سلطان العميري : منزلة الإنسان في الإسلام


تكريم الإنسان في الإسلام  :
-1-
توطئة :
يكاد يجمع علماء الأديان على أن الحقيقة الكلية التي تقوم عليها ماهية
الدين , والتي يبني عليها أساس التدين هي الخضوع والذل للخالق المدبر للكون
.
وقد أُبِرزت هذه الحقيقة الجوهرية في الأديان التوحيدية الكبرى بشكل ظاهر
جدا , ابتداءً من اليهودية ثم النصرانية ثم الإسلام الدين الخاتم .
وعند التأمل في عملية التدين والتعبد نجد أنها حقيقة مركبة من أربعة أسس
أصلية , وهي : الأول : المعبود , الذي هو الله سبحانه وتعالى , والثاني :
العابد , الذي هو الإنسان , والثالث: العبادة , التي هي الشعائر والواجبات ,
والرابع : المكان الذي يقام عليه التدين , والذي هو الأرض بالنسبة للإنسان
.
واشتراك هذه الأسس الأربعة في بناء التدين وتكوين جوهره لا يعني المساواة
بينها في المنزلة أو الأهمية أو الشرف , بل هي متفاوتة تفاوتا كبيرا .
والبلوغ إلى الكمال والارتقاء في التدين مرتبط بالوصول إلى حالة تصورية
وتشريعية منضبطة عن تلك الأسس , والتفاضل بين الأديان يرجع في مجمله إلى
التباين بينها فيما تقدمه عن تلك الأسس الأربعة , فكلما ازداد الدين كمالا
فيما يقدمه عنها في التصور والتشريع ازداد كمالا وارتفع عن الأديان الأخرى
في الدرجة والمنزلة .
وحدوث الخلل في التصور والتشريع في واحد من تلك الأسس يلزم منه بالضرورة وقوع الانحراف والضعف في عملية التدين نفسها .
فإذا وقع الخلل في التصور عن الله تعالى وعن أسمائه وأوصافه وتدبيره للكون ,
فأقام الإنسان تصورات مخالفة لكمال الله سبحانه وتعالى فإنه سيقع الانحراف
في عملية التدين .
وكذلك إذا وقع الخلل في التصور عن الإنسان أو التشريع في التعامل معه , فلم
تحفظ كرامته وانتهكت حقوقه ومورس عليه الظلم والاستبداد والقهر , وسلبت
منه أمواله وحمّل ما لم يحتمل , وخرج عن فطرته التي خلق عليها , فإن هذا
سيؤثر على قيامه بالعبودية لله تعالى , وبالتالي سيقع الخلل في علية التدين
نفسها .
وكذلك الحال إذا وقع الخلل في الشعائر والعبادات , فلم تضبط بضابط صحيح ,
ولم تفصل أحكامها ولا شروطها ولا واجباتها , ولم تحدد أوقاتها ولا مقاديرها
, ولم تكشف مصادرها ومستنداتها , فإنه سينفتح الباب لحدوث الفساد في عملية
التعبد وشيوع الابتداع والانحراف وتحكم الأهواء والرغبات في مساراتها .
وكذلك الحال إذا وقع الخلل في التصور عن الحياة الدنيا- الأرض – التي هي
محل العبودية والتدين لله تعالى , فشاعت فيها الحروب واختفى عنها الأمن على
النفس والمال والأهل , وشعر الإنسان فيها بالتعاسة والضيق , فإن هذا سيؤثر
سلبا على عملية التدين .
فقيام الدين الصحيح يتطلب الحفاظ على هذه الأسس الأربعة التي لا يقوم
التدين إلا بها وإنشاء التصورات والتشريعات المنضبطة عنها , وكلما ازدادت
التصورات القائمة عنها كمالا وعلوا ازداد الدين في كماله وعلوه وازدادت
عملية التدين والتعبد لله انضباطا واتقانا.
ولما كان الدين الإسلام أكمل الأديان في تصوراته وأعلى الأديان قدرا
وأتقنها في منظومته التشريعية فإنه قدم في تلك الأسس الأربعة أكمل صورة
وأبهى حلة , وأحاطها بمنظومة معرفية وتشريعية عالية الجودة وقوية البنيان
ولما كان الإنسان مكونا أساسيا من مكونات التدين فقد اهتم الإسلام به بدرجة
عالية جدا , واحتفى به احتفاء بالغا , وكشف عن كثير مما يتعلق بنشأته
وحياته وتطوراته مما لا يمكن أن تعلم إلا عن طريق الإخبار الإلهي , فقد شرح
قصة خلقته وتكوينه وتطوراته من المنشأ إلى المصير ومن المبتدئ إلى المنتهي
, بل هو المخلوق الوحيد الذي استفاض القرآن في تفصيل قصة خلقته .
فالقرآن يحدثنا عن الإنسان في كل حين حديثا مستفيضا يتناول فيه الأجزاء
التي خلق منها , وكيفية التركيب بينها , والمراحل التي مر بها تكوينه ,
وطبيعة خلقته , ويكشف عن منزلة الإنسان في الوجود , ويبين وظيفته وعبوديته
لربه , ويكشف عن نواحي ضعفه وقوته وواجباته وتكاليفه , وكل ما يتعلق بحياته
في هذه الأرض ومآله في الحياة الأخرى .
وتكثر النصوص الشرعية من التنبيه على علاقات الإنسان مع المخلوقات الأخرى
:علاقته مع الأرض وعلاقته مع الملائكة والجن , وقبل ذلك علاقته مع ربه
وخالقه .
وما قدمه الإسلام من إفادات عن حياة الإنسان تؤهل العقل المسلم لأن يبني
أفضل عقيدة وأتقن فلسفة عن حقيقة الإنسان وماهيته , ويشرح الأستاذ “العقاد”
قيمة ما قدمه الإسلام عن الإنسان فيقول :” المنصف بين النصائح لا يستطيع
أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم
التي يستوحونها من كتابهم , وإن القرن العشرين سينتهي بما استحدث من مبادئ
ومذاهب وأيديولوجيات ولا ينتهي ما تعلمه أهل القرآن من القرآن” (الإنسان في
القرآن 8 ).
وعن طريق المادة المعرفية التي قدمها الإسلام عن الإنسان يستطيع المسلم أن
يصل إلى الإجابة الكافية عن الأسئلة الأولية التي تحيط بحياة الإنسان ,
والتي حيرت الفكري البشري منذ زمن بعيد , وهي سؤال : من أنا , ومن أين أتيت
, ولماذا أتيت , وما مصيري بعد الموت , فالمسلم يجد في نصوص الشريعة جوابا
واضحا عن هذه الأسئلة الأولية .
وفضلا عن ذلك فإن فيما قدمه الإسلام ضمانة وحصانة للعقل المسلم من أن يقع
في الأساطير التي وقع فيها العقل البشري حول الإنسان , فالفكر الإنساني قد
اهتم كثيرا بما يتعلق بماهيته وخلقته وطبيعة وجوده في هذه الحياة , ولو
استعرضنا مجهودات العقول البشرية في عمليات الكشف التي قامت بها حول
الإنسان نجد أنه تخبط في تكهنات عديدة عن نشأة الإنسان وتكوينه وعن طبيعة
النفس الإنسانية وعلاقتها بالجسد وخلودها وبقائها , وعن غاية الوجود
الإنساني , وعن طبيعة القوى القائمة بالإنسان وأنواعها , وعن المصير
الإنساني بعد الحياة الأرضية , وسيجد المثقف المسلم في نصوص الشريعة مادة
معرفية تضبط كل تلك المباحث .
وفي المادة الإنسانية والتشريعة التي تضمنتها نصوص الشريعة ضمانة ضخمة في
الحيلولة دون الوقوع فيما وقع فيه الفكر الغربي في تعامله مع الإنسان , حيث
تعامل – أي الفكر الغربي- معه بمادية صلبة وانحرف بحياة الإنسان وقواه إلى
الجوانب المادية الاستهلاكية البحتة , ولم يراع الجانب الروحي فيه ,
والمثقف المسلم يجد في نصوص الشريعة توازنا بين الجانب الروحي في الإنسان
والجانب المادي بشكل ظاهر جدا .
-2-
تكريم الإسلام للإنسان  :
وهذه الدرجة من الاهتمام بالإنسان تعطي مؤشرا واضحا على علو قدره وارتفاع منزلته في الإسلام .
ومع هذا فقد تضمت نصوص الشريعة الإسلامية تصريحا واضحا بتكريم جنس الإنسان
على غيره من المخلوقات , وذلك في قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلا}[الإسراء:70], ففي هذه الآية إخبار من الله بأنه كرم بني آدم
بإكرامات عديدة , ولهذا جاء الإكرام فيها مطلقا .
