ولما اشتهر الأشعرية بأنهم هم متكلمو أهل السنة في تصديهم للمعتزلة والشيعة والخوارج وكان منهم أئمة في الحديث والفقه كالنووي وابن حجر والقاضي عياض وجدت أقوالهم هذه طريقها للفقه السني الذي تقبل الخطاب السياسي المؤول بالأمس والخطاب السياسي المبدل اليوم! وهذا الذي يفسر سبب عناية الخلفاء والسلاطين بالمذهب الأشعري قرونا طويلة وقد شاعت كل آرائهم في هذا الباب بين أهل الحديث والأثر كما شاعت بين فقهاء المذاهب الأربعة واستقرت ورسخت على مر القرون مع أنه لم يخل المذهب الأشعري ممن يخالف في بعض هذه الأصول إلا أن هذا ما استقر وتقرر!
8- ومن الملحوظات على الدراسة النقدية أنها اختزالية انتقائية فكل الآراء التي اخترتها ورجحتها في كتابي (الحرية أو الطوفان) لموافقتها للأصول القرآنية والنبوية والراشدية للخطاب السياسي قال بها جماعة من الصحابة وأئمة التابعين ومن بعدهم فلم يقف الشيخ الناقد لمناقشتهم أو لمناقشة أقوالهم!بل اختزل القضية بحاكم المطيري الذي يعيش هزيمة نفسية تحت ضغط الواقع جعلته يفسر التاريخ تفسيرا غريبا غربيا كما يقول الشيخ الناقد!ومن ذلك زعمه بأنني أثنيت على الخوارج الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه! مع أنني نقلت بالروايات الصحيحة عن عثمان نفسه أنه أثنى على القوم الذين اعترضوا على سياسته بعد أن عقد معهم اتفاقية سياسية التزم بموجبها بتحقيق ما طلبوه منه كتغيير أمراء الأقاليم وقسم الفيء بالسوية ورد من تم نفيهم إلى بلدانهم فقام عثمان رضي الله عنه وخطب في المسجد وقال(والله ما رأيت وافدا خيرا منهم إن قالوا إلا حقا وإن سألوا إلا حقا)وقد كان فيهم زيد بن صوحان والأشعث النخعي وكميل بن زياد وجماعة من كبار التابعين من العلماء وأبطال الفتوح وهذه حقائق تاريخية لا يمكن نفيها بقول الحسن البصري وغيره على فرض صحة أنه قال ذلك،ومما يشكل على ما ذكره الشيخ الناقد موقف علي رضي الله عنه من الذين خرجوا على عثمان فقد جعل علي حين صار خليفة قادة المعارضة بعد ذلك أمراء على أقاليم الدولة وقادة لجيوشه ومنهم الأشتر النخعي ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة وكميل بن زياد وغيرهم وكانوا أكثر جيشه،ولا تفسير لهذا الموقف إلا القول بأن رأي علي فيهم يختلف عما شاع في الثقافة الأموية بعد ذلك،فقد فرق علي رضي الله عنه بين قادة المعارضة الذين لم يشتركوا في قتل عثمان ولم يرضوا قتله وهم أكثر المعارضة،ومن اشتركوا في قتله وهم الذين توعد علي رضي الله عنه بالقصاص منهم ولعنهم وذمهم وكانوا شرذمة قليلة لم تعرف أعيانهم ولهذا لم يستطع علي أخذ القصاص منهم لعدم معرفته بمن تسور على عثمان وقتله يقينا،فمن الخطأ الخلط بين الفريقين وإلا كان علي نفسه متهما حيث جعل من المجرمين القتلة قادة للدولة والجيش وهي التهمة التي اتهمه بها بعض من ثاروا لأخذ القصاص بدم عثمان مع براءته رضي الله عنه من تلك التهمة.
والمقصود أن عثمان نفسه أثنى على قادة المعارضة الذين أنكروا المنكر وتصدوا للظلم الذي لا علم لعثمان به لكبر سنه واتساع دولته،وكذا زكاهم علي حين اختارهم أمراء لدولته وجيشه مع شدته بالحق وعدم خشيته في الله لومة لائم فلا يقبل الاعتذار عن علي رضي الله عنه بأنه اختارهم مكرها أو أنه كان عاجزا أو أنه كان يراعي مصلحة في الوقت الذي لم يتردد في خوض حرب الجمل وصفين فدل ذلك على أن القضية لا تفهم على النحو الاختزالي الذي عرضه الشيخ الخراشي ولا بد من عرضها عرضا موضوعيا وتفسيرها تفسيرا علميا معقولا يرفع الشبهة والتهمة عن علي وعثمان رضي الله عنهما.
