداً، والشارع عظّم الوفاء بالعقود، حتى بلغ الحال بالشيخ أنه كان يفتي للمؤسسات المهنية إذا كان خروج الموظفين للصلاة في المسجد سيترتب عليه التفريط في حقوق العمل بأن يصلوا في مقرات العمل، ومن ذلك مثلاً قوله في الشرح الممتع:

(بعض الموظفين لا يخافون الله، فإذا خرجوا إلى الصلاة خرجوا إلى بيوتهم، وربما لا يرجعون، ففي هذه الحال نقول: صلوا في مكانكم، لأن هذا أحفظ للعمل وأقوم، والعمل تجب إقامته بمقتضى الالتزام والعهد) [الشرح الممتع 4/249 ، وانظر أيضاً: ثمرات التدوين، م121 ]

ومن الفروع الفقهية التي نتجت عن احتياط الشيخ لجانب (أمانة العمل الوظيفي) أنه كان يرى تحريم أخذ الإجازة الاضطرارية من أجل الذهاب للعمرة، لأن العمرة مستحبة والعمل عقد واجب، كما يقول الشيخ مثلاً:

(أسئلة كثيرة حول موضوع الإجازة الاضطرارية لمن يريد العمرة أو غير ذلك؟ على كل حال كلمة اضطرار تعني: أنه لا بد من ضرورة، والعمرة ليست ضرورة أبداً، حتى لو كانت فريضة والإنسان موظف فإنها لا تجب عليه؛ لأنه مشغول بوظيفة، فكيف وهي تطوُّع. وكذلك –أيضاً- بالنسبة لأئمة المساجد، هؤلاء الذين يذهبون إلى العمرة ويَدَعون مساجدهم، هم في الحقيقة كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً، يذهبون إلى التطوع ويَدَعون الواجب، وهذا من قلة الفقه، عندهم رغبة في الخير ولا شك، ولم يحملهم على هذا إلا رغبة الخير؛ لكن عندهم قصور في الفقه، لا يعرفون ولا يميزون بين الأمور؛ لأن بقاءهم في عملهم الذي يؤدون فيه واجباً أفضل من ذهابهم إلى العمرة؛ لأن البقاء في العمل من باب الواجبات، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله قال: (ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه). [جلسات رمضانية، ابن عثيمين]

وكان الشيخ يكرر هذه الفتوى في محافل كثيرة، وهذا المبدأ –أعني “احترام الأنظمة”-، صحيح أنه أصل مشترك بين فقهاء أهل السنة، لكن للشيخ ابن عثيمين -لمن تتبع فتاواه- مزيد اختصاص في التمسك بهذا الأصل وكثرة مراعاته والفتيا على أساسه، يعرف ذلك من له أدنى خبرة بنصوص الشيخ رحمه الله، حتى أن القارئ يستطيع أن يعرف موقف الشيخ بمجرد أن تكون القضية مما يتصل باحترام الأنظمة، وهذا الأمر لفت انتباه كثيرٍ من طلاب العلوم الشرعية، حتى خصص لها أحد الباحثين دراسة أكاديمية فقهية مستقلة بعنوان (ربط الحكم الشرعي بالنظام عند الشيخ ابن عثيمين: دراسة فقهية مقارنة) طرحها الباحث محمد بن عبدالله الطريقي.

فهذا نموذج من فقهاء الخطاب الشرعي، بل هو أهم مرجعية فقهية مؤثرة في الخطاب الشرعي بلا منافس، فتأمل كيف كان تعظيمه لأمانة وقيمة العمل كقيمة أخلاقية، تأمل كيف أثر هذا الأصل الأخلاقي على فتاواه الفقهية، ولم يجعل التدين قضية ظاهرية شكلية، ولننتقل الآن إلى شريحة الدعاة.

فمن شريحة الدعاة واسعي الانتشار: لنأخذ الشيخ محمد صالح المنجد، وله دروس وخطب وفتاوى وبرامج كثيرة وغزيرة جدا تتحدث عن قضايا الأخلاق بشكل عام وأخلاق العمل بشكل خاص، بالإضافة إلى جهوده في بيان القضايا العقدية والفقهية الأخرى، ومن ذلك:

(أكل أموال الناس بالتأويلات) ، (الدين ليس مظهراً فقط) ، (قيمة الإتقان) ، (سلسلة الحقوق الزوجية) ، (مهلاً أيها الزوجان) ، (خطوات علاجية عند النفرة الزوجية) ، (سلسلة الأخلاق الحسنة) ، (الواجب نحو كبار السن) ، (كيف نضبط انفعالاتنا؟) ، (صيانة العلاقات الأخوية) ، (التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية) ، (كيف نتعامل مع أخطاء الناس) ، (الاستشارة في حياة المسلم) ، (اعتناء الإسلام بنفسية المسلم) ، (الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم)، ومثل هذا النمط من الموضوعات أكثر الشيخ المنجد من العناية به.

وأما دروسه في القضايا العامة للناس فمن نماذجها:

(غلاء الأسعار) ، (الفقر: رؤية شرعية) ، (الحلول الإسلامية لمشكلة الفقر) ، (أسباب الأزمة المالية العالمية) ، (أثر الأزمة الاقتصادية في نفوس الناس) ، (رسالة إلى الطبيب المسلم) ، (مصادر المعلومات) ، (الجهل عدو المرأة) ، (خطر الشائعات) ، (سبل مقاومة الضغوط النفسية) ، (قواعد في حل المشكلات) ، (كيف تثبت المرأة جدارتها؟) ، (أهل الباطل هم الإقصائيون) ، (التفاؤل في أجواء الإحباط) ، (البدائل الترفيهية).

وبالتالي فالقول بأن الخطاب الشرعي أو الدعوي غائب عن الأخلاقيات والأسئلة الحديثة إنما هو كلام غير علمي.

ومن المهم أن نفهم منهجية الخطاب الشرعي في تناول كثير من القضايا المدنية، ذلك أن الخطاب الشرعي لا يفرد كثيراً من المشكلات المدنية تحت أبواب خاصة، لكنه يتحدث عنها تحت مظلة المفاهيم الشرعية، فيتحدث العالم الشرعي عن (الأمانة) ويذكر أمانة الأسرة وأمانة الوظيفة ونحو ذلك، ويتحدث العالم المسلم عن (العدل) فيتحدث عن تطبيقاته كالعدل في القضاء، والعدل في الولاية، والعدل مع العمال، والعدل مع الزوجة، إلخ، فالقضايا المدنية في الغالب لا يفرد لها الفقهاء أبواباً خاصة، بل يدرجونها كتطبيقات تحت مظلة المفاهيم الشرعية، ولذلك فكثير من المفاهيم السياسية الذي يظنها البعض غائبة هي أصلاً تندرج عندهم تحت موضوع (الحكم بما أنزل الله)، ثم يتحدثون عن أن الحكم بما أنزل الله يتضمن الشورى والعدل والحقوق والعناية بالرعية وحفظ كرامة المسلمين ونحوها.

وحين يتحدثون عن الحقوق يتحدثون عن حق الطريق، وحق الزوجين على بعضهما، وحق الراعي والرعية، وحقوق الحيوان في الصيد والذكاة والإحراق ونحوها. فالمفاهيم الشرعية كالعدل والأمانة والحقوق وإعداد القوة، وتحريم السرقة والغش وقول الزور، هذه كلها يُدخِل فيها العلماء القضايا المدنية.

