ياضيعة الأعمار من أقوامٍ ظنوا أنهم سيأتون بالابداع والتحديث، فإذا هي نظريات الطبقة الوثنية المنحطة قبل خمسة عشر قرناً، يعيبون علينا الأخذ من ابن تيمية لأنه قديم قبل سبعة قرون، وهم يأخذون نظريات مشركي قريش قبل خمسة عشر قرناً، ثم لا يخجلون من التباهي بذم الماضوية!

إذا كان هذا هو التجديد والابداع الفكري وهو أخذ نظريات مشركي قريش فالقضية ميسورة جداً ولله الحمد، ولذلك فالشاب الذي يطمح أن يسلك مسالك المفكرين العرب هؤلاء فلدي له مقترح يختصر عليه الطريق، وهو أن يلتقط ما تبقى من نظريات مشركي قريش التي عرضها القرآن ويتبناها باعتبارها تجديداً فكرياً، ويعرضها في كتاب جديد بلغة متقعرة تحت عنوان (قراءة انثروبولوجية جديدة في القرآن)، أو يمكنه وضعها تحت عنوان آخر (نظرية المابعدقرشية- رؤية مقاصدية)، وإذا أراد “دليلاً إرشادياً” لنظريات مشركي قريش بحيث يختصر عليه الوقت فليراجع رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (مسائل الجاهلية) فقد جمع فيها الإمام المجدد –رحمه الله- أكثر من (120) فكرة من أفكار مشركي قريش التي أبطلها القرآن، وصدقني بمجرد طرحك لهذا الكتاب ستجد صورتك الشخصية ومقالات الحفاوة بك في صدر صحفنا السيارة، وستُدعى مباشرة لمؤتمرات الفكر العربي لتعرض نظرياتك الجديدة في فهم الإسلام وإعادة قراءة التراث!

على أية حال .. دعنا من تصفيق الصحافة الليبرالية المحلية لمعتوهي الفكر العربي، ولنعد لموضوعنا عن التصورات الشائعة والمغلوطة عن المال العام.

-المصلحة تقييد لا تخيير:

في باب السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي يُمنَح ولي الأمر مساحة واسعة للتحرك طبقاً للمصلحة الشرعية، فباب السياسة الشرعية أغلبه قائم على المصلحة وتقل فيه الأحكام الثابتة المحددة، والقاعدة الفقهية التي تنظم هذه القضية هي قاعدة (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) وهي قاعدة مبثوثة في كتب المذاهب الفقهية الأربعة، وأحياناً تكون بصياغات متقاربة.

حسناً .. أين المشكلة إذن؟ المشكلة أن بعض متفقهة السوء الذين يحيطون بالولاة يصورون لهم أن معنى هذه القاعدة أن ولي الأمر مخير كالتخيير الذي في خصال الكفارة، أي يكون مخيراً في التصرف بحسب التشهي والرغبة الخاصة، وأنه ليس عليه قيود في ذلك. وهذا تصور خاطئ كلياً لمعنى القاعدة، فالمصلحة في ذاتها تقييد وليست تخيير، بمعنى أن تصرف ولي الأمر يجب أن يراعي فيه المصلحة الشرعية، فإن تصرف في المال العام بغير مراعاة المصلحة دخل في الظلم وخرج عن حد العدل وتعرض لغضب الله جل وعلا.

-العدل في الإقطاع:

في شهر ربيع الأول عام 1394هـ اجتمعت الهيئة القضائية العليا في السعودية وقررت أن (الإقطاع يفيد التملك) [قرار رقم 94، وتاريخ 14/3/1394]. وهوقرار مشهور، ومضمونه أن ولي الأمر إذا منح شخصاً مساحة عقارية فيتملكها دون حاجة لإحيائها الإحياء الشرعي المعروف.

هذا القرار يرى بعض المراقبين أنه هو المسؤول عن اجتياح كثير من النافذين للعقارات، ثم تطويق المدن الكبرى، لأنهم صاروا يتملكون الأراضي بكل سهولة دون حاجة لإحيائها، وهذا ما سبب بالتالي نشوء أزمة العقار والإسكان في السعودية، وأعرف أحد الخبراء المتميزين في هذا المجال، وهو صديق خاص لي، حدثني أكثر من مرة عن قناعته بتفسير أزمة العقار في السعودية بناء على قرار 1394هـ الذي اعتبر أن الإقطاع يفيد التملك.