9- ومن الملحوظات على الدراسة النقدية أيضا عدم وضوح الأصول التي تقوم عليها فقد ذكر الناقد بأن صحيفة المدينة ضعيفة وأحال على دراسة اليامي كما ضعف رواية أمر عمر صهيبا بقتل من خالف من أهل الشورى ما اتفق عليه الأكثر وأحال على دراسة أخرى!وكأن تضعيف هذا أو ذاك كاف في إثبات الحكم على الرواية بالضعف وكاف في إلزام المخالف في الرأي! ومع أنه لا يضر كتاب (الحرية أو الطوفان) تضعيف خبر الصحيفة وخبر صهيب لأنهما ليسا من الأصول في الكتاب بل وردا على سبيل الاستشهاد والمتابعات،ووجه الاستشهاد بخبر صهيب هو في إثبات أن عمر أمر بأخذ رأي الأكثر إذا اختلف أهل الشورى وهذا القدر ثابت بالروايات الصحيحة الأخرى التي أوردتها قبل خبر صهيب،أما الأمر بقتل من خالف منهم رأي الأكثر فليس مقصودا حتى يقف عنده الناقد الفاضل وليس فيه غرابة بل الأمر بقتل من شق عصى الجماعة ووحدة الأمة وارد بأحاديث نبوية صحيحة كما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية،بل ووارد بالروايات الأخرى عن عمر نفسه،ولعل عمر أراد التغليظ كالأمر بقتل من مر بين يدي المصلي الذي ليس على ظاهره بل للدلالة على خطورة الأمر،وقد روى خبر صهيب هذا المؤرخ الكبير موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر وهذا إسناد على شرط البخاري.
ثم على فرض ضعف خبر الصحيفة وخبر صهيب فليس هناك ما يمنع من إيرادهما على سبيل الاستشهاد لا الاحتجاج،خاصة وأني ذكرت شرطي في أول كتابي وأنني أقتصر على الروايات الصحيحة والمقبولة عند المؤرخين دون الموضوعة،وللمؤرخين بل وللمحدثين مدارس مختلفة في النقد وقبول الأخبار ليس هذا محل تفصيل القول فيها وبالإمكان الرجوع لبحثي المحكم والمنشور بعنوان(منهج ابن جرير الطبري في نقد الأخبار) هذا المنهج النقدي الذي تجلى في أوضح صوره في كتابه (تهذيب الآثار) الذي صحح فيه كثيرا من الأحاديث التي ضعفها غيره من الأئمة بناء على قواعده في النقد.
والحاصل أن خبر صحيفة المدينة مقبول عند علماء السير والمؤرخين وقد وردت بعض نصوصها بأسانيد صحيحة أو حسنة في مسند أحمد وغيره وأوردها ابن إسحاق وغيره كاملة مرسلة لشهرتها كعادته في حذف أسانيد ما تواتر أو اشتهر من أخبار السيرة النبوية ومما يدل على الفرق بين طريقة المحدثين والمؤرخين قول الشافعي في حديث(لا وصية لوارث) بأنه لا يكاد أهل الحديث يثبتونه وإن كان أهل السير والأخبار لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في خطبته في مكة!
