من الذي اخترع لفظ الاختلاط ؟
إبراهيم السكران


– مدخل:
بعد أزمة الاختلاط الكاوستي ظهر على السطح الإعلامي شريحتان كتبتا بغزارة مذهلة، في وقت قياسي، وبشكل يومي مكثف.

فأما الشريحة الأولى : فهي فريق من المنتسبين إلى (البحث الشرعي) كانت تردد وتعيد وتكرر بأن مفردة الاختلاط إنما هي (بدعة مصطلحية لاتعرف في كتب أهل العلم)، وقال بعضهم بأن (الاختلاط لفظ دخيل لايعرف في التراث الإسلامي)، وقال آخرون بأن (الاختلاط لفظ معاصر لاتعرفه سائر المذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة) ، وذكر آخرون بأنه لاتعرف لفظة الاختلاط إلا في (خلط المالين في الزكاة) وقال آخرون بأنهم تتبعوا كتب التراث الإسلامي ولم يجدوا لفظة الاختلاط إلا في (اختلاط الراوي) في علم الجرح والتعديل، وتوسع بعضهم وقال إن لفظ الاختلاط لفظ “لاهوتي-كنسي” استورده الإسلاميون المعاصرون ولاذكر له أصلاً عند علماء التراث الإسلامي.  

وبنى هؤلاء على ذلك كله أنه لاداعي للحماس لاستنكار وشجب تدشين الاختلاط في جامعة (كاوست) باعتبار أن لفظ الاختلاط أصلاً ليس من ألفاظ المنكرات عند علماء الشريعة في سائر المذاهب السنية الأربعة.

وأما الشريحة الثانية : فهي فريق من المنتسبين إلى (البحث الفكري( أخذت تكرر وتعيد بأن الفصل بين الجنسين في التعليم نظام شاذ غريب غير مقبول كلياً في عالم اليوم، ولاتعترف الحضارة الغربية المعاصرة بهذا النظام العنصري، بل هو جزء من الماضي السحيق والتاريخ الغابر، وبنى هؤلاء على ذلك كله بأننا لو استمرينا على هذا النظام في التعليم فإننا سنقع في إحراجات سياسية دولية، وسنصبح مضحكة للمجتمع الغربي الذي لم يسمع بشئ اسمه الفصل بين الجنسين إلا في غرائبيات الميثولوجيا الدينية، وإلى متى نصادم العالم ونتقوقع داخل تقاليد يسخر منها عالم اليوم.

هاتان أطروحتان تم ضخهما وبكثافة طوال الأيام الماضية في الصحافة المحلية، وتم استكتاب الكثيرين للإدلاء بآراء فقهية أو فكرية تدور حول هذين المعنيين.

وفي هذه الورقة الموجزة سنحاول سوياً أن نفحص هذين السؤالين اللذين طرحهما هذان الفريقان:

السؤال الأول : هل فعلاً أن المذاهب الفقهية الأربعة لاتعرف لفظ “الاختلاط” بين الرجال والنساء؟

السؤال الثاني : هل فعلاً أن المجتمع الغربي المعاصر لايعرف فكرة “التعليم غير المختلط”؟

– الاختلاط في المذاهب الأربعة:

ثمة مرتبتان للاختلاط يدركهما ببساطة كل من تأمل هذا الموضوع، أولهما مرتبة (الاختلاط العارض) كالذي يكون في الطريق ونحوه. والثاني هو (اختلاط المجالسة) كالذي يكون في مجال التعليم والعمل، وهو الذي يترتب عليه رفع الكلفة، وانكسار الحواجز، والمضاحكة، وإلف كل من الطرفين للآخر، ونشوء العلاقات غير المشروعة.

فمن ذكر أن المذاهب الفقهية الأربعة تبيح جميع مراتب الاختلاط، أو أن فقهاء المذاهب السنية الأربعة لايعرفون أصلاً لفظ الاختلاط، فهذا قد وضع نفسه في حرج علمي بالغ، لأن لفظ الاختلاط لم يرد بشكل نادر في كتب الفقه الإسلامي، بل ولم يرد في باب واحد فقط، وإنما هو كالأصل الفقهي المنبث في أبواب كثيرة بحيث يؤثر على كثير من الأحكام الشرعية، واستخراج معالجات الفقهاء لمنكر اختلاط الجنسين لا يحتاج لعبقرية فقهية أصلاً، وأشهر المواضع التي يعالج الفقهاء فيها موضوع “اختلاط الجنسين” هي:

باب صلاة الجماعة (مسألة مكث الرجال بقدر ماينصرف النساء) وفي كتاب الجمعة (مسألة علة عدم وجوب الجمعة على النساء) وفي كتاب الجنائز (مسألة الدفن في القبور الفساقي) وفي كتاب الاعتكاف (مسألة صيانة المسجد عن الاختلاط) وفي كتاب الحج (مسألة علة منع التعريف) وفي كتاب الجهاد (مسألة علة منع خروج النساء للمباضعة، ومسألة شرط الذكورة في الإمامة الكبرى) وفي كتاب النكاح (مسألة محرمات الزفاف، ومسألة الفرق بين الحرة والأمة في مخالطة الرجال، ومسألة حبس المرأة زوجها بحقها) وفي كتاب القضاء (مسألة علة منع استقضاء المرأة، ومسألة اختلاط الجنسين في مجلس القضاء)، وفي باب الوصية (مسألة مبطلات الوصية) وفي كتاب الأدب (الذي يسمى كتاب الكراهية عند الحنفية) عالجوه في مسألة (حكم مخالطة من تعطلت غريزته للنساء)، وغيرها من المواضع.

وسنستعرض هاهنا بعض نماذج تلك المعالجات الفقهية التراثية:

– موقف الفقه الحنفي:

يميز فقهاء المذاهب دوماً في مصادرهم الفقهية بين الكتب المحدِّدة للمعتمد في المذهب في مجالي (القضاء والفتيا)، والكتب المحدّدة للمعتمد في المذهب في مجال (التعليم الفقهي).

فأما في مجال (القضاء والفتيا) فإن المعتمد عند الحنفية ثلاثة كتب، رأسها وأهمها عندهم هو الكتاب المبكر “المبسوط للسرخسي”، ويكاد عندهم أن يكون قاعدة المذهب لأنه جمع خلاصة فقه متقدمي الحنفية، وفي هذا المصدر الحنفي الرئيسي يقول السرخسي رحمه الله : (في اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة؛ من الفتنة والقبح ما لا يخفى) (المبسوط،16/80).

ويقول أيضاً رحمه الله : (في اختلاطها – أي المرأة – بالرجال فتنة) (المبسوط، 4/111).

وأما في مجال (التعليم الفقهي) فإن أهم كتب الحنفية عندهم هي “الهداية للمرغيناني” وأشهر شروحها هو “فتح القدير” لابن الهمام، ويقول ابن الهمام في هذا الشرح: (المرأة إنما تخالط المرأة، لا الرجل الأجنبي) (فتح القدير، 5/222).

ولم يختلف فقهاء المذهب الحنفي في أصل تحريم “اختلاط الجنسين” وإنما اختلفوا في صورة معينة : وهي الرجل الذي تعطلت غريزته كلياً فهل له أن يخالط النساء أم لا؟

ومع أنه في هذه الحالة قد يغلب انتفاء الفتنة إلا أن جمهور الحنفية منعوا ذلك أيضاً، ويلخص الامام السرخسي هذا الخلاف فيقول : (إن كان مجبوباً قد جف ماؤه؛ فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء، لوقوع الأمن من الفتنة، والأصح أنه لا يحل له ذلك) (المبسوط، 10/158).

وأما في مجال (علم القواعد الفقهية) فإن أوسع كتب الحنفية في هذا الحقل هو كتاب “غمز عيون البصائر” للإمام الحموي الحنفي الذي شرح فيه كتاب “الأشباه والنظائر” للإمام ابن نجيم الحنفي، رحمهما الله، وفي هذا الكتاب القواعدي الحنفي يقول الإمام الحموي رحمه الله : ( قلت : وهو – أي الزفاف – حرام في زماننا، فضلا عن الكراهة، لأمور لا تخفى عليك، منها اختلاط النساء بالرجال) (غمز عيون البصائر، 2/114).

واستمر هذا الحكم الفقهي في تحريم “اختلاط الجنسين” حاضراً في سائر كتب الفقه الحنفي الأخرى، حتى مجئ آخر أئمة الحنفية الموسوعيين وهو الإمام ابن عابدين رحمه الله، فزاد هذا الحكم الشرعي لتحريم اختلاط الجنسين تأكيداً، حيث يقول في موسوعته رد المحتار : (ومما ترد به الشهادة الخروج لفرجة قدوم أمير، أي لما تشتمل عليه من المنكرات، ومن اختلاط النساء بالرجال) (رد المحتار، 6/355).

وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الحنفية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الحنفية الأخرى مثل:
كتاب تبيين الحقائق للزيلعي (6/20) والبحر الرائق لابن نجيم (8/222) ومجمع الأنهر لشيخي زاده (2/540)، وغيرها من مصادر المذهب الحنفي الأخرى.

