مقال مفاتيح السياسة الشرعية ابراهيم السكران

-مدخل:

الحمدلله وبعد،،

أثيرت في الأيام الماضية في الساحة الفكرية المحلية إشكالية العلاقة بين (سيادة الشعب) و (سيادة الشريعة)، وشارك فيها أطياف متعددة من خلفيات فكرية متنوعة، تنويرية وقومية وليبرالية، والحقيقة أنني هممت بالكتابة حول هذه الإشكالية وتاريخها وعلاقتها بقواعد السياسة الشرعية، إلا أنني حين بدأت بالكتابة فعلاً؛ بدأ يقاطعني السؤال المتكرر الذي صرت أسمعه من عدد من القراء الكرام، وهو قولهم:

(إذا كنتم تنتقدون الديمقراطية وسيادة الشعب والحريات الليبرالية فما هو البديل السياسي الذي سيقدمه الإسلاميون إذن؟ ما الذي تريدون بالضبط؟).>

صرت أتعرض لِلكمات هذا السؤال في كل مرةٍ أستعرض فيها الموقف الشرعي النقدي تجاه المفاهيم السياسية الغربية.

كنت سابقاً أجيب القارئ الكريم بكل اختصار أننا نطمح إلى (السياسة الشرعية) فيعاودني السؤال مرة أخرى (وماذا تقصدون بالسياسة الشرعية؟)

وهكذا صرت محاصراً بهذا السؤال في كل مرةٍ أحاول فيها المشاركة بنقد المفاهيم السياسية الغربية.

 ولذلك تفاجأت بنفسي هاهنا مضطراً لتقديم تلخيصٍ مكثف لمفهوم (السياسة الشرعية) الذي يتطلع إليه الإسلاميون، على شكل مفاتيح، وبعدما أنتهي من عرض هذه المعالم العامة، والتخلص -ولو نسبياً- من ضغط سؤال (وما هي السياسة الشرعية التي تطالبون بها؟) سأعود –بإذن الله- بعد عدة أيام وسأطرح ورقة أخرى نتناقش فيها سوياً حول مفهوم (سيادة الشعب) وتطوره التاريخي وصولاً إلى الفكر السياسي العربي المعاصر، ولننتقل الآن إلى بعض مفاتيح السياسة الشرعية:

-الدائرة المنصوصة والدائرة المفوضة:

تنقسم السياسة الشرعية إلى مجالين أو دائرتين: دائرة (السياسة المنصوصة)، ودائرة (السياسة المفوضة للأمة)، سنبدأ هاهنا في استعراض السياسة المنصوصة ثم نستعرض السياسة المفوضة للأمة.

-الإمامة والولاية عقد سياسي شرعي:

الأصل الأعظم الذي ترد إليه مسائل السياسة الشرعية كلها، وهو مدار السياسة الشرعية حقاً، هو (التكييف الفقهي للولاية والإمامة)، وخلاصة هذا التكييف أن الإمامة والولاية والبيعة (عقد سياسي شرعي)، وهذا التكييف تواطأ عليه فقهاء المسلمين، وقد نص على ذلك الماوردي في موضعين من كتابه حيث قال (الإمامة عقد)[الأحكام السلطانية:28،30].

ولما تحدث الإمام ابن تيمية عن أمثلة العقود قال (شروط البيوع، والهبات، والوقوف، والنذور؛ وعقود البيعة للأئمة)[الفتاوى، 35/98]. فاعتبر رحمه الله الإمامة “عقداً”، ونقل هذا التكييف –أيضاً- القرافي في الذخيرة (10/27) والقلقشندي في مآثر الإنافة (1/48).

ولذلك استعير للعقد السياسي لفظ (البيعة) كما استعير للعقود التجارية لفظ (البيع)، لأنها كلها عقود يمد فيها أحد المتعاقدين باعه للآخر، كما قال الله (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ)[الفتح، 10].

وتجد الفقهاء في كتبهم يسمونه عقد فيقولون (عقد الإمامة) و (عقد الولاية) ونحوها، ويستعملون في معالجة مسائله ألفاظ العقود نفسها فيقولون (تنعقد الإمامة بكذا، ولا تنعقد بكذ) الخ، كما يستعملون في زوال عقد الإمامة ذات المصطلحات التي يستعملونها في ألفاظ العقود الأخرى كالفسخ والإقالة، ونحوها، كما قال ابوبكر (أقيلوني، أقيلوني)، وكما بوّب البخاري في صحيحه قائلاً (باب من بايع ثم استقال البيعة)، فلاحظ كيف استعمل مصطلح (الإقالة) المستعمل في بقية العقود الشرعية، بل إن الفقهاء استعملوا لمن يعقد البيعة ويحلها مصطلحاً مسبوكاً من لفظ العقود نفسها فسموهم (أهل الحل والعقد) أي الذين يحلون ويعقدون العقد.

وهذا التكييف للإمامة والولاية والبيعة بأنها “عقد” هو تكييف عظيم له آثار جوهرية بليغة، فمعنى كونه عقداً أنه يجري فيه ما يجري في العقود الشرعية، من أركان كالعاقدين والصيغة، والشروط بقسميها: الشروط الشرعية (المشترطة من أصل الشرع) والشروط الجعلية (التي يضيفها العاقدون).

فأما (الشروط الشرعية) التي اشترطها الشارع ذاته فمثل الإسلام والعدالة والعقل والرشد ونحوها. وأما (الشروط الجعلية) التي يحق للأمة أن تشترطها في البيعة فهي كل ما يحقق مصلحة لها، وسنذكر أمثلة متعددة على الشروط الجعلية في الولاية إذا أتينا لاستعراض الدائرة المفوضة للأمة.

 

-الأصل في الإمامة والولاية الشورى والرضا:

وهذا الأصل دلت عليه نصوص شرعية كثيرة منها أن الله سمى سورة كاملة في القرآن باسم الشورى، وجاء فيها (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[الشورى، 38] فوضع الشورى بين الصلاة والزكاة تنويهاً بشرفها.

وأمر الله نبيه –صلى الله عليه وسلم- فقال (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آل عمران:159].

فإذا كان الله أمر النبي أن يشاور من دونه، فكيف بمن دون النبي؟ يقول ابن تيمية عن هذه الآية (فغيره – صلى الله عليه وسلم – أولى بالمشورة)[الفتاوى:28/387].

وجاءت في ذلك أحاديث وآثار عن الصحابة سنشير لها لاحقاً.

-الأصل في الشورى أن تكون عامةً في المسلمين، لا خاصةً بطائفةٍ منهم:

ذكر بعض أهل العلم المعاصرين أن الشورى خاصة بطائفة كتخصيصها بأهل الحل والعقد (بمعناه التخصيصي)، أو أهل الشوكة، أو أهل الاختيار، ونحوها، والراجح أن الأصل في الشورى أن تكون عامة في المسلمين كما دلت عليه العمومات الشرعية ومنها: عموم قوله تعالى في آيتي الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، فعم ولم يخصص.

ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال عام الحديبية (أشيروا علي أيها الناس)[البخاري:4178]. وقام النبي –صلى الله عليه وسلم- في حادثة الإفك خطيباً في الناس وقال (أما بعد، أشيروا علي في أناس..)[البخاري:4757] وعن أنس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاور الناس يوم بدر)[مسند أحمد: 13296]. فتلاحظ في هذه المواقف التي تروى فيها بعض مشاورات النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه يميل إلى “تعميم الشورى” ولا يخصص، ويستخدم صيغة “أيها الناس” العامة، أو يخاطب المسلمين خطاباً عاماً.

وقام عمر بن الخطاب في المدينة خطيباً وقال (من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو، ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)[البخاري:6830] فنص عمر على أن الشورى في “المسلمين” وهو لفظ عام غير خاص.

ولما فوض الصحابة عبدالرحمن بن عوف لكي يطوف في الناس لتنفيذ الشورى وإجراء الانتخاب وفرز الأصوات لتحديد الإمام من مجموع المرشحين، لم يجعل عبد الرحمن بن عوف الشورى خاصة بطائفة، بل شاور الناس، كما يروى البخاري القصة وفيها (فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، فلما ولّوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي)[البخاري: 7207].

فهذا نص رواية البخاري وفيها أن عبدالرحمن مكث عدة ليالي، وأن “الناس” وليس طائفة معينة اجتمعوا على عبدالرحمن لتنفيذ الشورى، كما في النص السابق “ ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي”.

 

وفي البخاري –أيضاً- في نفس هذه الرواية أن عبد الرحمن بن عوف بعدما انتهى من فرز الأصوات دعا الصحابة وقام خطيباً بعد الفجر وأعلن أنه شاور الناس، وليس طائفة خاصة، كما يروي البخاري (فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: “أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان”)[البخاري: 7207]. فنص عبدالرحمن أنه فحص إرادة الناس عامة قدر إمكانه وطاقته، وليس إرادة طائفة خاصة.

وفي نهاية القصة –كما رواها البخاري- قام المسلمون وبايعوا عثمان، ولم تقتصر بيعته على طائفة خاصة، ولو كان ليس للمسلمين عامة مدخل في الشورى لكانت بيعتهم عبث ينزه الصحابة عنه، كما يروي البخاري: (فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد، والمسلمون) [البخاري: 7207].

ولما اتفق الحكمان ابو موسى الأشعري وعمرو بن العاص على خلع علي ومعاوية، اتفقوا أن يجعلوا الأمر شورى في المسلمين، كما تروي كتب التاريخ (أن نخلع هذين الرجلين علي ومعاوية، ونجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين، فيختاروا لأنفسهم من أحبوا)[تاريخ الدينوري:200، وتاريخ الذهبي:3/549]

فتلاحظ في صيغتهم هذه التي ترددت في كتب التاريخ النص على جعل الولاية “شورى في المسلمين” فعموا ولم يخصوا طائفة بعينها.

وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول “هذا إمام” فهذا معناه)[منهاج السنة:1/529].

فلو لم يكن لعموم المسلمين مدخل في الشورى لم يعتبر الإمام أحمد رضاهم واختيارهم في معيار الإمامة الكاملة هاهنا، وهي إمامة الاستحقاق لا إمامة الانعقاد.

وقد علّق الإمام ابن تيمية على إمامة أبي بكر وعمر، كلاهما، تعليقاً وضح فيه أن إمامتهما لم تنعقد وتستقر باختيار طائفة معينة ولا بعقد، بل انعقدت واستقرت باختيار ورضا جمهور المسلمين، يقول ابن تيمية عن خلافة أبي بكر:

(ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبابكر، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة)[منهاج السنة:1/530].

فاعتبر ابن تيمية أن انعقاد البيعة لأبي بكر لم يحصل بمجرد بيعة خاصة الصحابة، بل بمبايعة جمهور الصحابة.

وقال الإمام ابن تيمية أيضاً (وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إماماً لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماماً، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز)[منهاج السنة:1/530].

فاعتبر ابن تيمية هاهنا -أيضاً- أن انعقاد البيعة لعمر لم يحصل بمجرد عهد أبي بكر له، بل بمبايعة جمهور الصحابة له.

فابن تيمية في الحادثتين لم يعتبر في الانعقاد إلا مبايعة جمهور الصحابة، لا بيعة الخاصة، ولا العهد من الإمام السابق.

هذه جملة من نصوص الشورى التي تأملتها وتمعنت فيها، وهي آيات الشورى، وأحاديث مشاورة النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وخطبة عمر في الشورى، وتصرف عبدالرحمن بن عوف في إجراء الشورى والانتخاب، واتفاق الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص، وعبارات أئمة أهل السنة كأحمد بن حنبل وابن تيمية، وغيرها من الشواهد، وظهر لي اتفاقها جميعاً على أن الأصل والأكمل في الشورى أن تكون عامة في المسلمين، وليست خاصة بطائفة معينة، وقد رأيت بعض المحققين كابن تيمية فرق في نص ثمين بين الانعقاد والاستحقاق، وجعل الاستحقاق مصدره الرضا والاختيار العام من المسلمين، وسيأتي كلامه لاحقاً، وطوال بحثي في مسائل السياسة الشرعية لم أجد نصاً واحداً من كتاب الله أو سنة رسوله أو آثار الصحابة يخص شورى التولية بطائفة معينة، ومن ادعى من أهل العلم المعاصرين تخصيص شورى التولية بطائفة معينة من حيث الأصل فعليه الدليل، مع إقرارنا أنه اجتهاد محترم له وزنه، وقال به علماء كبار في فقه السياسة الشرعية، والله أعلم.