وجاءت إشارات عديدة في النصوص إلى بعض معالم هذا التكريم الإلهي , ومن ذلك :
التنصيص على أن الإنسان مخلوق بيدي الله تعالى , كما في قوله تعالى : {يَا
إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين}[ص:75], فالله تعالى في هذه
الآية يظهر لإبليس قبح فعله وشناعة تصرفه حين لم يلحظ الميزة الربانية التي
جعلها الله لآدم وهو كون مخلوق بيدي الرب سبحانه وتعالى , وهذه قمة
التفضيل والتكريم .
ومن معالم التكريم الإلهي للإنسان : الإعلان الإلهي عن خلق الإنسان , وهذا
لم يكن لغيره من المخلوقات , وكذلك تعليم الإنسان الأسماء كلها حتى فاق
بذلك الملائكة الكرام , وقد تضمن هذه المعالم التكريمية قوله تعالى :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون ** وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء
إِن كُنتُمْ صَادِقِين ** قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ
مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم}[البقرة:30-32] .
ومن معالم التكريم الإلهي : إضافة روح الإنسان إلى الله تعالى مباشرة , كما
في قوله تعالى : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين}[الحِجر:29] , وهذه الإضافة لا تكون إلا في مقام
التشريف والتكريم , فالله تعالى لم يضف إليه شيئا في القرآن إلا في مقام
التشريف , كما قال تعالى عن ناقة صالح : {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}[الشمس:13], وكما قال عن البيت الحرام :
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي
شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُود}[الحج:26], وكما قال عن عباده المؤمنين : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}[الفرقان:63] .
وهذه الإضافة تكشف عن أن الإنسان ليس شيئا ماديا فحسب , وأنه ليس مخلوقا
ماديا جامدا , وإنما فيه جانب آخر عالي المكانة ورفيع القدر وهو الجانب
الروحي المضاف إلى الله تعالى مباشرة , وهذه الإشارة من أقوى ما يعزز
الجانب الروحاني الذي غدا مختفيا أو غامضا في الحالة المعاصرة .
ومن معالم التكريم الإلهي : أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام , وقد
أشار القرآن إلى هذا الأمر في مواطن كثيرة منها : قوله تعالى : {إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِين ** فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين}[ص:72] .
ومن معالم التكريم الإلهي : التأكيد على أن الكون مسخر للإنسان , وأنه مهيئ
ليكون منسجما مع متطلبات الإنسان , وقد تكرر التنبيه على هذه الكرامة في
مواطن عدة , منها : قوله تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُون}[الجاثية:13] , ومنها : قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[البقرة:29]
.
ويستعمل القرآن لفظا آخر أشد دلالة وهو لفظ التذليل الذي يقتضي قوة التمكن
والطواعية , حيث يقول سبحانه : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ
ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُور}[المُلك:15] , ويكفي في الكشف عن ضخامة احتفاء القرآن بهذه
الكرامة أن يرجع المسلم إلى سورة النحل التي تسمى سورة النعم , ليتعرف على
كثرة التنبيه على تسخير الكون للإنسان وتهيئته له .
ومن معالم التكريم الإلهي : إقسام الله تعالى على أنه أحسن خلقة الإنسان
وأكملها وأنه خلقه في أحسن هيئة , كما قال تعالى : {وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُون ** وَطُورِ سِينِين ** وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين **لَقَدْ
خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}[التين:1-4], فهذا القسم من
الله تعالى من أكبر الأدلة على تكريم الإنسان في هذا الدين العظيم ؛ذا لا
يقسم الله تعالى إلا على أمر عظيم .
ومن معالم التكريم الإلهي : تسخير الملائكة لخدمة الإنسان وحفظه , وقد جاءت
إشارات عديدة إلى هذه المكرمة الإلهية , ومن ذلك قوله تعالى : {لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ
أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا
فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَال}[الرعد:11] , وقد
بين ابن عباس أن المعقبات هم الملائكة جعلهم الله ليحفظوا ابن آدم من أمامه
ومن خلفه .
ومن معالم التكريم الإلهي : تأكيد القرآن على أن كل إنسان مسئول ومحاسب على
فعله ولا علاقة له بفعل غيره , كما في قوله تعالى – الذي تكرر مرارا في
القرآن -: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[فاطر:18] , وهذه
المكرمة ينسف بها القرآن فكرة الخطيئة التي قام عليها الدين النصراني
المحرف , ويخلص البشرية من تبعاتها , وهي خطأ من أكبر الأخطاء التي وقعت في
التعامل مع الإنسان .
ومن أنواع التكريم الإنساني في الإسلام : التأكيد المكثف على حقوق الإنسان ,
فقد ضمن له حقوقا بالغة الأهمية وواسعة النطاق , فقد ضمن الإسلام للإنسان
حق الحياة وحق العمل وحق العيش بأمان وحق التعليم وحق الحرية وحق التملك
وحق التقاضي وغيرها من الحقوق , وأقام الإسلام مادة حقوقية للإنسان فاقت في
الإتقان والانضباط والتوازن والعدل والحيوية الحقوق التي تضمنها المنظمات
الحقوقية الأخرى .
ومن أعظم أنواع التكريم التي أشار إليها القرآن : هو أن الله تعالى جعل
الإنسان محلا للتكليف وموضعا للقيام بأعظم مهمة في الوجود وهي العبودية لله
تعالى , وما جعله الله من متعلقاتها من إرسال الرسل والأنبياء وانزال
الكلام الإلهي على البشر ومخاطبته لهم و وما ينال أصحاب الإيمان والتقوى من
الخيرات في الدنيا والآخرة , وأعظمها النظر إلى وجهه الكريم والفوز بلقائه
.
-3-
وحتى لا يفخر الإنسان بنفسه ويتعالى على مهمته الأصلي التي وجد من أجلها ,
وحتى لا يتكبر ويتغطرس في هذه الحياة فيرفع نفسه فوق المنزلة التي لها ..
وحرصا من الإسلام على تحقيق التوازن في التعامل مع جنس الإنسان , فقد تكرر
التنبيه على مواطن النقص في الإنسان وموجبات الانتقاص فيه , ومن ذلك
التنبيه على جدلية الإنسان المتكاثرة , كما في قوله تعالى : {وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ
الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}[الكهف:54] , ومن ذلك : التأكيد على
ضعف بداية الإنسان ونهايته , كما في قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ
جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ
الْعَلِيمُ الْقَدِير}[الروم:54] , ومن ذلك التنبيه على طبيعة الطغيان
الكامنة في داخل الإنسان كما في قوله تعالى : {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ
لَيَطْغَى ** أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:7] .
ومن ذلك الإشارة إلى طبيعة القتر والشح في داخل الإنسان , كما في قوله
تعالى : {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا
لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ
قَتُورًا}[الإسراء:100], أي :بخيلا ممسكا عن الإنفاق , وكما في قوله تعالى :
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ
جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ
فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء:128], أي : وجُعل
الشح والبخل مطبوعا في الأنفس حاضرا معها .
ومن ذلك : وصف الإنسان بالهلع , وقد فسر القرآن معنى الهلع المفطور فيه
بأنه فقدان الصبر عن المصيبة وعدم الشكر عن النعمة , كما قال تعالى :
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ** إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا **
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:19-21]
ومن ذلك وصف الإنسان بالعجلة , كما في قوله تعالى : {وَيَدْعُ الإِنسَانُ
بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ
عَجُولا}[الإسراء:11]وقوله : {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ
آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُون}[الأنبياء:37].
وبينت نصوص الشريعة أن الإنسان إذا انحرف عن المهمة التي جاء من أجلها
وعاندها وانتهج طريقا آخر فإنه في ميزان الآخرة ينـزاح عن ذلك التكريم
الإلهي له ويغدو أحقر وأقل شأنا , كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون}[الأعراف:179], والسر في ذلك هو أن الذي
يكفر بربه الذي كرمه على سائر خلقه وفضله على غيره وسخر له ما في السموات
وما في الأرض لا يمكن أن يكون إلا فاقدا لمقومات التكريم .
وقد أكد علماء الإسلام على تكريم الله للإنسان , وكشفوا عن مدلولات النصوص
الشرعية في هذا الشأن , وتواردوا على تأكيد ذلك في مؤلفاتهم , وفي بيان هذا
يقول ابن القيم في بيان مفصل :”اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع
الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه , وخلق كل شيء له ,
وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره , وسخر له ما في
سماواته وأرضه وما بينهما , حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له
وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته , وأنزل إليه وعليه كتبه ,
وأرسله وأرسل إليه , وخاطبه وكلمه منه إليه , واتخذ منهم الخليل والكليم
والأولياء والخواص والأحبار , وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه ,
وخلق لهم الجنة والنار , فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع
الإنساني و فإنه خلاصة الخلق , وهو المقصود بالأمر والنهي وعليه الثواب
والعقاب .
فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات , فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه
وأسجد له ملائكته , وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة فمن دونهم
من جميع المخلوقات , وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع
الساجدين واتخذه عدوا له” (مدارج السالكين 1/210) .
-4-
ولا بد من التأكيد على أن اهتمام الإسلام بالكشف عن تكريم الإنسان والتأكيد
على حفظ حقوقه ليس المراد منه الترف المعرفي ولا العلم النظري فقط .. وهو
ليس نزعة شعاراتية فقط , وإنما هو قضية محورية ومركزية تهدف إلى المحافظة
على ركن من الأركان التي يقوم عليها التدين لله تعالى , وأساس من الأسس
التي يبني عليها أعظم عمل يريده الله في هذه الحياة وهو العبودية له
والتذلل لجلاله وعظمته ؛ فالإنسان هو المخلوق الذي سيقوم بتلك المهمة
العالية , ومتى ما ضُيعت كرامته وانتهكت حقوقه وفسدت فطرته وخرج عن
الإنسانية الحقة , فإن هذا سيبعده عن الوظيفة التي وجد من أجلها في هذه
الحياة , ويقيم بينه وبين وصوله إلى ما أراده الله حواجز غليظة , ومتى ما
تحققت له الكرامة التي جعلها الله تعالى له وبقي على إنسانية فإنه سيقترب
من عبوديته لربه وسيكون مهيئا لأن يكون في أقرب حال للدخول في دين الإسلام .
إن السر في تكريم الإنسان ليس هو ذات الإنسان ولا جماله ولا قوته ولا شرف
مادته , بل لأنه سيقوم بأكبر مهمة في هذه الحياة , ولأنه أحد الأسس الأربعة
التي تقوم عليها قضية التعبد , فلابد أن يرتقى بحاله ويرفع في أعلى
الدرجات , ولا بد أن تزال عن طريقه كل العقبات والعراقيل , ولا بد أن يساعد
على الاستقرار لكي يتفرغ للقيام بوظيفته .
وهذا يوجب على المسلمين أن يكونوا من أكثر الأمم محافظة على كرامة جنس
الإنسان بالضوابط التي أقامتها الشريعة الإسلامية وألا يكون كلامهم وخطابهم
يتراوح في خانة الشعارات والأوسمة فقط , ويستوجب عليهم أن يسعوا إلى إقامة
المجتمع الذي تتحقق في كرامة الإنسان كما صورها الإسلام وأرادها , ويحتم
عليهم أن يكونوا من أشد الناس محاربة للانتهاكات التي طالت البشرية وأفسدت
إنسانيتها .
فما يجب على المسلمين تجاه الإنسان ليس خاصا بمن هو داخل في دين الإسلام
فقط – وإن كان المسلم أولى من غيره – , بل الواجب أوسع من ذلك ؛ لأنه
بالمحافظة على بقاء الإنسان على إنسانيته سيكون الإنسان أقرب إلى تحقيق
العبودية لله تعالى , وهذا خير من ابتعاده عن الهدف الأصلي الذي وجد من
أجله .
وظيفة الإنسان في الوجود :
من ضروريات الاهتمام بالإنسان ومن مستلزمات الاكتمال في الدين أن تبين
المهمة الرئيسة للإنسان , وأن يكشف عن الوظيفة الأصلية التي وجد من أجلها .
وقد أكدت نصوص الشريعة بما لا يدع مجالا للشك على أن وجود الإنسان لم يكن
عبثا وليس خاليا من الهدف أو مفرغا من الغاية , وأكدت مرارا على أن وجوده
إنما كان لتحقيق هدف محدد وغاية مقصوده , ولهذا يوجه الله اللوم والإنكار
على الذين كفروا برسله فيقول : {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ
سُدًى}[القيامة:36], بلا مهمة ولا عمل , ويكرر الإنكار عليهم مرة أخرى
فيقول : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون}[المؤمنون:115] .
فإذا كان الإنسان لا بد أن تكون له مهمة في هذا الوجود , فلا بد أن تكون
عالية شريفة ؛ لأن الله تعالى هو الذي أرادها وهو الذي حددها .
وقد قامت محاولات عديدة في تحديد الهدف الذي حدده الإسلام للإنسان , ومن
ذلك محاولة الراغب الأصفهاني في بعض مؤلفاته, فقد انتهي إلى أن الهدف الذي
من أجله أوجد الإنسان يتنوع إلى ثلاثة أنواع : الأول : إعمار الأرض ,
والثاني : العبادة , والثالث : الخلافة ( الذريعة إلى مكارم الشريعة 90) ,
وهذه المحاولة غير دقيقة , لأنها لم تفصل بين الهدف الرئيس وبين الأهداف
الفرعية التابعة , ولأنها فصلت بين الإعمار والخلافة وبين العبودية , وهذا
مخالف لنصوص الشريعة الأخرى كما سيأتي .
وانتهي بعض المعاصرين إلى أن الهدف من وجود الإنسان هو الخلافة في الأرض
وإعمارها والارتقاء بالإنسان , وهذا التصور غير صحيح , لأنه لم يرتكز على
الدلالات المتتالية لنصوص الشريعة في تحديد الهدف الرئيس من وجود الإنسان .
والقارئ للنصوص الشرعية لا يجد عناءً في إدراك أن وظيفة الإنسان في هذا
الوجود والهدف الرئيس لحياته والغاية الأولية لها راجعة إلى عبودية الله
تعالى والخضوع له والإنابة إليه , وقد حسم القرآن الأمر في تحديدها بشكل
قطعي , وأطال في بيان جوهرها والكشف عن حقيقتها ومعالمها وشروطها وضوابطها
وآثارها ومستلزماتها .
وقد أكد عدد من علماء المسلمين هذه الوظيفة , بل إن بعضهم ربط بينها وبين
كمال الإنسانية , فكلما ازداد العبد عبودية لله ازداد إنسانية , وفي
الإشارة إلى هذه المعنى يقول الراغب الأصفهاني في مؤلف آخر له :” الإنسان
يحصل له من الإنسانية بقدر ما يحصل له من العبادة التي لأجلها خلق , فمن
قام بالعبادة حق القيام فقد استكمل الإنسانية , ومن رفضها فقد انسلخ من
الإنسانية فصار حيوانا أو دون الحيوان , كما قال تعالى في وصف الكفار :”إن
هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ” وقال :” إن شر الدواب عند الله الصم
البكم الذين لا يعقلون ” , فلم يرض أن يجعلهم أنعاما ودواب , بل جعلهم أضل
منهم” ( تفصيل النشأتين 80) .
والربط الذي قام به الراغب الأصفهاني بين الإنسانية والعبودية راجع إلى
تقييم الأمر باعتبار الغاية منه , فالشيء كلما ازداد في تحقق غايته ازداد
تمكنه من ماهيته وحقيقته .
وإذا أردنا أن نقوم بالبحث والتحليل في المنهجية التي سلكها القرآن في
الدلالة على هذه الوظيفة , فإنا نجد أن طرائقه في تأكيد وظيفة العبودية
سارت على مسارين رئيسين , وهما :
الأول : المسار التأسيسي , وذلك بإقامة الأدلة التي تؤكد على علو قدر
العبادة لله تعالى وعلى أن وجود الإنسان إنما كان لأجلها , وان وجود
السموات والأرض وإرسال الرسل إنما كان لأجل أن يقوم الإنسان بتلك الوظيفة ,
وتدخل تحت هذا المسار أنواع من الأدلة , وسنقتصر على ثلاثة منها , وهي :
الدليل الأول : دلالة التنصيص والحصر , وذلك في قوله تعالى : {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[الذاريات:56], فهذا
إخبار حاصر من الله في أنه سبحانه إنما خلق الإنسان ليكون عابدا وخاضعا له ,
والأسلوب الذي استعمل في هذه الآية من أقوى أساليب الحصر في العربية , وهو
أسلوب النفي والاستثناء , وهذا يقتضي حصر خلق الإنس في هدف واحد يقف على
رأس الهدم هو العبودية لله تعالى .