والحقيقة إنني حين سمعت البعض يكرر أن (الخطاب الشرعي لا يعتني بالأخلاق وإنما بالشكل) عدت من جديد للمكتبة المقروءة والصوتية لرموز الخطاب الشرعي من فقهاء ودعاة وخطباء، وأخذت أتصفح مواقع المشايخ، وفهارس الخطب والدروس، ووالله العظيم إنني تفاجأت من المغالاة في النتاج الشرعي حول قضايا (بر الوالدين) (وصلة الرحم) و (الوصية بالجار) و (حقوق الزوجين) و (الصدقة على المحتاجين)، وفي كثرة التحذير والاستبشاع تجاه (الغيبة) (التنابز بالألقاب) و (الحسد) و (أكل أموال الناس بالباطل) و (الرياء) و (الغرور) وغير ذلك من قضايا أخلاقية نبيلة تتكدس فيها آلاف المحاضرات والدروس والخطب والفتاوى والكتيبات والمطويات والبحوث والدراسات.

بل إنني أتحدى كائناً من كان أن يأتي بأي تيار فكري معاصر في الشرق أو الغرب ويزعم أنه تكلم عن موضوع (بر الوالدين) بما يقارب عُشر ما تحدث به الخطاب الشرعي المعاصر! فكيف يقال بعد ذلك أن الخطاب الشرعي مغرق في التدين الشكلي؟! هذا لا يقوله إلا جاهل بهذا الخطاب، أو مصمم على التشويه لأغراض آيديولوجية.

أما حديث الخطاب الشرعي عن أخلاقيات تزكية النفوس، كالحض على التعلق بالله، والثقة به سبحانه، وحسن الظن بالله، واليقين به، والتوبة إليه، والاستخارة، والتحذير من الرياء، والتسخط من القدر، ونحوها فهذه أمور لا يعرفها الفكر المادي الغربي والشرقي على حد سواء.

والمراد أن من زعم أن علماء الخطاب الشرعي لا يتحدثون عن قضايا المدنية وقضايا الأخلاق التي تتصل بمصالح الناس، فإما أنه لا يعرف أصلاً هذا الخطاب الشرعي، وإنما يبني تصوراته من خلال مستهلكات المجالس، وإما أنه يعرف ذلك لكنه يريد إلغاء بقية الاهتمامات ويتوسل ببعضها ضد بعضها الآخر.

رابعاً: الخطاب الشرعي والعلوم غير الشرعية

يرى مناوئوا الخطاب الشرعي بأننا (اليوم في تخلف مدني شديد وبحاجة ماسة إلى العلوم المدنية المعاصرة، ولكن أزمة الخطاب الشرعي أنه يزهد الشباب المسلم في تعلم العلوم المدنية، وأنها ضياع وقت، وأنه لا ثواب فيها)، ولذلك يعتقد هؤلاء النقاد أن ضعف الجوانب المدنية في المجتمع المسلم المعاصر ليست أولاً بسبب ضعف كفاءة المسؤولين عن التعليم، وإنما بسبب الخطاب الشرعي الذي يضخ -ولا يزال- صورة منحطة عن العلوم المدنية.

هل يا ترى كان الخطاب الشرعي فعلاً يشيع التزهيد في العلوم المدنية وأنه لا ثواب فيها؟ هذا تصوير غير دقيق للواقع، فرموز الخطاب الشرعي لديهم تكييف فقهي شائع جداً لا يوجد أحد منهم يخالف فيه البتة، وهي أنهم يلخصون رؤيتهم بقولهم (العلوم المدنية التي يحتاجها المسلمون في حياتهم “فرض كفاية” يجب شرعاً أن يوجد في المسلمين من يقوم بها) هذا التكييف الفقهي لمنزلة العلوم المدنية محل الاحتياج -أعني اعتبارها “فرض كفاية”- هو كالمسَلَّمة العريقة داخل الخطاب الشرعي، وسنستعرض هاهنا شواهد مختارة على ذلك:

يقول الأب العلمي للخطاب الشرعي المعاصر الإمام ابن باز عليه رحمات الله في محاضرة بعنوان (العلم وأخلاق أهله)، وهي موجودة كمادة صوتية وكنص مكتوب:

(أنواع الصناعات المباحة, واستخراج المعادن، والزراعة، وغير ذلك، كلها أمور مطلوبة ومع صلاح النية تكون عبادة, ومع خلوها من ذلك تكون أموراً مباحة, وقد تكون “فرض كفاية” في بعض الأحيان إذا دعت الحاجة إليها)

ولننتقل إلى رمز آخر من رموز الخطاب الشرعي وهو الإمام ابن عثيمين الذي يمثل مرتبة الفقيه رقم واحد في الخطاب الشرعي المعاصر، حيث يقول مؤكداً مفهوم “الفرض الكفائي” للعلوم المدنية التي يحتاجها المسلمون:

(قال بعض أهل العلم: “إن تعلم الصناعات والطب والهندسة والجيولوجيا وما أشبه ذلك من فروض الكفايات” لا لأنها من العلوم الشرعية، ولكن لأنها لا تتم مصالح الأمة إلا بها، ولهذا أنبه الإخوان الذين يدرسون مثل هذه العلوم أن يكون قصدهم بتعلم هذه العلوم نفع إخوانهم المسلمين ورفع أمتهم الإسلامية، فالأمة الإسلامية الآن ملايين، لو أنها استغلت مثل هذه العلوم فيما ينفع المسلمين لكان في ذلك خير كثير، ولا ما احتجنا إلى الكفار في تحصيل كمالياتنا، بل وفي تحصيل ضرورياتنا أحيانًا، فهذه العلوم إذا قصد بها الإنسان القيام بمصالح العباد صارت مما يقرب إلى الله، لا لذاتها ولكن لما قصد بها) [مجموع فتاوى ابن عثيمين، 26/50]

ونهى الشيخ عما يقع من البعض من ازدراء العلوم الدنيوية:

(وإذا كانت العلوم التي تتعلق بالدنيا نافعة للخلق ولا تشغل عما هو أهم منها كان طلبها محموداً لما توصل إليه من النفع العام أو الخاص، ولا ينبغي لنا أن نحتقرها حتى لا نجعل لها قيمة في حال تكون مفيدة للخلق) [فتاوى ابن عثيمين، 26/31]

ويقول ابن عثيمين أيضاً في حكم تعلم الطب:

(لا شك أن لهم –أي الأطباء- أجراً بحسب نيتهم وعملهم لأن الطب نفسه ليس مقصوداً لذاته ولكنه مقصود لغيره، لهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن تعلم الطب “فرض كفاية”، لا بد للمسلمين أن يكون فيهم أطباء ، فألحقوه بفرض الكفاية ، لأن هذا مما تحتاجه الأمة، فإذا قصد الإنسان بعمله هذا القيام بهذا الفرض والإحسان إلى الخلق فسينال أجراً كثيراً) [ارشادات للطبيب المسلم]

ولا أعتقد أنه من المنطقي التوسع في نقل اقتباسات أخرى، لأن هذه القضية -أعني اعتبار العلوم المدنية التي يحتاجها المسلمون فرض كفاية- أشبه بالثابت الفقهي الراسخ.