 

-المعتبر في الشورى والانتخاب هو الأغلبية:

بعض الناس يتحسس من لفظ “الأغلبية” وهذا غير دقيق، بل المعتبر في السياسة الشرعية في انتخاب الإمام هو (الأغلبية) كما قال الجويني (الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة بالإجماع)[الغياثي:67].

وقال ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة)[منهاج السنة:8/335].

 

-متغيرات الاتصالات وأثرها في تعميم الشورى:

يتساءل كثير من قراء السياسة الشرعية لماذا لم يطبق الصحابة فكرة صناديق الاقتراع أو تعميم الشورى فرداً فرداً في مملكتهم الإسلامية؟ والحقيقة أن هذا التساؤل ينطوي على إهدار مضامين تاريخية جوهرية، فمن الاعتبارات الهامة التي يجب مراعاتها في البحث في مسائل السياسة الشرعية هو (تطور وسائل الاتصال المعاصرة)، فهذا معطى جوهري له دور بالغ في فهم تطور الديمقراطية ذاتها، وبالتالي فقياس فترات تاريخية تتفاوت في هذا المعطى هو بكل اختصار (قياس مع الفارق) كما يقول الأصوليون.

فقبل تطور وسائل الاتصال المعاصرة لم يكن بالإمكان أصلاً تطبيق الاختيار العام، أو الاقتراع العام، بهذا الشكل الذي نراه اليوم، وسأنقل شاهداً مهما لابن حزم يشرح فيه هذا الامتناع التاريخي، يقول ابن حزم:

(أما من قال أن “الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد” فباطل، لأنه تكليف ما لا يطاق، وما ليس في الوسع، وما هو أعظم الحرج، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقال تعالى “وما جعل عليكم في الدين من حرج”، ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرُّف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة، إلى بلاد مهرة، إلى عدن، إلى أقاصي المصامدة، بل طنجة، إلى الأشبونة، إلى جزائر البحر، إلى سواحل الشام، إلى أرمينية وجبل القبج، إلى اسينجاب وفرغانة واسروسنه، إلى أقاصي خراسان، إلى الجوزجان، إلى كابل المولتان، فما بين ذلك من المدن والقرى، ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد)[الفصل:5/13].

فتلاحظ في هذه المناقشة التي يستعرضها ابن حزم أنه يستند أصالةً إلى (عائق الاتصالات)، وأنه لا يمكن معرفة أصوات الناخبين بين هذه الأقطار المتباعدة إلا بوقت طويل تتعطل به مصالح الناس، ويفوت به غرض الإمامة.

ويشير الغزالي –أيضاً- إلى عقبة الاتصالات بصورة متخيلة طريفة، نقلها عن من يناقشهم وأقرها، يقول فيها:

(وباطل أن يُعتبر إجماع جميع أهل الحل والعقد في جميع أقطار الارض، لأن ذلك مما يمتنع، أو يتعذر تعذراً يُفتقَر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عمر الإمام فتبقى الأمور في مدة الانتظار مهملة)[فضائح الباطنية:175].

إذا كان ذلك كذلك فما الذي كان يجري في عصر الخلفاء الراشدين؟ الذي كان يجري هو التوسع في مفهوم (التمثيل) فبلدان المسلمين المتباعدة كانوا يسلمون الأمر للمدينة النبوية ومن فيها من الصحابة، فمن اختاروه رضيت به بقية البلدان، ولذلك لم يظهر معارضة منهم في خلافة الثلاثة.

-أهل الحل والعقد مفهوم تخصيصي أم تمثيلي؟:

في التراث السياسي الإسلامي نجد بعض أهل العلم يستعملون مصطلح (أهل الحل والعقد) ونجدهم يستعملونه على مستويين: مستوى يحصر أهل الحل والعقد في (علماء الشريعة) وبالتالي تكون شورى التولية خاصة بعلماء الشريعة، فهذا طرح تخصيصي لمفهوم أهل الحل والعقد.

ومستوى يعمم أهل الحل والعقد على الرموز المتبوعين في المجتمع، أي رموز القوى المجتمعية، وبالتالي يجعل أهل الحل والعقد أقرب إلى كونهم (هيئة تمثيلية) تنوب عن المجتمع وتعبر عن إرادته، فاستعمال مصطلح أهل الحل والعقد بهذا الاعتبار لا يعارض تعميم شورى التولية.

والذي رأيته في كلام كثير من المحققين من أهل العلم هو استعمال مفهوم أهل الحل والعقد بالمعنى التمثيلي لا بالمعنى التخصيصي، ويصبح معنى أهل الحل والعقد بهذا الاعتبار لا يعارض تعميم الشورى، وسنحاول استعراض شئ من المعطيات التي تقود لهذا الترجيح.

ومما ينبغي وضعه في الاعتبار أن التركيبة الاجتماعية في تاريخنا الإسلامي لم تكن تشابه بنية المجتمع اليوم، فقد كان الناس في التاريخ الإسلامي يتوزعون داخل دوائر مجتمعية أصغر لها من يمثلها، كرؤساء القبائل، ووجهاء البلدان، والعلماء، ونحوهم، وهذه الصيغة في تكوين المجتمع كان أهل الجزيرة العربية يعرفونها إلى وقت قريب قبل أن تتعقد الحياة المعاصرة وتتفكك الصيغ القديمة لصالح صيغ جديدة تدفعها متطلبات السلطة في الدولة الحديثة، ويساعدها على ذلك ثورة نظم الاتصالات الحديثة، وبالتالي فقد فكانت إرادة المجتمع المسلم في ذاك الوقت مكثفة في ممثليهم، فاختيار الممثلين يعبر عن رضا أكثرية الأمة.

ولذلك فإن الذي يظهر هو أن “أهل الحل والعقد” ليس تخصيصاً للشورى وافتئاتاً على حق بقية الأمة، بل هو أقرب لكونه مفهوم تمثيلي في ظل ظروف يستحيل فيها إجراء الاتصال الدقيق بالأفراد، فأهل الحل والعقد) كان هو أقرب نموذج سياسي يتيح إمكانية معرفة ما ترضاه الأغلبية.

ومن الإشكاليات التي تعترض مفهوم أهل والعقد كونه مفهوم حادث، ولم يرد في نصوص القرآن والسنة، ولا في آثار الصحابة والتابعين، وقد فتشت مدةً طويلة في كتب السنن والآثار والتفاسير المسندة عن وجود هذا المفهوم فلم أجده، وأول استعمال وجدته لهذا المفهوم في القرن الثالث ثم شاع بسرعة عجيبة، فليت من يجد استعمالاً لهذا المصطلح في النصوص أو آثار الصحابة يفيدني، وعدم وجود هذا المفهوم في القرآن والسنة وآثار الصحابة لا يدل على بطلانه طبعاً، وإنما عدم وجوده يعني أنه (يستدل له) لا أنه (يستدل به)، فقد يكون مفهوماً سبكه بعض أهل العلم لاستخلاص معاني نصوص معينة، لكني لم أجد هذا المفهوم بنصه، ولم أجد أدلةً عليه (بمعناه التخصيصي)، وإنما وجدت في النصوص نقيض هذا المفهوم (بمعناه التخصيصي) حيث وجدت نصوص وآثار الشورى تدل على تعميم الشورى في المسلمين.

ومما يتعلق بهذا المفهوم، إشكالية تفسيره، فإنني –كما سبق- رأيت عدداً من أهل العلم لا يحصر معنى أهل الحل والعقد في العلماء، بل يفسر أهل الحل والعقد بمعنى أقرب إلى (رموز القوى المجتمعية) أي من يعبرون عن إرادة الأغلبية، ومن ذلك يقول النووي:

(الأصح أن المعتبر بيعة “أهل الحل والعقد” من العلماء، والرؤساء، وسائر وجوه الناس، الذين يتيسر حضورهم)[روضة الطالبين:10/43] وقال النووي أيضاً: (أهل الحل والعقد: من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس، الذين يتيسر اجتماعهم)[المنهاج:292]

 

فلاحظ أولاً: كيف لم يجعل أهل الحل والعقد خاصاً بالعلماء. ولاحظ ثانياً: كيف جعل أهل الحل والعقد هم الناس الذين تدور عليهم القوى السياسية في المجتمع. ولاحظ ثالثاً: كيف ربط الأمر بـ”تيسر الحضور والاجتماع” مما يشير مجدداً إلى تأثير معطى الاتصالات في صيغة تنفيذ الشورى تاريخياً.

وقال الهيتمي في توضيح عبارة النووي (الذين يتيسر اجتماعهم: حالة البيعة، بأن لم يكن فيه كلفة عرفاً فيما يظهر، لأن الأمر ينتظم بهم، ويتبعهم سائر الناس)[تحفة المحتاج:9/76].

فإشارة الهيتمي إلى “الكلفة في الاجتماع” تزيد من دلالة تأثير عقبة الاتصالات في إجراء الشورى تاريخياً.

وفي تفسير مقارب لما سبق يؤكد بعض أهل العلم على أن (أهل الحل والعقد) هم (أهل الشوكة)، وهذا تفسير حاسم، لأنه يؤكد أن أهل الحل والعقد هم الذين تدور عليهم القوة السياسية في المجتمع، وليس خاصاً بالعلماء، كما يقول الهيتمي:

(أهل الشوكة الذين هم أهل الحل والعقد)[تحفة المحتاج:7/261]

ومن المعالجات التي أشارت إلى أن مفهوم (أهل الحل والعقد) هو مفهوم تمثيلي لا تخصيصي قول ابن تيمية (الإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم)[منهاج السنة:1/527].

فقول ابن تيمية “إلا ان تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم” هي النقطة الرئيسية التي تقدح في ذهن الباحث فكرة أن أهل الحل والعقد مفهوم تمثيلي، فابن تيمية ينص صراحةً هاهنا أن إرادة الخاصة لا تصح إلا إذا كانت تقتضي موافقة غيرهم من الأمة، وهذا عين المفهوم التمثيلي النيابي.

وقد لاحظت أن الإمام ابن تيمية لم يركز على مصطلح (أهل الحل والعقد)، بل كان يركز في الانعقاد على مفهوم (أهل الشوكة) وفي الاستحقاق على مفهوم (الأكثرية)، ولذلك لما استعرض أقوال أهل الكلام في انعقاد الإمامة، وأنها تنعقد بعدد يسير من أهل الحل والعقد، نقضها جميعاً، وقال أنها ليست من أقوال أهل السنة، وقال:

(وإن كان بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة السلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما)[منهاج السنة:1/526]

وعندما استعرض بيعة علي قال ابن تيمية (ولهذا لما بويع علي – رضي الله عنه- وصار معه شوكة صار إماماً)[منهاج السنة:1/527].

وهكذا أشار ابن تيمية لبيعة أبي بكر وعمر -كما تقدم- أنها انعقدت بمبايعة جمهور الصحابة، وأشار في بيعة عثمان إلى شورى العذارى في خدورهن، كما سبق نقله.

ومما يؤيد أن ابن تيمية ينحو هذا المعنى هو توسعه في مفهوم (أولي الأمر) حتى جعلهم كل رمز متبوع في المجتمع، يقول ابن تيمية:

(قوله “ما استقامت لكم أئمتكم” ويدخل فيهم، الملوك، والمشايخ، وأهل الديوان. وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر)[الفتاوى:28/170].

ويقول ابن تيمية أيضاً:

(وولاة الأمور من العلماء والمشايخ والملوك والأمراء لهم حقوق كل بحسبه فيما أمر الله به ورسوله)[مختصر المصرية:596].

ويقول ابن تيمية أيضاً:

(ومن سوى الرسول من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة لله)[الفتاوى:10/266].

ويقول ابن تيمية أيضاً:

(فمن كان من المطاعين: من العلماء، والمشايخ، والأمراء، والملوك، متبعاً للرسل، أمر بما أمروا به، ودعا إلى ما دعوا إليه؛ فإن الله يحب ذلك)[الفتاوى:14/328].

ولا أعرف موضعاً واحداً قال فيه ابن تيمية أن شورى التولية خاصة بأهل الحل والعقد، بمعناه التخصيصي لا التمثيلي، الذين هم العلماء فقط، ومن كان يعرف شيئاً من ذلك فسأشكر له إفادته، وإنما الذي وجدته عند ابن تيمية أنه إذا تكلم عن الانعقاد ربطها بالشوكة، وإذا تكلم عن الاستحقاق والأولوية ربطها بالجمهور. هذا الذي أعلمه عنه رحمه الله، والله أعلم.

وهناك من أهل العلم من يوسِّع مفهوم أهل الحل والعقد جداً، حتى يكاد يجعلهم كل المسلمين المؤهلين للمشاركة في الانتخاب، ومن هؤلاء الدسوقي المالكي في حاشيته حيث يقول:

(وأما بيعة “أهل الحل والعقد” وهم: من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي)[حاشية الدسوقي:4/298].