وثمة آخرون قرأت لهم بعض الكتابات هنا وهناك يزيدون الأمر تصعيداً فلا يتوقفون عند هذا التفسير فقط، بل يرون أن الفقه الإسلامي وعلماءنا هم المسؤولون عن أزمة الإسكان؛ لأن هذا القرار القضائي اتخذ باسم الفقه والعلماء والشريعة، وأن الإصلاح بالتالي يبدأ من الثورة على هذا الفقه التقليدي الذي خلق حالة الشقق السكنية الباهظة وحرم الناس من نعمة الإسكان والتمتع بأرضٍ مناسبة.

حسناً .. هذه أطروحة تستحق المناقشة والاحترام لأصحابها، وفي تقديري الشخصي أن تفسيرهم المطروح هذا غير علمي بتاتاً، وأعتقد أن هناك لبس وسوء فهم ناشئ عن عدم استيعاب التسلسل التاريخي لإشكالية التملك العقاري في السعودية، ولا يمكن إيضاح الموضوع إلا بعرض التعاقب التاريخي للقضية، فلنحاول إلقاء الضوء ابتداءً من الفقه الإسلامي وانتهاءً بالوضع الحالي.

من المعروف في الفقه الإسلامي أن العقارات لا تملك إلا بسبب شرعي للملك مثل (الشراء، الهبة، الإرث، الإحياء، التنفيذ على الرهن، الخ) ونحوها من العقود والتصرفات الناقلة للملكية.

وهاهنا يبدأ السؤال: إذا قام ولي الأمر ومنح شخصاً ما قطعة أرض من عقار المال العام للمسلمين، بدون شراء ولا إحياءٍ ولا غيره من أسباب الملك؛ فهل يملك هذا الشخص هذه القطعة من الأرض بمجرد هذه المنحة، والتي تسمى (الإقطاع) ؟

وهذا سؤال ليس سؤالاً افتراضياً، فكثيرٌ من الناس وخصوصاً من النافذين يحصلون على مساحات شاسعة من الأراضي إما من ولي الأمر مباشرة، أو من أراضي أحد الوزارات الحكومية، فهل تُملك عقارات المال العام بمجرد هذا الإقطاع؟

الحقيقة أن هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فالمالكية يرون أن الإقطاع بنفسه يفيد الملك، فيجوز لمن أخذ الأرض أن يتصرف فيها مباشرة بالبيع حتى ولو لم يحيها، كما يقول ابن رشد الجد:

(إذا أقطعه شيئا من الموات ليحييه يستحقه بنفس الإقطاع، فيورث عنه، ويكون له أن يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره) [البيان والتحصيل، ابن رشد الجد، 10/301].

ولم يستثنِ ابن رشد –رحمه الله- إلا حالة إهمال الأرض وبين أنها تسوغ لولي الأمر انتزاع العقار، لكن القضية الجوهرية وهي التملك بنفس الإقطاع، والذي يفيد مشروعية التصرف بالأرض مباشرة بيعاً وإجارةً ورهناً الخ، فهذا يقول به المالكية بلا إشكال لديهم.

وأما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فيرون أن الإقطاع نفسه لا يثبت به الملك، بل لا بد من إحياء الأرض حتى يكون سبباً شرعياً للملك، إذن ما فائدة الإقطاع عندهم؟ الإقطاع عندهم يفيد الاختصاص والأولوية فقط، بمعنى أن المقطَع يقدم على غيره في إحياء الأرض المقطَعة.

كما يقول الكاساني الحنفي عندما تعرض للإقطاع (الملك في الموات يثبت بالإحياء) [بدائع الصنائع، الكاساني].

