-المرسوم الملكي رقم (43) وتاريخ 1377هـ، ونص على تجريم الهدايا والإكراميات واستغلال الوظيفة لمصلحة شخصية وتكليف الموظفين بما لا يجب عليهم والرواتب الصورية وغيرها، وحدد بعض العقوبات التعزيرية، وهذا المرسوم له وزنه في هيئة الرقابة والتحقيق، ولكن المشكلة أنه مرسوم قديم، بل قديم جداً، فقد مضى عليه أكثر من نصف قرن، فهل من اللائق أن نعامل المال العام بمرسوم صدر قبل أكثر من نصف قرن!

-ومنها: نظام مباشرة الأموال العامة (1395هـ) وقد نص النظام على بعض صور العبث بالمال العام، وبعض إجراءات الجرد المحاسبي لحفظ المال، لكن النظام قديم فقد مضى عليه (26) سنة وواضح من صياغته فعلاً ارتباطه بالهياكل الإدارية القديمة.

-ومنها: نظام مكافحة الرشوة (1412هـ) وقد نص على صور الرشوة والعطية والتوصية والوساطة في الأموال العامة وحدد عقوباتها التعزيرية، وهو نظام صارم وجيد.

-ومنها: نظام مكافحة التزوير (1382هـ) وعالج تزوير وسائل المصادقة والوثائق والانتحال في الدوائر الحكومية، وتعرض للأموال التي تدخل في ذمة الشخص بسبب التزوير.

وثمة أنظمة أخرى تتعلق بتأديب الموظفين وغير ذلك.

وأما المؤسسات المعنية بصيانة ومراقبة المال العام والفساد الإداري فأهمها مؤسستان؛ هيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة.

فأما (هيئة الرقابة والتحقيق) فهي تمثل تقريباً “نيابة إدارية” وقد خولها النظام باختصاصات دقيقة في مراقبة الفساد الإداري، حيث ينص النظام على أنه:

(تختص الهيئة بإجراء الرقابة اللازمة للكشف عن المخالفات المالية والإدارية) [نظام تأديب الموظفين، م5]

ومنح النظام هيئة الرقابة والتحقيق صلاحيات واسعة للقيام بهذه المهمة والتحقيق مع الجهات الحكومية كما تقول المادة الثامنة مثلاً:

(على الجهات الحكومية تمكين المحقق من الأطلاع على ما يرى لزوم الأطلاع عليه من الأوراق والمستندات وغيرها، وتفتيش أماكن العمل إذا تطلب التحقيق ذلك، بحضور الرئيس المباشر)[نظام تأديب الموظفين، م8].

وأما (ديوان المراقبة العامة) فقد نص المنظم على تكليفه بالرقابة على المال العام والفساد الإداري كما يقول النظام:

(يختص الديوان بالرقابة اللاحقة على جميع إيرادات الدولة، ومصروفاتها، وكذلك مراقبة كافة أموال الدولة، المنقولة والثابتة، ومراقبة حسن إستعمال هذه الأموال وإستغلالها والمحافظة عليها)[نظام ديوان المراقبة العامة، م7]

وهي مادة نظامية شديدة الاتساع والشمول، ولم يكتفِ مجلس الوزراء بذلك، بل خول ديوان المراقبة العامة بصلاحيات واسعة لتحقيق هذه المهمة، حيث ألزم النظام كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية بأن تزود الديوان بكافة البيانات الحسابية والمستندات والوثائق التي تمكن الديوان من المراقبة المالية (المادة 10).