وقريب من هذا قول بعض الحنابلة الذين وسعوا أهل الحل والعقد خارج العلماء لكنهم اشترطوا في من له حق التصويت شروط :الشهود” كالعدالة ونحوها، كما يقول البهوتي:

(بيعة أهل الحل والعقد، من العلماء ووجوه الناس، الذين بصفة الشهود، من العدالة وغيرها، ولا نظر لمن عدا هؤلاء، لأنهم كالهوام)[كشاف القناع:6/159].

ومن المعاصرين من أكد على كون أهل الحل والعقد مفهوم تمثيلي، وليس تخصيصاً للعلماء، كما يقول ابن عثيمين (أهل الحل والعقد: يعني وجهاء البلاد، وشرفاء البلاد، وأعيان البلاد)[14/396].

 

ومما يؤكد أن هذا المفهوم (أهل الحل والعقد) مفهوم تمثيلي لا تخصيصي، أننا لو قلنا أن أهل الحل والعقد هم العلماء والوجهاء ورموز القوى المجتمعية، فالسؤال الذي سيلي هذا التقرير هو: ومن الذي سيحدد أهل الحل والعقد؟ والجواب المعقول هاهنا أن يقال: أهل الحل والعقد يختارهم المجتمع المسلم. بما يعني أنهم صاروا (هيئة تمثيلية) فهم أشبه بنواب، وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فهذا يعني أن الشورى عامة، سواءً كانت مباشرة لأفراد الأمة، أم عبر ممثلي الأمة.

-الانتخاب حق أم واجب؟

تختلف النظم السياسية المعاصرة في هذه المسألة، فبعض النظم تعتبر الانتخاب مجرد “حق” للمواطن إن شاء استعمله وإن شاء تركه (أغلب الدول المعاصرة)، وبعض النظم تعتبر الانتخاب “واجب”، فإذا لم يحضر المؤهل للانتخاب في مراكز الاقتراع فإنه يصبح معرضاً للمساءلة القانونية التي يترتب عليها إجراء تأديبي: إما غرامة مالية أو المطالبة بأداء خدمة اجتماعية معينة، وإذا لم تدفع الغرامة أو تنفذ الخدمة فقد تصل العقوبة للسجن. وممن يأخذ بنظام التصويت الإجباري (25) دولة معاصرة منها: استراليا وسنغافورة والبرازيل والأرجنتين وغيرها. وثمة جدل واسع بين مؤيدي الاقتراع الاجباري ومؤيدي الاقتراع الاختياري، وكل يدلي بحجج ومبررات.

حسناً .. ما موقف السياسة الشرعية من ذلك؟ الذي يظهر لي راجحاً أن الشورى في الشريعة حق لا واجب، واستعمال هذا الحق بأحد طريقين: إما بالإدلاء بالاختيار، أو بإقرار النتائج، أما أن يكون واجباً فهذا بعيد، فلا يجوز إلزام الناس على المشاركة بالتعزيرات، ومن رأى جواز الإلزام باعتبار المصلحة المرسلة ففيه نظر. والله أعلم.

-التمييز بين ولاية المرأة، ومشاركة المرأة في الشورى والاختيار:

القول الراجح هو مشروعية مشاركة المرأة في الشورى والاختيار والبيعة، وعدم مشروعية أن تلي المرأة ولاية عامة على الرجال، ويدل على ذلك عدة شواهد، منها:

أن الذي وجدناه في مقام (الولاية والإمامة) أن الشارع قيده بالذكورة كما في حديث (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)[البخاري:4425]. ووقع إجماع المسلمين على هذا المعنى حتى قال ابن حزم (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة)[الفصل:4/179].

لكن مقام (الشورى والاختيار والبيعة) فإن عموماته محفوظة، فكلها جاءت النصوص فيها عامة بلفظ “المسلمين والناس”، ولم نجد الشارع خصص الشورى والاختيار والبيعة بالذكورة، فلذلك فإننا لا نقوى على القول بالتخصيص، ومن ادعى من أهل العلم أن المرأة ليس لها مدخل في الشورى والاختيار والبيعة فعليه الدليل، مع احترامنا وتوقيرنا لاجتهاده، وأنه قول معتبر، والخلاف فيها اجتهادي.

كما يؤيد القول بمشروعية مشاركة المرأة في (الشورى والانتخاب والبيعة) أن الله تعالى أدخل النساء في البيعة فقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ)[الممتحنة:12] وما يسميه أهل السير (بيعة النساء) إنما هي بيعة شاملة، فيدخل فيها مبايعة النبي على الإيمان والطاعة في التشريع والسياسة وغيرها، وليست بيعة خاصة ببعض أركان الدين، ومن ادعى أنها بيعة خاصة بالطاعة التشريعية، ولا تدخل الطاعة السياسية فيها فعليه الدليل، لأن السياسة من الدين، والدين كلٌ لا يتجزأ.

ولذلك فقد عقد الإمام البخاري عدة أبواب للبيعة السياسية، ساقها كالتالي (باب كيف يبايع الإمام الناس، باب من بايع مرتين، باب بيعة الأعراب، باب بيعة الصغير، باب من بايع ثم استقال البيعة، باب بيعة النساء) وساق في بيعة النساء ثلاثة أحاديث، فلو لم يكن البخاري يرى أن للنساء مدخل في البيعة لما عقد هذا الباب، وجعله مع أبواب البيعة السياسية.

ومما يستأنس به في تأييد ذلك ما جاء في بعض الآثار، حيث يقول ابن تيمية (فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان، ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام، وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهن)[منهاج السنة:6/350].

ويقول ابن كثير في تاريخه (ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها،)[البداية والنهاية:7/164].

فأهل العلم ينقلون خبر إدخال عبدالرحمن بن عوف للنساء في الشورى، ولم ينكروا المتن، مما دل على استقامة معناه عندهم، ولو كان إدخال النساء في الشورى ممنوع شرعاً لا ستنكروا هذا الأثر من أصله، ولم يوردوه في بيان شدة تعميم عبدالرحمن بن عوف للشورى، فبغض النظر عن سند الأثر فإن إقرار أهل العلم لمعناه قرينة لا يمكن تجاهلها.

ومما يؤيد إدخال المرأة في (الشورى والاختيار والبيعة) قبول النبي لمشورة أم سلمة في شأن عام، لا مجرد شأن خاص في بيته، وذلك في صلح الحديبية، حيث جاء البخاري:

(فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه “قوموا فانحروا ثم احلقوا” ، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا)[البخاري:2731].

وقد يقول بعضهم أن تصرفات الشارع دلّت على أن النساء لا مدخل لهن في الشؤون العامة، فهذا هو الذي يخصص عمومات الشورى، والجواب: أن هذا غير دقيق، فقد أدخل النبي المرأة في شؤون عامة، ومنها أن أم هانئ أجارت رجلاً من المشركين، فأراد علي بن أبي طالب (شقيق أم هانئ) أن يقتله، فدخلت أم هانئ على رسول الله، كما في البخاري عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت:

(ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، فقال “من هذه؟”، فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال “مرحبا بأم هانئ” فقلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ”)[البخاري:3171].

وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله (باب أمان النساء وجوارهن)

فهذا شأن عسكري عام، ومع ذلك قبل رسول الله تدخل أم هانئ فيه، وإجارتها رجلاً من الأعداء.

ولكن يبقى مناط هام في المسألة، وهو أن التغريبيين يستغلون مثل هذه الأحكام الشرعية لا لتحقيق مصالح المجتمع المسلم، وإنما لتغريب المرأة المسلمة، وتطبيع اختلاطها بالرجال، وتصدير النساء في مجامع الرجال، وكسر حجاب الحشمة وحاجز الفضيلة، فينبغي تقرير هذه المسائل بحنكة الفقيه الذي يراعي الواقع، ويراعي تنزيل النصوص على الصورة الصحيحة، ولا يكون الفقيه مغفلاً وأداةً بيد التغريبيين.

كما يلاحظ القارئ كيف أن استغفال التغريبيين لبعض المتفقهة، واستدراجهم لبعض الفتاوى لاستغلالها في تغريب الفتاة المسلمة؛ هو الذي تسبب في تحسس الناس، وارتيابهم في كثيرٍ من القرارات التي تقف خلفها جهات معينة عرفت بذلك، فانظر كيف أن المكر التغريبي هو الذي أضاع على المسلمين مصالحهم ووتّر الأجواء.

-التمييز بين (الانعقاد) و (الاستحقاق):

يخلط كثير من الناس في كلام أهل العلم الذي يذكرونه في موضوع التغلب، فيظن أهل العلم يشرعون التغلب ابتداءً، وأنه هو الصورة المشروعة.

كما يخلط آخرون في موضوع (شورى أهل الحل والعقد) أو (أهل الشوكة) فيظن أهل العلم يحصرون الشورى في طائفة معينة من الأمة.

وهذان التصوران الخاطئان من أحسن ما يوضحهما هو قاعدة (التمييز بين الانعقاد والاستحقاق)، أي انعقاد الولاية، واستحقاق الولاية.

فالانعقاد أقل من الاستحقاق، والاستحقاق يشمل الانعقاد وزيادة، والاستحقاق هو الصورة الأكمل في السياسة الشرعية، وهو الصورة الشرعية للولاية.

والاستحقاق اعتبروا فيه شورى (جميع أو أغلب) المسلمين، ولم يجعلوا الشورى فيه خاصة بطائفة معينة من الأمة، كما لم يجعلوا التغلب من مصادر الاستحقاق.

وسأنقل نصاً ثميناً لابن تيمية يوضح هذه المسألة، يقول ابن تيمية:

(الإجماع على الإمامة: إن أريد به الإجماع الذي “ينعقد” به الإمامة، فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة، حتى إذا كان رءوس الشوكة عدداً قليلاً، ومن سواهم موافق لهم؛ حصلت الإمامة بمبايعتهم له، هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره..، وإن أريد به الإجماع على “الاستحقاق والأولوية” فهذا يعتبر فيه إما الجميع وإما الجمهور)[منهاج السنة:8/356]

يا لله العجب، ما أبدع هذا التحليل الفقهي، وكم تثيرني إمكانيات ابن تيمية في فرز الصور ونحت المفاهيم التي تستوعب خلاصة توازنات النصوص الشرعية، فبالله عليك لاحظ في هذا النص الذهبي كيف فرق بين (الانعقاد) وبين (الاستحقاق والأولوية)، وجعل الاستحقاق يعتبر فيه شورى الجميع أو الأغلبية، ولم يجعل الشوكة استحقاقاً.

فإذا حصل أن اختار جميع المسلمين أو أكثريتهم (مرشحاً) صار هو المستحق، وانعقدت له الولاية، فجمع (الانعقاد والاستحقاق) سوياً، أما إذا اختار أهل الشوكة (متغلباً) ولكن جمهور المسلمين لا يرضونه، لكن لا شوكة لهم، انعقدت الولاية للمتغلب، ووجب له الطاعة بالمعروف، وحرم الخروج عليه، لكنه غير مستحق لها، وهي محرمة عليه، والإثم فيها عليه.

والتفريق بين (الانعقاد) و (الاستحقاق) هو عينه تفريق أهل العلم بين (ولاية الاضطرار) و (ولاية الاختيار)، ولكنه أضاف له عناصر أخرى، وهي ربطه بين الاستحقاق والأغلبية.

وهذه القاعدة العظيمة تثمر للباحث أمرين: الأول هو أن الأصل في الشورى أن تكون عامة في المسلمين أو جمهورهم، كما قال ابن تيمية (وإن أريد به الإجماع على “الاستحقاق والأولوية” فهذا يعتبر فيه إما الجميع وإما الجمهور)[منهاج السنة:8/356].

والأمر الثاني التمييز في الأنظمة غير المشروعة بين الإنشاء والمشاركة، وسنوضح هذا في فقرة قادمة.

-التمييز بين شورى التولية وشورى التدبير:

قابلت كثيراً من المعنيين بالتغيير السياسي، وكنت إذا قلت لهم: (الشريعة قررت الشورى في اختيار ولي الأمر) قالوا لي فوراً: (ولكن الشورى عند الفقهاء فيها خلاف هل هي معلمة أم ملزمة؟ فما فائدة الشورى إذن؟).

ثم رأيت عدداً من الفضلاء يحاول إقناع المتطلعين السياسيين بالحماس والمبالغة في إثبات أن الشورى ملزمة، ويحاول أن ينتقص من قول الفقهاء الذين تبنوا أن الشورى معلمة لا ملزمة، إمعاناً في إثبات لزومية الشورى، ورغبة في استمالة الديمقراطيين.