ويقول الماوردي الشافعي (الإقطاع لا يوجب التمليك) [الحاوي الكبير، الماوردي، 7/482]

وأما الحنابلة فهم أشد المذاهب في منع التملك بالإقطاع، واشتراط الإحياء، قال البهوتي:

(ولا يملكه -أي الموات- بالإقطاع؛ لأنه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المُقطَع كالمتحجر الشارع في الإحياء؛ لأنه ترجح بالإقطاع على غيره) [كشاف القناع، البهوتي].

وسبب خلاف الفقهاء في هذه المسألة اختلافهم في تفسير نصوص الإقطاع الواردة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- منها: أن النبي أقطع الزبير أرضاً من أموال بني النضير (البخاري3151) ، وأن النبي دعا الأنصار ليقطع لهم من البحرين (البخاري3163) ، وأن النبي أقطع وائل بن حجر أرضاً في  حضرموت (ابوداود3060 وصححه ابن الملقن في البدر المنير)، وأن النبي أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع (الحاكم1467وفيه ضعف).

وثمة نصوص أخرى لا مجال لعرضها، ومن أحسن من رأيته استوعب نصوص الإقطاع النبوي البيهقي في السنن الكبرى، والحقيقة أنه ليست هذه المسألة فقط، بل أكثر مسائل الأحكام الفروعية التي فيها أحاديث وفيرة تجد البيهقي غالباً من أحسن من يسوق أحاديثها رحمه الله.

والمراد أن اختلاف الفقهاء في مسألة هل الإقطاع يفيد الملك أم يفيد الاختصاص فقط؟ ناشئ عن اختلافهم في تفسير أحاديث الإقطاع النبوي. فالجمهور يحملون هذه الأحاديث على أنها للأولوية ولا يتحقق الملك إلا بالإحياء فيفسرونها على ضوء (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، والمالكية يحملونها على ظاهرها وأنها تمليك محض.

حسناً .. دعنا ننتقل الآن من الفقه الإسلامي إلى القضاء الشرعي في السعودية، وكيف تعامل القضاء الشرعي مع هذه المسألة؟

يعرف المختصون أن أهم مصدر يكشف تاريخ القضاء الشرعي في السعودية هو مجموع فتاوى رئيس القضاة في زمنه الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله، والتي جمعت فيها أقضيته وأحكامه ومراسلاته للقضاة وللمسؤولين، وتتمتع فتاوى وأقضية الشيخ محمد ابن ابراهيم بوزن استثنائي في الداخل القضائي السعودي، فلا يقاربها أي مصدر آخر فضلاً عن أن يعادلها، حيث يتعامل معها القضاة ياعتبارها أشبه ما تكون بـ(سوابق قضائية حاكمة).

على أية حال .. حين نعود لأقضية الشيخ ابن ابراهيم نلاحظ حماساً منقطع النظير لدى الشيخ -رحمه الله- لاعتبار أن الإقطاع لا يفيد التملك، والتشديد في هذه المسألة، وأنه لا بد من الإحياء وإلا تنتزع الأرض من المُقطَع، وأن لا يكون الإقطاع إلا بقدر قدرته على الإحياء.

ونصوص الشيخ محمد بن ابراهيم كثيرة جداً في هذه المسألة سأقتطف بعضها، فمن ذلك قول الشيخ في خطاب أرسله إلى رئيس مجلس الوزراء شارحاً فيه خلاصة رأيه:

(للحكومة إقطاع الموات، وهذا الإقطاع لا يعطي المقطَع حق التملك، وإنما يعطيه حق الاختصاص والأولوية على غيره حتى يحييها، ويضرب له مدة يتمكن في أثنائها من الإحياء، فإن أحياها وإلا نزعت منه) [مجموع فتاوى ابن ابراهيم].

وأشار الشيخ مرةً إلى وجه قلقه من هذه المسألة، وهي أن الإقطاع بهذا الشكل قد يكون ذريعة الى استغلاله مالياً على حساب الناس، فتصبح الأرض كأنها ورقة تجارية (شيك) بحيث يقتطعها اليوم مجاناً ويبيعها على الناس غداً بأرفع الأسعار، حيث ذكر الشيخ عبارة الحنابلة وعلق عليها بقوله:

(لهذا قالوا “إقطاع الموات لمن يحييه”، أما إقطاع قطعة كبيرة لمن يأخذ ورقتها اليوم، وبعد أيام يأخذ نصف المليون، فهذا لايجوز) [مجموع فتاوى ابن ابراهيم].