ولو أردنا أن نحدد الهدف من فعل شيء ما فإننا لن نجد أسلوبا أقوى من هذا
الأسلوب , ولو قمنا بمقاربة بين هذا الأسلوب الذي أبان الله به عن غاية خلق
الإنسان وبين الأساليب الأخرى التي اعتمد عليها من يقول إن الغاية من خلق
الإنسان إعمار الأرض أو غيرها فإنا لا نجد مقاربة بينها في وضوح الدلالة
وقوتها .
الدليل الثاني : التأكيد على أن مهمة الرسل الأولى وأساس دعوتهم هي الدعوة
إلى عبادة الله تعالى , فقد نصت النصوص على ذلك كما في قوله تعالى :
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ
وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }[النحل:36], ويؤكد الله تعالى لنبيه هذه
المهمة فيقول : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُون}[الأنبياء:25] , فمن المستبعد عقلا أن يكون لدعوة الرسل غاية
أخرى غير هذه الغاية فلا يذكره في هذا السياق .
وحين بين الله سبحانه لنبيه القدر المشترك الذي تتمحور عليه كل الرسالات
وما وصى الله به كل الرسل ذكر أن ذلك الأمر هو إقامة الدين لله تعالى كما
قال سبحانه : “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب” [الشورى:13].
ويزيد من وضوح هذه الدلالة أن القرآن حين يحكي دعوة كل رسول وكيف ابتداء
دعوته لقومه يبين أن النداء الأول لهم هو الدعوة إلى عبادة الله وحده ,
فقال عن نوح “لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم” [الأعراف:59] وقال عن هود: “وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُون” [الأعراف:65] وقال عن صالح:
“وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ
مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ” [الأعراف:73] وقال عن شعيب: “وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ
فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ
أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين” [الأعراف:85] وواضح من طريقة شعيب
في دعوته أنه جعل الدعوة إلى العبودية محورا أساسيا ثم بعد ذلك بين لوازم
هذه العبودية.
ومن المستبعد عقلا أن يكون لدعوة الرسل هدفا آخر يمثل المحورية والمركزية ثم لا يذكره القرآن في مثل هذا السياق .
ومما يزيد من قوة هذه الدلالة – مع قوتها – طريقة النبي صلى الله عليه وسلم
في دعوته للملوك ومراسلاته لهم , فإنه في كل تلك المراسلات يبدأ أول ما
يبدأ بدعوة الملوك إلى عبادة الله تعالى , والذي تقتضيه الضرورة العقلية
والمنهجية الصحيحة في الدعوة أن المرسل يركز في مثل هذا النوع من المراسلات
القصيرة على ذكر أهم هدف في دعوته وأكبر غاية يدعو إليها , وهذا ما فعله
النبي صلى الله عليه وسلم , فإنه ركز على الدعوة إلى عبادة الله وحده , ولو
كان إعمار الأرض يمثل مرتكزا وهدفا رئيسا في دعوته لذكره في مثل تلك
المراسلات.
الدليل الثالث : تعليق أوصاف المدح بأوصاف العبودية وأوصاف الذم بما يناقض
العبودية , فحين يرجع المسلم إلى نصوص الشريعة يجد أن أوصاف المدح الكبرى ,
,كالإيمان والتقوى والإحسان والفلاح وما يترتب عليها من محبة الله ورضاه
كلها معلقة بمعاني العبودبة لله تعالى بشكل مكثف , وفي المقابل يجد أوصاف
الذم , كالكفر والفسق والضلال والنفاق وما يترتب عليها من غضب الله وعقابه
معلقة بما يناقض العبودية لله تعالى بشكل مكثف .
ولما ذكر القرآن صفات المؤمنين حقا ربطها مباشرة بأوصاف العبودية فقال
سبحانه: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ
دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم”[الأنفال:2-4] ,
ونبه على أن هذه هي أوصاف المؤمنين سواء أكانوا في حالة الاستضعاف أو في
حالة القوة كما قال سبحانه: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور” [الحج:41]
والمراد بالمعروف هنا هو كل ما هو عبادة لله تعالى والمراد بالمنكر كل ما
هو معصية له سبحانه .
وقد كرر القرآن كثيرا من الصفات التي يتحلى بها المؤمنون فذكر قيام الليل والجهاد في سيبل الله والخوف من القيام بين يديه.
ولما مدح الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن علق المدح بأوصاف
التأله والتعبد , كما قال تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا}[الفتح:29]
بل إن الوصف الذي اختاره الرسول صلى الله عليه لنفسه هو وصف العبودية كما
قال:” أفلا أكون عبدا شكورا ” وقال:” ولكن قولوا: عبد الله ورسوله” ولم يكن
يصف نفسه بالحرية ولا الثورة على استبداد الكفار وما أكثره وأغلظه في
زمنه!.
ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أعظم ذنب يعصى الله به أرجعه إلى
الشرك المناقض للعبودية , فعن ابن مسعود “قال :قلت : يا رسول الله أي الذنب
أعظم عند الله عز وجل ؟ قال : أن تجعل لله عز وجل ندا وهو خلقك” (البخاري
4477) .
ولما ذكر الله عقوبات الأمم الذين أنزل بهم العذاب في الدنيا لم يعلقها على
تقصيرهم في إعمار الأرض ولا على عدم ثورتهم على الاستبداد وإنما علقها على
انصرافهم عن عبودية الله تعالى , وهذا في آيات كثيرة جدا , ومنها : قوله
تعالى عن قوم هود : {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا
وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ
عَذَابٍ غَلِيظ **وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ
رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيد **وَأُتْبِعُواْ فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا
كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُود}[هود:58-60],
وقوله عن ثمود : {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز **وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين**كَأَن لَّمْ
يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا
لِّثَمُود}[هود:66-68]
ولما ذكر القرآن أن جنس الإنسان واقع في الخسران , إلا من استثني علق
الاستثناء بالإيمان والعمل الصالح , كما في قوله تعالى : {وَالْعَصْر
**إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر **إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}[العصر:3] .
ومن المستبعد عقلا بعد كل هذه الدلالات وهذه الاستعمالات أن يكون لدعوة
الرسل هدفا آخر أهم من الدعوة إلى عبودية الله تعالى , وهي تدل دلالة ملزمة
على وجوب الالتزام بهذا الهدف ولزوم تجريده وبقائه على رأس الهرم دائما
بغير مزاحمة , وتؤكد على أنه لا يصح لنا أن نزاحمه بأي هدف آخر مهما كانت
منزلتة ومهما كانت الحاجة إليه .
المسار الثاني : المسار الوقائي , لم تكتف نصوص الشريعة بالدلالات
التأسيسية التي تدعو إلى غرس مفهوم العبودية لله تعالى في قلوب الناس ,
وإنما سلكت طريقا آخر في تحقيق هذه الغاية , وزيادة منها في المحافظة على
الهدف الرئيس لها , فشنت حملة ضارية على كل ما يؤدي إلى إفساد عبودية الناس
لله تعالى أو يقللها أو يكدر صفوها , فالمتتبع لنصوص الشريعة يجد أنها
حاربت الشرك ومظاهره , وقعدت له كل مرصد وحاربته بكل سلاح , فحذرت من الشرك
غاية التحذير وبينت قبحه وقبح آثاره بالأدلة العقلية والنقلية , وكشفت عن
مظاهره وأنواعه , وسعت إلى سد كل طريق يوصل إليه , وكشفت عن السبل التي
يمكن أن يتسلل من خلالها إلى قلوب الناس , كل ذلك حتى لا ينفذ الخلل إلى
الإنسان في وظيفته الرئيسة وما لأجله وجد في هذه الحياة .
*** *** ***
وبعد الانتهاء من استقراء النصوص الشرعية والكشف عن دلالتها على تحديد
الهدف الرئيس والغاية الأولى من وجود الإنسان وأنه منحصر في العبودية لله
تعالى , فإنه لا بد من التأكيد على أن مفهوم العبودية ليس خاصا بالشعائر
السلوكية فقط , وإنما هو معنى واسعا يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه , سواء
كان متعلقا بالشعائر المنصوص عليها في الشريعة أو من كل ما يحقق العدل
والاستقامة والانضباط في حياة الإنسان ما لم يكن مخالفا للشريعة , ولهذا
فقد عرف ابن تيمية العبادة بتعريف يكشف عن مقدار سعتها فقال :” العبادة هي
اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة
“( الفتاوى 10/149) .
فوظائف الإنسان في هذه الحياة وحيويته التي يقوم بها في دنياه وصناعاته
وتجاراته ومكاسبه , وكل ما يقوم به ليست دوائر منفصلة عن العبادة , وإنما
يمكن أن تدخل تحت منظومة العبادة .