والشمول الذي منحته المادة السابعة واضح أنه مقصود فعلاً، حيث أكدته مواد لاحقة في ذات النظام، تنص تفصيلاً على ضبط “المال العام”، ومن ذلك مانصت عليه المادة الثامنة من أنه يختص الديوان بـ:

(التحقق من أن كافة أموال الدولة، المنقولة والثابتة؛ تستعمل في الأغراض التي خصصت من أجلها من قبل الجهة المختصة، وأن لدى هذه الجهات من الإجراءات ما يكفل سلامة هذه الأموال، وحسن إستعمالها و إستغلالها، ويضمن عدم إساءة إستعمالها، أو إستخدامها في غير الأغراض التي خصصت من أجلها) [نظام ديوان المراقبة العامة، م 8-2]

حسناً .. رأينا الآن كيف تملك هاتان المؤسستان، ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، سلطة الرقابة المالية على كل  ظواهر الفساد الإداري والمالي، وكيف منحهما المنظم سلطة التحقيق والتفتيش.

فهذا يعني أنه يجب أن ننطلق من البنية النظامية الحالية (قاعدة الانطلاق من الموجود) ومحاولة تطوير هذه الأنظمة والمؤسسات المهمة، وتمكين المزيد من الصلاحيات ومنحها القوة اللازمة لكسر النفوذ الذي لا تستطيع تجاوزه لتحقيق مهمتها.

هذه فقط بعض النماذج، وقد لاحظت أن كثيراً ممن يتحدثون عن مشكلة المال العام يتحدثون به بنوع من المزايدة على الإسلاميين أكثر من كونه يعبر عن وعي حقيقي بالبنية النظامية الحالية لصيانة المال العام والثغرات الفعلية الموجودة فيها تفصيلاً.

ومن المقترحات لتطوير هاتين المؤسستين (هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبةالعامة) أن يتاح المجال للناشطين غير الرسميين للمشاركة في حفظ المال العام، فلو أتيح –مثلاً- للشباب المتدين أن يعمل تحت مظلة هيئة الرقابة والتحقيق للاحتساب على الفساد الإداري والاستفادة من صلاحيات الهيئة في التحقيق والتفتيش، لربما حدثت ثورة في حفظ المال العام في السعودية.

-المزيد من الدراسات الفقهية في المال العام:

الحقيقة أن الباحثين الشرعيين قدّموا جهوداً مشكورة في التأصيل الفقهي لأسئلة المال العام، ومن ذلك مثلاً: دراسة دكتوراة في جامعة الإمام للشيخ د.خالد الماجد بعنوان (ضوابط التصرف في المال العام في الفقه الإسلامي) وقد نشر جزءاً منها.

ودراسة في أكاديمية نايف للعلوم الأمنية للدكتور نذير أوهاب بعنوان (حماية المال العام في الفقه الإسلامي) وهي مطبوعة.

ودراسة للشيخ د.محمد الصالح  (التكافل ودوره في حماية المال العام) وهي مطبوعة.

وثمة أيضاً دراسات أخرى مثل: (الحماية الإدارية للمال العام: بحث فقهي مقارن) فيصل بن رميان الرميان، (الحماية الجنائية للمال العام: دراسة فقهية مقارنة) مبارك بن عبدالله بن هقشة، (مصارف بيت مال الدولة الإسلامية) عبدالله بن سليمان المطلق، وغيرها.

فضلاً عن دراسات تفصيلة كثيرة في جرائم المال العام كالاختلاس والرشوة وهدايا العمال وغيرها.

ومع أن هذه الدراسات متميزة، ومع أنه لم يتم الاستفادة منها بالشكل الكافي للأسف؛ إلا أن هذا يجب أن لا يكون محبطاً للباحثين الشرعيين، بل يجب المواصلة والاستمرار في المزيد من المعالجات الفقهية للموضوع، وأيضاً المعالجات المشتركة مع الخبراء (خبراء الاقتصاد والادارة والأنظمة)، وعقد المؤتمرات متعددة الاختصاصات في موضوع المال العام، من أجل صياغة أفضل آليات الرقابة والمحاسبة والشفافية، تطبيقاً لأحد أهم معالم منهج أهل السنة وطريقة أئمة السلف ومن أدركنا من علمائنا رحمة الله على الجميع وهي العناية بالمال العام الذي هو عصب مصالح المسلمين المعاشية.