بل إنه لما صدرت أحد الأنظمة المتعلقة بالعقار أرسل وزير الزراعة حينها الأستاذ حسن المشاري نسخة للشيخ محمد بن ابراهيم ليراجعها، وهو إجراء معتاد، فماذا صنع الشيخ؟ تذكر مباشرة قضيته التي اهتم بها وهي تطويق الاقطاعات وفتح المجال للمحتاجين ليتملكوا، جاء في ملحوظات الشيخ التي أرسلها لوزير الزراعة:

(قد جرى في الماضي إقطاع أراضي زراعية من ولي الأمر، ولم يقم بعض من أقطع تلك الأراضي بإحيائها، فينبغي وضع مادة تخول وزارة الزراعة إعطاء من أُقطِعت له مهلة كافية لإحيائها، فإذا لم يحيها في تلك المدة فتأخذها الوزارة وتعطيها لمن يحييها بموجب هذا النظام)[مجموع فتاوى ابن ابراهيم].

حسناً .. استمرت الأمور مستقرة على هذا النحو حتى منتصف الثمانينات الهجرية، وفي هذه المرحلة الزمنية حدثت متغيرات تقنية قلبت مفهوم الإحياء رأساً على عقب، حيث تطورت وسائل البناء والإنشاءات والتقنيات الزراعية، فأصبح إحياء آلاف الكيلومترات لا يكلف أسبوعاً واحداً، وخصوصاً إذا استحضرنا تفاوت أعراف “الإحياء” بين مناطق المملكة، ففي المنطقة الوسطى مثلاً يشترط وجود البئر، وفي المنطقة الجنوبية حيث أكثر الإحياء هو إحياء “بعلي” يعتمد على الأمطار يكفي في الإحياء بناء سور حتى لولم يكن يغطي طول الرجل المعتاد (70سم)، وفي المنطقة الغربية لا يكتفون بذلك، بل يشترطون أن يكون السور يغطي طول الرجل المعتاد، وهكذا.

والمراد أنه حين تطورت وتيسرت وسائل البناء والإنشاءات حدثت في السعودية في منتصف الثمانينات ما يمكن تسميته (طفرة حجج الاستحكام)، فصار كثير من الأثرياء الذين يستطيعون تمويل كلفة الإنشاءات يتناهبون الأراضي البور، بإحيائها بأقل كلفة، ثم يستصدرون حجج الاستحكام بكل يسر وسهولة، وهو ما يعني أن الأجيال الجديدة لن تجد مكاناً تجلس فيه، حتى أن كثيراً من هذه الحجج تصل إلى خمسين ألف متر مربع، بل يحدثني أحد الأصدقاء وهو قاضٍ في المنطقة الجنوبية أن إصدار حجة استحكام لعشرة آلاف متر مربع كان يعتبر في نظر زملائه القضاة في المحكمة مساحة صغيرة لا تستدعي التطويل على المُراجع، فيكفي الشاهدين والمزكين على حصول الإحياء الشرعي بشروطه لإصدار الحجة في مدة وجيزة!

في هذه الظروف وتحت إلحاح الكثير من المعنيين لضبط القضية؛ صدر الأمر السامي رقم (21679) وتاريخ 9/11/1387هـ، بإيقاف الإحياء الشرعي بعد هذا التاريخ، فأي إحياء حدث قبل هذا التاريخ فيسمع الإنهاء بحجة الاستحكام فيه، وأي إحياء شرعي وقع بعد هذا التاريخ فلا تسمع، ضمن تفاصيل أخرى لا مجال لإيرادها.

بعد إيقاف الإحياء الشرعي بعد هذا التاريخ 1387هـ أصبح شرط “الإحياء” في الإقطاع شرطاً تعجيزياً، لأن ولي الأمر إذا أقطع أحداً أرضاً فلا يمكن أن يحييها لأن الإحياء تم إيقافه أصلاً، فصار يستحيل العمل بقول الجمهور هاهنا وهو اشتراط الإحياء في الإقطاع!