ولا بد من التنبيه على أن التأكيد على محورية العبودية في الإسلام وتبوئها
رأس الهرم من أهدافه لا يعني أننا نفصل بين العبودية وبين جوانب حياة
الإنسان الأخرى في هذه الحياة , ولا يعني أننا نخرج إعمار الأرض أو مراعاة
السنن الكونية من مفهوم العبادة , أو نخرج الاهتمام بالقوة والارتقاء بحياة
الإنسان من مفهوم العبودية , وفي المقابل فهو لا يعني أنا لا ندخل الظلم
وأكل أموال الناس والعبث بكرامة الإنسان والتقصير في التعامل مع السنن
الكونية في خوارق العبودية ونواقضها .
وبهذا يتحقق للإنسان الجمع بين الالتزام بالهدف الأصلي لوجوده وبين متطلبات
الحياة الأخرى , وقد توصل “سيد قطب” إلى هذه النتيجة بشكل انسيابي منضبط ,
ولم يخلط بين الأمور أو يغير من موضعها في خارطة الدين , فقال بعد أن شرح
وظيفة العبودية , وبين أن الإنسان مستخلف في الأرض :” يتجلى أن معنى
العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى ،
أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة
قطعاً … بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر
كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله
كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله . . كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة
الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي
يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله
تعالى ، جاء لينهض بها فترة ، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها ، ولا
غاية له من ورائها ، إلا الطاعة” ( في ضلال القرآن 3387) , وفي كلام سيد
قطب ينكشف الترتيب الصحيح الذي تنبني عليه الأفكار , فلم يقع الخلط بين
الأهداف الأولية وبين ما يدخل فيها , فالهدف الأولي هو الخضوع لله تعالى
وتحقيق العبودية له واستحضار محبته ورضاه في كل حركات الإنسان , والأهداف
الفرعية التي تحقق تلك الغاية لا تكاد تحصر في مجال واحد أو نطاق محدد .
فالبحث في الهدف الرئيس لوجود الإنسان ولدعوة الرسل الذي هو العبودية لله
تعالى يختلف عن البحث في تحديد ماهية ذلك الهدف وما يدخل فيه وما لا يدخل ,
فكما دلت النصوص على الهدف الرئيس دلت أيضا على تحديد ماهية العبودية لله
تعالى وعلى تحديد دوائرها وأقسامها , فهي لم تأمر بالعبادة من غير أي تفصيل
لها , وإنما أوضحت أن مفهوم العبادة معنى شامل لكل شؤون الحياة , فالمسلم
يستطيع أن يعبد الله ويحقق مرضاة ربه في تفاصيل حياته , حتى شهوته ومعاشرته
مع زوجه , وحتى غرسه لأرضه وأكله من الثمار والطيبات , وحتى سعيه في مناكب
الأرض وطلبه للعيش الرغيد فيها , كل هذه الأمور يستطيع المسلم أن يتصل
فيها بربه وخالقه ويعبده من خلالها ويحقق الوظيفة الأولية له في هذا الوجود
.
ولكن هناك تصور آخر قلب القضية فجعل الهدف فرعا والفرع هدفا , وذهب إلى أن
الهدف الرئيس لدعوة الرسل ولوجود الإنسان هو أعمار الأرض والاستخلاف فيها
والارتقاء بحياة الإنسان , وأن مما يدخل في هذا الهدف عبادة الله تعالى .
وهذا التصور فضلا عن أنه ليس عليه دليل , فهو مخالف لدلالات شرعية قوية
ظاهرة في معناها , وفيه قلب لترتيب الأوليات في الشريعة , وتغيير لمعالم
الخارطة الإسلامية وابتعاد عن الروحية التي قام عليها التصور الإسلامي
للإنسان .
استخلاف الإنسان في الأرض وعمارته لها :
تكررت إشارات القرآن إلى أن الإنسان مستخلف في الأرض ومستعمر فيها , وحتى
يمكننا أن نتوصل إلى حقيقة تلك الإشارات وما تتضمنه من قيم حكمية وشرعية ,
فلا بد من مناقشة قضية الاستخلاف والاستعمار من ثلاث جهات أصلية , وهي :
الأولى : تحديد المستخلف عنه , والثانية : تحديد مفهوم الاستخلاف
والاستعمار في الأرض , والثالثة : تحديد منزلة الاستخلاف في الشريعة
الإسلامية .
أما الجهة الأولى :
فإنه لا يكاد يتردد أحد من المسلمين في أن جنس الإنسان مستخلف عن غيره في
هذه الأرض ؛ لأن ذلك هو صريح قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة:30] .
وإنما وقع الخلاف في تحديد المستخلف عنه , فمن العلماء من ذهب إلى أن
المستخلف عنه هو الله سبحانه وتعالى , ولهذا أجازوا أن يقال : إن الإنسان
خليفة الله في الأرض .
واستندوا في تأييد قولهم على أدلة متعددة , ومنها : قوله تعالى : {وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
}[البقرة:30] , على أساس أن الإنسان خليفة عن الله , ولكن سياق الآية
وتركيب ألفاظها لا يساعد في الدلالة على هذا المفهم كما سيأتي .
ومما استندوا إليه قوله صلى الله عليه وسلم :” إن الله ممكن لكم في الأرض ومستخلفكم فيها” .
ومما استندوا إليه : قول علي رضي الله عنه حين قال في حديث الكميل عن العلماء :” أولئك خلفاء الله في أرضه ” .
ومن العلماء من ذهب إلى أن المستخلف عنه مخلوق آخر إما الجن أو غيرهم ,
واستندوا إلى عدة معطيات , ومنها : قول الملائكة : {قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُون}[البقرة:30], فهذا التعجب منهم يدخل على أنه كان في الأرض مخلوق
سابق على آدم أفسد في الأرض وسفك الدماء , ولكن يضعف هذا الاستدلال ما جاء
عن عدد من الصحابة من أن الله تعالى أخبر الملائكة بما يحصل من هذا
المخلوق الجديد .
ومما استندوا إليه أيضا : المعنى اللغوي للفظة الخليفة , قالوا : الخليفة
في اللغة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره , والله تعالى شاهد دائما لا يغيب
, فلا يصح بالتالي أن يكون الإنسان خليفة عن الله , واختار بعض أصحاب هذا
القول المنع من قولهم : الإنسان خليفة الله في الأرض .
واعتمدوا أيضا على قول أبي بكر حين قيل له : يا خليفة الله , فقال : لست خليفة الله ولكن خليفة رسول الله .
والأمر في هذه القضية هين ؛ لأن البحث فيها لغوي محض , راجع إلى حقيقة معنى
الخلافة في اللغة , فإذا كانت مطلق النيابة عن الغير , سواء كان ذلك الغير
شاهدا أو غائبا , فإنه يصح القول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض , وإن
كانت تقتضي غيبة المستخلف وعدم وجوده , فإنه لا يصح أن يقال الإنسان خليفة
الله .
وأما الجهة الثانية , وهي : حقيقة الخلافة في الأرض :
إذا كانت النصوص الشرعية هي المرجع في إقامة خلافة الإنسان في الأرض
وعمارته لها , فهي المرجع أيضا في تحديد حقيقتها وماهيتها , ونحن إذا رجعنا
إلى النصوص نجد أنها أشارت إشارات عديدة إلى معنى العمارة في المفهوم
الإسلامي , وبينت بأنها ليست مقتصرة على العمارة الحسية فقط , وإنما تدخل
فيها العمارة المعنوية بشكل ظاهر , ومن تلك الإشارات قوله تعالى :
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ
اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِين}[التوبة:18] ,
وجعلت المنع من عبادة الله في المساجد سعيا في خرابها , كما قال تعالى :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن
يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم}[البقرة:114] , وكما قال تعالى : {وَالطُّور *
وَكِتَابٍ مَّسْطُور * فِي رَقٍّ مَّنشُور * وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُور}[الطور:4]يعني بكثرة العبادة من الملائكة .
ومما يؤكد أن العمارة في المفهوم الإسلامي تشمل العمارة المعنوية بشكل قطعي
: تفسير الإسلام للفساد في الأرض , فهو في الإسلام ليس مقتصرا على الفساد
الحسي فقط , وإنما يشمل الفساد المعنوي أيضا , وكثيرا ما يطلق في القرآن
ويراد به ذلك , كما في قوله تعالى : {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللّهِ
قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين}[الأعراف:56]قال بعض المفسرين من السلف : أي
لا تعصوا الله في الأرض فيمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم , وكثيرا ما يصف
القرآن أفعال الكافرين والمنافقين بالفساد وأنها سبب الهلاك وخراب الأرض
كما قال تعالى عن المنافقين : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي
الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُون}[البقرة:12] , وكما قال تعالى :
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّار}[ص:28].