-هل للخطابة أي دور؟

حرصت منذ فترة على جمع المادة الخطابية التي ألقاها خطباء الجمعة في موضوعات المال العام والفساد الإداري، واتصلت ببعض الخطباء وبعض المهتمين بمواقع الخطب الشرعية، واجتمع لدي أرشيف جيد للخطب الشرعية حول المال العام، والفساد الإداري، والرشوة، وهدايا العمال، والغش، والسرقة، وعدم الوفاء بالعقود، وأكل أموال الناس بالباطل، والتساهل في واجبات الوظيفة العامة، الخ فكل هذه المفردات وجدتها حاضرة في خطب منبرية كثيرة.

السؤال هاهنا: أنني وجدت بعض الإخوان يزهِّد في الأثر الذي يمكن أن تصنعه هذا الخطب الشرعية، وأن الخطابة المنبرية لا أثر لها، وأن الناس لا يتفاعلون أصلاً مع خطب الجمعة، فماذا يمكن أن تقدم في موضوع المال العام؟!

أريد هاهنا أن أناقش هذه الأطروحة المحبطة، وللتدليل على بطلان هذه الأطروحة سأذكر نموذجاً واحداً فقط لأحد الخطباء في شمال مدينة الرياض، وهوصاحبٌ لي، وقد خطب مراتٍ عديدة عن المال العام وقضاياه الشرعية، وقد حكى لي أكثر من مرة أحداثاً تعكس شدة تأثر المستمعين –ولله الحمد-، لن أروي لك أخي القارئ ما جرى، بل سأنقل لك نص ما أرسله لي صاحبي، يقول أخي الخطيب:

(كان بعض المصلين يلتقون بي بعد الخطبه للسلام، أو للسؤال الذي غالباً ما يكون فيما يخص الخطبة، فيخبروني بشئ من مشاعرهم، ومر بي في هذا الباب أحداثاً لأناس تابوا من الرشوة، وآخرين من التهاون في المال العام، وغير ذلك، ويحتمل أنها توبة وقتية فالله أعلم، حتى إن محافظاً لإحدى المناطق وافق أن صلى معي مرةً في خطبةٍ عن غلول العمال، فسألني عن “سيارات المحافظة” هل يوصل بها أولاده للمدرسة أم لا؟. ومسئول آخر حضر خطبة عن (الظلم وعاقبته) فخصص يوم السبت بعد الظهر للنظر في المظالم، بدخول من كانت له مظلمة في دائرته مهما كانت مرتبته صغيرة، مع تخطي الترتيب الإداري في ذلك بتعميم صدّره على الجميع، لأنه سألني بعد الخطبة عن الحكم في كونه لا يعلم بالمظلمة؟ فأخبرته أنه يظل مسئولاً أمام الله تعالى، إذ كيف يتولى وينزوي في مكتبه ويترك الظلمة يرتعون في دائرته، وضابط كبير أخبرني أنه سيخصص الجزء الثالث من مذكراته للقصص والأخبار التي رآها لمن استحلوا أكل لمال الحرام، وطلب مني خطبة أعجبته وأثرت فيه عن نحو هذا الموضوع، وأخبرني أنه سيضعها مقدمة لمذكراته تلك. ومسئول آخر في إحدى الجامعات حضر خطبة عن (هدايا الموظفين) فحاك في نفسه هذا الأمر كونه مسئولاً عن توقيع عقود وإرساء مناقصات والإشراف على مشاريع، وتأتيه هدايا من شركات متعددة وكان عازماً جازماً على تنفيذ ما أوصيه به، وقد أثر فيه كثيراً حديث (ولو قضيبا من أراك)، وغير ذلك كثير جداً يا أباعمر، لكني أذكرك مرة أخرى أن لا تذكر لي اسماً إن أوردت شيئا من ذلك، ويكفي أن تقول “أحد الخطباء”) أ.هـ

هذه بعض الأخبار التي كان يرويها لي صاحبي الخطيب، وثمة قصص أخرى يرويها دعاة آخرون لا مجال لإيرادها هنا؛ وكلها تعكس انتفاع الناس بالخطب الشرعية عن قضايا المال العام، فأتمنى من الخطباء والدعاة أن لا يستسلموا للمحبطين الذين يزهدون في الدور العظيم الذي يقومون به.