والحقيقة المؤلمة أن كلا الفريقين لم يفهم موضع خلاف الفقهاء، ولا في أي دائرة يتحرك هؤلاء الفقهاء، ولا أخفي القارئ أنني أشعر بطرافة الموقف دوماً حين أرى الانفعال في مناقشة مسألة (الشورى معلمة أم ملزمة) برغم أن هذه المسألة لا صلة لها أصلاً بالمسألة التي تعنيهم.

وحقيقة الأمر أن الفقهاء يفرقون بين (شورى التولية) و (شورى التدبير)، فأما شورى التولية وهي التي يحصل فيها اختيار المسلمين ورضاهم لإمام بعينه، فهذه لم ينبس فقيه واحد بكونها معلمة، وليست هذه هي التي تكلموا فيها، بل إن الفقهاء يتغالون بتشديد التحريم في مخالفتها، بل ويعتبرون مخالفتها خروج ومعصية عن بيعة المسلمين ورضاهم، بل جاءت أحاديث ليس بتحريم مخالفة شورى التولية فقط، بل وصل الأمر إلى “قتل” من يخالف شورى التولية، ومن ذلك ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما)[مسلم:1854]

وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)[مسلم:1844].

فانظر إلى حزم الشريعة في (شورى التولية) فليس يحرم فقط مخالفتها، بل يصل الأمر لقتل من يخالف بيعة المسلمين ورضاهم واختيارهم، ولا يخالف في التشديد في ذلك أحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا أعرف فقيهاً، بل ولا نصف فقيه، قال أن شورى التولية معلمة لا ملزمة، هذا كله من تصورات بعض المعاصرين السطحية، فليس في شورى التولية خلاف، ولا حاجة للحماس لإثبات اللزوم في خلاف الفقهاء في الشورى، لأنهم لا يتحدثون عن (شورى التولية) أصلاً.

وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان)[مسلم:1852]

وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه)[مسلم:1852]

وهذه الصورة في غاية الوضوح في النصوص الشرعية، وهي احترام اختيار المسلمين بحسب الترتيب الزمني، ولذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (“سيكون خلفاء فيكثرون” قالوا: فما تأمرنا؟ قال: “فوا ببيعة الأول فالأول”)[البخاري:3455].

وقد تواطأ أهل العلم على نقل الإجماع على ذلك، فمن ذلك قول ابن حزم (وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته)[الفصل:4/127].

هذا هو المستوى الأول للشورى، وهو (شورى التولية) الذي لم يختلف الفقهاء في التغليظ في شأنه، وجاءت النصوص بالأمر بقتل من يشق اختيار المسلمين وشوراهم ورضاهم، وجعلت الأولوية للترتيب الزمني في ثبوت الاختيار والرضا.

وأما المستوى الثاني للشورى فهو (شورى التدبير) وهو أنه إذا ثبتت الإمامة واستقرت واختار المسلمون إماماً لهم، فهل يلزم هذا الإمام المختار، في تدبيره لشؤون الولاية؛ أن يأخذ بحصيلة مشاورة الناس، أم يشاور الناس ويختار من آرائهم؟ هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، فاختار بعض الفقهاء أن شورى التدبير (ملزمة) ونقل أقوالهم القرطبي في تفسير آل عمران (آية159) واحتجوا بعمومات نصوص الأمر بالشورى، وذهب الفريق الثاني، وهم جمهور أهل العلم أن شورى التدبير (معلمة)، واحتجوا بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- خالف رأي الأكثرية يوم الحديبية، وأن أبابكر خالف رأي الأكثرية في إنفاذ جيش أسامة، وأن عمر خالف رأي الجيش في تقسيم أرض السواد.

وحاول شيخ الإسلام ابن تيمية أن يتوسط بين القولين في شورى التدبير، ففرق بين ما ظهر فيه النص بعد الشورى، وما لم يظهر، فقال في كتابه السياسة الشرعية:

(وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك..، وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)[السياسة الشرعية:126].

مع التنبيه طبعاً إلى أن الفقهاء يفرقون بين وجوب الشورى ولزومها، ويحتاج هذا تحرير أقوالهم، فبعضهم يرى الوجوب لا اللزوم، فنسب قوله بالوجوب إلى اللزوم، وهذا خطأ.

والذي يظهر لي –والله تعالى أعلم- أن تحقيق القول في شورى التدبير هل هي معلمة أم ملزمة؟ أنها منوطة بالشروط الجعلية في الإمامة، لأن الإمامة عقد، وإعلام شورى التدبير وإلزامها مفوض للأمة، فإن اختارت الإمام وبايعته بيعة مطلقة ولم تقيد تصرفاته فالشورى معلمة لأنه اختيار الأمة، وإن قيدت تصرفاته فاشترطت عليه مثلاً أن يشاور الأمة، أو ممثليها، في قرارات الحرب والصلح وصفقات الاستيراد الكبرى ونحوها، فإن إمامته تتقيد بذلك، وتصبح الشورى هاهنا ملزمة، لأن عقد الإمامة تقيد بها، ولا يظهر لي أن الشارع حسم القول في الشورى هل هي ملزمة أم معلمة، بل وكل ذلك وفوضه لاختيار الأمة.

على أية حال .. المهم هاهنا فرز صور المسائل، وكشف الالتباس الذي وقع فيه كثير من المعاصرين، حين حملوا الخلاف في الشورى (هل هي معلمة أم ملزمة) على شورى التولية، وحمّلوا الفقهاء آراء لم تخطر ببالهم، وسبب الخلل في ظني أن أهل العلم يقل استعمالهم لمصطلح الشورى إذا تعرضوا لموضوع التولية والإمامة، ويكثرون استعمال ألفاظ البيعة والاختيار والانعقاد ونحوها، بينما يكثرون من استعمال لفظ الشورى إذا تعرضوا لشورى التدبير، بينما المعاصرون فبمجرد أن يسمعوا كلمة الشورى فلا يخطر ببالهم إلا شورى التولية، بسبب كثرة استعمالها في هذا المقام الذي استجلبه المقارنة مع النظام الديمقراطي، فبسبب اختلاف الاستعمال، صار كثير من المعاصرين يحمل خلاف الفقهاء في شورى التدبير على شورى التولية، ولا يسبق لأذهانهم إلا شورى التولية التي يعرفونها ويتداولونها بكثرة.

على أن مسألة شورى التدبير ليست ذات خطر كبير، لأن الجرح النازف في واقع المسلمين السياسي هو (شورى التولية)، وهو الذي إذا صلح صلح ما بعده بإذن الله، ومما هو لصيق الصلة بذلك أن الرئيس في النظم الرئاسية الديمقراطية المعاصرة يمتلك صلاحيات واسعة، ولا يلتزم بمشاورة مؤسسات الدولة في كثير من الأمور، بخلاف الرئيس في النظم البرلمانية فإن صلاحياته أكثر تقييداً.

-لا شورى في المنصوص:

من أصول السياسة الشرعية أنه لا تصويت ولا تخيير في الأحكام المنصوصة، وقد تتابع أهل العلم على تأكيد ذلك، قال الجصاص الحنفي:

(لا بد من أن تكون مشاورة النبي -صلى الله عليه وسلم- إياهم فيما لا نص فيه، إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات، ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان؟)[تفسير الجصاص:2/330].

وقال الإمام ابن عطية المالكي:

 (ومشاورته -عليه السلام- إنما هي في أمور الحروب والبعوث، ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع)[المحرر الوجيز:1/435].

وقال الرازي الشافعي:

(المسألة الثالثة: اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس)[مفاتيح الغيب:9/409].

فيكون مجال الشورى هو أولاً وقبل كل شيء (انتخاب رئيس الدولة المسلمة) ثم يعين في عقد البيعة، أو تفوض الأمة ممثليها لرسم حدود ومجالات شورى التدبير، وما هي صلاحيات الرئيس المفوضة، وصلاحيات الرئيس المقيدة بشورى الأمة أو ممثليها، كالقرارات المصيرية في الحرب والصلح وإدارة الاقتصاد ونحوها.

-الصيغ غير الشرعية للولاية:

ذكرت النصوص والآثار الشرعية عدة طرق محرمة للولاية، وقد تدبرت النصوص والآثار –قدر طاقتي- وظهر لي منها سبعة أنواع، وقد يظهر لغيري من الباحثين أنواع أخرى، وهذه الطرق السبعة المحرمة التي ذكرتها النصوص والآثار هي: الاستبداد، الأثرة، التأمّر(التغلب)، الهرقلية (التوريث)، الملكية الجبرية، الملك العضوض، غصب الأمر. وسنشير لها باختصار فيما يلي:

-الاستبداد:

في الصحيح أن علي بن أبي طالب قال (لكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصيبا)[البخاري:4240] مما يدل أن الاستبداد في الولاية قد استقر عند الصحابة منعه.

وقال ابو المظفر السمعاني في تفسيره في التعليق على آية الشورى (وذلك دليل على اتفاق الكلمة، وترك الاستبداد)[تفسير السمعاني: الشورى/38].

وقال القرطبي في المال الخاص الذي آل إلى المال العام لموجب شرعي (ينفق بالعدل لا بالاستيثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر)[تفسير القرطبي: الكهف/95].

والمراد أن اصطلاح “الاستبداد” مصطلح تراثي معروف، استعمله الصحابة في موضع الذم، وتبعهم أهل العلم على ذمه.

-الهرقلية:

الهرقلية هو اصطلاح استعمله الصحابة على سبيل الاستعارة لوصف (التوريث السياسي) أي انتقال السلطة بالوراثة، لا ببيعة المسلمين ورضاهم، وأكد الصحابة تحريم الصيغة الهرقلية (التوريث)، ففي الصحيح أن مروان كان أميراً على المدينة وأنه خطب فيهم ليأخذ البيعة ليزيد بن معاوية، فرد عليه الصحابة، روى البخاري قال (كان مروان على الحجاز فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً)[البخاري:4827].

والشيء الذي قاله عبدالرحمن أفصحت عنه الروايات الأخرى، حيث يقول ابن حجر:

 (والذي في رواية الإسماعيلي فقال عبد الرحمن: “ما هي إلا هرقلية..، وقال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر”. وفي رواية ابن المنذر قال عبدالرحمن: “أجئتم بها هرقلية، تبايعون لأبنائكم”)[فتح الباري:ح4827].

 

وجاء في بعض كتب التاريخ أن عبد الرحمن بن أبي بكر عارض التوريث بالشورى، كما يقول خليفة (فقال عبدالرحمن بن أبي بكر: والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لانفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين، أو لنعيدنها عليك جذعة)[تاريخ خليفة بن خياط:214، تاريخ الإسلام للذهبي: 4/149].

وممن نص على التقابل بين التوريث والشورى الإمام الحسن البصري، وهو أحد أركان التابعين الأربعة، كما يقول ابن تيمية (سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح؛ وهؤلاء الأربعة أركان التابعين)[بيان الدليل:101].

فالحسن البصري هو أحد أركان التابعين الأربعة، وقد علق على ظاهرة الهرقلية وقابل فيها بين التوريث والشورى، حيث يقول الحسن البصري (فمن أجل ذلك بايع هؤلاء أبناءهم، ولولا ذلك لكانت شورى بين المسلمين إلى يوم القيامة)[البداية والنهاية:11/650].

 

ونقل ابن حزم الإجماع على منع (التوريث السياسي)، حيث يقول (فلا يجوز التوارث في الإمامة..، ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها)[ابن حزم، الفصل:5/12].

ولابن حزم عبارة طريفة حول توريث المناصب يقول فيها:

(وأما “المرتبة” فما جاء قط في الديانات أنها تورث، ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكاناً ما، إذا مات؛ وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه)[الفصل:4/155].

ورجح الإمام ابن تيمية المنع فقال (فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو صداقة، أو مرافقة في بلد أو مذهب؛ أو طريقة، أو جنس؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، فإن الرجل لحبه لولده، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته)[السياسة الشرعية:8].

وقال المحدث الفقيه الزاهد ابن رجب –رحمات الله عليه- في شرحه للبخاري:

 (والإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر “جئتم بها هرقلية، تبايعون لأبنائكم” ، وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على أن البيعة للأبناء سنة الروم وفارس، وأما سنّة المسلمين فهي البيعة لمن هو أفضل وأصلح للأمة)[فتح الباري:5/279].

وقد شرح ابن الجوزي معنى عبارة عبدالرحمن بن أبي بكر، حيث يقول ابن الجوزي (فقال عبد الرحمن “أهرقلية؟” أي: أتجرون على سنة هرقل، وهو قيصر، في إقامة الولد مقام الوالد في الملك)[كشف المشكل: 4/393].