ثم في التسعينات بدأت الحكومة تحضّر لبرامج المنح العقارية السكنية، وهي المنح القديمة التي كانت تعطى لخريجي الجامعات، ولأعضاء هيئة التدريس، ونحوهم، حتى أن بعض الأحياء في مدينة الرياض كانت تسمى قديماً: حي الجامعيين، وحي الدكاترة، ونحوها من الأسماء، بسبب كثرة المنح العقارية السكنية من الحكومة فيها.

ولكن هذه البرامج للمنح العقارية أصبح من المستحيل تنفيذها، لأن الإحياء أوقف بالأمر السامي 1387هـ، فكيف يستطيعون إحياء الأراضي لتملكها والإحياء تم إيقافه أصلاً؟! فصارت تلك المنح تسبب إشكالات في المحاكم، فليس مع أصحابها إلا أوراقٌ من البلدية، ولا يستطيعون الإحياء لمنعه، والمحاكم لا تجد طريقاً لتثبيت ملكياتهم.

وفي هذه الظروف اجتمعت الهيئة القضائية العليا عام 1394هـ وأخذت برأي المالكية الذي يرى أن الإقطاع بنفسه يفيد التملك، وبعد ذلك وزعت الأراضي على الشريحة المستهدفة بكثرة، وتم تثبيت الملكيات بيسر وسهولة في المحاكم، وكان هذا القرار تفريجاً للناس لتثبيت ملكياتهم من المنح السكنية.

وخلاصة الأمر، أن من تأمل تاريخ الإحياء والإقطاع في السعودية، وكيف كان قرار الهيئة القضائية العليا 1394 حلاً لأزمة عميقة تضر بملكيات المنح السكنية للناس؛ سيعلم حجم الوهم لدى من يتصور أن هذا القرار هو المسؤول عن أزمة العقار والإسكان، أومن يقول أن هذا القرار تم استصداره لتغطية الفساد العقاري في السعودية.

بل لو تأمل من يطرح هذا التفسير ويريد تحميل قضاتنا الشرعيين الشرفاء مغبة أزمة الإسكان في فحوى هذه الأطروحة لأدرك أن مؤداها أن الفساد العقاري لم يقع في السعودية إلا بعد 1394هـ، وهذا وهم كبير بحجم بحيرة طبريا، فالصكوك العقارية المتسممة تعود إلى الثمانينات والتسعينات قبل هذا القرار القضائي المسكين.

والطريف في الأمر أن مشايخنا المعاصرين بقو متمسكين بكون الإقطاع لا يفيد التملك، ولم يأخذوا برأي الهيئة القضائية العليا، ومن ذلك قول الشيخ ابن عثيمين لما تعرض للإقطاع:

(الأقرب أنه لا يملكه، وأنه أحق به، ثم إن أحياه فهذا المطلوب، ويملكه بالإحياء، وإن لم يحيه وتقدم متشوف لإحيائه؛ وجب على الإمام أن يقول للذي أقطعه: إما أن تحييه، وإما أن ترفع يدك، ويضرب له مدة يمكنه أن يحييه فيها) [الشرح الممتع، 10/335].

ويقول ريحانة الثابتين الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:

(لكن لا يملكه بمجرد الإقطاع حتى يحييه, بل يكون أحق به من غيره, فإن أحياه ملكه, وإن عجز عن إحيائه؛ فللإمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه) [الملخص الفقهي، 2/182].

والمراد أن قرار الهيئة القضائية لا تأثير له في أزمة العقار والإسكان كلياً، ذلك أن الهيئة القضائية سواءً أخذت برأي الجمهور وابن تيمية ومحمد بن ابراهيم وابن عثيمين والفوزان بأن الإقطاع لا يفيد التملك بنفسه بل يجب إحياء العقار، أو أخذت الهيئة القضائية برأي المالكية بأن الإقطاع بنفسه يفيد التملك بلا إحياء؛ فسواءً أخذت الهيئة بأي الرأيين فالمشكلة لا زالت قائمة، لأن تكنولوجيا الزراعة والبناء والإنشاءات تطورت تطوراً مذهلاً، وأصبحت وسائل الإحياء في غاية اليسر والسهولة، فإن كان الإقطاع لا يفيد التملك إلا بالإحياء فتستطيع الشخصية الفاسدة أن تحيي هضبة كاملة في ظرف أسبوع!