-وأخيراً .. الأثرة لا تشرعن الثورية:

تلاحظ بعض الكتّاب ممن يحملون روحاً ثورية متهورة يجمعون بعض أخبار وقصص الأثرة والظلم الذي وقع في المال العام في بلدنا، ثم يعرضونها بأسلوب تهييجي متصاعد لشحن نفس الشاب المتدين وإخراجه عن طوره، ثم يتبعون ذلك بالتهكم بمفاهيم تحريم الخروج المسلح ووجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف والسخرية بعلمائنا وأنهم مداهنون الخ.

هذه الشريحة من الكتَّاب التي تستغل الخلل في المال العام لإيقاد شرارة الفتنة هي أخطر من لصوص المال العام أنفسهم، فلصوص المال العام قصاراهم أن ينهبوا جزءاً من أموال المسلمين، لكن رموز الفتنة هؤلاء ينتهون بحريق يهلك الحرث والنسل ويتلف الأموال ويريق الدماء ويقلب أوضاع الدعوة الإسلامية رأساً على عقب.

حينما أتأمل في هؤلاء الكتّاب فإني لا أتعجب من كونهم يخالفون قياساً شرعياً، ولا حتى فرداً يدخل في عموم شرعي؛ بل يناقضون نصاً مطابقاً لحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقد حسم رسول الله الأمر بكل وضوح، وأخبرنا أنه ستقع أثرة ومظالم في المال العام، وحذرنا نبينا الشفيق بنا من فتنة الخروج المسلح على ولاة الأمور وشق عصا الطاعة.

تأمل معي مارواه البخاري عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:

(ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال “تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم” ) [البخاري3603].

بل كان الصحابة يبايعون رسول الله على الطاعة حتى في حالة استئثار السلطة بالمال العام (الأثرة) كما يقول عبادة بن الصامت:

(بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) [البخاري 7056].

وسأل الصحابة عن حالة استئثار السلطة بالمال العام في الوقت الذي تطالب فيه المواطنين بواجباتهم، فبين رسول الله أن ذلك كله لا يجيز الخروج، كما في صحيح مسلم أن سلمة بن يزيد الجعفى قال (يا نبى الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) [مسلم، 4889].

لست أدري كيف يتجاهل هؤلاء الثوريون نصوصاً صريحة حاسمة من رسول الله بأبي هو وأمي في طريقة التعامل مع مشكلات الأثرة في المال العام؟

في كل هذه النصوص يبين رسول الله بكل وضوح أن خلل السياسي في إدارة المال العام لا يبيح بأي حال من الأحوال الخروج ولا رفض الطاعة بالمعروف، وإنما يشرع الإنكار والصدع بالحق فقط.

على أية حال .. المخالفون لأهل السنة في باب السياسة الشرعية عموماً، والمال العام خصوصاً؛ طائفتان: طائفة ثورية وطائفة سلطانية.

ذلك أن الأصول السياسية الشرعية الثلاث لأهل السنة هي: تحريم الخروج المسلح، ووجوب الطاعة بالمعروف، وفريضة الإنكار بمراتبه الثلاث. وكل هذه الأصول الثلاث ثابتة بطريق التواتر القطعي.

فأما الطائفة الثورية فأخذت بمبدأ الإنكار لكنها جحدت تحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف.

وأما الطائفة السلطانية فوقعت في الغلو بمبدأ طاعة ولاة الأمور حتى عطلت فريضة الإنكار بمراتبها الثلاث.

وأما أهل السنة فاستوعبوا الشريعة من أطرافها، فأخذوا بكل القواعد الشرعية الثلاث، فتجد أهل السنة دوماً متمسكين بتحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف، وبالمقابل صادعين بالحق ومنكرين للمنكرات لا يخافون في الله لومة لائم ولا يهابون سلطاناً ولا جمهوراً، وهذا هو أخذ الدين كله، وأما الثوريون والسلطانيون فقد وقعوا في تبعيض الكتاب الذي ذمه تعالى في قوله (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة 85].