ولكن من الطريف أن نحاول التقاط الصورة من زاوية أخرى، ذلك أننا حين نتأمل كتابات المفكرين العلمانيين العرب المعاصرين نجد أنهم كثيراً مايطرحون إشكالية للتساؤل مؤداها (أن الإسلاميين يتواجدون بكثافة في ميدان العلوم الطبيعية/التجريبية/التطبيقية كالطب والحاسب والهندسة ونحوها، ويسيطرون على أنشطتها الطلابية، بينما نجد غيابهم الفادح في حقول الإنسانيات كالفلسفة والانثروبولوجيا والقانون ونحوها؟ فهل هذا هو السبب في دوغمائيتهم؟) هذا السؤال الذي يطرحه الفكر العربي المعاصر بإلحاح يحمل داخله شهادة ضمنية بأن الخطاب الشرعي لم يكن منفّراً عن العلوم غير الشرعية كما يزعم أحياناً، ونحن هاهنا لن نناقش هذا السؤال لكن سنكتفي فقط بالتقاط مايعنينا منه وهو هذا الاعتراف الضمني الذي سبقت الإشارة إليه، وتأتي أهمية شهادة مثل هؤلاء المفكرين العلمانيين في كونهم ألد خصوم الاتجاه الإسلامي عقائدياً، وبالتالي فليسو محل تهمة في هذه الشهادة.

خامساً: الخطاب الشرعي والاستفادة من الغرب

يكرر كثير من مناوئي الخطاب الشرعي القول بأن: (الحضارة الغربية اليوم تمثل منبع العلوم ونموذج التفوق المذهل في كل الميادين والمجالات، ومن أعظم أسباب تخلفنا أن الخطاب الشرعي اليوم يقف حجر عثرة بين المجتمع المسلم والاستفادة من الغرب، وما لم يصحح الخطاب الشرعي موقفه الانفصالي هذا فهذا يعني أننا سنبقى في قعر التخلف)

نلاحظ هاهنا أن هذا التفسير لضعف الاستفادة من منجزات العلوم المدنية الغربية لا يرده هؤلاء إلى ضعف الإنفاق الحكومي في العالم العربي على البحث العلمي، وضعف الكفاءات المسؤولة عن التعليم، وإنما يردونه إلى عنجهية الخطاب الشرعي في رفض الاستفادة من تجارب الناجحين.

إلى أي مدى يا ترى يمثل هذا التفسير تفسيراً علمياً صحيحاً؟ لنحاول قراءة نماذج من مواقف فقهاء الخطاب الشرعي المعاصر تجاه الاستفادة من المنجزات الغربية:

يقول الأب العلمي للخطاب الشرعي المعاصر الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله:

(إن الأفكار والنظريات المستوردة فيها الحق والباطل، فلا يجوز للمسلمين أن يقبلوها مطلقاً، ولا أن يردوها مطلقاً، بل الواجب هو التفصيل في ذلك، فما كان منها حقاً أو نافعاً للمسلمين مع عدم مخالفته لشرع الله سبحانه فلا مانع من قبوله والانتفاع به) [فتاوى ابن باز، 27/473]

ويشير إلى الأساس الذي يجعلنا نستفيد من هذه المنجزات فيقول رحمه الله:

(ولا حرج علينا في أن نأخذ مما وقف عليه غيرنا من أسرار الكون واكتشف من العلوم النافعة الدنيوية التي لا تخالف الشرع المطهر, وإنما تعين على حمايته من كيد أعدائه وتغني أهله عن الحاجة إلى الغير، بل يجب ذلك ويتعين على أهل الإسلام، لا تأسياً بالكفار، بل لأن دينهم الكامل يأمرهم بالحرص على ما ينفعهم, والحذر عن كل ما يضرهم، كما تقدمت الأدلة على ذلك, وهؤلاء الكفار الذين بلغوا في الاختراع الغاية لم يزدهم ما وصلوا إليه من العلم إلا كفراً وإلحاداً وهبوطاً من الأخلاق الفاضلة) [فتاوى ابن باز، 1/393]

وذات مرة سألت امرأةٌ الإمام ابن باز عن حكم الاستفادة من “المنتجات التجميلية الغربية” فكان في جوابه داخلاً في هذه القاعدة العامة أيضاً، كما يقول:

(نأخذ من الغرب والشرق ما ينفعنا وندع ما يضرنا، إذا جاءنا من الغرب أو الشرق شيء ينفعنا نأخذه ونستفيد منه، كما نأخذ منهم ما أخذنا من سلاح ومن طائرات ومن سيارات ومن بواخر وغير ذلك، نأخذ منهم من الدواء، ومن غير الدواء، ومن وجوه الزينة ما ينفعنا، ولا يكون فيه مشابهة لغيرنا من أعداء الله) [فتاوى ابن باز، 21/223]

ويقول أهم مرجعية فقهية معاصرة وهو الشيخ ابن عثيمين في عبارة حزينة على تضييع المسلمين لكافة أنواع العلوم والمنجزات فيقول:

(وأما ما حصل في الدول الغربية الكافرة الملحدة من التقدم في الصناعات وغيرها، فإن ديننا لا يمنع منه لو أننا التفتنا إليه، لكن مع الأسف ضيعنا هذا وهذا، ضيعنا ديننا، وضيعنا دنيانا، وإلا فإن الدين الإسلامي لا يعارض هذا التقدم) [فتاوى ابن عثيمين، 3/49]

وأنكر الشيخ ابن عثيمين أن يكون الأخذ مما عند الكفار تشبهاً فقال:

(وأما الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة، فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه –أي الكفار- ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يعد من قام بها متشبها بهم.) [فتاوى ابن عثيمين، 3/40]

ولنعرض أيضاً نموذجاً لشخصية فقهية شديدة الحضور في الخطاب الشرعي وهو الشيخ صالح الفوزان حيث يقول:

(الدول الغربية الآن عندها الكثير من المستجدات التي يفتقدها المسلمون، وعندهم شرور كثيرة، لهذا أرى أنه لا يجوز للمسلمين أخذ كل ما لدى الغرب أو رفضه كله، بل الواجب عليهم التمحيص وأخذ ما ينفع منه وما يوافق دينه وما أرشد إليه كتابنا، وترك ما حذر منه الدين ونهانا عنه) [فتاوى الفوزان، س206]

فإذا كان هذا هو المنظور الفقهي الذي يقدمه الفوزان والذي يعتبره البعض أكثر فقهاء الخطاب الشرعي تحفظاً تجاه الأفكار الغربية، فكيف بمن هو أقل منه تحفظاً؟

يبدو لي أنه ليس من المنطقي أن نواصل استعراض نصوص بقية فقهاء الخطاب الشرعي في هذا المجال، لأن هذا الموقف “وهو الانتفاع بما لا يعارض الشريعة” ليس مجرد فتوى، بل هو أشبه بالمبدأ شديد الشيوع والعمق في الخطاب الشرعي المعاصر.

ولو رأينا انعكاسات هذه الرؤية على واقع الخطاب الشرعي لرأينا المختصين الشرعيين شديدي الاهتمام بالبرامج الكمبيوترية وتطبيقاتها واستعمالها في علومهم الشرعية، والكثير منهم شارك في برامج الابتعاث للدراسة في الخارج في تخصصات علمية دقيقة في شتى العلوم.

ولذلك يبدو لي أن من يردد أن الخطاب الشرعي يقف حائلاً دون الاستفادة من المنجزات الغربية، فهو يقدم طرحاًً إنشائياً غير موضوعي لا يستند للواقع النظري والتطبيقي للخطاب الشرعي، إلا إذا كان قائل هذا الكلام ينتقد على الخطاب الشرعي تفصيله بين الموافق للشريعة والمعارض لها، وأنه يريد استبعاد هذا التفصيل والتمييز وأخذ كل ما لدى الواقع الغربي، فهذا شيء آخر.