– موقف المذهب المالكي:

محور المذهب المالكي – كما هو معروف – هو مختصر خليل، فهو الحلقة الرابعة في سلسلة الاختصار، فهو خلاصة مكثفة للمذهب، وقد بين الشيخ خليل في عبارته المركزة – كما هو معتاد في لغة المتون بشكل عام، ومختصر خليل بشكل خاص – منع الاختلاط في ثلاثة أمور (مجلس القضاء، ومجلس الفتيا، ومجلس العلم) حيث يقول رحمه الله: (ينبغي – أي للقاضي – أن يفرد وقتاً أو يوماً للنساء، كالمفتي والمدرس).

وحين جاء الشيخ عليش المالكي لتوضيح هذه الفقرة في مختصر خليل ذكر علة هذا الحكم، ثم نقل نقولاً عن أئمة المذهب المالكي حول الاختلاط، حيث يقول رحمه الله : (سترا لهن وحفظا من اختلاطهن بالرجال في مجلسه، [قال] سحنون : يعزل النساء على حدة والرجال على حدة . [وقال] أشهب : لا يقدم الرجال والنساء مختلطين . [وقال] ابن عبد الحكم : أحب إلي أن يفرد للنساء يوما. ويفرق بين الرجال والنساء في المجالس..، [وقال]المازري : إن كان الحكم بين رجل وامرأة أبعد عنها من لا خصام بينها وبينه من الرجال) (منح الجليل شرح مختصر خليل، 8/306 ).

ويلي مختصر خليل في الذيوع والانتشار بين المالكية رسالة الإمام ابن أبي زيد القيرواني، وحين تعرض الإمام النفراوي المالكي في شرحه لهذه الرسالة لمسألة “مسقطات وجوب إجابة وليمة العرس” قال : (ثم شرع في بيان مايسقط الإجابة بقوله..: “ولا منكر بيِّن” أي مشهور ظاهر، كاختلاط الرجال بالنساء) (الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، 2/322).

وأما علم “تفسير آيات الأحكام” فأشهر كتب المالكية فيها كتاب ابن العربي المالكي، ويقول فيه :(المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير) (أحكام القرآن، 3/483).

وحين تعرض الامام الدسوقي المالكي لباب مبطلات الوصية ذكر من مبطلاتها أن يوصي الموصي بعمل يتضمن “اختلاط الجنسين،” كما يقول رحمه الله : (أن يوصي بإقامة مولد على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة، من اختلاط النساء بالرجال، والنظر للمحرم، ونحو ذلك من المنكر) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/427).

أما الإمام ابن الحاج المالكي فقد اعتنى بشكل مكثف بكثرة إعلان التحذير من “اختلاط الجنسين” حتى أن جهوده في هذا الموضوع لفتت انتباه فقهاء المذاهب الأخرى، حتى قال الخطيب الشربيني الشافعي مشيراً لذلك (خصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه اختلاط الأجانب من الرجال والنساء..، ولابن الحاج المالكي اعتناء زائد بالكلام على مثل هذا وأشباهه، باعتبار زمانه، فكيف له بزمان خرق فيه السياج) (الاقناع مع البجيرمي، 3/495).

وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات المالكية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر المالكية الأخرى مثل:
مواهب الجليل، للحطاب (1/91) ، الكفاية مع حاشية العدوي (2،225) ، بلغة السالك، للصاوي (4/585)، وغيرها.

– موقف المذهب الشافعي:

تكاد تكون أضخم موسوعة فقهية أنتجتها المدرسة الشافعية هي “الحاوي الكبير للماوردي”، وفي هذه الموسوعة يقول الماوردي رحمه الله: (والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال) (الحاوي الكبير، 2/51).

ولما تعرض الإمام النووي – ريحانة الشافعية – لظاهرة اختلاط النساء والرجال ليلة عرفة للدعاء والذكر أغلظ في تحريمها والتشنيع عليها، وذكر أن من علل تحريمها “اختلاط الجنسين” كما يقول رحمه الله في موسوعته “المجموع شرح المهذب” : (ومن البدع القبيحة ما اعتاده بعض العوام في هذه الأزمان من إيقاد الشمع بجبل عرفة ليلة التاسع أو غيرها..، وهذه ضلالة فاحشة جمعوا فيها أنواعا من القبائح، منها: اختلاط النساء بالرجال، والشموع بينهم، ووجوههم بارزة، ويجب على ولي الأمر وكل مكلف تمكن من إزالة هذه البدع إنكارها) (المجموع، 8/140).

ومن المعروف أن المذهب الشافعي استقر على مافي كتاب المنهاج للنووي، وأجل شروحه عندهم هو شرح الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله، وإمامة ابن حجر الهيتمي للمذهب الشافعي لاجدال فيها، حتى أن الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله- لما ناظر بعض الشافعية في بعض مسائل الألوهية لفت انتباهه شدة تعظيم متأخري الشافعية لابن حجر الهيتمي (انظر مجموع الرسائل الشخصية للشيخ محمد) والمراد أن ابن حجر الهيتمي نص في هذا المصدر المركزي على تحريم اختلاط الجنسين فقال: (الاختلاط بالنساء مظنة الفساد) (تحفة المحتاج، 2/107).