وأخذت مرةً أتأمل .. ما الذي يجعل بعض الشباب المسلم يأنف ويستنكف من أحاديث تحريم الخروج، وأحاديث وجوب الطاعة لولاة الأمر بالمعروف؟ والذي توصلت إليه أن هؤلاء الشباب يشعرون أن الأخذ بشريعتي تحريم الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف فيه شئ من الضعف والجبن، وأنه ضد الشجاعة والإقدام، ونحو ذلك.

أريد هاهنا أن أدلّل على خطأ هذا التصور كلياً، تذكر معي شيخ الإسلام ابن تيمية، هل تتذكر كيف كانت شجاعته وجرأته رحمه الله؟ ابن تيمية كان القلب النابض في معركة شقحب التاريخية (قرية تبعد عن دمشق 37كلم) وهو الذي حرّك الناس وألهب حماسهم وتقدم الصفوف، وابن تيمية هو الذي اعتقل سبع مرات: سجنة واقعة عساف في دمشق، وسجنة مسألة العرش في القاهرة، وسجنة حادثة البكري في مصر، وسجنة المنبجي بمصر، وسجنة المنبجي بالاسكندرية، وسجنة مسألة الطلاق بدمشق، وسجنة حادثة الأخنائي بالقلعة بدمشق وهي الأخيرة التي توفي فيها وانتقل لقبره من معتقله. وابن تيمية هو الذي كان ابن القيم يروي شجاعته فيقول في الوابل الصيب:

(مع ما كان فيه ابن تيمية من الحبس والتهديد والإرهاق؛ وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأقواهم قلباً، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقيناً)[الوابل الصيب، ابن القيم].

وهذا فقط طرفٌ من أخبار شجاعته رحمه الله، أرأيت هذا الشجاع، صنديد أهل السنة في زمانه؟ فهو الذي كان يقول رحمه الله:

(ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته) [منهاج السنة، 3/390]

وكان ابن تيمية دوماً يشير لقضية التجربة رحمه الله كما يقول:

(ولهذا يقال “ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان” والتجربة تبين ذلك)[الفتاوى، 28/391].

حسناً .. هذا الكلام الذي قاله ابوالعباس ابن تيمية في تعظيم طاعة ولاة الأمور ومنع الخروج المسلح؛ هل قاله شيخ الاسلام خوفاً أوتملقاً؟ هل يعقل أن يكون رجل يحرك الجيوش ولا يخرج من اعتقالٍ إلا لاعتقالٍ آخر حتى توفاه الله في معتقله؛ يقول هذا الكلام هلعاً أو تزلفاً؟ هذا أمر تحيله طبائع الأمور.

إذن لماذا كان الإمام ابن تيمية يقول هذا الكلام؟ إنما كان يقوله تعظيماً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي شرعه وأكده في نصوص متوافرة غزيرة، وأهل السنة حين يوجبون السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف وتحريم الخروج المسلح؛ فليسوا يقررون ذلك لسواد عيون ملك ولا أمير ولا وزير، بل توقيراً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي دعانا لذلك في أحاديث كثيرة، فإذا كان رفع الصوت بحضرة رسول الله يوشك أن يحبط العمل فكيف بالاعتراض على سنته صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات 2]

تأمل يا أخي الكريم في كثير ممن يكتب في الخلل السياسي أوفي قضايا السياسة الشرعية؛ تجد كثيراً من الكتّاب (الثوريين) إذا جاء إلى قاعدة (النهي عن المنكر) يكون تقريره في غاية القوة والحماس والمغالاة اللفظية، وإذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة بالمعروف لولاة الأمور؛ رأيته يضعف ويقررها على خجل، أويزهِّد فيها.