سادساً: الخطاب الشرعي والاستقلال السياسي

من الأمور التي يشيعها بعض مناوئي الخطاب الشرعي قولهم: (الخطاب الشرعي المعاصر مجرد تابع للنظم السياسية يحركها كيف يشاء، فيبيحون ما أراد السياسي إباحته، ويحرمون ما يريد السياسي تحريمه)، وبعضهم يقول بلهجة دارجة (مشايخنا الله يخلف عليهم ورا الحكومة اللي تبيه يقولونه)، ويذكرون لذلك بعض النماذج التاريخية لفتاوى تغيرت بهدف تدعيم رؤيتهم هذه.

نريد هاهنا أن نختبر حجم (الدقة العلمية) لهذا التصوير للخطاب الشرعي؟ هل فعلاً الخطاب الشرعي مجرد تابع وذيل للنظام السياسي كما يرى هؤلاء النقاد؟

دعونا أولاً نتأمل بعض الوقائع، ثم ننتقل إلى استعراض بعض النصوص النظرية:

أقر صانع القرار النظام البنكي الربوي ووضع له واحداً من أقوى الأجهزة الإشرافية وزوده بصلاحيات واسعة، ووضع له نظاماً بعنوان “نظام البنوك”، ومع ذلك فإن الجميع يتذكر كيف قام فقهاء الخطاب الشرعي ودعاته وخطباؤه بحملة تاريخية طويلة الأجل للتعبئة الاجتماعية ضد البنوك الربوية، وتحريم العمل فيها، وتحريم فوائدها.

كما أن النظام السياسي أتاح بيع السجائر، واستمر الفقهاء في إشاعة الموقف السلبي الغليظ ضدها، كما أن النظام السياسي أتاح نشر المجلات الماجنة وتوزيعها، واستمر فقهاء الخطاب الشرعي في بث استبشاعها، وأيامها نشر ابن عثيمين رسالة بعنوان “فتن المجلات”، كما أن النظام السياسي أتاح إقامة كثيرٍ من “الفعاليات الغنائية” في الاحتفالات الرسمية السنوية والمناشط السياحية، ومع ذلك استمر الخطاب الشرعي يصدر الكثير من الخطب والدروس والبحوث في مهاجمة المعازف، وابتهج النظام السياسي بالمئوية التي تمثل بالنسبة له أعظم رمز لكيانه السياسي، ومع ذلك تحرك الخطاب الشرعي معارضاً ذلك باعتباره عيداً غير مشروع حتى تم ترك كثير من المظاهر وإعلان ذلك رسمياً، وفرض النظام السياسي -بشيء من القوة والحساسية تجاه الممانعين- التوسعة الأفقية للمسعى ومع ذلك بقي كثير من فقهاء الخطاب الشرعي يمانعون “التوسعة الأفقية” ويرون جواز “التوسعة العمودية” فقط، بل ويحذرون الناس من السعي في التوسعة الأفقية الجديدة، وفرض الفريق الوزاري الليبرالي المحيط بالنظام السياسي -بشيء من الصلف والعنجهية التي تصل لحد التشويه الإعلامي والإقالة من الوظيفة للمانعين- الاختلاط في جامعة كاوست، ومع ذلك قاد كثير من فقهاء الخطاب الشرعي حملة ممانعة وكتبوا في ذلك بعض الفتاوى والأبحاث ومئات المقالات على الشبكة.

ومن المعلوم أن النظام السياسي المحلي حريص جداً على بقاء صورته كنظام متميز في عالم اليوم بتحكيم الشريعة، فهذه الصورة بالنسبة له مكتسب تاريخي وواحد من أهم أسس الشرعية السياسية بحيث لا يمكن التفريط فيها، ومثل هذه المعارضة الفقهية تشوش هذا المكتسب، خصوصاً أن خلايا العنف كانت تستغل هذه المظاهر المخالفة للشريعة لتزوِّد أفعالها وتفجيراتها بالشرعية المطلوبة، ومع ذلك كله بقي رموز الخطاب الشرعي يعارضون ما يرونه مخالفاً للنصوص الشرعية.

السؤال الذي يطرحه الباحث العلمي على نفسه هاهنا: لو كان الخطاب الشرعي مجرد أزرار تحت يد السياسي كما يقول هؤلاء النقاد، فما الذي يمنع السياسي إذن من توجيه هؤلاء الفقهاء لإنهاء هذه الملفات المزعجة، والفتيا بموافقة ما هو واقع، وتغطية القرارات السياسية بفتاوى فقهية، وتخليص صورته الشرعية من هذه الإحراجات؟!

وثمة أيضاً صور كثيرة جداً من هذا القبيل، واستعراضها وتحليل مضامينها يكشف للباحث الموضوعي الضعف العلمي لفكرة أن “الخطاب الشرعي مجرد تابع لرغبات وميول النظام السياسي”.

حسناً، ما سبق هي نماذج واقعية تتناقض جذرياً مع تهمة التبعية السياسية، لننتقل الآن إلى النصوص النظرية التي تصب أيضاً في هذا المسار، وهو وجوب استقلال الخطاب الشرعي عن الرغبات السياسية، فمن ذلك:

أن الشيخ الإمام ابن عثيمين –وهو أهم مرجعية فقهية سنية معاصرة على الإطلاق- كان لديه مصطلح يكرره كثيراً في دروسه، ويربي طلابه عليه، ويعمقه في نفوسهم، وقد رأيته في كتبه ومحاضراته في عشرات المواضع، وهو مصطلح “علماء الدولة”، ويعني بهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله المنتسبين للعلم الذين يفتون بموجب ما يريده النظام السياسي، ولنقرأ تعريف الشيخ نفسه لهذا المصطلح، حيث يقول الشيخ:

(“عالم دولة”: هو الذي ينظر ما تشتهيه الدولة ، فيلوي أعناق النصوص إلى ما تريد) [شرح عقيدة أهل السنة، ابن عثيمين].

ويعرفه في موضع آخر من كتبه فيقول:

(“علماء الدولة” هم الذين ينظرون ماذا تريد الدولة فيلتمسون له أدلة متشابهة، فيتبعون ما تشابه من الأدلة إرضاء للدولة، ولهم أمثلة كثيرة في غابر الزمان وحديثه) [الشرح الممتع، 9/463]

وعرفهم في موضع آخر من كتبه أيضاً فقال:

(وأما “علماء الدولة” فينظرون ماذا يريد الحاكم، يصدرون الأحكام على هواه، ويحاولون أن يلووا أعناق النصوص من الكتاب والسنة حتى تتفق مع هوى هذا الحاكم، وهؤلاء علماء دولة خاسرون) [لقاء الباب المفتوح، ل 49]

ويكثر من التشنيع على هذا المفهوم فيقول مثلاً:

(عالم الدولة: الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتيهم مباشرة, ينظر ماذا يقول الرئيس أو الوزير وما أشبه ذلك, ما أحله الرئيس فهو حلال, وما حرمه فهو حرام, هذا عالم الدولة) [لقاء الباب المفتوح، ل210].