 

وأما الجواب عن فعل معاوية –رضي الله عنه- في أخذ العهد لولده، فبكل اختصار: هو تأوُّل تأوَّله رضي الله عنه، لمصالح شرعية ظهرت له، وخالفه في هذا الاجتهاد عامة الصحابة، فنحن نختار قول بقية الصحابة ونترضى عن معاوية ونجتهد في التماس المعاذير له، جمعاً بين (نصوص الشورى، ونصوص فضل معاوية)، وتحقيقاً للتوازن بينهما، وهذه طريقة أهل السنة في الشغف بالجمع بين النصوص والعمل بها جميعاً، وهو المنهج العلمي الذي يختاره من يحترم العلم والموضوعية، وأما بعض الجهلة الذين خاضوا في عرض معاوية، إما لهوى سياسي في نفوسهم بسبب تشربهم الديمقراطية والليبرالية وسيادة الشعب والحرية الغربية الخ، أو بعض الفضلاء الذين أرادوا التزلف للديمقراطيين بلمز معاوية أو ثلبه في مسألة التوريث، طمعاً في استمالة الديمقراطيين، أو ليقول عنهم الديمقراطيون  “أنتم مهتمون بالإصلاح السياسي ماشاء الله عليكم”، فهؤلاء جميعاً مخطئون ومجانبون للمنهج العلمي والموضوعية البحثية، ووالله لغبار دخل في أنف فرس معاوية، في معركة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير من ملء الدنيا من الديمقراطيين.

– التأمُّر:

ذكرت النصوص التأمُّر في سياق الذم، وهو الذي سمّاه أهل العلم لاحقاً (التغلُّب) أو (القهر) أو (الاستيلاء) أو (الشوكة) أو (التسلُّط)، هذه الألفاظ ترد في كتب العقيدة والفقه وشروح الحديث والمعنى واحد، ففي السنن أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد)[البيهقي:20338، وذكر النووي وابن الملقن وابن القيم أن اللفظ عند الترمذي، ولم أجده بنفس اللفظ، فلعلها نسخةٌ عندهم].

وهذا السياق سياق ذم لولاية المتأمِّر/المتغلب، لأن العبد المملوك لا تصح ولايته، فلا تكون إلا بالتغلب، لذلك قال ابن علان الصديقي ( “وإن تأمر عليكم عبد” هو من باب ضرب المثل بغير الواقع على سبيل الفرض والتقدير، وإلا فهو لا تصح ولايته)[دليل الفالحين:2/417].

ولذلك كان أهل العلم ينزهون الخلفاء الراشدين عن “التغلب” لأنه مذموم شرعاً، كما يقول ابن تيمية (فلو قدر – والعياذ بالله – أن أبا بكر وعمر متغلبان متوثبان؛ لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة في المال؛ ليكفوا عن المنازعة في الولاية)[منهاج السنة:4/221].

 

وهذا “التأمر” سماه الأئمة لاحقاً (التغلب) كما قال الإمام الشافعي (والجمعة خلف كل إمام صلاها من أمير ومأمور ومتغلب على بلدة وغير أمير مجزئة)[الأم:1/221].  وقال الإمام أحمد في رواية عبدوس الشهيرة التي يتداولها الحنابلة (ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة).

ومن المصطلحات الرائجة بين أهل العلم تسميتهم إياه (القهر) فيقولون مثلاً “من قهر الناس بشوكته”. وسماه بعضهم (التسلّط) كما قال العلامة القاري في مرقاة المفاتيح: (له أهلية الخلافة، أو له التسلط والغلبة) وقال في موضع آخر (ما هو مشاهد في هذه الأيام، حيث استقرت الخلافة في أيدي الظلمة بطريق التسلط والغلبة).

-غصب الأمر: من الأوصاف غير الشرعية للولاية التي جاءت بها النصوص مفهوم (غصب الأمة حقها) ففي الصحيح أن بعض الناس قالوا (“لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا” فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم)[البخاري:6830]

فتعبير عمر –رضي الله عنه- بمصطلح “الغصب” تعبير دقيق، لأنه يعكس تجذر مفهوم “الحق” في الشورى، ثم إنه جعل الحق عاماً للمسلمين، ولم يخصصه بطائفةٍ بعينها.

-الأثرة: مما جاءت النصوص بذمه من صيغ الولاية “الأثرة” حيث جاء في الصحيح (عن أسيد بن حضير أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ قال: “ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض” )[البخاري:3792]

وهذا النص يفيد أن الأثرة تشمل المال والولاية، أي وقوع استئثار الظلمة بالمال والولايات، ومنعها عن مستحقيها.

-الملكية الجبرية والعضوضية:

جاء في هذا النوعين حديث حذيفة المشهور: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)[مسند أحمد:18406].

 

أما الجبرية فاختلف فيها، فقيل من الجبر والإكراه، وقيل من الجبروت والتعاظم، وأما العضوض فقال ابن الأثير ( “ملك عضوض” أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يُعضُّون فيه عضّاً)[النهاية:3/253].

هذا بالنسبة (للملك الجبري والملك العضوض) وهما أوصاف من أوصاف الملكية.

وأما بالنسبة لجنس (الملكية) هل هي مذمومة شرعاً مطلقاً؟ فالذي رأيته هو اختلاف الآثار في ذلك، فجاءت (الملكية) في نصوص كثيرة في سياق الذم، منها قوله تعالى (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا)[النمل:34]. وقوله تعالى (كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)[الكهف:79].

 

وفي الصحيح أن ذي عمرو قال لجرير (يا جرير إن بك علي كرامة، وإني مخبرك خبرا: إنكم معشر العرب، لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكا، يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوك)[البخاري:4359].

 

ومنها حديث سفينه الشهير في السنن (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك) وصححه الأئمة، وهو يوحي بذم الملك ومخالفته لسنن الخلافة على منهاج النبوة.

وتعليق الصحابي الجليل سفينة حيث قال له سعيد بن جهمان إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ فقال سفينة (كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك)[الترمذي:2226].

فهذه الآثار ونحوها تدل على ذم جنس مفهوم (الملكية)، وأما النصوص التي جاء فيها ذكر (الملكية) في سياق المشروعية فالحقيقة أن أكثرها دلالةً قوله تعالى:

(يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا)[المائدة:20]. ولو كان الملك مذموماً في جنسه لما كان نعمة يمتن بها على قوم موسى.

وقول الله (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)[النساء:54] ولو كان الملك مذموماً في جنسه لما كان نعمة يمتن بها على آل ابراهيم

وقول الله (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)[ص:35] ولو كان الملك مذموماً لما سأله نبي الله.

وقول الله (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[البقرة:246]. ولو كان الملك مذموماً لما سألوه نبيهم.

وقول الله (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)[البقرة:247]. ولو كان الملك مذموماً لما استجاب الله طلبهم.

 (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ)[يوسف:101] ولو كان الملك مذموماً لما كان محل شكر، فلا يشكر الله على معصية.

وجاءت أحاديث ذُكِر فيها الملك في سياق المشروعية أشهرها حديث (الملك والرحمة) وقد قال عنه الهيثمي أنه رجال ثقات، وللألباني بحث في السلسلة الصحيحة في تصحيحه، ولذلك كان ابن تيمية يرى أن معاوية ينطبق عليه حديث (الملك والرحمة) كما يقول ابن تيمية:

 (واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكاً ورحمة، كما جاء في الحديث “يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض”،  وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرا من ملك غيره)[الفتاوى:4/478].

حسناً ..كيف الجمع بين النصوص التي جاء فيها مفهوم (الملكية) في سياق الذم، والنصوص التي جاء فيها مفهوم (الملكية) في سياق المشروعية؟ الذي يظهر -والله أعلم- أن هذه المسألة تُرجع للمحكمات، فما كان ملكاً يحترم فيها اختيار الأمة ورضاها، ولا يغتصب أمرها، ويقام فيها بالعدل؛ فهو ملك مشروع، وما كان ملكاً يغتصب فيه رضا الأمة واختيارها ويتسلط عليها بالقهر والسيف والتغلب والاستيلاء، وتنهب حقوقها ويحكم فيها بالظلم والعسف؛ فهو ملك مذموم، والله أعلم.

هذه هي الصيغ السياسية السبعة التي رأيت النصوص الشرعية ذمتها فيما يتعلق بباب الولاية، وهي: الاستبداد، التأمر(التغلب)، غصب الأمر، الهرقلية(التوريث)، الأثرة، الملكية الجبرية، والملك العضوض. وإذا تدبر الباحث هذه الصيغ السياسية السبعة المذمومة شرعاً، وجد الجامع بينها، والخيط الرفيع الذي ينظمها؛ أنها كلها ضد (اختيار ورضا وشورى الأمة)، بما يعني أن النصوص والآثار لم تكتفِ بتأسيس قاعدة الشورى والاختيار والرضا، بل أضافت لذلك ذم كثير من أضداد الشورى والاختيار، إمعاناً في تأكيد المعنى الشرعي لقاعدة الشورى، وبضدها تتبين الأشياء، مع التنبيه طبعاً إلى أن هذه الصيغ السبع بينها تقارب لا يخفى وهو المضمون المشترك فيها الذي سبقت الإشارة إليه.

والنصوص الشرعية فرقت في حكم هذه الصيغ ابتداءً، وحكم التعامل معها إذا وقعت، كما سيأتي بيانه بإذن الله في آخر هذه الورقة.

-واجب الأمة في التقويم السياسي:

تعتبر كثير من النظم السياسية المعاصرة قضية (الرقابة والمحاسبة) حقاً للشعب، لكنها في (السياسة الشرعية) تتبوأ تكييفاً أعظم من ذلك، فما سماه الصحابة (تقويم الولاة) يعتبر في التكييف الفقهي (فرض كفاية) على الأمة، وليس مجرد (حق للشعب)، لأن التقويم السياسي (الذي يسمى في عصرنا الرقابة والمحاسبة) جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسأستعرض في ذلك بعض الشواهد:

خطب ابوبكر رضي الله عنه وقال (خطب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال : إني وليتكم ولست من أخيركم ، وإنما أنا بشر مثلكم، فإن أصبت فاحمدوا الله، وإن أخطأت فقوموني)[البزار:100].

قال ابن تيمية تعليقاً على المبدأ السياسي في خطبة أبي بكر هذه:

(وأما قول أبي بكر ” فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني”، فهذا من كمال عدله وتقواه، وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك، وواجب على الرعية أن تُعامل الأئمة بذلك، فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى، وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه، وإن تعمد ظلماً منعوه منه بحسب الإمكان)[منهاج السنة:8/272].

فلاحظ في هذا التحليل التيمي لخطبة أبي بكر أن ابن تيمية جعل (التقويم السياسي) واجب، وليس مجرد حق، فقال “واجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك”، ولاحظ أيضاً في هذا التحليل الفقهي قاعدة أهل السنة وهي (القدرة والإمكان) فربط منع الظلم بالإمكان.

وقال ابن داود، عبد الرحمن بن أبي بكر الحنبلي (ت856هـ) في كتابه المشهور الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(والمقصود أنه كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين، والصدع بالحق، وقلة المبالاة بسطوتهم، إيثاراً لإقامة حق الله سبحانه)[الكنز الأكبر:201-202].

وهناك نصوص هامة جداً للإمام أحمد في فقه الإنكار على الولاة، نقلها راوية علم الإمام أحمد، الحافظ ابو بكر الخلال (ت311ه) في رسالته الثمينة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ولا يسعني نقلها في هذا الملخص، وأكثر ما شدني في رسالة الخلال هذه -التي جمعت فتاوى أحمد في النهي عن المنكر- هو كراهية أحمد الشديدة لتأليب ولاة الجور على أصحاب المنكرات الخاصة، فقد نهى عن ذلك في وقائع متعددة، وسأحاول عرض هذه النصوص واستخلاص مبدأ أحمد منها في مناسبة أخرى بإذن الله.

وقبل أن نغادر هذه المسألة أظنه لا مناص من التنويه إلى أن مسألة الإنكار على الولاة مربوطة بالمصلحة والمفسدة، وليست المسألة مفتوحة للفوضى هكذا، بل يجب الموازنة بين هذا المعطى وبين بقية النصوص، وقد لخص الفقيه ابن عثيمين ذلك بقوله في مسألة “الإنكار العلني على الولاة” :

(إذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار علناً لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير، بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير)[الباب المفتوح:62]

وهذا التفصيل من الشيخ ابن عثيمين وربط الإنكار العلني على الولاة بالمصلحة والمفسدة، ومراعاة الحكمة وبعد النظر، من أحسن ما قرأت في هذا الباب، والله أعلم.