إذن أين جوهر المشكلة؟ جوهر المشكلة أعمق بكثير بكثير من قرار قضائي في ظروف تاريخية معروفة وله اعتباره الفقهي، جوهر المشكلة حقاً في غياب نظام شفاف وعادل لتوزيع الأراضي بين أفراد المجتمع المسلم، وليست القضية في قرار هنا أو قرار هناك يراد أن ترمى عليه أضخم مشكلة في السعودية وهي أزمة الإسكان.

أعتقد أن القول بأن قرار الهيئة القضائية العليا 1394هـ هوالمسؤول عن الفساد العقاري في السعودية فيه تضحيل فقهي وتاريخي، الضحالة الفقهية من جهة ضعف استيعاب الاعتبارات الشرعية لهذا القول والمصالح العظيمة المترتبة عليه، والضحالة التاريخية من جهة ضعف استيعاب دوره في التفريج للناس لتثبيت ملكيات منحهم.

بمعنى آخر: لو كان الإقطاع لا يفيد التملك فكيف يمكن منح الناس أراضٍ سكنية؟!

وأما من يتصور بأن قول الجمهور بأن (الإقطاع لا يفيد التملك إلا بالإحياء) قول فقهي لا يمكن استغلاله، فهو واهم، فحتى هذا القول يمكن استغلاله، وتستطيع الشخصية الفاسدة أن تحيي مئات الآلاف من الأمتار بكل يسر بعد ثورة وسائل الإنشاءات.

ليست القضية في القول الفقهي نفسه، فكلا القولين الفقهيين يمكن للشخصية الفاسدة الاحتيال عليهما، وإنما القضية في النظام الذي سيطبق هذا القول الفقهي.

أعني أن أساس المشكلة هو غياب (العدل في الإقطاع) فلو استوى الناس في استلام إقطاعات لهم عبر آلية عادلة وواضحة، ولم يتم محاباة قريب أو صديق، لكانت قضية الاقطاع هل يفيد التملك بنفسه أم بالإحياء قضية ثانوية، بل لأصبح القول بأن الإقطاع يفيد التملك بنفسه أكثر تحقيقاً للمصلحة الشرعية للناس، حتى لا يكلف الناس الإحياء لأجل قطع صغيرة يحتاجونها ولا يملكون سيولة مالية حاضرة لإحيائها.

وغياب العدل الشرعي في الإقطاع وفي توزيع الأراضي على المسلمين من أكثر الأمور إيلاماً للمتابع، فكثير من الشخصيات النافذة اليوم خالفت فريضة العدل الشرعي في الإقطاع، فصارت تمد سياجها الطويل تحمي من أراضي المسلمين مزارع شخصية لها، وقبل عدة سنوات لما كنت أعمل فعلياً في قطاع المحاماة وتعاملت مع بعض هذه القضايا؛ اكتشفت أن بعض النافذين الذين فتنوا بابتلاع عقارات المسلمين، اكتشفت أن بجانبهم شخصيات منتسبة للعلوم الشرعية أو من رجيع كتابات العدل، تزين لهم ذلك، وتقنعهم بأن ذلك لا يخالف الشريعة، وأن لولي الأمر  أن يقطع ماشاء من شاء، وأن هذا حق خاص لولي الأمر، ونحو ذلك، ولو تأمل هؤلاء لعلموا أن هذه الشخصيات الدينية الفاسدة التي تزين لهم ذلك أنهم هم أعداؤهم على الحقيقة، فليتأمل الإنسان كيف لا يمضي أسبوع إلا ويقال أحسن الله عزاءك في فلان، فما يؤمِّن المرء أن يكون الجنازة القادمة؟! والإنسان لا يستطيع أن يتحمل ذنب عقار واحد ظلمه، فكيف إذا طوقه من سبع أرضين يوم القيامة؟!