وقد روى خبر الصحيفة ابن إسحاق في السيرة ـ وكما عند البيهقي في السنن الكبرى 8/106 من طريق محمد بن إسحاق ـ عن محمد بن عثمان بن خنيس أخذه من الصحيفة التي عند آل عمر بن الخطاب مطولا،وهذا إسناد كالمتصل وشهرة الكتاب تغنيه عن الإسناد كما قال شيخ الإسلام في صحيفة عمرو بن شعيب،وقد كانت سيرة ابن إسحاق من أشهر كتب مطلع القرن الثاني وقد جمعها ابن إسحاق ـ الذي ولد في آخر عهد الصحابة ـ في أول القرن الثاني 110هـ وأخرجها في حدود سنة 135ـ 140هـ وتداولها أئمة الإسلام ومنهم الشافعي وأثنوا عليها واعتنوا بها وابن إسحاق إمام أهل السير بعد شيخه الزهري بلا خلاف وقوله في السيرة مقدم على قول من خالفه فيها إلا ما دل الدليل على خلافه،وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن صحيفة المدينة في الصارم المسلول ص 64 (هذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم) واحتج بها،وقد رواها عبدالرزاق في المصنف ح رقم 18879 في كتاب العقول عن معمر عن الزهري قال وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار(لا يتركون مفرحا أن يعينوه في فكاك أو عقل) وهذا إسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ إلى إمام أهل المغازي والسير ابن شهاب الزهري وهو شيخ ابن إسحاق وهذا اللفظ جزء من سياق خبر الصحيفة المطول وفي قول الزهري(في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار)دليل على شهرة الكتاب،كما روى خبر الصحيفة أيضا أحمد في المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم وأن يفدوا عانيهم بالمعروف) وهو جزء من خبر الصحيفة الطويل،وقد عقد ابن كثير في تاريخه فصلا بعنوان(عقده عليه السلام بين المهاجرين والأنصار في الكتاب الذي أمر به فكتب بينهم وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة) وساق خبر الصحيفة مطولا.
وعلى كل حال فخبر الصحيفة لا يشك في ثبوته من له أدنى معرفة بالسيرة النبوية ومن له معرفة بألفاظ وأسلوب الخطاب النبوي الذي أوتي جوامع الكلم وقد شرح ألفاظ الصحيفة الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث،ولا أعرف أحدا من أهل العلم حكم بوضعها أو ببطلانها غاية ما هنالك أنها جاءت مرسلة ـ وبعض طرقها موصولة ـ والمرسل مختلف في الاحتجاج به حتى قال ابن جرير بأنه لم يختلف أهل العلم قبل الشافعي بالاحتجاج بالمرسل وكذا الشافعي لم يرد المرسل بل قبله بشروط اشترطها له ولا يختلف أهل العلم في السير والأخبار في أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبها حين دخل المدينة بين المهاجرين والأنصار وعاهد فيها اليهود وشرط لهم وعليهم وقرر فيها الحقوق والواجبات السياسية العامة والخاصة بأبلغ عبارة وأفصحها مما يعد من جوامع الكلم النبوي الذي لا يمكن النسج على منواله وليس فيها ما هو منكر أو شاذ،ولعل الله ييسر لي دراسة مستقلة في بيان الفرق بين طريقة علماء المغازي والسير وعلماء الحديث والسبب الذي حمل علماء السير على حذف الأسانيد في كثير من الحوادث المشهورة التي أوردوها في كتبهم التي كانت أسبق ظهورا من كتب الحديث حيث ألف عروة بن الزبير المغازي وكذا الزهري ومحمد بن إسحاق وهو ما حمل المستشرقين على القول بأن الإسناد تم اختلاقه في القرن الثاني لكون كتب السيرة ورواياتها جاءت مرسلة ولم يقفوا على أسباب ذلك فجاء من المحدثين المعاصرين من أرد الحكم على مرويات السيرة النبوية وفق منهج أهل الحديث فأسقط في يده واضطرب عليه الأمر وفاتهم أن للسيرة علماؤها وأصولها العلمية التي تغاير أصول علم الحديث،وأن المرجع في معرفة أحداث السيرة وأيام النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه هم أهل المغازي والسير لا أهل الحديث والأثر ولهذا كان البخاري رحمه الله ربما بوب أو استشهد في كتاب المغازي من صحيحه بقول ابن إسحاق أو قول الزهري أو موسى بن عقبة فهم الحجة والمرجع في هذا الفن.