وإذا رجعنا إلى آية الخلافة نفسها وأعدنا النظر والتأمل في تركيب ألفاظها
فإنها تعطي لنا دلالة على أن المراد بالخلافة التي أرادها الله للإنسان
يرجع إلى العبودية له والخضوع والذل لجلاله وكماله ؛ وذلك أن الله حين أخبر
الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خليفة قالت الملائكة :{أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}[البقرة:30],
فهذا القول من الملائكة يدل على أنهم فهموا أن الغرض من الخلافة هو إعمار
الأرض بالعبادة لله تعالى والتقرب له ؛ ولهذا سألوا تعجبا عن موجب ذلك وهم
يقومون بهذه المهمة العظيمة , فأخبرهم الله بأنه يعلم من حال ذلك المخلوق
ما لا يعلمونه , وأنه مهيأ للقيام بتلك المهمة , ولهذا علمه الأسماء كلها
ثم أمره بأن يعرضها على الملائكة ليدركوا حقيقة ما علمه الله سبحانه وتعالى
.
وهذا ما توارد عليه كبار المفسرين من الصحابة كابن مسعود وغيره, فإنه
الخلافة عندهم شاملة للقيام بعبادة الله , يقول ابن جرير شارحا تفسير ابن
مسعود :” فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن
عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك
الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه”
(1/451) .
ولما ذكر الله لداود أنه جعله خليفة في الأرض بين مقتضي تلك الخلافة فقال :
{يَا دَاوُدُ إنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فاحْكُم بَيْنَ
النّاسِ بِالحَقِّ ولاَ تَتَّبِعِ الهَوَى}, الآية: [26], فالقيام بالحق
وبتنفيذ أوامر الله وحكمه مرتكز أساسي في معنى الخلافة
وقد توصل بعض المفكرين الإسلاميين إلى تعريف جامع للخلافة التي أرادها لله
للإنسان في الأرض فقال : الخلافة هي ” عبادة طوعية لله تعالى بالتزام هديه
وشرائعه ينشأ عنها ضبط للسلوك الإنساني في علاقته مع الله وعلاقته بالكون
والمخلوقات , بحيث تسير الحياة الإنسانية ضمن إطار الصلاح ” ( الخلافة في
الأرض , أحمد فرحات 21) , فهذا التصوير للخلافة يجمع لك جميع المعاني
الداخلة في ما أراده الله تعالى من الإنسان في الكون , ويحقق لك التوازن
بين المهمة الأولى والرئيسة للإنسان في الكون التي هي العبودية وبين معنى
الخلافة التي أردها الله للإنسان .
ويقول د/ عبدالمجيد النجار في تعريف مفهوم الخلافة :”إن الخلافة – المهمة
الوجودية للإنسان – تعني الخلافة عن الله تعالى لتنفيذ مراده في الأرض
وإجراء أحكامه فيها ” ( خلافة الإنسان 47) .
والذي يستوجبه التعامل الصحيح مع النصوص الشرعية ويستوجبه الانسجام مع
الأصول الكلية للشريعة ومقتضيات الدلالة اللغوية والسياقية للنصوص أن نراعي
في تفسيرنا للخلافة والعمارة للأرض المعنى الواسع الذي يشمل معنى العبودية
لله تعالى , حتى لا نقع في الاختزال المنافي لحقيقة ما دلت عليه النصوص ,
فإذا غلبنا جانب الخلافة المادي وجعلناه المعنى البارز لها فإنا نكون بذلك
غير منسجمين مع سياق النصوص ولا مع تركيب ألفاظها كما سيأتي الكشف عنه .
وأما الجهة الثالثة , وهي : منزلة الخلافة في الشريعة الإسلامية :
فالمتأمل في النصوص الشرعية يقف فيها على اهتمام كبير بعمارة الأرض
والارتقاء بها , ويجد فيها إبرازا مكثفا لها , فالنصوص تارة تشير إلى قضية
خلافة الإنسان في الأرض وتارة تشرح حقيقتها ومتطلباتها , وتارة تستحث الهمم
على امتثالها والمبادرة إليها , وتارة تشير إلى الأعمال المنافية
للاستخلاف وعمارة الأرض وتارة تذكر ذلك في سياق الامتنان والنعم , فهذه
الحفاوة والاهتمام المتتالي يدل على أهمية هذه القضية في الشريعة الإسلامية
وأنها ليست أمرا ثانويا فيها ؛ إذ إنها لا تبرز قضية بذلك الشكل إلا إذا
كان عالية الشأن كبيرة المقدار .
وإذا رجعنا إلى آية الاستخلاف نفسها , فإننا سنجد فيها دلالة عالية الجودة
على أهمية الخلافة وعلو قدرها , فسواء قلنا إن الإنسان خليفة عن الله تعالى
أو عن مخلوق آخر , فنفس الإعلان الإلهي عن هذه القضية وعن الكائن الإنساني
الذي سيقوم بها دليل ظاهر على خطورة قضية الخلافة وعلو قدرها في الإسلام ,
فقد بلغت من العلو إلى درجة أن الله يعلن للملائكة أنه سينشئ مخلوقا يقوم
بمهمة الخلافة في الأرض
ومما يدل على أهمية عمارة الأرض : أن الشريعة رتبت على إعمارها الأجر
وجعلته سببا للثواب , وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم :” ما من مسلم يغرس
غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقةٌ”
( البخاري ومسلم) , وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : “ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق له منه
صدقة وما أكل السبع منه فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه
أحد إلا كان له صدقة “( مسلم ) .
وذكر الغرس والزرع هنا ليس على جهة التخصيص وإنما على جهة التمثيل فقط , فيدخل في الحديث كل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم .
ومما يدل على ذلك أيضا : أن الله في سياق الأدلة على استحقاقه للعبودية
يكرر الامتنان على عباده بأن جعل لهم الأرض مهدا وسلك لهم فيها السبل
وجعلها مسخرة ومذللة لهم , وهذا التأكيد والتكرار من الله تعالى دليل على
عظمة عمارة الأرض وعلو منزلتها ؛ إذ لو لم تكن عظيمة لما حظيت بذلك الذكر
المتكرر .
ومما يدل على علو شأن الاستخلاف في الأرض وارتفاع منزلته : أن الله جعله
جزاء لعباده المؤمنين على تمسكهم بدينهم ووعدهم بأن يحققه لهم , كما قال
تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}[النور:55] , وجعل جزاء الإيمان والعمل
الصالح التوسعة في الرزق في الأرض , كما قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ
يَكْسِبُون}[الأعراف:96] .
ولو كانت عمارة الأرض شيئا محتقرا في ذاته أو قليل القدر في الدين لما جعله
الله جزاءً لعباده المؤمنين الذي صدقوا في دينهم والتزموا به .
ومما يدل على أهمية قضية الاستخلاف وعمارة الأرض : تأكيد النصوص المتكرر
على ضرورة مراعاة السنن الكونية التي جعلها الله في الكون , وحتمية
الالتزام بها ومراعاتها , فقد اهتم القرآن ببيان القوانين والسنن التي يسير
عليها الكون , وكشف عن قدر كبير منها , كسنة السببية وسنة التغيير وسنة
هلاك الأمم وسنة القوة , وغيرها , وهذه الإشارات المتتالية تؤكد على علو
قدر عمارة الأرض ؛ إذ لو لم تكن عالية القدر لما حصل كل هذا الاهتمام
بالسنن التي تضبطها وتقّيم مسيرتها .
ومع كل تلك الدلالات إلا أن الشريعة في الوقت ذاته قدمت تحذيرات عديدة من
الانغماس في عمارة الأرض والاستغراق فيها بحيث ينشغل الإنسان عن الحياة
الأخرى , التي هي الحياة الباقية والتي تتحقق فيها السعادة الأبدية , وهذه
التحذيرات تحدث في العقلية المسلمة توازنا في التعامل مع عمارة الأرض بحيث
إنه يهتم بها وبما يحقق العدالة والكرامة الإنسانية ويرتقي بحياة الإنسان ,
ولكنه في نفس الوقت لا يغفل عن علاقته بربه وعن حياته الأخرى التي سينتقل
إليها ويعيش فيها مدة لا تنقض .
ولا بد من التأكيد على أن تلك الدلالات التي كشفت عن منزلة قضية الخلافة
والاستعمار في الإسلام لا تساوي ولا تقارب في القوة والوضوح والكثرة
الدلالات التي تبين منزلة العبودية لله تعالى .