وربِّ هاتيك العقارات المسيّجة أن من ينصح لأصحابها ويذكرهم بالله أنه هو الذي أراد لهم الخير والسلامة والسعادة الأبدية، ومن يربت على أكتافهم ويزينها لهم أنه هو اللئيم الذي سيكردسهم في أطواق من سبع أرضين يوم القيامة.

على أية حال .. الدرس الأهم في هذه القضية برمتها أن جميع الأطروحات التي توهمت أن مشكلة التنمية تبدأ بالصراع مع الفقه والفقهاء والفتوى المحلية، أو أن أزمة السكن بسبب قول فقهي تبناه قضاتنا الشرعيون الشرفاء؛ أنها أطروحات تضيع الوقت وتتسلى بمعابثة الطرف الأضعف، وهذا مجرد شاهد جديد على أن الإصلاح في السعودية ليس مسألة فقهية بل إرادة سياسية.

-لماذا تعثر نظام المال العام:

أحدَ عشر عاماً، تصرمت عاماً بعد عام، ونحن نشاهد مشروع (نظام حماية الأموال العامة ومكافحة سوء استعمال السلطة ) يخرج من هيئة الرقابة والتحقيق، مروراً بمجلس الشورى، وانتهاءً بهيئة الخبراء بمجلس الوزراء؛ ثم يعود الكرة مرةً أخرى من حيث ابتدأ! هل ياترى يطوف هذا النظام المسكين في هذه الحلقة المفرغة لأسباب فنية بحتة، أم أن الأمر بفعل فاعل لغايات غامضة؟

تبدأ القصة من أنه في عام 1420هـ تقدمت أهم مؤسسة سعودية معنية بالفساد الإداري وهي مؤسسة الرقابة والتحقيق بمشروع نظام اسمه (نظام حماية الأموال العامة ومكافحة سوء استعمال السلطة)، من واقع خبرة المؤسسة في حفظ المال العام، والمشكلات والتي كانت تعانيها، والثغرات التي تحتاج لتغطيتها بمواد نظامية تمنحها الصلاحيات لمعالجة الوضع، والحقيقة أن النظام نص على مبادئ ممتازة، وينقسم إلى فصلين؛ فصلٌ عن حفظ الأموال العامة، وفصل عن مكافحة سوء استعمال السلطة، ومن المبادئ التي قررها النظام: مساءلة من تدورشبهات حول ثروته، وإلزام الجهات الداخلية والخارجية المتعاقدة مع أجهزة الحكومة على الكشف عما إذا كانت قد دفعت عمولات لأي وسطاء، منح مكافأة لأي مواطن يكشف فساداً في المال العام، مضاعفة التعزيرات المتعلقة بالاختلاس من المال العام، تشديد العقوبة على سائر أشكال استغلال السلطة والنفوذ، وغير ذلك.

كان مجلس الشورى يعلن بشكل دوري عن نتائج معالجاته ودراسته للنظام، ثم أعلن المجلس بعد سنوات انتهاءه من النظام وإرساله لمجلس الوزراء لاعتماده، وبعد انتظار طويل، تسربت الأخبار من هيئة الخبراء بمجلس الوزراء أن النظام لن يعتمد، بل سيعاد من جديد لنفس الدورة البيروقراطية، وسيقسم إلى نظامين.

أحد عشر عاماً من الانتظار ومع ذلك سيعود النظام من جديد من حيث ابتدأ، من المسؤول عن عرقلة الأمور والتعنت الشكلي في نظام يمس شريان مصالح المسلمين وهو المال العام؟!

هذه إشكالية تحتاج لتفسير فعلاً، لكن قبل أن نحاول سوياً تفسيرها، دعنا نتأمل نموذجاً آخر مشابه وهو (الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد) والتي أعلنت في الجريدة الرسمية قبل ثلاث سنوات (أم القرى، 26/2/1428هـ) ، ونصت الاستراتيجية على إنشاء (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)، ومنذ صدور الاستراتيجية ونشرها في الجريدة الرسمية ونحن إلى اليوم لا حس ولا خبر، فلم يتم إنشاء هيئة مكافحة الفساد، ولم يتم تفعيل الاستراتيجية، والسؤال مرةً أخرى: من المسؤول عن عرقلة الأمور في نظم تمس شريان مصالح المسلمين وهو المال العام؟!