10- ومن الملحوظات على دراسة الشيخ الفاضل الاضطراب في تقرير الأصول ففي الوقت الذي يثني فيه على الخطاب الراشدي ويقرره كأصل يجب الرجوع إليه يعود فيناقضه ويعارضه بالخطاب المؤول!ومن ذلك ما ثبت بالتواتر عن علي رضي الله عنه فيما سنه من سنن عظيمة في شأن الخوارج وما قرره لهم من حقوق حتى قال شيخ الإسلام ما معناه أن الصحابة أجمعوا على ما سنه علي في الخوارج من الحكم بإسلامهم وتحريم دمائهم ما لم يصولوا على المسلمين وأنه إنما قاتلهم دفعا لشرهم لا لكفرهم،وقد نقلت من كلام أهل العلم ما يوافق هذا الرأي كما نقله ابن قدامة في المغني أما ما خالف هذه السنة الراشدية من كلام الفقهاء بعد العهد الراشدي فهو من الخطاب المؤول كقول من قال بكفرهم واستحل دماءهم احتجاجا بحديث (يمرقون من الدين)وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول واحتج بسنة علي فيهم وإجماع الصحابة على رأي علي فيهم،وجمع بين الأحاديث الواردة في شأنهم،وإنما وقع الخطأ في فهم كلام الأئمة من بعض متأخري أتباعهم الذين حملوا ألفاظهم على غير وجهها حتى كفروا أهل البدع من أهل القبلة مع أن نصوص الأئمة لا تفيد ذلك،بل نص شيخ الإسلام على صحة الصلاة خلف الجهمي والرافضي،والمقصود أنني حين كنت أستطرد في بيان أصول الخطاب الراشدي وسننه أوردت من كلام الفقهاء ما يوافق هذه الأصول للدلالة على وضوحها ورسوخها عند كثير من الفقهاء حتى بعد العهد الراشدي وأنني لست مبتدعا فيما نسبته إلى الخطاب الراشدي من أصول وسنن فلا يصح الاستدراك علي بأني لم أذكر آراء الفقهاء الآخرين التي خالفت هذه الأصول والسنن وهو ما ذكرته بعد ذلك في الخطاب المؤول وما طرأ عليه من تراجعات كبيرة فلكل مقام مقال يناسبه.
11- ومن الملحوظات على نقد الشيخ الفاضل المبالغة حد الإغراق في مناقشة موضوع الخروج على أئمة الجور حتى بدا لي وكأن المقصود من النقد كله هو هذه القضية بالذات ووصل الأمر بالناقد حد التعريض بالحسين سيد شباب أهل الجنة وأنه خالف وأخطأ ولم يشفع له كونه من صغار الصحابة وحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نال السيادة بالشهادة كما في الحديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) وقد ثبتت هذه السيادة للحسين بحديث(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وليس للحسين لمن طالع سيرة حياته عمل أجل وأشهر من خروجه على يزيد وتصديه لجوره وظلمه فعرفنا أن سيادته شباب الجنة إنما كانت بالشهادة التي كتبها الله له حين تصدى للإمام الجائر فقتله،كما كانت سيادة الحسن بإصلاحه بين المسلمين وتنازله عن الإمامة والخلافة مع شرفها للم شمل الأمة وجمع كلمتها ـ وليس للحسن لمن طالع سيرته أشهر وأجل من هذا العمل ـ فنال السيادة والشرف الأخروي بهذا العمل كما ثبت ذلك بحديث(إن ابني هذا سيد وإن الله سيصلح على يديه بين طائفتين من المسلمين)،فالسيادة الأخروية للحسن والحسين لم تكن بنسبهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بعملهما رضي الله عنهما،فالحسن جمع كلمة الأمة والحسين تصدى لجور الأئمة،وكلاهما عمل سياسي شرعي عظيم كما في الحديث (الدين النصيحة ولأئمة المسلمين وعامتهم) فالعناية بأمر الأمة والأئمة بالقيام بما أوجب الله تجاههم هو حقيقة الدين،ومن ذلك الأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا ونصرة المظلوم والصدع بالحق كما في الحديث(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)كل ذلك من النصيحة ومن الدين،ولا يغني عن ذلك الجلوس في المساجد وتربية الناس وتعليمهم بدعوى أن هذه هي طريقة السلف ـ افتراء عليهم ـ بل هي سنة نصرانية (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، فمن