بينما بالمقابل تجد كثيراً من (السلطانيين) إذا جاء لقاعدتي منع الخروج ووجوب الطاعة لولاة الأمور يقررهما بتوسع وتكرار وإعادة وإبداء وطاقةٍ عجيبة، فإذا جاء إلى قاعدة (النهي عن المنكر) خارت قواه وتحاشى نصوص الإنكار القوية، وصار أكثر كلامه في ذم أخطاء المنكرين!

وكلا الطائفتين، أعني الثورية والسلطانية؛ إنما جوهر قصورهم هو ضعف الإيمان والتسليم لله ورسوله، ولذلك تراهم يجدون في نفوسهم حرجاً من بعض ما أنزل الله، والله تعالى يقول (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الأعراف، 2].

فالمؤمن المنقاد المنصاع لله ورسوله تجده يقرر الأصول السياسية الشرعية الثلاث بكل فخر وعزة، ولا يجد في نفسه حرجاً وخجلاً من كلمة واحدة قررها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فكيف بأحاديث متواترة؟!

ولذلك فنصيحتي إليك يا أخي الكريم أنك إذا التقيت بأحد من (الثوريين) أن لا تخجل من عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وتحريم الخروج المسلح.

وإذا التقيت بأحدٍ من (السلطانيين) أن لا تخجل من عقيدتك واعتزازك بأمر رسول الله بالإنكار والصدع بالحق.

ومن سلوكيات الطائفة الثورية التي لاحظتها أنها تزايد دوماً في قضايا النقد السياسي، فربما انجرف بعض الدعاة وقال نقداً سياسياً متهوراً ليتحاشى الضغط النفسي لهذه الطائفة الثورية.

والأسلوب المفضل لهذه الطائفة الثورية هو ما يمكن تسميته (أسلوب المطالبة بالسقف السياسي الأرفع)، ولأضرب على ذلك مثلاً:

لوجاء داعيةٌ وانتقد خطأ معلم معين، لقالوا له: تستقوي على المعلم، لماذا لا تنتقد مدير المدرسة نفسه، فإذا انتقدت مدير المدرسة، قالوا لك: تستقوي على مدير المدرسة، لماذا لا تنتقد مدير التعليم بالرياض؟ وإذا انتقدت مدير التعليم قالوا: لماذا لا تنتقد وزير المعارف؟ وإذا انتقدت وزير المعارف قالوا لك: لماذا لا تنتقد الملك الذي اختار هذا الوزير ووضعه في مكانه؟ وإذا انتقدت الملك قالوا لك: مؤكد أن لديك صفقة مع جناح سياسي آخر، لماذا لا تنتقد كل أجنحة السلطة؟ وإذا انتقدت أجنحة السلطة الأخرى قالوا لك: ما فائدة النقد، النقد كلام لا يصنع شيئاً، ومؤكد أنهم لم يسمحوا لك بالنقد إلا لإشغال الناس بالكلام عن التغيير الفعلي، هذا إلهاء وخطة من السلطة لتفريغ الغضب فقط، لا بد من التغيير بالقوة. فإذا بدأت فعلاً بالتغيير بالقوة ثم اعتقلت على خلفية “قضية إرهاب”، خرجوا من الغد يكتبون عنك (مسكين متهور ليس لديه وعي سياسي)، وهكذا لو وقعت قضية عنف تجد هؤلاء الثوريين أول من يتبرأ منك، وهم الذين دفعوك أصلاً!

هذا الأسلوب، أعني أسلوب المطالبة بالسقف السياسي الأرفع؛ هو نوع من استخفاف الدعاة الذي نهى الله عن التأثر به في قوله تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم 60].

ولذلك كله كنت ولا زلت وسأظل مؤمناً بأهمية التفافنا جميعاً حول العلماء الربانيين الراسخين، ومن أخطر المزالق التي يمكن أن تنزلق فيها الدعوة الإسلامية تصدير الصغار وترميز الدعاة الشباب والالتفاف حول طلبة علم لا يزالون في مقتبل العمر.