لماذا تعثر نظام حماية الأموال العامة طوال أحد عشر عاماً، ولماذا ماتت دماغياً الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؟

بل دعنا نأخذ المقارنة بصورة أكثر واقعية: لماذا نجد سرعة هائلة وتداعي وتنادي لتطبيق القرارات المتعلقة بالاختلاط بين الجنسين، بينما نجد أنظمة حماية المال العام تتثاءب طوال العام؟

ثمة تفسيرات متعددة مطروحة، بعضها يرى أن هذه هي طبيعة الأمور، وأن الإجراءات الإدارية الرسمية بطيئة السير دوماً، لكن هذا تفسير غير مقبول، لأننا رأينا نظماً أخرى تمر بسرعات نفاثة.

في تقديري الشخصي أننا يمكن أن نفهم سر هذا التأخر في إرساء نظم حماية المال العام لو حاولنا تحليل المشروعات التي طرحت مؤخراً، فقد نبّه كثير من الخبراء إلى أن المشروعات الأخيرة التي أعلن عنها خصص لها ميزانيات تفوق أضعاف كلفتها الطبيعية، وطرح كثير من المختصين مقارنات بين بعض المشروعات ومشروعات مماثلة في دول أخرى، هذه الظاهرة يمكن تسميتها (مشروعات ضِعف التكلفة).

والحقيقة أن (مشروعات ضِعف التكلفة) هي المفتاح الذي سيمكننا من فهم التعثر في نظم حماية المال العام، فلا شك أن الأطراف المنتفعة من الفساد في ميزانيات هذه المشروعات ستلعب دوراً كبيراً في عرقلة الأنظمة التي ستفسد عليها غنائمها، هذه الشخصيات النافذة المستفيدة من (مشروعات ضعف التكلفة) لا يمكن أن ترى الأيادي تمتد لتغلق الصنبور وتقف مكتوفة أمامها.

ومما يزيد الأمور تعقيداً أن الصحافة الليبرالية صنعت دوياً إصلاحياً هائلاً عندما أعلن عن مشروع نظام حماية الأموال العامة، والاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، بينما لم يوجد أي خطوة حقيقية على الأرض!

-البنية النظامية الحالية لمقاومة الفساد في المال العام:

هذا التعثر في نظام حماية الأموال العامة، والاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؛ لا يعني أننا لا نملك أي وسائل نظامية لحفظ المال العام، كلا، بل هناك منظومة من الأنظمة والمؤسسات الهامة يجب الاستفادة منها، ومن أهم أبجديات الإصلاح الشرعي (الانطلاق من الموجود)، فبعض الناس ممن يحمل روحاً ثورية ساذجة يطيب له أن يصور الأمور بأعلى ما يمكن من التصوير التشاؤمي، وأظن أن السبب الرئيس في ذلك هو جهل مثل هؤلاء أصلاً بالواقع، ولذلك يحاول تعويض جهله بالمزايدة على التصعيد السياسي.

حسناً.. ماهي النظم والمؤسسات التي يمكن الانطلاق منها وتطويرها لحفظ المال العام الذي هو شريان مصالح المسلمين؟ هناك مجموعة أنظمة، وعدة مؤسسات؛ فأما الأنظمة فأهمها:

-نظام محاكمة الوزراء (1380هـ) وقد نص على تجريم استغلال الوزير لنفوذه للحصول على مصالح شخصية، وتدخل الوزراء في القضاء أو في دوائر حكومية أخرى، وتضييع الوزيرلحقوق الأفراد، ولكنه جعل  محاكمة الوزراء عن طريق هيئة تشكل من ثلاثة وزراء، ويقوم بوظيفة الادعاء العام من يختاره رئيس مجلس الوزراء! وهذا السبب في موت هذا النظام الهام للأسف.

لا تعليقات حتى الآن

  1. الله ينفع بك الإسلام والمسلمين .. روووووووووووعة

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × خمسة =