عاب على المجاهدين والمصلحين تصديهم للظلم ونصرهم للمظلومين بدعوى أن هذا من السياسة وأنها تخالف الأسلوب الصحيح في الدعوة إلى الله فقد قال قولا عظيما وأمر بترك ما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أمته القيام به تقليدا لما قاله هذا الشيخ أو ذاك الشيخ الذين حصروا الدعوة بالتربية والتعليم والتصفية وهو خلاف ما جاء به القرآن وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه الأئمة من أن الإسلام كمل وعلى الأمة القيام بكل ما أوجب الله عليها القيام به من فروض الأعيان وفروض الكفايات لا يسقط شيء منها عنها ومن ذلك دفع العدو الصائل الكافر والتصدي لجور الجائر وأطره على الحق أطر والأمر بالمعروف ونحو ذلك من أحكام الإسلام،أما الجلوس في المساجد والتعليم وتحقيق الكتب فهو أمر مشروع ومن فروض الكفايات ولا تحصر الدعوة والدين به ولا يبتدع للناس طريقة في الدعوة إلى الله غير ما جاء به الكتاب والسنة وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،وفي الوقت الذي عرض الشيخ الناقد بالحسين نجده في المقابل أطال في الثناء على يزيد والاعتذار عنه وجعل من التعرض ليزيد تعرضا لمعاوية رضي الله عنه،بينما لم يجعل الناقد التعرض للحسين وتبرير ما جرى له من باب التعرض لمقام النبوة التي شهدت للحسين بالسيادة والشهادة! فصار أمر يزيد التابعي الذي فعل ما فعل جيشه يوم الحرة ويوم كربلاء أكثر أهمية من الحسين الصحابي الحفيد الشهيد كل ذلك بسبب شيوع الخطاب السلطاني وطغيان ثقافته على الخطاب القرآني!
وكذلك أطال الناقد البحث في قضية الخروج وتحريمه حد الإغراق!مع أن مشكلة الأمة اليوم هي أكبر من ذلك وتتمثل في سقوط الخلافة والإمامة نفسها التي يحرم الخروج عليها،وسقوط الدولة الإسلامية كلها،وتشرذم الأمة الواحدة،وتعطيل الشريعة،وسيطرة العدو الكافر على الأمة،واحتلاله أرضها والتصرف في شئونها،وفرضه البديل التشريعي والفكري والثقافي عليها وتهميش وإقصاء دينها،وإقامته دويلات الطوائف الصليبية التي أقامها منذ الحرب العالمية إلى اليوم فهو الذي حدد حدودها وأقام حكوماتها ووضع قوانينها وتشريعاتها واتخذها قواعد عسكرية له تنطلق منه جيوشه الصليبية متى ما أراد،حتى صار المسلمون يبحثون منذ سبعين سنة عن مخرج لما هم فيه بالاشتراكية تارة وبالقومية تارة أخرى وبالليبرالية والديمقراطية الغربية تارة ثالثة،ولا حل لهذه المشكلة بل الكارثة السياسية التي تعيشها الأمة إلا بالخطاب الراشدي الذي حاولت في (الحرية أو الطوفان) بعثه والتبشير به والدعوة إلى إحيائه من جديد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تم تعطيل أصول هذا الخطاب جلها في الخطاب المؤول بالأمس،وكلها في الخطاب المبدل اليوم،حتى صارت الشوكة في أرض الإسلام اليوم للكفار والأمر أمرهم والشوكة لهم يحتلون من دار المسلمين ما شاءوا ولم يعد هناك إمام شرعي تجب له الطاعة الشرعية التي هي من طاعة الله ورسوله وإنما حكومات فرضها العدو منذ أن أسقط الخلافة العثمانية وهو الذي يدير شئونها ويحميها فالطاعة لها في واقع الأمر طاعة قهرية وهي طاعة للعدو الكافر الذي وراءها،فلا معنى للاحتجاج بأحاديث السمع والطاعة وتحريم الخروج على الإمام الجائر أو تنزيل كلام الأئمة في الخلفاء من بني أمية وبني العباس على الواقع اليوم حيث لا خلافة ولا أمة ولا جماعة ولا دار للإسلام تقام فيها أحكام الإسلام والشوكة فيها للأمة،ولسنا في حاجة للتثوير أو التخدير بل في حاجة لمعرفة الدين الحق الذي يخرجنا من هذه الظلمات إلى النور ويحررنا من هذا الظلم والجور ثم العمل على بعثه والتبشير به ودعوة الناس إليه ومجاهدة الطغاة عليه جهادا كبيرا بكل وسيلة مشروعة!