بل إن الإمام ابن حجر الهيتمي لم يتحدث عن تحريم “اختلاط الجنسين” فقط، بل اعتنى بالتأكيد على أن تحريم اختلاط الجنسين هو مذهب متقدمي الشافعية أيضاً مستنداً على نصوص الإمام الشيرازي الشافعي صاحب المهذب، كما يقول ابن حجر الهيتمي في فتاواه: (وفي المهذب في باب صلاة الجمعة: “ولأنها ،أي المرأة، لا تختلط بالرجال، وذلك لا يجوز” فتأمله تجده صريحا في حرمة الاختلاط، وهو كذلك لأنه مظنة الفتنة، وبه يتأيد ما مر عن بعض المتأخرين) (فتاوى ابن حجر الهيتمي، 1/203).

وما سبق هو مجرد نماذج فقط من معالجات الشافعية لموضوع الاختلاط، ويمكن للقارئ الفاضل أن يراجع المزيد من النصوص بنفس مفردة الاختلاط (لفظاً ومضموناً) في مصادر الشافعية الأخرى مثل: نهاية المحتاج للرملي (1/553) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/144) ، حاشية الشبراملسي على النهاية (3/34)، فتوحات الوهاب للجمل (2/206)، تحفة الحبيب للبجيرمي (2/226) ، وغيرها.

– موقف المذهب الحنبلي:

أهم موسوعة فقهية مقارنة أنتجتها المدرسة الحنبلية هو بلاشك كتاب “المغني لابن قدامة” ويعرف كل من تابع تاريخ الفقه الإسلامي أنها تجاوزت الداخل المذهبي الحنبلي واكتسبت أهمية مرجعية عامة، حتى قال شيخ المقاصد العز بن عبدالسلام الشافعي عبارته الشهيرة “ماطابت نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغني”، بل عدّهُ المتأخرون أحد الموسوعات الخمس التي تجمع علوم أهل الإسلام، وفي هذه الموسوعة الرصينة يقول الإمام ابن قدامة في تعليل وجوب انصراف النساء قبل الرجال: (فصلٌ : إذا كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن قد انصرفن..، ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء) (المغني، 1/328) .

وقال الإمام ابن قدامة أيضاً : (المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال) (المغني، 2/88).

وأضاف الإمام ابن تيمية الإشارة إلى آثار السلف في المباعدة بين الجنسين، حيث يقول رحمه الله: (وقد كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب أن لا تسكن بين المتأهلين، وأن لا يسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفوا شابا خافوا الفتنة به من المدينة إلى البصرة) (الفتاوى، 34/181).

وأما الإمام ابن القيم – رحمه الله – فلم يكتف ببيان “تحريم الاختلاط” شرعاً كما ذكره غيره من الفقهاء، بل عقد له فصلاً خاصاً في كتابه المعروف “الطرق الحكمية” صدّره بقوله: (فصلٌ: ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال) (الطرق الحكمية، 237).

ثم شرح الإمام ابن القيم مخاطر الاختلاط معززاً ذلك بآثار عن السلف كعمر بن الخطاب والامام مالك والامام أحمد وغيرهم.

واستمر تأكيد ابن القيم على تحريم الاختلاط في كتابه الآخر “إعلام الموقعين” وهو الكتاب الذي برزت فيه روحه الأصولية ورهافة ذوقه الفقهي، وبالمناسبة فهذا الكتاب من أميز الكتب التراثية في التدريب العملي على مهارات “تحليل علل الأحكام”، حيث يقول رحمه الله فيه: (النساء لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال) (إعلام الموقعين، 2/114).

وأما المصادر التي تعين المعتمد في المذهب الحنبلي في مجال (القضاء والفتيا) فهما كتابي “شرح منتهى الإرادات” و “كشاف القناع”، وهما الكتابان المعتمدان تاريخياً في القضاء الشرعي السعودي، وقد كان صدر باعتمادهما في القضاء الشرعي عدة قرارات رسمية، وفي هذا الكتاب – أعني “كشاف القناع”- يقول البهوتي رحمه الله : (ويمنع فيه اختلاط الرجال والنساء، لما يلزم عليه من المفاسد) (كشاف القناع، 2/367).

وأما في علم (الآداب الشرعية) فإن من أوسع كتب الحنابلة فيها كتاب الإمام السفاريني الحنبلي “غذاء الألباب”، والذي شرح فيه منظومة الآداب الشهيرة لابن عبدالقوي، وفي هذا الكتاب يقول الإمام السفاريني رحمه الله : (والمحمود من الغيرة صون المرأة عن اختلاطها بالرجال) (غذاء الألباب، 2/400).