ويستحضر الشيخ هذا المفهوم في كلامه كلما ثار موضوع ذي صلة به، لترسيخ الوعي بالاستقلال في نفوس طلابه، فيقول مثلا في الربا والجمارك:

(يوجد بعض العلماء وإن كانوا مخطئين يقولون: إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه، فإذا اقتضى الحال أن نضع بنوكاً للربا أو ضرائب على الناس; فهذا لا شيء فيه. وهذا لا شك في خطئه; فإن كانوا مجتهدين غفر الله لهم، وإلا فهم على خطر عظيم، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من “علماء الدولة” لا علماء الملة) [القول المفيد، 2/161]

وقال مرة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله:

(علماء الدولة، يحرفون الكلم عن مواضعه من أجل إرضاء الحاكم، فيقولون مثلاً: إن مسائل الدنيا اقتصادياً وزراعياً وأخذاً وإعطاءً موكول إلى البشر؛ لأن المصالح تختلف، ثم يموهون عليه بقوله صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلم بأمور دنياكم”. وغالب الحكام الموجودين الآن جهلة، لا يعرفون شيئاً، فإذا أتى إنسان كبير العمامة طويل الأذيال واسع الأكمام وقال له: هذا أمر يرجع إلى المصالح، والمصالح تختلف بحسب الزمان والمكان والأحوال، والنبي r قال: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، ولا بأس أن تغيروا القوانين التي كانت مقننة في عهد الصحابة وفي وقت مناسب إلى قوانين توافق ما عليه الناس في هذا الوقت، فيحللون ما حرم الله) [لقاء الباب المفتوح، ل 87]

وهذا الاستحضار الكثيف من الشيخ ابن عثيمين بشكل سلبي متكرر لمفهوم “علماء الدولة” له آثار تربوية عميقة جداً في نفوس طلابه ومستمعيه والمتأثرين به، حيث يصبح “استقلال الفقيه” عن الإملاءات السياسية وارتباطه بالوحي قيمة مركزية في وعيهم.

على أية حال.. تبعاً لهذا المبدأ الشرعي عند الشيخ ابن عثيمين فإنه انعكس على فقهه بشكل رئيس، فلم ينجرّ الشيخ رحمه الله لتقديم غطاء فقهي للقرارات السياسية إذا كان ذلك مخالفاً للأحكام الشرعية، وقد سبق ذكر بعض النماذج، لكننا نفضل هاهنا أن نعرض نماذج أخرى لربط هذه التطبيقات بهذا المبدأ الذي سبقت الإشارة إليه.

فمن ذلك مثلاً أن النظام السياسي من أجل تنظيم المرور وضع رسوماً على إصدار رخص القيادة، وهي مسألة اجتهادية ولا شك، ولكن لأن الشيخ كان يرى تحريم ذلك فقد جهر به ولم يجامل في هذه المسألة الشرعية، حيث جاء في فتاواه:

(فضيلة الشيخ، الرسوم التي تؤخذ لتجديد الاستمارة أو الرخصة هل تعتبر من الضرائب؟ إي نعم، كل شيء يؤخذ بلا حق فهو من الضرائب، وهو محرم، ولا يحل للإنسان أن يأخذ مال أخيه بغير حق) [لقاء الباب المفتوح، ل65].

طبعاً نحن هاهنا لسنا في معرض التحرير الفقهي لحكم الرسوم الإدارية، ولكن المهم في المثال السابق هو توضيح استقلال الشيخ الفقهي، وعدم مجاملته في المسائل الشرعية.

ومن النماذج -أيضاً- أن النظام السياسي وضع نظاماً جمركياً ضخماً وشرع له الأنظمة وأقام له المؤسسة المعنية، ومع ذلك استمر الشيخ يرى تحريم “الضرائب الجمركية”، ولم يلتفت لضغوط الواقع السياسي، حيث يقول الشيخ:

(وفي المكوس ظلم، وهذا يعني أن الجمارك ظلم) [شرح السفارينية]

وقال مرة في التخلص من الجمارك:

(أصحاب الجمارك لو قدرنا أنك تعطيهم مالاًَ ليكفوا عن أخذ الجمرك فلا بأس؛ لأن هذا دفع للظلم, مع أن الأفضل في هذا الحال أن تخضع، لكنه لما لم يكن به منابذة صار جائزاً) [لقاء الباب المفتوح، ل106].

بل إن الشيخ حرم على ولي الأمر أن يقاتل البغاة، بل أوجب عليه أولاً أن يحاورهم، كما يقول الشيخ:

(لو قال –أي ولي الأمر- مثلا: ارجعوا وراءكم أنا الإمام، ولا لأحد علي اعتراض، لا أسأل عما أفعل، وأنتم تسألون، فماذا نقول؟ نقول: هذا لا يجوز، وحرام عليه أن يقول هذا القول) [الشرح الممتع، 14/401]

ومن أصول الشيخ في باب السياسة الشرعية (سد الذريعة لفساد السلاطين)، ولذلك فإنه لما قال بعض متأخري الفقهاء في كتاب الجنايات بأن “القاتل إذا كان سلطاناً فإنه لا يقتل ولا قصاص عليه”، وعللوا ذلك بأن”قتل السلطان يترتب عليه فتنة وفوضى وضياع الأمة”، فرد عليهم الشيخ محمد -رحمه الله- بعبارة جازمة وقال:

(أرى أن تعليلهم عليل؛ لأن النصوص الواردة عامة، ولو فتح الباب للسلاطين الظلمة لاعتدوا على الناس يقتلونهم عمداً وعدواناً، وبدون أي سبب، وبكل جرأة على الله وعلى خلقه والعياذ بالله) [الشرح الممتع، 14/45]

أما ما يقوله بعض الناس إن الشيخ ابن عثيمين كان يرفض الإنكار العلني ويرى حصر الأمر في الإنكار السري، فهذا غير دقيق، ومن قال هذا الكلام لم يستوعب نصوص الشيخ ابن عثيمين وليس له بها خبرة، فالشيخ محمد له قواعد في هذا الباب أراد بها تحقيق التوازن بين أصول الشريعة، فمن أصوله أن “الإنكار العلني مرتبط بمصلحة الإنكار ذاته”، وليس لدى الشيخ إطلاقات عامة في هذا الباب، بل هي موازنات، حيث يقول الشيخ في شرح هذا المبدأ:

(فإذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار علناً لا يزول به الشر ولا يحصل به الخير بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير) [لقاء الباب المفتوح، ل62]

وبهذا التفصيل الذي شرحه الشيخ في عدة مواضع تلتقي أقواله رحمه الله، فإنه في بعض المواضع نهى عن الإنكار العلني، وفي مواضع أخرى -أكثر وأشهر- أنكر علناً في كل المنكرات التي وقعت ولم يجامل، فالجمع بين موقفي الشيخ أنه يرى أن الإنكار العلني مرتبط بظهور المصلحة الراجحة، فإذا كان الإنكار العلني فيه بيان الحق للناس وليس فيه مفسدة الإضرار بالدعوة شرع الإنكار العلني، وأما إذا رجحت مفسدة الإضرار بالدعوة على مصلحة بيان الحق في هذا المنكر يرى الشيخ أن الراجح أفضلية الإنكار سراً، وهذا من عمق الشيخ ودقته في مراعاة الأصول الشرعية وصدق الرغبة في الحفاظ على الشريعة.

ونحن هاهنا منحنا مواقف ابن عثمين المزيد من الأهمية والتحليل لأنه يعتبر أهم مرجعية فقهية سنية معاصرة على الإطلاق، وهو أصدق ممثل نموذجي للخطاب الشرعي المعاصر، بل إن كثيراً من الناس لا يعرف أن طلاب العلم الذين يفتون للناس إنما عنايتهم الشديدة بما في الشرح الممتع للشيخ رحمه الله، نظراً لخصائص فقهية تميز بها ليس هذا محل عرضها، لكن أهمها هو: الاطراد الفقهي، واستخلاص توازنات المعطيات الشرعية، بالإضافة إلى التفوق المذهل في “مهارات التعليم الفقهي” كحسن العرض والتمثيل وتحريك أذهان الطلبة ونحوها.