12- ومن الملحوظات على الدراسة النقدية أيضا عدم وضوح المنهج النقدي فقد احتج الناقد بروايات ضعيفة منكرة يعارضها ما هو أصح وأثبت منها ومن ذلك ما أورده عن سعد بن عبادة أنه قال يوم السقيفة (صدقت أنتم الأمراء ونحن الوزراء) وهذه رواية منكرة تعارض ما ثبت في الصحيح أنه رفض الأمر وهدد وتوعد حتى نزا عليه الناس وهو مزمل يوعك فقيل للناس(قتلتم سعد بن عبادة) فقال عمر (قتله الله) وبايع الناس أبا بكر ولم يبايعه هو بل ذهب للشام مغاضبا كما هو مشهور من خبره،وقد احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه لا يشترط لصحة البيعة الإجماع بحادثة سعد هذه،وقرر أنه يكفي بيعة جمهور الناس الذين تتحقق بهم الشوكة،ولو فرض أن أبا بكر احتج على الأنصار بحديث الأئمة من قريش لكان في مخالفة سعد ما يدل على أنه لم يفهم من الحديث أن الخلافة محصورة فيهم بل حمله على معنى آخر ـ إذ يبعد أن يرد سعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الهجرة يأمر الأنصار أن يأخذوا عن المهاجرين الذين كانوا أعلم منهم بالقرآن وأحكام الإسلام ويأمر المهاجرين أن يكونوا أئمة لغيرهم من المسلمين يصلون بهم ويقرئونهم القرآن،ويقول قدموا قريش ولا تقدموها فربما فهموا أنهم أئمة بهذه الحيثية،وعلى كل حال فالروايات الصحيحة لم تذكر احتجاج أبي بكر بحديث الأئمة من قريش يوم السقيفة بل قال إن العرب لا تعرف أو لا ترضى إلا بهذا الحي من قريش فلا تشقوا عصى الإسلام،ولهذا ورد عن عمر أنه أراد أن يستخلف سالما مولى حذيفة ومعاذ بن جبل وليسا من قريش.
13- ومن الملحوظات أيضا وقوع الدور في الدراسة النقدية فقد ذكرت أنا موضوع اشتراط القرشية عرضا في الحاشية ونقلت كلام ابن حجر في الفتح في نقل الخلاف في المسألة والرد على من ادعى الإجماع عليها ومن ذلك ما ورد عن عمر أنه أراد استخلاف معاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وما استشكله الحافظ ابن كثير عن مبايعة أئمة التابعين الذين خرجوا مع عبدالرحمن بن الأشعث له مع أنه لم يكن قرشيا بل من كندة من قحطان وأقل ما في ذلك ثبوت الخلاف في هذه الدعوى،فجاء الناقد الفاضل وقال بأنه يشترط للإمامة القرشية وأحال على كتاب الشيخ الفاضل عبدالله الدميجي (الإمامة العظمى)! ولا أدري ما مقصوده من هذا الاستدراك هل يريد نفي وقوع الخلاف في المسألة مع ثبوته فيها كما نقلناه عن ابن حجر؟أم يريد ترجيح القول باشتراط القرشية؟وليس هذا ترجيحا حيث لم يناقش الأدلة التي أشرنا إليها ولم يعقب عليها وليست الإحالة في حد ذاتها ترجيحا بل تقليد محض لا يصلح في باب النقد والمناظرة بل هذا هو الدور بعينه!