– موقف الفقهاء المستقلين:

ثمة فقهاء آخرون لم يتمذهبوا ابتداءً بأحد المذاهب السنية الأربعة، ثم كان لهم وزن علمي داخل البحث الفقهي السني، ونأخذ نموذجاً لذلك العلامة المتفنن الشوكاني رحمه الله – الذي كتب أوسع شرح لأحاديث الأحكام المعروف بـ”نيل الأوطار”، وفي هذا الكتاب يقول الشوكاني رحمه الله: (في الحديث – أيضاً – تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال، لأن الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره) (نيل الأوطار، 3/ 362).

ولايمكن الإطالة بأكثر من هذه النماذج من المعالجات الفقهية، والمراد منها الإجابة على السؤال الأول الذي طرحه الفريق المنسوب إلى (البحث الشرعي) والمتعلق بإشكالية: هل تعرف المذاهب السنية الأربعة لفظ الاختلاط؟

وننتقل الآن إلى السؤال الثاني الذي طرحه بعض المنسوبين إلى (البحث الفكري) المتعلق بإشكالية أن الاختلاط نظام مرفوض جذرياً في الحضارة الغربية المعاصرة، ولايمكن أن يستوعب العقل الغربي المعاصر فكرة الفصل بين الجنسين في التعليم، مما سيسبب لنا حرجاً سياسياً ودبلوماسياً.

– تجربة المدارس غير المختلط في المجتمع الغربي:

لا يمكن استيعاب الواقع الغربي الحالي للمدارس غير المختلطة (المنفصلة) إلا بتصور عام عن الخلفية التاريخية لتطورات هذا االأسلوب التعليمي.

فمع تنامي هيمنة حركات المساواة في منتصف القرن الماضي -حيث كانت مزاج العصر- انتشرت المدارس المختلطة بشكل واسع جداً في المجتمع الغربي، وتعرضت المدارس غير المختلطة (المدارس المنفصلة) لنقد حاد باعتبارها جزء من التمييز على أساس الجنس، وأصبحت تلك المدارس المختلطة هي السمة الطاغية، وانتصر هذا النمط التعليمي حتى أن أحد الراصدين يرى أنه بعد العام (1945م) لم يكن هناك إلا نقاش محدود جداً حول جدوى التعليم المختلط (Weinberg,1981).

بينما يشير الدكتور بريهوني –المتخصص في تاريخ التعليم في كلية إدجيل للتعليم العالي- إلى أن انتشار “التعليم المختلط” في النصف الاول من القرن العشرين لم يتغلب على نظيره لأسباب تعليمية أو اجتماعية بشكل رئيسي، بقدر ماهي اسباب اقتصادية (Brehony,1984).

وتطور تنامي اتجاه المدارس المختلطة في الولايات المتحدة إلى أن ظهر في مطلع السبعينات قانون يحد كلياً من برامج التعليم غير المختلط (المدارس المنفصلة) على أساس المساواة بين الجنسين وهو القانون المسمى (Title IX,1972).

وبطبيعة الحال أصبح “التعليم المختلط” معطى بحثي أثار شهية الدارسين الاجتماعيين والمعنيين بشؤون التعليم، وانفجر منذ أواخر السبعينات ومايليها العديد من النتاج العلمي حول الموضوع كما يصور د.جنيفر شو ذلك فيقول (في السنوات القليلة الماضية ظهر تيار متواصل من التقارير البحثية والمقالات الصحفية التي تعيد فحص جدوى التعليم المختلط وغير المختلط) (Shaw,1984).

ومع بدء بروز المشكلات المصاحبة لنمط التعليم المختلط، وعدم بروز تلك النتائج الإيجابية المبالغ فيها التي راهن عليها أنصاره، تناقص الحماس الشعبي العارم لهذا النمط من التعليم، وبدأ يتزايد الطلب الاجتماعي على المدارس غير المختلطة (المنفصلة) حتى أنه في التسعينات كما يصور ذلك في الولايات المتحدة البروفوسور سالومون –وهي أستاذة القانون الدستوري والإداري بجامعة سانت جونز في نيويورك- حيث تقول : (وفي نفس الوقت – أي في التسعينات – تزايد الاهتمام بالتعليم غير المختلط بين مدارس القطاع الخاص، فبين العام 1998 و العام 1999 لوحدها زاد التسجيل في مدارس الفتيات المستقلة بنسبة 4.4%. وأما في مدرينة نيويورك، بما تحمله من كثافة للمدارس الخاصة، فقد قفزت الطلبات إلى نسبة ضخمة تصل إلى 69%. ومن الواضح أن ثمة أمراً ما أقنع أولياء أمور الطلاب بأن المدارس غير المختلطة تمثل استثماراً جيداً في مستقبل بناتهم) (Salomone, 2003).