حسناً، ناقشنا الآن فكرة “التبعية السياسية” عبر وقائع للخطاب الشرعي، ونماذج من التنظير الفقهي لمسألة الاستقلال السياسي للفقيه، وظهر من خلال هذه المعطيات عمق الاستقلال السياسي للخطاب الشرعي نظرياً وعملياً، لكن يبدو لي أننا لم ننته بعد من هذه الإشكالية، فلا يزال هناك اعتراضات جانبية لم نناقشها بعد، وهي تستحق فعلاً التحليل العلمي نظراً لشيوعها.

فمن ذلك مثلاً أن بعض الناس يقول (الخطاب الشرعي يغالي في مسألة طاعة ولاة الأمور) وهذا الكلام غير دقيق، لأنه أخذ جزءاً من قواعد أهل السنة في مسألة الطاعة السياسية وترك أجزاء أخرى، فأهل السنة يقررون دوماً ثلاث قواعد متوازية: القاعدة الأولى “وجوب طاعة ولاة الأمور” لأن هذا أمر قطعي وارد في القرآن والسنة، والقاعدة الثانية “أن تكون الطاعة بالمعروف” فطاعة ولاة الأمور مربوطة بالمعروف فقط، فإذا أمروا بما يخالف الشريعة فلا طاعة لهم (ولا أدري أين الإشكال هاهنا إذا قلنا تجب الطاعة فيما لا يعارض الشريعة؟!)، والقاعدة الثالثة “وجوب الإنكار بمراتبه”، فإذا وضع ولي الأمر منكراً وجب إنكاره، وبالتالي فإذا صارت الطاعة مربوطة بالمعروف وبالإنكار، فهذا غاية التوازن، وليس في النظر المصلحي أعقل من ذلك. ثم إن قضية طاعة ولاة الأمور (بمعروف وإنكار) لا أحد يجادل فيها أصلاً، فلا أعرف تياراً فكرياً يدعو للعصيان حتى لو وافق الشريعة!

ومن الاعتراضات أيضاً أن بعض الناس يقول (انظروا إلى مشايخنا كلهم يحرمون الخروج على ولي الأمر) ثم يستدل بذلك على التبعية السياسية، وهذا الكلام غير دقيق، فرفض الخروج المسلح لا يعني التبعية السياسية، ولتوضيح ذلك تجد أن أكثر المعارضين والإصلاحيين السياسيين يرفضون الخروج المسلح، فهل هذا يعني أنهم تابعون للنظم السياسية؟!

وأما الخطاب الشرعي فمبرراته في ذلك إنما هو الالتزام بالحكم القطعي المتواتر في تحريم الخروج المسلح، الذي جاء في أحاديث كثيرة يبلغ المعنى المشترك بينها درجة التواتر المعنوي، لكن ذلك لا يعني عندهم أن يكون الفقه تابعاً للسياسة، كما أن الإصلاحيين السياسيين يرفضون الخروج المسلح ومع ذلك ليسوا تابعين سياسيين، بل ينتقدون أخطاء النظام.

ومن الاعتراضات المتصلة بهذه القضية قول بعضهم (هناك شخصيات غيرت فتاواها طبقاً لتغير الإرادة السياسية) فقائل هذا الكلام إما أن يقصد أن ثمة شخصيات رسمية تنتسب للخطاب الشرعي وأنها تقدم من الفتاوى ما تريده النظم السياسية، فهذه قضية ليست محل جدل أصلاً، بل طوال تاريخ الإسلام كانت هناك شخصيات تنسب نفسها للتدين وتستثمر ذلك لمصالح شخصية، بل الخطاب الشرعي يردد هذه القضية ويحذر منها، وهي التي سبق عرض كثرة تحذير الفقيه ابن عثيمين منها بعنوان (علماء الدولة)، والخطاب الشرعي ذاته ينتقد هذه الشخصيات ويعلم أنها تقوم بدور وظيفي بحت، ولتأكيد ذلك لنأخذ على ذلك مثلاً (حادثة اختلاط كاوست) فحين أفتت بعض الشخصيات الرسمية بجواز الاختلاط واجهت نقداً واستهجاناً واسعاً من الخطاب الشرعي.

ومن الاعتراضات أيضاً ذات الصلة قول بعضهم (هناك الكثير من دعاة وفقهاء الخطاب الشرعي يدبجون المديح والإطراء للنظام السياسي فكيف يقال إنهم مستقلون سياسياً) وهذا الكلام منتشر ويحتاج إلى قراءة دقيقة، لكن لنحاول أولاً تأجيل الحديث عن (حكم المديح السياسي) من حيث الأصل الشرعي وماجاء فيه من الأحاديث وعمل السلف، ولنحاول تحليل الواقع، أعني واقع “المديح السياسي” الذي تطرح حوله الإشكالية. لو قرأنا واقع الخطاب الشرعي بطريقة علمية محايدة لاكتشفنا عدة ملاحظات مفيدة في فهم هذه القضية:

أولها: أن من يستعمل “المديح السياسي” إنما هم فريق محدود جداً من المحتسبين، وأما جماهير طلاب العلوم الشرعية فهم معرضون عن هذا الموضوع من الأصل فلا مديح ولا هجوم، وهذه الشريحة المحتشمة عن إراقة المديح السياسي هي الأكثر والأوسع.

وثانياً: هؤلاء الذين يستعملون “المديح السياسي” هل يستعملونه لمصلحة خاصة (كمنصب أو مال أو نحوه) أو يستعملونه لتحقيق مصلحة دعوية (كمقاومة منكر شرعي)؟ هذا سؤال جوهري وفي غاية الأهمية، فإن كان هؤلاء الذين يستعملون “المديح السياسي” يستخدمونه لتحقيق مصالح شخصية فهم قطعاً محل إدانة وهذا نوع من التسول العلني الممقوت.

وأما إن كانوا يستعملونه لتحقيق “مصلحة دعوية” فنحن هاهنا سنكون أمام “أسلوب مشترك” تستخدمه جميع التيارات بلا استثناء ولم ينفرد به هؤلاء المادحون.

ولنضرب على ذلك مثلاً: أكثر من يشنع على بعض المحتسبين بالمديح السياسي هم الإصلاحيون السياسيون، فهل كانوا يا ترى بعيدين عن المديح السياسي؟ لو نظرنا إلى أول وأشهر بيان لهم وهو “بيان الرؤية” المعروف؛ لرأيناهم يستفتحونه بتدبيج المديح لولي الأمر بقولهم (لقد أثلج صدور المواطنين أسلوب الشفافية الذي انتهجتموه في تلمس مشكلات الوطن وحلولها).

ثم في البيان الذي أعقبه والذي كان بعنوان “الإصلاح الدستوري أولاً” دبجوا فيه الدعاء لولي الأمر وإخوانه أيضاً بقولهم (ونسأل الله أن يوفق القيادة السياسية، ممثلة بكم وإخوانكم).

وفي البيان الثالث الذي أعقبه والذي كان بعنوان “معالم في طريق الملكية الدستورية” استفتحوا البيان بثلاث نصوص للملك ثم أعقبوها مديحاً واستنباطاً فقالوا عن عباراته الثلاث (وهذه الكلمات والمواقف المضيئة) ، (هذا التصور الواعي لطبيعة التعاقد السياسي) إلخ.