والمراد من ذلك كله تقرير مبدأ (واجب الأمة في التقويم السياسي) وهو الذي يسميه المعاصرون (مبدأ الرقابة والمحاسبة)، وفيه تفاصيل ليس هذا المختصر موضعها.

-حدود الطاعة السياسية:

اختلف أهل العلم في حدود الطاعة السياسية، على ثلاثة أقوال، القول الأول: أن ولاة العدل تجب طاعتهم، وولاة الجور لا تجب طاعتهم، قال العدوي المالكي (قال التتائي: ولا تجب طاعة ولاة الجور إلا لخوف القتال والنزاع فيطاع عند ذلك..، وأما الجائر الذي ليس بعادل فهذا لا تجب طاعته ولو في الجائز كما يستفاد من عبارة التتائي)[حاشية العدوي:1/122].

والقول الثاني: هو أن ولاة العدل والجور كلاهما تجب طاعتهم لكن بينهما فرق في مدى الطاعة لا في أصلها، وهو اختيار ابن تيمية وشرح ذلك في قوله (والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد)[الفتاوى:29:196].

والقول الثالث: أن طاعة الإمام لا يلتفت فيها إلى كونه عادلاً أو جائراً، بل يلتفت فيها إلى المأمور به نفسه، فإذا أمر بمعروف أو ما فيه مصلحة للمسلمين، فتجب طاعته، وإن أمر بمنكر أو ما فيه مفسدة للمسلمين، فلا تجب طاعته، ولا يلتفت إلى عدل الإمام ولا جوره، وهذا القول هو الراجح في نظري، لأنه هو الذي دلت عليه النصوص صراحة حيث أناطت الطاعة بالمعروف، وهي أحاديث كثيرة، ومنها قوله –صلى الله عليه وسلم- (إنما الطاعة في المعروف)[البخاري:7145] 

 

وأما القول الذي نقله العدوي عن قاضي قضاة الديار المصرية محمد بن ابراهيم التتائي المالكي (ت942هـ) فهو قول مرجوح بلا ريب لأنه خلاف النصوص التي ذكرت ولاة الجور صراحة وأمرت بطاعتهم بـ”المعروف”، ومن أحسن من جمع هذه الأحاديث في سياق واحد الإمام مسلم في صحيحه، وقد نقلت شطراً منها آنفاً، ولولا ذلك لتعطلت مصالح المسلمين لشيوع الجور نسأل الله العافية.

-وظيفة الدولة المسلمة:

لا يختلف فقهاء الإسلام أن وظيفة الدولة المسلمة في الأصل هي (إقامة الدين) كما قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)[الأنفال:39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)[البخاري:123].

وإقامة الدين تتضمن: هيمنة الشريعة، ونشر العدل، وحفظ حقوق الناس، وحماية كرامة المسلم، وحفظ الحريات الشرعية.

يقول الماوردي في مفتتح كتابه (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا)[الأحكام السلطانية:15].

ويوضح ابن خلدون خاصية الإلزام في وظيفة الدولة أثناء قيامها بتطبيق الشريعة حيث يقول:

(الخلافة: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي، في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة)[المقدمة:239].

ويوضح ابن تيمية علاقة الدين بالدنيا في السياسة الشرعية فيقول:

(المقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم)[السياسة الشرعية:21].

وتلاحظ هذا التطابق العجيب بين ابن خلدون وابن تيمية في التأكيد على وسيلية الدنيا وغائية الآخرة في وظيفة الدولة.

ويصل الشاطبي بالأمر إلى نهايته حيث يقول (فالشرف إذاً إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة)[الاعتصام:855]

فهيمنة الشريعة وتطبيقها (بمعناها الشامل) شديد الحضور في تفكير الفقهاء وهم يتحدثون عن السياسة الشرعية، ونصوص الفقهاء كثيرة في هذا الصدد، ولكني سأخرج الآن عن المدونة التراثية، وسأنقل نصاً لشاهدٍ من الخارج، فيه طرافة في كيفية قراءته لرؤية الفقهاء للدولة المسلمة، وهو المفكر الماركسي المعروف عبدالله العروي، حيث يقول في دراسته عن مفهوم الدولة:

(لنفتح كتاب ابن تيمية “السياسة الشرعية”، فأول ما يلفت نظرنا هو أن المؤلف لا يتكلم عن الخلافة، بقدر ما يهتم بشيء واحد، هو تطبيق الشرع، يعني بالدولة الإسلامية “دولة الشرع” ولا شيء سواها، إن الفقيه هو بالتعريف: من يتوق إلى تطبيق الشرع على الواقع)[مفهوم الدولة:101].

هذا المفكر الماركسي لم تخطيء عينه شدة حضور “تطبيق الشريعة” في تفكير فقهاء الإسلام، لكنه لا يعرف طبعاً لماذا؟ لأنه لم يوقر آيات الحكم بما أنزل الله حق توقيرها، والحمد لله على العافية.

حسناً .. ما سبق كان استعراضاً لبعض أحكام الدائرة السياسية المنصوصة، لنلقِ الآن نظرة على بعض أحكام الدائرة السياسية المفوضة، المنوطة بالشروط الجعلية في عقد البيعة، كما سبق بيان، فمن ذلك:

-اشتراط تأقيت الولاية أو إطلاقها:

 يجوز للأمة أن تبايع الإمام بيعة مطلقة زمنياً، فلا يوقفها إلا مانع شرعي كالكفر البواح، ويجوز للأمة أن تؤقت الولاية فتجعلها محدودة بسنوات معينة كخمس أو ست أو سبع ونحوها، وبالتالي تتيح تداول السلطة بين الأصلح من المرشحين، يقول الفقيه المعاصر ابن عثيمين رحمه الله:

(جعل الولاية مقيدة بسنوات، هذا طيب، حتى يُختبر ويُنظر، وكم من إنسان لا نظن أنه أهلاً فيكون أهلاً، وكم من إنسان يكون بالعكس، نظنه أهلاً ويكون غير أهل، نظن أن هذا الرجل ملتزماً، ونظنه يقوم بالواجب، فإذا به يعجز، يكون ضعيفاً فلا يستطيع أن يقوم بالواجب. وهذا ليس عقد إيجار، هذا ولاية، لكن يقدر بأربع سنوات أو ثلاث أو خمس، حسب ما تقتضيه المصلحة)[ابن عثيمين، شرح السياسة الشرعية، ص25، طبعة ابن حزم، والنص محذوف من طبعة المؤسسة لحساسيته، وأبقوا مسائل لا صلة لها بجوهر الكتاب كالتلقيح الصناعي]

وأكثر الباحثين في السياسة الشرعية يتوهم أن (تأقيت الولاية وتداول السلطة) مسألة محسومة إثباتاً أو نفياً، فبعضهم يتحمس لإثبات التأقيت والتداول، وبعضهم يتحمس لنفي التأقيت والتداول وإثبات الإطلاق الزمني، وكلا الرأيين مرجوح قطعاً، فالصواب أن مسألة (تأقيت الولاية وتداول السلطة) مفوضة للأمة تختار فيها ما يحقق المصلحة الراجحة، لأن الإمامة والولاية (عقد سياسي شرعي) والتأقيت والتداول مسألة سياسية إجرائية مندرجة تحت قاعدة (الشروط الجعلية في الولاية).

-العلاقة بين السلطات:

 هذه الإشكالية التي يعبر عنها كثيراً بـ”فصل السلطات” (Separation of Powers) هي غابة الإشكاليات في النظم السياسية المعاصرة، فالعلاقة بين السلطات (التشريعية-القضائية-التنفيذية) فيها صيغ كثيرة ومتنوعة، ففي العلاقة بين السلطتين (التنفيذية) و (التشريعية) قد تكون السلطة التنفيذية مستقلة عن السلطة التشريعية (بعض النظم الرئاسية)، وقد تكون السلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية (أغلب النظم البرلمانية)، وقد تكون السلطة التنفيذية خاضعة للسلطة التشريعية (نظام الجمعية في سويسرا).

وفي العلاقة بين السلطتين (التنفيذية) و (القضائية)، فهناك من يأخذ بآلية انتخاب القضاة (أمريكا) وهناك من يأخذ بآلية التعيين طبقاً لقانون يضمن الاستقلال (انجلترا).

وفي العلاقة بين السلطتين (التشريعية) و(القضائية) فبعض النظم تأخذ بفكرة جهاز سياسي مكلف بمراقبة دستورية التشريعات، وبعضها يكل المهمة إلى (الجهاز القضائي) إما بـ(طريقة رفع الدعوى) ضد التشريع بمخالفته الدستور فتقوم (المحكمة الدستورية) أو (المحكمة العليا)  بإلغاء التشريع، ولكن هذا النوع من سلطة القضاء على تشريعات البرلمان يواجه جدلاً واسعاً في المجال السياسي الغربي، إذ أن البرلمان يعتبر نفسه المعبر عن الإرادة الشعبية، فكيف يقوم القضاء بإلغاء تشريعاته؟! وهو ما حدى ببعض المفكرين الغربيين بتسمية هذه الظاهرة (حكومة القضاة)، حيث يرون فيها أنها تخالف مبدأ الفصل بين السلطات! وفي حالات أخرى تكتفي بعض النظم الديمقراطية بفكرة (الرقابة السلبية للقضاة) أي حق القاضي في الامتناع عن التنفيذ فقط، وتسمى (طريقة الدفع) فإذا احتج أحد المترافعين أمام القاضي بأن القانون الذي يحتكم إليه خصمه مخالف للدستور اكتفى القاضي بعدم تطبيق القانون محل الدعوى دون أن يقضي بإلغائه كلياً، فيصبح سارياً في غيره من الحالات مالم يعترض عليه مترافع آخر ويكون القاضي قد اقتنع بدعواه بعدم دستورية التشريع، وهذه الآلية تثير إشكالية فقد القانون عموميته على الناس فيصبح يطبق على البعض دون غيرهم بحسب قناعة القاضي بدستورية القانون!

ولذلك فبعض الدول الديمقراطية أخذت بفكرة سلطة القضاء في مراقبة دستورية القانون (أمريكا) وبعض الدول الديمقراطية منعت القضاة من الرقابة على دستورية القانون أخذا بمبدأ انفصال السلطة التشريعية عن القضائية (فرنسا).

هذه إشارات خاطفة للخلاف الواسع في تفسير وتطبيق مبدأ فصل السلطات، وهناك اتجاه ناقد لهذا المبدأ، يمكن للتوسع حول إشكالية فصل السلطات مراجعة الكتاب التالي:

Kaufman & Goldwin, Separation of powers: does it still work?

وخصوصاً الفصل الخامس منه، ففيه عروض نقدية هامة.

وفي السنوات الأخيرة صدر قانونان هامان في بريطانيا وهما: قانون الإصلاح الدستوري (2005م) وقانون حقوق الإنسان (1998م) وكان لهذين القانونين تأثيرات جوهرية على المفاهيم الدستورية البريطانية وخصوصاً على مفهوم فصل السلطات، حيث عدل هذان القانونان في علاقات السلطات في بريطانيا، وقد صدرت دراسة حديثة رصينة هذا العام (2011م) من مطبوعات كامبردج، تدرس هذه التغيرات في مفهوم فصل السلطات بعد صدور القانونين، وهي خاصة بالتغيرات في العلاقة بين السلطات، انظر:

Masterman, The Separation of Powers in the Contemporary Constitution

حسناً .. إزاء هذا الاختلاف الواسع في العلاقة بين السلطات، فصلاً ودمجاً، أو تعاوناً وتكاملاً، والاختلاف الواسع في تفسير وتطبيق مبدأ فصل السلطات وتركيز السلطات، فما هو التصور السياسي الإسلامي لذلك؟ الراجح قطعاً في هذه المسألة هو أنها موكولة لاختيار الأمة، لأنها مسألة إجرائية، والولاية عقد سياسي شرعي، خاضع للشروط الجعلية التي يشترطها المبايعون.

وبعض الناس يردد (فصل السلطات) وهو يجهل أصلاً الجدل الواسع في تفسير وتطبيق هذا المبدأ، فلا نثبت فصل السلطات بالإطلاق، ولا ننفي بإطلاق، ولا نعيّن صيغة معينة من هذه الصيغ؛ وإنما نكل الأمر للأمة في الدائرة الاجتهادية البشرية، ونستثني فقط ما وردت النصوص باستثنائه، مثل: استقلال القضاء بأيدي القضاة، واستقلال الشريعة فوق الجميع، والمرجع في فهمها أهل الذكر، كما نص على ذلك كتاب الله.