ومع هذا الطلب الاجتماعي إلا أنه في واقع الحال ظل هامشياً بسبب تلك التنظيمات التي حدت منه في التعليم العام، ولكن مع ازدياد ضغوط أنصار هذا الاتجاه ظهر في الولايات المتحدة عام 2002م تشريع فيدرالي جديد يعزز ضمن مواده نظام التعليم غير المختلط، ويدعمه ببرامج تمويلية، وهو القانون المسمى (NCLB,2002)، وبعد ذلك تزايدت المدارس غير المختلطة في أمريكا حتى بلغت إلى شهر نوفمبر 2009 –بحسب إحصائيات المنظمة الوطنية للتعليم العام غير المختلط- أكثر من 547 مدرسة عامة غير مختلطة (NASSPE,2009).

وأما في بريطانيا فلم يظهر من الأصل قانونٌ يفرض التعليم المختلط، ولذلك بقي جزء من مدارسها محافظاً على النظام غير المختلط (المدارس المنفصلة)، ويقدرّها البروفيسور سميثرز –أحد ألمع خبراء التعليم في بريطانيا- بأنها تزيد على 400 مدرسة تعمل بنظام التعليم غير المختلط (The Observer,2006)، ولذلك يبدي أستاذ علم الاجتماع في جامعة سوسكس د.جنيفر شو هذه المقارنة ببقية الدول الغربية فيقول : (على الرغم من أن بريطانيا ليست منفردة في هذا المجال، فإن الفصل الجنسي في مدارسها أصبح مظهراً متميزاً بحيث يضع نظامها للتعليم الثانوي بعيداً عن عدد من الدول المتقدمة التي يعتبر التعليم المختلط فيها مسألة طبيعية، كما في الولايات المتحدة على سبيل المثال) (Shaw,1984).

وأما أهم (المنظمات الأمريكية) الفاعلة في مجال دعم التعليم غير المختلط (المدارس المنفصلة) فأهمها: المنظمة الوطنية للتعليم العام غير المختلط (NASSPE) وقد تأسست عام 2002م.

ومؤسسة تعليم الفتيات، وقد تأسست عام 2002م (feyw.org). والائتلاف الوطني لمدارس الفتيات (NCGS)، وغيرها.

وأما في بريطانيا فأهم تلك المؤسسات الداعمة للتعليم غير المختلط: منظمة مدارس الفتيات (GSA) وتأسست عام 1974م.

وكل هذه المنظمات لها مواقع خاصة على (شبكة الانترنت) توفر من خلالها مادة غزيرة حول مواقع المدارس التي توفر تعليماً غير مختلط (منفصل)، كما تزود الزائر بخلاصات لأبحاث ودراسات وتقارير تدعم موقفهم المناهض للتعليم المختلط، بالإضافة إلى أخبار دورية عن أهم المؤتمرات والندوات التي تدعم التعليم غير المختلط (المنفصل).

وأما المبررات التي يعرضها أنصار التعليم غير المختلط (المنفصل) فقد لاحظت شخصياً أنها تدور حول محورين رئيسيين: المبرر الأول الفروق التكوينية بين الجنسين مما يتسبب في نقص فرص المساواة في التعليم بسبب التضحية باعتبارات أحد الجنسين للآخر، والمبرر الثاني كثرة حمل المراهقات في التعليم المختلط الذي يكبد المجتمع خسائر صحية واقتصادية، ويعرض أنصار التعليم غير المختلط دراسات وأبحاث امبيريقية تدعم موقفهم، بينما يقدم خصومهم دوماً دراسات مضادة تدعم التعليم المختلط، ولاتزال المسألة بينهم محل جدل.

هذه الإشارة الخاطفة الى تطور إشكالية “التعليم غير المختلط” في المجتمع الغربي ليس الهدف منه -بأي شكل من الأشكال – تصوير المؤسسات التعليمية الغربية باعتبارها تطوي حقائبها الأخيرة استعداداً للتحول الكلي إلى التعليم غير المختلط، كلا قطعاً فهذه صورة مغرقة في الخيال، وإنما المراد من هذا العرض الوجيز كشف الخلل العلمي في الصورة التي لازال يقدمها الإعلام الليبرالي بأن (قضية التعيم المختلط هي مسألة محسومة في الفكر التربوي الغربي، وأن التعليم غير المختلط إنما هو جزء من التاريخ وأساطير الماضي) الخ.