ولو قمنا بمقارنة بين دلالات النصوص على أهمية معنى الخلافة وبين الدلالات
التي تكشف عن أهمية معنى العبودية فإنا سنجد أن دلالاتها على معنى العبودية
أكثر وأقوى وأعلى وأظهر , مما يؤكد على أن معنى العبودية يمثل المحور
الحقيقي للإسلام والهدف الرئيس لوجود الإنسان في الأرض والمرتكز الصلب الذي
ترجع إليه كل حركاته وتصرفاته فيها .
فالشريعة كررت الأمر بالعبودية لله تعالى وتنوعت في استعمال الأساليب
الدالة على ذلك , بينما لا نجد ذلك في معنى الخلافة والاستعمار .
وحين بينت الشريعة الغاية من وجود الإنسان استعملت أقوى أسلوب في الحصر ,
وهو النفي والاستثناء , بينما لم تستعمل هذا الأسلوب في معنى الخلافة , بل
لم تستعمل أسلوب الحصر أصلا .
وحين بينت النصوص أهداف دعوة الرسل والمعنى الكلي الجامع بينها أرجعت ذلك
إلى معنى العبودية والخضوع لله تعالى , بينما لم تستعمل هذا الأسلوب في
معنى الخلافة .
وحين بينت النصوص الأسباب الموجبة لهلاك الأمم ونزول العذاب بها في الدنيا
والآخرة أرجعت ذلك إلى كفرهم بالهل تعالى وعدم إيمانهم به , بينما لم تفعل
ذلك في قضية الخلافة .
فهذه الدلالات الشرعية تكشف لنا مقدار التفاوت الكبير والتباعد الشاسع بين
هدف العبودية في الشريعة الإسلامية وبين هدف الخلافة فيها .
ولا بد من التأكيد على أنا حين نقارن بين هذه المعنيين – العبودية والخلافة
– لا نريد أن نفصل بينهما ولا نقصد إلى التقليل من شأن الخلافة , وإنما
المقصود وضع كل قضية في موضعها من خارطة الإسلام , والتأكيد على منزلتها
التي دلت عليها الشريعة من غير زيادة ولا نقصان , فكما أن التقليل من شأن
الخلافة في الأرض خطأ مخالف للنصوص الشرعية , فكذلك الإعلاء من شأنها
ومزاحمة مفهوم العبودية بها خطأ مخالف للنصوص الشرعية .
ويجب ألا يبقى التأكيد على أهمية الخلافة وعمارة الأرض على المستوى النظري
فقط , بل يجب أن يتحول إلى برامج علمية تقوم الأمة فيها بتحقيق الواجب
الكفائي عليها .
فالأمة الإسلامية كلها مطالبة بأن تقيم الحضارة التي تضمن لها الحفاظ على
دينها وتضمن لها مراغمة العدو ومقارعته وإرهابه , وتضمن لها أيضا تحقيق
كرامة الإنسان والحفاظ على حقوقه وإزالة الظلم المالي والجسدي عنه , وتضمن
لها الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عن العدو , فإذا كان الإسلام
يعلو ولا يعلى عليه , فكذلك يجب أن تكون الأمة الإسلامية تعلو ولا يعلى
عليها .
وعلى مقتضى الأصول الفقهية فإنه يجب أن تنتدب طائفة من الأمة للقيام
بالواجب الكفائي في هذه القضية , وتجعل ذلك من أولوياتها الفكرية والسلوكية
؛ حتى تحقق للأمة ما تحتاجه وتحقق لها استقلالها , ولا يحق لأحد أن ينكر
على من جعل من أولوياته القيام بواجب الخلافة وعمارة الأرض ؛ لأنه بفعله
يقوم بعمل كبير , يسقط به الإثم عن عموم الأمة , ولا ينكر عليه إلا إذا
أخطأ , ويكون الإنكار متوجها إلى خطئه لا إلى أصل عمله ومشروعه .
مناقشة استدلالية :
ومع ظهور الدلالات الشرعية التي تكشف عن موقع فكرة الخلافة والحضارة في
خارطة الإسلام وتحدد منزلتها فيها بشكل جلي , إلا أن هناك خطابات غدت تبرز
في الساحة الفكرية , نتيجة لضغط حالة التخلف الدنيوي الذي يعيشه العالم
الإسلامي وحالة التقدم الهائل الذي يعيشه العالم الغربي .. نتيجة لذلك أخذت
تلك الخطابات تجعل الدعوة إلى عمارة الأرض وإقامة الحضارة أولوية في
مشروعها الإصلاحي – وهذا القدر لا ضير فيه – ولكنها لم تكتف بذلك فأخذت
تصدر أحكاما وتعبر بألفاظ توحي بأن فكرة الخلافة في الأرض تمثل هدفا أولويا
في الإسلام لوجود الإنسان , وتمثل مركزية أساسية للدين , ويقول ذلك الخطاب
: إن مهمة الرسل الأولى هي الدعوة إلى إعمار الأرض والحث على الارتقاء بها
, فالمقصد الرئيس من الأديان ومن الإسلام بخصوصه هو الاستخلاف في الأرض ,
بمعنى أن يكون الإنسان خليفة ومشاركة في إعمار الأرض والارتقاء بها .
واستندت هذه الأطروحة إلى أنواع من الأدلة الشرعية , أبرزها ثلاثة نصوص , وهي :
النص الأول : آية الخلافة , وهي قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة:30] .
ووجه الاستشهاد بها : هو أن الله تعالى جعل المهمة الأولى في هذه الحياة
الخلافة عنه في الأرض , وهذا الاستدلال مبني على أن الإنسان خليفة عن الله
تعالى ,وعلى أن المراد بالخلافة إصلاح الأرض والارتقاء بها .
ونحن إذا رجعنا إلى الآية الكريمة لنتحقق من دلالتها على أولوية الخلافة لا نجدها تدل على ذلك ؛ لأمرين :
الأمر الأول : أن سياق الآية يدل على أن الغرض الأصلي منها ليس هو الإخبار
عن خلافة الإنسان في الأرض , وإنما هو تذكير الإنسان بنعمة من نعم الله
عليه ليعبده ويخلص التوحيد له .
وهذه الطريقة متكررة في القرآن , فإنه كثيرا ما يذّكر الإنسان بنعم الله عليه حتى يلزمه بعبادته والإيمان به .
فلو رجعنا إلى سياق الآية نجد أنه جاء فيه التذكير أولا بنعمة الإحياء
والإيجاد من العدم , ثم التذكير ثانيا بنعمة تسخير ما في الأرض للإنسان ,
ثم جاء التذكير ثالثا بنعمة الخلافة في الأرض .
وقد نبه على هذا الترتيب بين النعم الثلاث عدد من كبار المفسرين , كالرازي والألوسي والطاهر ابن عاشور .
وبناء عليه فالفكرة المحورية لآية الخلافة هي الاستدلال على استحقاق الله
للعبودية وليس إثبات خلافة الإنسان في الأرض ؛ فالخلافة جاءت فيها بالتبعية
لا بالقصد الأولي .
وغاية ما يدل عليه هذا النوع من النصوص هو أهمية قضية الخلافة – وهو أمر
متفق عليه – ولكنها لا تدل على أولويتها ومركزيتها في الشريعة من بين
الأهداف الأخرى .
الأمر الثاني : أن غاية ما تدل عليه الآية هو الإخبار عن إرادة الله تعالى
لأن يكون الإنسان خليفة في الأرض , ولم تشتمل على أمر بذلك ولا على ترتيب
ثوابه ولا غيره , وأسلوب الإخبار بحد ذاته لا يدل على الأولوية والمركزية ؛
لأن الله تعالى أخبرنا عن أشياء كثيرة يريد وقوعها , ولم يقل أحد إن تلك
الأمور تمثل هدفا أولويا للإنسان أو غاية مركزية في الدين , وإنما غاية ما
تدل عليه تحقق الأهمية , وهو ليس محل خلاف .
النص الثاني : آية الاستخلاف , وهي قوله تعالى : {وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ
مُّجِيب}[هود:61].
ووجه الاستشهاد بها : أن صالحا ابتدئ دعوته لقومه بأن الله أمرهم بعمارة
الأرض وامتن عليهم بذلك , والابتداء بالأمر والامتنان يدل على أولوية
العمارة , وكونها هدفا رئيسا للإنسان في الأرض .
وقبل أن نقوم بعملية الفحص المنهجي لهذا الاستدلال لا بد من التنبيه على أن
بعض العلماء السابقين استدل بهذه الآية على وجوب إعمار الأرض , ومن أولئك :
الكيا الهراس , حيث يقول – تعليقا على قول صالح عليه السلام – :” يدل على
وجوب عمارة الأرض , فإن الاستعمار طلب لعمارة الأرض , والطلب المطلق من
الله للوجوب ” ( أحكام القرآن 3/226) .