-انتخاب القضاة أم تعيينهم؟:

 الوسائل المعاصرة لاختيار القضاة متفاوتة، فمنها اختيار الناخب مباشرة كما في كثير من الولايات في أمريكا (إلا طبعاً قضاة المحكمة العليا فيعينهم الرئيس) وهذه الطريقة لها ميزة وهي استقلال قضاة الولايات عن السلطة التنفيذية، ولكن هذه الطريقة تواجه هذه انتقادين رئيسيين: خضوع القضاة لتأثيرات الأحزاب السياسية، وأن أفراد الشعب لا يميزون أهلية القاضي. والأسلوب الثاني هو أن تقوم هيئة تشريعية خاصة بفحص كفاءة القضاة واختيارهم، والأسلوب الثالث: هو أن تقوم السلطة التنفيذية باختيار القضاة، وتأخذ بهذه الطريقة أكثر النظم السياسية. وقد ناقش شيخ الدستوريين العرب د.سليمان الطماوي الانتقادات الموجهة لكل طريقة في كتاب مبكر (انظر: النظم السياسية والقانون الدستوري، الطماوي، ص274).

حسناً .. ما هو موقف النظام السياسي الإسلامي؟ وأي الوسائل تتبع؟ الموقف هو أن هذه مسألة “إجرائية”، والولاية عقد سياسي شرعي، فهي موكولة ومفوضة لاختيار الأمة (مباشرةً أو عبر ممثليها).

 

-طرق الانتخاب:

تتفاوت النظم الديمقراطية إلى عدة أساليب، فبعضها ينتخب الرئيس مباشرة (على درجة واحدة أو درجتين) وميزة هذه الطريقة دعم موقع الرئيس في استقلاله عن البرلمان، باعتباره يجسد إرادة الناخبين مباشرة، وتأخذ بهذه الطريقة النظم الرئاسية. والأسلوب الثاني: انتخاب الرئيس عبر أعضاء البرلمان، ويرى نقاد هذه الطريقة أنها تفرز عادةً رؤساء ضعفاء أمام البرلمان. والأسلوب الثالث: هو دمج الطريقتين، بأن يشترك البرلمان مع جمعيات أو هيئات شعبية في انتخاب الرئيس. وقد ناقش هذه الطرق الثلاث شيخ الدستوريين العرب الطماوي في كتابه الآخر (السلطات الثلاث، د.سليمان الطماوي، ص 258).

حسناً .. ما موقف السياسة الشرعية من هذه الطرق؟ الجواب بكل وضوح: هذه مسائل إجرائية، والولاية عقد سياسي شرعي، فهي مفوضة للأمة، تختار منها عبر الشروط الجعلية.

ـ- آليات الانتخاب:

 ثمة طرق كثيرة، وصارت اليوم في غاية التعقيد “الرياضي” لحساب الأصوات وإجراء الانتخاب مثل: إشكالية تقطيع الدوائر الانتخابية، وتوازن الناخبين في كل دائرة، والتقطيع الاصطناعي الذي يفتح المجال لإغراق ناخبي توجه سياسي معين بغيرهم، للاستحصال على نتائج مخططة مسبقاً، ويضاعف المشكلة دوماً ان الأحزاب الحاكمة هي التي تشرف على التقطيع الانتخابي.

وكذلك في مجال (شكل الاقتراع) فهناك آلية الانتخاب الأحادي (التصويت على مرشح واحد) وهناك آلية الانتخاب بالقائمة (التصويت على قائمة مرشحين) ، وثمة جدل كلاسيكي معروف بين محاسن وثغرات كل آلية منها.

وكذلك إشكالية (توزيع المقاعد) فهناك ما يسمى (أسلوب المعدل الانتخابي) وهناك ما يسمى (أسلوب المعدل الثابت).

وكذلك بعد توزيع المقاعد مايسمى (الخارج الانتخابي) وكيف توزع (المقاعد المتبقية)؟ وفيها أيضاً أساليب حسابية متفاوتة مثل (طريقة أكبر البقايا) و (طريقة أكبر المعدلات) و (طريقة هوندت) ، إلى درجة أن فيها “نظريات رياضية” لحساب التمثيل العادل، وهوندت نفسه هو عالم بلجيكي.

وثمة دراسات دستورية كثيرة معاصرة تتحدث عن العلاقة بين هذين المعطيين (أشكال الاقتراع) و (التركيبات الحزبية)

حسناً .. ما موقف السياسة الشرعية من هذه الآليات؟ الجواب بكل وضوح: كل هذه الآليات الانتخابية المتفاوتة يرجع في تحديد الأفضل منها إلى الأمة (مباشرة أو عبر ممثليها)، لتحديد الآلية الأنسب لها، لأنها مسائل إجرائية، والولاية عقد سياسي شرعي، وتخضع هذه المسائل للشروط الجعلية.

وهكذا –أيضاً- كل المسائل السياسية “الإجرائية” مفوضة لاختيار الأمة في (الشروط الجعلية) في البيعة، ولا يجوز إلزام الأمة بشيء مالم يخالف نصاً شرعياً، وما مضى هو مجرد أمثلة لتوضيح بعدين أساسيين: أولهما أن أكثر مسائل السياسة الشرعية مفوضة للأمة لأنها مسائل إجرائية لا تخالف الشريعة، وثانيهما: لفت الانتباه إلى عظم وأهمية تكييف الولاية والإمامة بأنها (عقد سياسي شرعي) فهذا يعني احترام اختيارات الأمة وشروطها فيما هو مفوض لها.

-النظام السياسي غير المشروع: الإنشاء والمشاركة:

النظام السياسي المشروع (السياسة الشرعية) يشرع إنشاؤه والمشاركة فيه سوياً، بل يجب على الأمة ذلك، لأنه من تمام إقامة دين الله.

وأما النظام السياسي غير المشروع، مثل: الاستبداد، التأمر (التغلب)، الهرقلية (التوريث)، الملكية الجبرية والعضوض الخ ، أو النظم السياسية الوضعية المخالفة للشريعة كالديمقراطية، هذه كلها يختلف الحال فيها بين (مقام الإنشاء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة)، وبمعنى آخر: يفرق فيها أهل العلم بين مقام الاختيار ومقام الاضطرار، ويفرقون فيها بين حال القدرة وحال العجز.

فكل هذه النظم المخالفة للشريعة لا يجوز إنشاؤها ابتداءً، لكنها إذا قامت واستقرت فإنه يشرع المشاركة فيها للمصلحة الراجحة؛ لتكثير العدل الشرعي وتخفيف الظلم، سواءً كان الحكم استبدادياً أو ديمقراطياً.

حسناً .. ما دليل التمييز بين مقام الإنشاء ابتداءً، ومقام المشاركة للمصلحة الراجحة، الدليل على ذلك عمومات نصوص التكليف بالوسع والاستطاعة والقدرة والإمكان، كقوله تعالى في خاتمة البقرة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286] وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16]، ففي حال (الوسع والاستطاعة) لا يجوز للمسلم أن يقيم نظاماً سياسياً غير مشروع، وفي حال (العجز وعدم الاستطاعة) فيجوز للمسلم أن يشارك في النظام السياسي غير المشروع إذا كان قائماً لتكثير العدل الشرعي وتخفيف الظلم.

نصوص (الوسع والاستطاعة) هي الأصول العامة للمسألة، ولكن في المسألة نصوص خاصة أيضاً، ومنها:

-النموذج الأول: أن نظام العزيز في مصر كان نظاماً وثنياً، كما قال ابن تيمية (العزيز وامرأته وأهل مصر كانوا مشركين كما قال لهم يوسف: “إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ” )[جامع الرسائل:2/261].

ومع ذلك، أي مع كون هذا النظام نظام وثني؛ فإن يوسف طلب المشاركة السياسية فيه، وخصص وزارة المالية وعرض على الملك مؤهلاته في الضبط المحاسبي، حيث جاء في الحوار بين العزيز ويوسف (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ)[يوسف:54-56].

فلاحظ هاهنا كيف طلب يوسف المشاركة السياسية في نظام وثني، وذكر مؤهلاته لهذا المنصب، ثم لاحظ كيف جعل الله ذلك نجاحاً وسماه “تمكيناً” .

وما هو دافع يوسف للمشاركة السياسية هنا؟ يقول ابن تيمية عنه (وأما سؤال يوسف وقوله “اجعلني على خزائن الأرض” فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير مالم يكونوا يفعلوه)[مختصر المصرية:564].

وقال الإمام ابن تيمية في موضع آخر عن دوافع يوسف (سأل الولاية للمصلحة الدينية)[الفتاوى:15/114].

حسناً .. دعنا ننتقل للسؤال الجوهري الآن: لو قال قائل: (يسوغ شرعاً للمسلم أن يقيم نظاماً سياسياً وثنياً يقوم على الشرك) فقيل له: ما الدليل؟ فقال (لأن يوسف شارك في نظام سياسي وثني، وعليه فيجوز أن ننشئ ابتداءً نظاماً سياسياً وثنياً).

فماذا سيقول الناس عن هذا القائل؟ سيعدونه من أجهل الناس وأحظاهم غباءً في الاستدلال، لماذا؟ الجواب: للفرق الجوهري العظيم بين (مقام الإنشاء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة)، ومقامي الاختيار والاضطرار، وحالي القدرة والعجز.

سننتقل الآن إلى (نموذج ثانٍ)، وهو نموذج (النظام السياسي النصراني الحبشي) فقد كان نظاماً نصرانياً يسيطر فيه رجال الدين النصارى سيطرة تامة، حتى بلغ من سلطة القسس فيه أنهم كانوا يخلعون ويقتلون بعض رؤسائهم، وينصبون آخر، كما جاء في كتب السير من حديث عائشة وغيرها.

وفي هذا النظام فإن النجاشي أصحمة آمن بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وأرسل له خطاباً يخبره فيه بذلك، ومع ذلك لم يستطع أن يطبق الشريعة في هذا النظام النصراني الحبشي، وإنما كان النجاشي أصحمة يجتهد في العدل قدر إمكانه وطاقته، وسأل النجاشي أصحمة النبي –صلى الله عليه وسلم- في خطابه له هل يأمره بأن يأتيه، فلم يأمره النبي بترك موقعه كرئيس لنظام نصراني حبشي.

قال الإمام ابن تيمية (فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها)[الفتاوى:19/219].

فهذا يدل على جواز المشاركة السياسية في نظام نصراني، حتى لو لم يستطع المشارك أن يطبق أكثر الأحكام الشرعية، إذا كان هناك مصلحة راجحة في تكثير العدل الشرعي، وتخفيف الظلم.

حسناً.. لو قال قائل: إنه يجوز أن ننشيء (نظاماً سياسياً نصرانياً) لأن النجاشي شارك في نظام سياسي نصراني وكان فعله مشروعاً؛ لكان هذا القائل في غاية السذاجة، لأن كل أحد يميز في كلام أهل العلم بين (مقام الإنشاء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة).

دعنا الآن ننتقل لـ(نموذجٍ ثالث)، وهو (تولي القضاء في نظام التتار) قال ابن تيمية (وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها)[الفتاوى:19/218].

فلاحظ كيف يجوز المشاركة في نظام التتار، حتى لو كان الإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل الشريعة.

وهاهنا سنطرح من جديد ذات السؤال: ما رأي القارئ الفاضل لو سمع أحداً يقول: (يجوز أن يقيم المسلم نظاماً تترياً وثنياً، لأن أهل العلم أجازوا تولي القضاء بين المسلمين والتتار) أليس سيعتبر هذا القائل جاهلاً؟ بلى وحُق له ذلك، لأن هناك فرقاً جوهرياً بين (مقام الابتداء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة).

وهكذا أيضاً في (النموذج الرابع) الذي بأيدينا، وهو أن عمر بن عبدالعزيز ترك بعض مظالم بني أمية التي عجز عنها، وقد نقل الإمام ابن عبد الحكم (ت214هـ) مفتي الديار المصرية في كتابه المشهور عن سيرة عمر بن عبد العزيز ما يكشف بعض ما كان يدور في الداخل الرئاسي، يقول ابن عبد الحكم:

(لما ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك: إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أموراً كثيرة كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها، ولوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور، قال له عمر أي بني، إنك على حسن قسم الله لك، وفيك بعض رأي أهل الحداثة، والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئاً من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا، أستلين به قلوبهم، خوفاً أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به)[سيرة عمر:57].

وفي حادثة أخرى دار الحوار كالتالي:

(وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. قال له عمر: “لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة”)[الموافقات:2/148].