14- ومن الملحوظات أيضا كثرة الدعاوى في الدراسة النقدية ومن ذلك الادعاء بأن قصة التحكيم مكذوبة! ولا أدري ما المكذوب في قصة التحكيم؟ أهو حدوث التحكيم نفسه بين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص كممثلين لعلي وأهل العراق من طرف ومعاوية وأهل الشام من طرف آخر؟ أم رضا علي بالحكم ولو على حز عنقه فضلا عن ترك الخلافة؟أم اتفاق الحكمين على عقد اجتماع آخر يحضره الصحابة من قابل ليختاروا من شاءوا خليفة لهم؟وهو ما أدى إلى خروج الخوارج على علي لكونه رضي بالتحكيم الذي يعني ضمنا قبوله بالنتيجة حتى لو أدى ذلك لخلعه وبيعة غيره،أم المكذوب هو اجتماع الصحابة بعد ذلك في المكان الذي تم تحديده وحضور ابن عمر وغيره ممن اعتزل الفتنة حيث تم تداول بعض الأسماء للخلافة كاسم عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره وعدم الاتفاق على أحد بعينه مما أدى إلى التأجيل بعد ذلك ثم حدوث اغتيال علي وتنازل الحسن عن الخلافة واجتماع الأمة على معاوية؟
فهذا القدر من حادثة التحكيم معلوم من تاريخ المسلمين محفوظ بالروايات المتواترة والمشهورة الصحيحة من حيث الإجمال وهذا القدر هو الذي أحتج به على أن الحق في اختيار الإمام للأمة وأنه عند الاختلاف والتنازع يجب الرد إليها كما فعل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب وإنما كان الخوارج هم أول من أنكر هذا الأصل وهذه السنة الراشدية التي أجمع عليها الصحابة حتى من اعتزلوا الفتنة حضروا التحكيم لكونه هو الذي أمر الله به في قوله تعالى(وأمرهم شورى بينهم).
أما ما عدا ذلك من أخبار حادثة التحكيم وما جرى في ثناياه من تفاصيل فليس ذا أهمية ولم أحتج به ولم أبن عليه أصلا من أصول الخطاب الراشدي سواء كان مقبولا أو مردودا فما هو إذا المكذوب من قصة التحكيم؟
وعلى كل فهذه بعض الملحوظات التي خطرت لي حين قرأت الدراسة النقدية وتمنيت لو اقتصرت الدراسة على نقد أصول الخطاب الراشدي أو الاستدراك عليها إذ هي الأصول التي يدعو إليها الكتاب وهي لب الكتاب ومقصوده فهي التي تستحق من أهل العلم وأرباب القلم النقد والعناية والدراسة إذ هي التي أمر الشارع بالتمسك بها والعض بالنواجذ عليها وهي التي بشر بها وبعودتها،فالواجب معرفة هدي الخلفاء الراشدين وسننهم،واستنباط أصول الحكم التي ساسوا الأمة بها،والقواعد التي التزموها،وكذا معرفة المحدثات التي أحدثها أصحاب الملك العضوض والملك الجبري،وسننهم الذي اتبعوا بها سنن القياصرة والأكاسرة،فهذا هو المهم في هذا الموضوع فمن استطاع أن يدلي بدلوه في تجلية هذه القضية أو الاستدراك عليها فلا يتردد فالأمة اليوم في حاجة لدينها وهداياته للخروج من محنتها ولا يتصور أن لا يكون في القرآن الذي قال الله فيه (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم) بيان لما تحتاجه الأمة لإقامة أمر دنياها على العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والذي أقامه لها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده،وهو ما اجتهدت في بيانه في (الحرية أو الطوفان) والذي كان دراسة للمراحل التاريخية للخطاب السياسي الشرعي،ولما استشكل بعض أهل العلم بعض ما ورد فيه،رأيت ضرورة بيان الأصول العقائدية للخطاب الشرعي السياسي التي يقوم عليها الخطاب العملي التشريعي وسيصدر قريبا بإذن الله تعالى بعنوان(تحرير الإنسان)دراسة في أصول الخطاب السياسي الشرعي القرآني والنبوي والراشدي،وسيكشف بإذن الله أصول الخطاب السياسي الشرعي وغاياته ومقاصده وعلله بحيث تنتظم الأحكام وفق الأصول العقائدية والتشريعية التي تقوم عليها،وسيكون كتابا شاملا لهذا العلم أصولا وفروعا وقواعد،فأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحيي سنن نبيه وهديه وهدي خلفائه،وأن لا يجعلنا نصيرا للظالمين،ولا ظهيرا للمجرمين،ولا فتنة للمؤمنين،آمين آمين.

من منتدى الكاشف

لا تعليقات حتى الآن

  1. لله درك , بارك الله فيك , وأكثر من أمثالك , ردّ علمي يثلج الصدر .

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × أربعة =