ثم ختموا هذه المرة بالدعاء لإمام المسلمين كما قالوا (وفي الختام ندعو الله للقيادة والإمام بالسداد والصلاح).

وفي بياناتهم اللاحقة صاروا يستفتحون ويتغنون بعبارة الملك (سأضرب بالعدل هامة الظلم) ويصدرون بها بياناتهم وكأنها وحي منزل، بل وختموا أحد بياناتهم بالدعاء لولاة الأمور بلغة تبجيلية (وسدّد الله خطى قائد مسيرتها المباركة خادم الحرمين الشريفين).

ولم يكن (المديح السياسي) الذي استعمله الإصلاحيون السياسيون مختصاً بالملك فقط، بل أثنوا على عبارة أحد المسؤولين السياسيين بشأن تسليم العراق لإيران، وأثنوا على توجهات الأمير طلال وشرفوه في بياناتهم قبل غيره، بل وبعضهم صار يثني على أشد الوزراء استبداداً باعتبار أنه يقوم بدور تنموي عميق داخل النظام!، وغير ذلك من الشواهد التي تؤكد أن الإصلاحيين السياسيين ذاتهم استخدموا (المديح السياسي) فيما يخص قضاياهم التي يسعون من أجلها.

وأما الليبراليون فلا حاجة لذكر الشواهد، لأنهم لا يستخدمون المديح لتحقيق مصلحة فكرية أصلاً، وإنما يستخدمون المديح السياسي لتحقيق مصالح شخصية تتعلق غالباً بالمناصب الإعلامية.

وبالتالي فالقول بأن بعض الدعاة والمحتسبين استعملوا المديح السياسي لتحقيق مصلحة دعوية ليس شيئاً انفردوا به أصلاً.

وثالثاً: هذا الفريق من المحتسبين الذين استعملوا “المديح السياسي” هل بدلوا الأحكام الشرعية تملقاً وتزلفاً، أم أنهم مدحوا من باب الاستقواء بالسياسي لحماية المفاهيم الشرعية؟ أي: هل غيروا الشريعة لأجل المديح، أم مدحوا لحفظ الشريعة من التغيير؟ هذا السؤال يقودنا إلى فهم أفضل وأكثر إنصافاً مع هذا الفريق.

هذا بالنسبة لواقع المديح السياسي الذي استعمله بعض الدعاة مؤخراً، وأما مايتعلق بعمل السلف تجاه المديح السياسي، فالذي لاحظته شخصياً أن السلف يحتشمون عن الإطراء والمديح، وإذا احتاجوا إلى المداراة تبلغوا منها بالحد الأدنى، بحق وبلامغالاة، وليس هذا محل التفصيل، وإنما القضية الأهم هاهنا أنه يجب نكون منصفين وموضوعيين في قراءة موقف بعض المحتسبين الذين استعملوا المداراة لتحقيق مكتسبات دعوية، ولنواصل الآن بقية الاعتراضات ذات الصلة بقضية التبعية السياسية.

يتحدث البعض معترضاً بالقول بأن (الخطاب الشرعي لا يتحدث عن احتياجات الناس والحقوق المالية، ومفهوم الفساد المالي، وكل ذلك مراعاة للسياسي، مما يدل على عدم الاستقلال) فهذا أيضاً غير دقيق، فبالإضافة إلى ما سبق من نماذج البحوث عن “المال العام” التي سبق ذكرها في فقرة (الخطاب الشرعي والفقه السياسي)، وما سبق ذكره من نماذج دروس العلماء والدعاة في “الأخلاق المالية”، وما سبق الإشارة إليه من طريقة تعاطي العلماء مع مفاهيم “العدل والحقوق” حيث يعرضونها بشكل عام ثم يستعرضون تطبيقاتها في كل المجالات، وكثرة ما تتعرض له الخطب الشرعية من تحريم “الرشوة والغش والسرقة وعدم الوفاء بالعقود” ونحوها، إلا أننا نشعر أنه من المناسب إضافة المزيد من الشواهد حول هذه القضية، ولنأخذ هاهنا أربعة نماذج من الأحداث العامة:

في بدايات “كارثة العنف” تحدث كثير من علماء ودعاة الخطاب الشرعي عن جملة من القضايا ذات الصلة بالموضوع، ومن ضمنها الحقوق المالية للناس، ولنأخذ على ذلك بعض النماذج من دعاة الخطاب الشرعي:

-(الإصلاح للواقع من كافة الجوانب، ولتكن المبادرة بالإصلاح السياسي والاقتصادي) [د.عبدالله الزايدي، رؤية حول أعمال التفجير].

-(ووجد بين المسؤولين من يبخس الناس حقوقهم، ويأكل أموالهم بالباطل، و يتعاطى الرشوة والتي لعن رسول الله الساعي فيها ودافعها وآخذها) [عبدالعزيز الجليل، الأحداث المعاصرة]

-(البطالة، والفساد الإداري والمالي، وانتشارُ الجرائم، وتفشي المنكرات، تحمل بعض الشباب على التسخط على الأوضاع، وتذكي في قلبه نارَ الحنقِ والحقدِ على المجتمع والنظام جميعاً، فيجد في هذه الأعمال التخريبية متنفَّساً للتشفي والشماتة، لأنه يرى أن المجتمع قد خذله ولم ينصر قضيته)[سامي الماجد، وقفات حول حادثة التفجير].

ومثل هذا النمط من التنبيه على إصلاح الجوانب المالية كجزء من الإصلاح الشامل تمتلئ به مقالات دعاة الخطاب الشرعي ومواقفهم في تلك المرحلة التي ولدت فيها ظاهرة العنف، وأتذكر في تلك الحقبة أن كثيراً من الدعاة كان يصر على أن ظاهرة العنف لها أسباب اقتصادية وحقوقية ونحوها توفر المناخ اللازم لدعمها، بينما كان التيار الممسك بزمام الإعلام يصر على أن القضية (ثقافية) بحته مرتبطة بالخطاب الديني، ويرى أن القول بأن الأزمة لها ارتباطات مدنية إنما هو نوع من التضليل.

ولكن من الموضوعية –أيضاً- أن نقر بأن حديث الدعاة في تلك الأيام عن (الفساد المالي) لم يكن هو موضوعهم الوحيد، بل هو جزء من اهتماماتهم، وهذا هو الفرق بين دعاة الخطاب الشرعي وبين غيرهم من المنتسبين للإصلاح السياسي، فالدعاة في مقالاتهم يرون أنه يجب الحديث عن (إصلاح شامل) فيذكرون الفساد العقدي وفساد الأعراض والفساد المالي، وأما غيرهم من المنتسبين للإصلاح السياسي فلا يتحدثون إلا عن (الفساد المالي)، والاختلاف بين الفريقين راجع لاختلاف منهجي لسنا الآن في صدد مناقشته، ولكن لنؤجله إلى القسم الأخير الذي بعنوان (خلاصات واستنتاجات) ولنستكمل الآن نماذج الأزمات.