فهذه الصورة التي يقدمها الإعلام الليبرالي صورة غير علمية كلياً، بل قضية التعليم المختلط/غير المختلط لاتزال “قضية جدلية” داخل الفكر التربوي الغربي، ولايزال هناك مؤسسات ومدارس ومنظمات تتبنى وجهتي النظر، ولايزال هناك دراسات مستمرة حول كفاءة كل منهج من هذين المنهجين، ولاتزال هناك مقالات ينشرها أنصار كل اتجاه ضد الاتجاه الآخر.

وبالتالي، فإن القول بأننا لو واصلنا التعليم غير المختلط فسنتورط بإحراجات سياسية عالمية بسبب غرابة هذه الطريقة في عالم اليوم، وأنها طريقة ماضوية لاتوجد على وجه الأرض، هذا كله مجرد تصريحات مجانية ناشئة بسبب الجهل بالتكوين الفعلي للواقع الغربي المعاصر، وسأضرب على ذلك مثالاً معاكساً لتتضح به الصورة، فهذا الشذوذ الجنسي –أكرم الله القراء- يعتبر استثناء داخل الحياة الاجتماعية الغربية، ويظل جمهور الناس في المجتمع الغربي لايزالون محافظين على الميول الغريزية الطبيعية، وأنصار الشذوذ الجنسي والمدافعون عنه هم أقلية في كل الأحوال، ومع ذلك كله لو أن دولة عربية أقرت الشذوذ الجنسي رسمياً فهل ستواجه بإحراجات سياسية غربية باعتباره نمط أسري يخالف ماعليه جمهور الناس في الغرب؟! فكيف سنواجه بالإحراج في مسألة التعليم غير المختلط التي لها من الأنصار والدراسات العلمية في المجتمع الغربي أضعاف أنصار الشذوذ الجنسي.

– ماوراء المشهد:

أما بالنسبة لذلك الفريق المنسوب إلى (البحث الشرعي) فإنني أتساءل : إذا كان الفقهاء عالجوا مسألة “الاختلاط بين الجنسين” (بلفظها ومضمونها ذاته) بهذه الكثافة والغزارة في باب صلاة الجماعة، وكتاب الجمعة، وكتاب الجنائز، وكتاب الاعتكاف، وكتاب الحج، وكتاب الجهاد، وكتاب النكاح، وكتاب القضاء، وباب الوصية، وكتاب الأدب .. فكيف بالله عليكم –بعد ذلك كله- يتجرأ بعض المتسرعين ويقولون إن (لفظ الاختلاط بين الرجال والنساء لايعرف في كتب الشريعة) ؟! أو أنه لفظ اخترعته الصحوة! (يارحم الله هذه الصحوة المسكينة التي صارت دُرْجاً ترمى فيه كل ملفات الشريعة غير المرغوبة!).

مع أن القارئ المنصف يمكنه أن يلاحظ أن أكثر المعالجات الفقهية التراثية لمنكر الاختلاط إنما هي في “الاختلاط المحض” الذي يخشى أن يكون ذريعة، فكيف بـ”الاختلاط المعاصر” الذي يصاحبه من المنكرات مايجعله “اختلاطاً مغلظاً” مثل تعطر الفتيات أثناء مخالطتهن للطلاب، وتجملهن كل صباح، واستعراض كل من الجنسين أمام الآخر، ولبسهن الملابس الضيقة بالألوان الخلابة، والتساهل التدريجي بكشف الوجوه ثم الشعور ثم النحور ثم بقية المفاتن، وتضاحكهن مع زملائهن، والتوسع في الفضفضة والدردشة في فضول الأمور كالهوايات والميول، وترعرع الانجذاب الخفي عبر كثرة المجالسة والملاطفة والاستملاح، وتصميم الحفلات المشتركة على خلفية المعازف الهادئة، ونشوء دواعي الزيارات الفردية، وكل دَرَكة تخفف من التي قبلها، الخ الخ، ويعرف ذلك كله من رأى الاختلاط في الجامعات الغربية، ورأى كيف يبدأ الفصل الدراسي كأنه عرض أزياء، وينتهي بصداقات ترتمي خلف أسوار الجامعة.

فإذا استحضر المؤمن بالله واليوم الآخر مثل هذا الواقع المشهود، ثم تذكر أنه سيقف يوماً بين يدي الجبار يسأله عما خطت يداه، فكيف سيكون جوابه -في ذلك اليوم العصيب- عن تبريره لهذه الفواحش وذرائعها البشعة، وكيف سيكون جوابه -وهو يشاهد أهوال القيامة- عن توريط بنات المسلمين وفتيانهم بهذه المستنقعات؟

الترخص بالسكوت عن هذه الجرائم الأخلاقية في غاية الخطورة على دين المرء، فكيف بمن تجرأ وبررها وكذب على الله، كل ذلك ليلفت انتباه صناع ترشيحات المناصب، والله تعالى يقول (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر:60].