ولكن إذا رجعنا إلى الآية لنتحقق من دلالتها على أولوية العمارة أو وجوبها نجدها لا تدل على شيء من ذلك , وذلك لأمور :
الأمر الأول : أن سياق الآية جاء في الاستدلال على وجوب إفراد الله تعالى
بالعبادة وبيان استحقاقه لها , ولم يكن في الأمر بعمارة الأرض , فصالح عليه
السلام كان في مقام المناظرة لقومه ليثبت لهم شناعة كفرهم بربهم , فأراد
أن يلزمهم الحجة فاستدل عليهم بنعمة الخلق ونعمة تسخير الأرض لهم , فذِكْرُ
العمارة جاء على جهة الامتنان لا على جهة الطلب والأمر .
وهذا ما فهمه وأكده جمهور المفسرين , فإنهم تواردوا على جعل قول صالح من
باب التذكير بالنعم لا من باب الأمر بعمارة الأرض , وحملوا السين والتاء
فيها على المبالغة لا على الطلب , كقولهم استفحل الأمر , وفي بيان هذا
المعنى يقول الطاهر عاشور :” استعمركم ” من الإعمار , أي : جعلكم عمارا بها
, فالسين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق “(التحرير والتنوير
6/108) .
وبناء عليه فغاية ما تدل عليه الآية هو أهمية عمارة الأرض وعلو قدرها ,
ولكنها لا تدل على أنها هدف رئيس للإسلام ولا على أنها أولوية له .
الأمر الثاني : أن المستقرئ لتفسير الصحابة والتابعين للاستعمار الوارد في
هذه الآية يجد أنهم اختلفوا في تحديد المراد منه على أقوال عديدة , منهم من
قال :الإعمار بمعنى إعطاء العمر وإطالته في الدنيا , ومنهم من قال : هو من
قولهم أعمركم فيها أي جعل الأرض سكنا لكم , ومنهم من قال : هو أمر بعمارة
الأرض , وكل هؤلاء معتمد على قرائن ظنية ولم يجعل ما ذهب إليه قطعي .
وهذا يدل على أن تحديد المراد من الاستعمار من الآية مبني على الظن
والاحتمال , فهل يقبل في الأصول المنهجية الصحيحة أن يعتمد على الدلالة
الاحتمالية في تحديد الهدف الأولي للدين وفي الكشف عن الغاية التي تمثل
المركزية فيه .
إن القضايا الأساسية في الشريعة والأهداف الكبرى فيها لا يصح أن يعتمد فيها
على الدلالات الاحتمالية ؛ لأن مقامها أعلى , وتتطلب قدرا من القوة
والظهور واليقينية , وهذا غير متوفر في دلالة هذه الآية , فلا يصح الاعتماد
عليها .
الأمر الثالث : أنه على فرض أنها دالة على طلب العمارة , وعلى أولويتها
أيضا , فهل من المنهجية الصحيحة أن نقدم هذه الدلالة المحتملة على الدلالات
القطعية التي دلت على أولوية العبودية في الإسلام وعلى مركزيتها في حياة
الإنسان , إنا لو فعلنا ذلك سنقع في التنكر للمنهجية العملية الصحيحة
وسنفتح الباب للاستدلالات المتلاعبة التي لا تعتمد على منهج , وينغلق الباب
أمامنا للرد على المتلاعبين .
النص الثالث : حديث الفسيلة , وهو قوله صلى الله عليه وسلم :” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها” ( البزار 7408) .
ووجه الاستشهاد به : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عند قيام الساعة
وانتهاء الدنيا بغرس الشجر , ولم يأمر بالسجود مثلا أو بالصلاة مما يدل على
أولوية الإعمار على غيره في الإسلام .
وإذا رجعنا للحديث نفسه لنتحقق من صحة الاستدلال به على أولوية الإعمار
نجده لا يدل على شيء من ذلك لا في لفظه ولا في سياقه ؛ فالحديث جاء في سياق
آخر الزمان , وفي سياق لحظة يشعر فيها المسلم بفتور الهمة عن العمل ؛ فحتى
لا يقع المسلم في هذه السلبية جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر
على سبيل المبالغة في الحث على العمل وعدم اليأس من النتيجة .
فكأنك النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا يقل أحدكم لمن أغرس هذه الشجرة
ومن يستفيد منها , بل عليه أن يبادر حتى ولو شعر بأن الدنيا زائلة , وفي
تأكيد هذا المعنى يقول الأستاذ محمد قطب :” والعمل في الأرض لا ينبغي أن
ينقطع لحظة بسبب اليأس من النتيجة فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة ، حين
تنقطع الحياة الدنيا كلها . . حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل ، وعن
التطلع إلى المستقبل ، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها”( قبسات من الرسول
20)
فالحديث إذن جاء في سياق استنهاض الهمة والدعوة إلى عدم اليأس , ولم يكن في
سياق الدعوة إلى إعمار الأرض أو الأمر بها وجعلها هدفا أولويا في الدين ,
فغاية ما يدل عليه الحديث هو الدعوة إلى غرس الأشجار والاهتمام ببقاء
الحياة عامرة في الأرض , ولا يدل على أن ذلك يمثل أولوية مقدمة على غيرها .
ويشرح المناوي دلالة الحديث فيقول :” الحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس
الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود
المعلوم عند خالقها , فكما غرس لك غيرك فانتفعت به , فاغرس لمن يجئ بعدك
لينتفع , وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة , وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد
والتقلل من الدنيا” ( فيض القدير 3/40) , وهذا كله تأكيد على أنه جاء في
سياق الحث على العمل والتحذير من اليأس .
وفي ختام البحث في منزلة الخلافة وعمارة الأرض في الإسلام وبيان حقيقتها لا
بد من التأكيد مرة أخرى على أن الهدف من هذا البحث ليس التقليل من شأن
الخلافة ولا الدعوة إلى إبعادها عن الأنظار , وإنما القصد تحقيق منزلتها من
خارطة الإسلام بالوضع الذي تحدده نصوص الشريعة نفسها .
ومحل الإنكار على بعض الأطروحات ليس هو الاهتمام بشأن الحضارة والإنسان ولا
في جعل ذلك أولوية لها, وليس الإنكار أيضا متوجه إلى تكثيف الدعوة إلى
معالجة التخلف الذي يعيشه المسلمون في دنياهم ولا إلى كثرة ذكره أو ترديده
ولا إلى المكاثرة في الدعوة إليه .. كل هذه الأمور ليست محلا للإنكار , بل
هي محل للترحيب والتشجيع والمساندة , ولا يصح في الشرع توجيه الإنكار إليها
أبدا .
وإنما الإنكار يتوجه إلى تقفز تلك الخطابات فتجعل أولوية مشروعها هي أولوية
الإسلام نفسه , وتصور للمتلقين على أن الخلافة تمثل أولوية في الإسلام
وهدفا رئيسا فيه مقدما على غيره من الأصول الكبرى , وتزاحم بذلك الهدف
الرئيس للدين , فهذا القفز يمثل مخالفة ظاهرة لدلالات شرعية قطعية .
إن الإحساس بأهمية الفكرة وضخامة الانحراف فيها لا يبرر لنا في محاولة
إصلاحها أن نرفعها فوق المنزلة التي لها في الشريعة , ولا يبرر لنا أن نغير
مكانها من خارطة الإسلام , فلو افترضنا أن زمنا من الأزمان شاع فيه الزنى ,
فأرادت طائفة إصلاح هذا الخلل وجعلت ذلك من أولوياتها .. فلها الحق أن
تجعل ذلك هدفا أولويا لها , بل قد يجب عليها ذلك , ولكن لا يحق لها أن تصور
للمتلقين بأن الهدف الرئيس لدعوة الرسول هي محاربة الزنى وأن الله تعالى
إنما أرسل الرسل لتحقيق هذا الهدف ؛ لأن ذلك مخالف لدلالات شرعية ظاهرة .
وأساس الخلل المنهجي في تلك الدعوة يرجع إلى عدم التفريق بين الحالة
الاستثنائية وبين الحالة الأصلية في الشريعة , ففي حال الانحراف والابتعاد
عن الحق يجب أن تقوم خطابات تجعل من أولوياتها إصلاح الخلل الواقع ومحاربة
السبل المؤدية إلى حدوثه مرة أخرى , ولكن ذلك يختلف عن الحالة الأصلية التي
يجب فيها مراعاة دلالات الشريعة نفسها من غير اعتبار شيء آخر .
رجب 1432 هجرية

سلطان العميري

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 5 =