بعد كارثة العنف جاءت “كارثة الأسهم” وتحدث فيها –أيضاً- كثير من علماء ودعاة الخطاب الشرعي عن عدد من القضايا الشرعية ومن ضمنها (الحقوق المالية للناس) ومن ذلك:

(انتهى السوق إلى سرقة كبرى لشعب أعزل من كل وسائل الدفاع عن نفسه..، فمع طول ما بحثت ونقبت وسألت ونظرت في التاريخ والحاضر؛ لم أجد أحداً سرق تريليون ونصف من شعب بأكمله في سوق واحدة وخلال مدة لم تتجاوز شهرين!) [د.خالد الماجد، من الذي يسرق الشعب؟]

وأمثال هذا النمط من المقالات التي كتبها متخصصون شرعيون وتمتلئ بالحزن على وضع الناس المالي كثيرة جداً، ونحن قريبو العهد بالأسهم وكارثتها، والجميع يعلم كيف شارك الجميع في شجب ضعف العناية بالحقوق المالية للناس أيامها، لنواصل الحديث عن أزمات أخرى.

في “كارثة الغلاء” أصدر مجموعة واسعة ومتنوعة من علماء ودعاة الخطاب الشرعي بياناً واضحاً كله في “الحقوق” المالية للناس، ومن جملة ما ذكروا فيه مختصراً قولهم وفقهم الله:

(على ولاة الأمر أن يسعوا في معالجة هذه الأزمة بما يخفف على الناس معاناتهم، وهذه بعض المقترحات: دعم السلع الأساسية التي يحتاج إليها الناس مثل الأدوية والمواد الغذائية، صرف مبلغ مقطوع لكل مولود يساعد على تخفيف التكاليف المناطة بولي الأسرة، وقد خصص عمر رضي الله عنه رواتب ثابتة للمواليد فجعل للمولود أول ما يولد مائة درهم فإذا ترعرع جعلها مئتين فإذا بلغ زاده”رواه أبو يوسف في الخراج وأبو عبيد في الأموال”، مساعدة الأسر المحتاجة وبالذات الذين ليس لهم مورد ثابت أو رواتب، إعادة النظر في رسوم بعض الخدمات كالكهرباء، معالجة مشكلة السكن التي يعاني منها نسبة كبيرة من الناس من خلال تخطيط المدن، وتوزيع المخططات على المحتاجين، ودعم صندوق التنمية العقاري ودعم مواد البناء) [نشر البيان أساساً في موقع الشيخ ناصر العمر]

ووقع على هذا البيان مجموعة واسعة ومتنوعة من الشخصيات الشرعية، وتداوله الناس حينها.

وفي “كارثة سيول جدة” أصدر مجموعة أخرى من علماء ودعاة الخطاب الشرعي بياناً واضحاً تضمن تركيزاً على الحقوق المالية للناس ومن ضمن ما جاء فيه قولهم وفقهم الله:

(إن من أسباب الكارثة: “عدم التخطيط الجيد” لمحافظة جدة في عدة مجالات منها تصريف السيول والصرف الصحي وعدم مراعاة أماكن الأودية وغيرها، ومن الأسباب أيضاً: “الفساد الإداري” وما ينتج عنه من صرف للمال العام بغير وجه حق من جهة، وتضييع لحقوق المواطنين من جهة أخرى) [البيان منشور في المواقع الإخبارية على الشبكة]

ما مضى هو منظومة من مواقف الخطاب الشرعي في الأزمات فيما يتصل بقضايا الحقوق المالية للناس، وأما معالجة هذه القضية في ثنايا الدروس والخطاب والمقالات فهو كثير جداًَ، لكن لنأخذ نماذج إضافية على ذلك:

فمن خطب الداعية واسع الانتشار “محمد المنجد” خطبة بعنوان (رواسب الجاهلية) عالج فيها جزءاً من قضايا الحقوق المالية، ومن ذلك قوله وفقه الله:

(ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المحفوظة للآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مباحة، أم أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات الدين؟)

ومن نماذج المرجعيات التربوية الداعية المعروف عبدالعزيز الجليل، ومن معالجاته لهذا الموضوع مقالة نشرها في المجلة ذائعة الصيت داخل الخطاب الشرعي وهي “مجلة البيان”، حيث يقول الشيخ وفقه الله حين تعرض لمفهوم الظلم:

(من صور ظلم العباد في أموالهم : الاعتداء على أموال المعصومين سواء بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل والخداع ، وسواء كان المسروق عيناً أو نقداً. ويدخل في ذلك السرقة من الأموال العامة للمسلمين كبيت المال..، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام).

ومن متخصصي الخطاب الشرعي المعنيين بكتابة المقالات العامة د.يوسف القاسم -عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء وهو متخصص في الفقه المقارن- وقد أنتج مقالات عامة كثيرة كان جزء منها يدور حول قضايا الحقوق المالية للناس، ومن كتاباته في هذا المجال: (دعم السلع..رؤية شرعية) ، (المحافظة على الموارد) ، (حماية الريال من التضخم) ، (خداع المستهلك) ، (تأخير البت في القضايا: الواقع والحلول) ، (أزمة الدقيق) ، وغيرها من نفس هذا النمط، وكلها منشورة على شبكة الإنترنت.

أعتقد أنني أطلت على القارئ الكريم بهذه النماذج، لكني وجدت نفسي محتاجاً لذلك لأن مثل هذه الشائعة غير العلمية تزايد ضحاياها في الفترة الأخيرة، وما تركت من العينات أضعاف ذلك، فأمثال هذه المعالجات لموضوع الحقوق المالية، والمال العام، والمنتشرة في الدروس والخطب والمحاضرات التي ينتجها الخطاب الشرعي؛ كثيرة جداً بحيث يعسر ضبطها، بل لا يوجد فقيه ولا داعية واحد –وأنا أعني ما أقول بهذا التعميم- إلا وسبق أن طرح عدة معالجات شرعية في التحذير من منظومة المنكرات المالية مثل (الرشوة، والغش، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل) ونحوها.

وبالتالي فإن القول بأن “الحقوق المالية” ليست جزءاً من مضامين الخطاب الشرعي، لا يعدو إلا أن يكون مجرد شائعة غير علمية ولا يسعفها البرهان الواقعي.

يبدو لي أننا انتهينا الآن من مناقشة أشهر الشائعات غير العلمية حول الاستقلال السياسي للخطاب الشرعي، وعلاقته بالحقوق المالية للناس، لنغادر الآن إلى محور مختلف نوعاً ما.

لا تعليقات حتى الآن

  1. شكرا على نقل هذا البحث .فيه امور مفيدة كثيرة

  2. اجو المزيد من البحوث عن الخطاب الشرعى المنزل ونرجو من الاخوة العلماء تبنى هذا الخطاب حتى نكون من الفئزين ومزيد من حرية الانسان وتجريد الطغيان ونرجو تحميل هذا الكتاب العظيم

  3. هذى المشكله يجيك بزر مثل هالسكران ويحدد ويفرض وجهة نظره السقيمه من استخدام الدين
    حسب مايصوره عقله السقيم من الغرور الذى طبل له بعض المبزره من من نفس عقليته
    التى جعلها وصيه على خلق الله من المسلمين بحكمه على من يخالف تفكيره السقيم
    ولو كان فى عقله ذره من العقل لحتكم لقول رسوال الله وخير البشريه محمد صلى الله عليه وسلم
    ( هل شققت عن قلبه ) ولكن اكثر البزران مغرورون بتطبيل دفوفوف الاخوان المسلمين
    الذين يستخدمون الدين للوصل الى قمة السلطه وفرض التخلف على بلادهم لزيادة دعس
    خشومهم للحصول على اطماعهم وبالطبع هذا ليس تعميم فالاكثريه منهم على غباء
    وجهل بسبب تطبيل وتعظيم مثل ما اصاب اخونا البزر ابراهيم السكران

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد + 11 =