دعونا نكون صرحاء مع أنفسنا؛ هناك فارق جوهري بين شخصية العلماء الربانيين، وشخصية الداعية الشاب، فالداعية الشاب يعرض له من حب الظهور وشهوة الرياسة ولذة التصدر ونزوة غلبة الأقران والاستسلام للفتن ما لا يعرض للعلماء الربانيين الراسخين، ولذلك فاحتمال إصابة الراسخين للحق أكثر بكثير من احتمال إصابة الشاب، وثبات الراسخين على المنهج أكثر بكثير من ثبات الدعاة الشباب.

كثير من الشباب لا يستوعب جيداً معنى قول أهل السنة أن الحجة في الكتاب والسنة، ويظن أن هذا المبدأ ينفي مرجعية العلماء الكبار، ولذلك تراه يعارض مرجعية العلماء بهذه القاعدة، وهذا خطأ فهناك فرق بين المصدر المؤسس للحقيقة والمصدر الكاشف لها، فالكتاب والسنة مصدر مؤسس للحقيقة، بينما الإجماع والقياس وقول الصحابي الذي أقره بقية الصحابة، وانشراح صدر العالم الرباني للحق، الخ هذه كلها مصادر وقرائن عظيمة في كشف الحقيقة الشرعية وليس تأسيسها، فهذه المصادر لا تأتي بمعاني شرعية جديدة، بل تكشف فقط المعنى الشرعي.

خذ مثلاً هذا النموذج: لما قال ابوبكر رضي الله عنه (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) فجادله عمر، ثم اقتنع عمر لاحقاً بصواب قول أبي بكر، السؤال هاهنا: كيف اقتنع عمر بقول أبي بكر؟ انظر ماذا يقول عمر: (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله -عز وجل- قد شرح صدر أبى بكر للقتال؛ فعرفت أنه الحق) [البخاري1400].

أرأيت كيف اعتبر عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن انشراح صدر العالم الرباني أبي بكر للقول قرينةٌ على أنه الحق، فهل عمر لا يعتبر الحجة في الكتاب والسنة؟!

هؤلاء العلماء الربانيون الراسخون الذين جمعوا العلم والعبودية فيهم من التجرد لله ورسوله ما لايستطيعه أكثر الشباب الدعاة، هؤلاء الربانيون لا يراعون في اجتهادهم سلطاناً، ولا جمهور، ولا ثقافة غربية ضاغطة؛ وإنما يتحرون مراد الله ورسوله بقلوب زكاها الإيمان والعبودية والتقوى والتصون والورع والسلامة من الأغراض.

هل تريدني أن أصدق أن بعض من تحول إلى نجم إعلامي يتتبع الفلاشات الفضائية أصدق في البحث عن مراد الله ورسوله من هؤلاء الأكابر المعرضين عن زخارف الدنيا؟!

الفتوى الشرعية دين وعلاقة بالله .. فلينظر كل رجل منا عمن يأخذ دينه؟

على أية حال .. كان المراد من هذه الورقة هو التباحث حول بعض القواعد الشرعية للمال العام مثل: إنما أنا قاسم، ومن أين لك هذا؟، هلا جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟، اكتبا كل مالٍ لكما، انتفاء الحد لا يعني انتفاء التعزير، المصلحة تقييد لا تخيير، العدل في الإقطاع العقاري، ونحوها، وإبراز مركزية المال العام في فقه أهل السنة، وشدة عنايتهم به، ومحاولةً لمواصلة جهود أهل السنة في الإصلاح الشامل للدين والدنيا، ولا زال الموضوع فيه نصوص شرعية كثيرة، وشواهد من آثار الصحابة، وخصوصاً آثار عمر بن الخطاب؛ وكلها تحتاج لعرض مفصل يليق بها، فلعلها تتاح فرصٌ لاحقة بإذن الله.

والله تعالى أعلم

ابوعمر

ذوالقعدة 1431هـ

لا تعليقات حتى الآن

  1. الله ينفع بك الإسلام والمسلمين .. روووووووووووعة

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر + 4 =