والله إن الأمر فظيع، ولكن ماتت قلوبنا -ولاحول ولاقوة إلا بالله- من كثرة مارأينا من هزائم الأخلاق على يدي الإعلام الأجرد.

ومع ذلك كله لنسلم جدلاً بأن لفظ “الاختلاط” لفظ مخترع معاصر، فهل ينتهي وجوب إنكاره؟!

فطبقا لهذا المنطق هل يمكن أن نقول لفظ “الفئة الضالة” لم يرد لافي قرآن ولاسنة ولافقه، وبالتالي فلاداعي للتحذير منهم؟!

وهل يمكن القول أيضاً طبقاً لهذا المنطق : لفظ “الوطنية” لا يعرف لافي قرآن ولاسنة ولا فقه، وبالتالي لاداعي للحماس للمطالبة به؟!

هل هذا منطق معقول بالنسبة لكم أم أن العبرة هاهنا بالمضامين؟!

وهذا الباحث الذي يقول “إن لفظ الاختلاط لفظ لاهوتي – كنسي تسرب إلى المسلمين “

أخشى أن يأتينا يوماً ويقول إن لفظ “الصلاة” هو أيضاً لفظ لاهوتي – كنسي باعتبار أنه ورد في “الكتاب المقدس” ثم تسرب إلى المسلمين!

وأن مفهوم “تحريم الخنزير” مفهوم لاهوتي – توراتي باعتباره ورد في كتب اليهود، ثم تسرب إلى المسلمين !

وأن لفظ “الزهد” لفظ هندي – روحاني تسرب إلى المسلمين من الحضارة الهندية !

وأن لفظ “القتال” لفظ جاهلي-عربي تسرب من بقايا موروث ماقبل الإسلام! وهكذا دواليك، يتم جحد أحكام الله ورسوله باعتبار أنها ذكرت هنا أو هناك قبل الإسلام، أو بعده!

هذا المشهد الأليم في الحقيقة يجعل حادثة الاختلاط الكاوستي تتحول من قضية ” فرض سياسي للاختلاط ” إلى ” تبديل للحكم الشرعي ” ذاته لتوفير غطاء فقهي للإرادة السياسية، وهذا يعني أن الخطورة تفاقمت أضعافاً مضاعفة، فشتان بين من يفتح بنكاً وهو معترف بتقصيره، وبين من يفتي بجواز الربا! وشتان بين من يقع في علاقة غير مشروعة وهو معترف بخطئه، وبين من يفتي بإباحة الزنا!

وهكذا، فشتان بين من يكرِه المجتمع المسلم على إنشاء جامعة مختلطة، وبين من يحرف النصوص الشرعية والتراث الإسلامي، ويدعي أن لفظ “الاختلاط” لايعرف أصلاً في كتب أهل العلم!

فهذا التدهور من (الفرض السياسي للاختلاط) إلى (التبديل الشرعي لحكم الاختلاط) ينقلنا من منكر مجرد إلى منكر مغلظ.

وأما بالنسبة لذلك الفريق المنسوب إلى (البحث الفكري) فالحقيقة أن أي دارس موضوعي يقوم بتحليل أطروحات “كتّاب الأعمدة الليبرالية” فإنه سيتوصل حتماً إلى أن جوهر المشكلة لديهم هي الجهل الفظيع لاغير، فهؤلاء الكتّاب يعانون من جهل فادح في تصور التراث الإسلامي، وفي تصور تركيبة المجتمع الغربي، فهم يجهلون طرفي الرحلة كليهما، حيث يجهلون محطة المغادرة ومحطة الوصول، فلا يعرفون التراث (الذي يريدون أن نذهب عنه) ولايعرفون الغرب (الذي يريدون أن نذهب إليه)، فأي أزمة أكثر من أزمة مسافر لايعرف من أين جاء ولا إلى أين سيذهب؟!

ومن الواضح لكل قارئ لخطاب الأعمدة الليبرالية أن أكثرهم يكتب عن الحضارة الغربية من خلال مايمكن تسميته “ثقافة السائح”، وأفضلهم حالاً هم ضحايا الكتب الفكرية العربية الاندهاشية التي يكتبها متطلعون للانحلال الديني الغربي فيزوّرون الواقع لأغراض آيديولوجية تتصل بتمرير ميولهم الشهوانية على أساس أنها جزء من مكونات المجتمع المتحضر، فيبتلعها هؤلاء المساكين ثم يعيدون صياغتها بشكل مبسط وترويجها للمستهلك النهائي وهو قارئ الصحافة.

خلاصة القول أن الاختلاط منكر شرعي نصت عليه كافة المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة، ولايزال مسألة جدلية في الفكر التربوي الغربي لها أنصارها ومناوئيها، وكل طرح بخلاف ذلك لايساعده البرهان، والرهان على العلم..

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − 16 =