 

 

حسناً .. نحن نرى عمر بن عبد العزيز شارك في النظام السياسي الأموي، وهو نظام متغلب، وجرى فيه مظالم معروفة في الدماء والأموال، ومع ذلك لم يقم عمر بن عبد العزيز بتطبيق الشريعة كاملة، بل طبق منها ما يستطيع، وترك أموراً من الشريعة عجز عنها، كما كشفه الحوار الذي دار في منزل عمر.

دعنا نستعرض الإشكالية مجدداً: هل يمكن لأحد أن يقول يسوغ في النظام السياسي الإسلامي أن نقيم نظام سياسي متغلب، ونرتكب مظالم مالية لأن عمر بن عبدالعزيز شارك في رئاسة نظام سياسي متغلب وأبقى بعض المظالم التي عجز عنها؟ هل يقول هذا عاقل؟ لا، بالطبع، لأن هناك فرقاً كما تقدم بين (مقام الإنشاء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة).

إذا اتضحت الصورة الآن، في التفريق بين مقام الإنشاء ابتداءً، ومقام المشاركة السياسية للمصلحة الراجحة، وأنه لا يسوغ استنباط حكم الإنشاء من حكم المشاركة، أو استنباط حكم الاختيار من حكم الاضطرار، أو استنباط حكم القدرة من حكم العجز، وإلا خالف الإنسان في ذلك العقلاء جميعاً، فدعنا نتجاوز هذه الصور التراثية إلى صور معاصرة:

نحن نعلم أن عامة علماء أهل السنة اليوم حكموا بأن النظام الديمقراطي الغربي مخالف للسياسة الشرعية (وسيأتي ذكر أوجه التعارض بين النظامين لاحقاً)، وبالتالي فلا يشرع إنشاؤه ابتداءً، ولكن إذا كان نظاماً قائماً، فأجازوا المشاركة السياسية فيه للمصلحة الراجحة، وسنذكر بعض الأمثلة:

-موقف ابن سعدي:

لما تعرض العلامة ابن سعدي (ت1376هـ) رحمه الله لفوائد قصة شعيب قال (هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية؛ لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عملة وخدما لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم)[تفسير ابن سعدي:389].

 

فلاحظ في هذا النص عمق فقه ابن سعدي، حيث فرق بين مقامي الاختيار والاضطرار، وفرق بين حال القدرة وحال العجز، ففي حال الاختيار والقدرة يشرع للمسلم أن ينشئ نظاماً سياسياً إسلامياً كما يقول ” إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين” ولكن في حال الاضطرار والعجز فيشرع للمسلم أن ينتقل للمرتبة التي تليها، وهي النظام الجمهوري، فجعل ابن سعدي مشروعية النظام الجمهوري مرتبطة بعد القدرة والإمكان على بناء السياسة الشرعية الأصلية.

فيستفاد من هذا النص الثمين أن ابن سعدي يرى أن النظام الجمهوري نظام مخالف في أصله للسياسة الشرعية، ولذلك ربط مشروعيته بالعجز والاضطرار.

فلو جاء شخص وقال ابن سعدي: يرى جواز تحويل الدولة المسلمة إلى نظام جمهوري؛ لكان هذا القائل مدلِّساً بلا ريب، فابن سعدي -بكل وضوح- يقول إذا أمكن فيجب أن تكون الدولة للمسلمين، وإذا لم يمكن ينتقل للنظام الجمهوري للمصلحة الراجحة، وهذا عين كلام أهل العلم، ولا يخالف في هذا أكثر الفقهاء.

ب-موقف اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة ابن باز:

أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة ابن باز(ت1420هـ) فتاوى متعددة، وكلها بلا استثناء تميز بين: مقام الاختيار ومقام الاضطرار، وتميز بين مقام الإنشاء ابتداءً ومقام المشاركة للمصلحة الراجحة.

دعنا نتناول بعض هذه الفتاوى ونفحص المبادئ الثاوية فيها، أول هذه الفتاوى هي التالي:

(السؤال: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها، مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟ الجواب: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام ، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين، ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية)[اللجنة الدائمة:23/407].

فانظر كيف فرقوا في النظام الديمقراطي بين مقام الإنشاء ابتداءً، ومقام المشاركة السياسية للمصلحة الراجحة في نظام قائم، وهذا عين ما يقرره فقهاء المسلمين منذ القدم في مسألة التعامل مع (النظام السياسي غير المشروع).

وجاء في فتوى أخرى حول إنشاء الأحزاب الإسلامية في النظام السياسي العلماني:

(السؤال: هل يجوز إقامة أحزاب إسلامية في دولة علمانية وتكون الأحزاب رسمية ضمن القانون، ولكن غايتها غير ذلك، وعملها الدعوي سري؟ الجواب: يشرع للمسلمين المبتلين بالإقامة في دولة كافرة أن يتجمعوا ويترابطوا ويتعاونوا فيما بينهم سواء كان ذلك باسم أحزاب إسلامية أو جمعيات إسلامية؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى)[اللجنة الدائمة:23/408].

فأهل العلم هاهنا يمنعون من إقامة نظام سياسي علماني ابتداءً، لكن إذا كان قائماً فيشرع المشاركة السياسية فيه للمصلحة الراجحة، فلو جاءنا رجل وقال اللجنة الدائمة تجيز إقامة نظام سياسي علماني لأنهم أجازوا المشاركة فيه! فماذا سيقول العقلاء عن هذا الاستنباط؟!

وفي فتوى نادرة توضح مدى النظرة المصلحية لدى علماء اللجنة الدائمة، وتوسعهم في مفهوم المشاركة السياسية، جاءت صياغة السؤال والجواب كالتالي:

(السؤال: بعض الناس مسلمين ولكنهم ينخرطون في الأحزاب السياسية، ومن بين الأحزاب إما تابعة لروسيا أو تابعة لأمريكا، وهذه الأحزاب متفرعة وكثيرة؛ أمثال: حزب التقدم والاشتراكية، حزب الاستقلال، حزب الأحرار، حزب الأمة، حزب الشبيبة الاستقلالية، حزب الديمقراطية الخ، ما هو موقف الإسلام من هذه الأحزاب، ومن المسلم الذي ينخرط في هذه الأحزاب، هل إسلامه صحيح؟ الجواب: من كان لديه بصيرة في الإسلام، وقوة إيمان، وحصانة إسلامية، وبعد نظر في العواقب، وفصاحة لسان، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب فيوجهه توجيهًا إسلاميًّا؛ فله أن يخالط هذه الأحزاب، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق؛ عسى أن ينفع الله به، ويهدي على يديه من يشاء، فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة، ينتظم بها شمل الأمة، لكن لا يلتزم مبادئهم المنحرفة، ومن ليس عنده ذلك الإيمان، ولا تلك الحصانة، ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر، فليعتزل تلك الأحزاب؛ اتقاء للفتنة ومحافظة على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم، ويبتلى بما ابتلوا به من الانحراف والفساد، وبالله التوفيق)[اللجنة الدائمة:12/385]

فانظر بالله عليك الأوصاف الخطيرة التي وصفت بها هذه الأحزاب السياسية المسؤول عنها، وقد تعمدت ترك السؤال بتفاصيله ليتبين مدى (المرونة السياسية) التي يتمتع بها علماء أهل السنة، فكلها أحزاب سياسية مخالفة للإسلام صراحة، ومع ذلك فرق علماء اللجنة بين إنشاء هذه الأحزاب ابتداءً، وبين المشاركة فيها للمصلحة السياسية الراجحة.

فلو جاءنا شخص وقال: اللجنة الدائمة يجيزون إنشاء أحزاب اشتراكية ويسارية وديمقراطية وليبرالية، لأنهم في أحد فتاواهم أجازوا المشاركة فيها للمصلحة الراجحة، لكان هذا فهم سقيم لمثل هذه الفتاوى.

وكل هذه الفتاوى الثلاث السابقة صدرت عن اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز، رحمات الله على روحه الطاهرة، وبقي في حوزتي الآن فتوى أخرى خاصة به، لم تكن ضمن فتاوى اللجنة الدائمة، نشرها الشيخ في مجلة (لواء الإسلام) والحقيقة أنني لم أجد المجلة متاحة، وقد بحثت عنها، ولكني وجدت الشيخ الجليل مناع القطان (ت1420هـ) رحمه الله نقل نص الفتوى في بحثه (معوقات تطبيق الشريعة) فسأنقل الفتوى عن الشيخ مناع حتى أستطيع الحصول على نسخة من المجلة، يقول الشيخ مناع القطان:

(وقد سُئل شيخنا المفضال العالم الورع، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخابات الدعاة، والإخوة المتدينين لدخل المجلس، فأفتى فضيلته بقوله “إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إنما الأعمال بالنيات، لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب، إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله والله الموفق. مجلة لواء الإسلام، ع3، 1409هـ، 1989م)[معوقات تطبيق الشريعة:166].

وهناك فتاوى أخرى للإمام ابن باز –فسح الله له في قبره- عن جواز (المشاركة في النظم السياسية غير المشروعة للمصلحة الراجحة) وهي لا تختلف من حيث المبدأ الشرعي عن هذه الفتاوى السابقة (التمييز بين الإنشاء والمشاركة) و (التمييز بين حال الاختيار وحال الاضطرار).

جـ-موقف فقيه العصر ابن عثيمين (ت1421هـ):

لاحظت أن أكثر فقهائنا حماساً للمشاركة السياسية في النظم غير المشروعة هو الشيخ ابن عثيمين، وقد لمست ذلك ظاهراً في عدة فتاوى له، أحد هذه الفتاوى كانت نقاشاً بينه وبين طلابه في شهر بيع الأول من العام 1420هـ، وألتمس من القارئ أن يدقق في صياغة الصورة المسؤول عنها، وفي جزم الشيخ بالمشاركة دون تردد، بل لاحظ كيف رفع الأمر من المشروعية إلى الوجوب!، حيث جاء الحوار كالتالي ، وأعتذر مسبقاً عن نقل الحوار بطوله:

(السؤال: ما حكم الانتخابات الموجودة في الكويت , علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فُتِنوا في دينهم؟ وأيضاً ما حكم الانتخابات الفرعية القبلية الموجودة فيها يا شيخ؟! الجواب: أنا أرى أن الانتخابات واجبة, يجب أن نعيِّن من نرى أن فيه خيراً, لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر! فإذا قال قائل: اخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك, نقول: لا بأس, هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة، وألقى كلمة الحق في هذا المجلس، سيكون لها تأثير ولابد, لكن ينقصنا الصدق مع الله, نعتمد على الأمور المادية الحسية ولا ننظر إلى كلمة الله عز وجل, ماذا تقول في موسى عليه السلام عندما طلب منه فرعون موعداً ليأتي بالسحرة كلهم, واعده موسى ضحى يوم الزينة، يوم الزينة هو يوم العيد؛ لأن الناس يتزينون يوم العيد، في رابعة النهار وليس في الليل, في مكان مستو, فاجتمع العالم، فقال لهم موسى عليه الصلاة والسلام “ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى” كلمة واحدة صارت قنبلة, قال الله “فتنازعوا أمرهم بينهم” الفاء دالة على الترتيب والتعقيب والسببية, من وقت ما قال الكلمة هذه تنازعوا أمرهم بينهم, وإذا تنازع الناس فهو فشل, كما قال الله “ولا تنازعوا فتفشلوا”..، أثَّرت كلمة الحق من واحد، أمام أمة عظيمة، زعيمها أعتى حاكم، فأقول: حتى لو فرض أن مجلس البرلمان ليس فيه إلا عدد قليل من أهل الحق والصواب سينفعون, لكن عليهم أن يصدقوا الله عز وجل, أما القول: “إن البرلمان لا يجوز، ولا مشاركة الفاسقين, ولا الجلوس معهم” هل نقول: نجلس لنوافقهم؟ نجلس معهم لنبين لهم الصواب. بعض الإخوان من أهل العلم قالوا “لا تجوز المشاركة, لأن هذا الرجل المستقيم يجلس إلى الرجل المنحرف” هل هذا الرجل المستقيم جلس لينحرف أم ليقيم المعوج؟! نعم ليقيم المعوج, ويعدل منه, إذا لم ينجح هذه المرة نجح في المرة الثانية.

السائل: والانتخابات الفرعية القبلية يا شيخ؟ الجواب: كله واحد أبداً، رشح من تراه خيرا، وتوكل على الله)[لقاء الباب المفتوح:ل211].

ولم يتوقف كلام الشيخ ابن عثيمين على المشاركة السياسية في (الديمقراطية الكويتية)، بل أيضاً دعم الشيخ المشاركة في (الديمقراطية الأمريكية)، حيث جاء في سؤالات الدكتور أحمد القاضي لابن عثيمين، المعروفة، والتي نشرت باسم ثمرات التدوين مايلي:

(سألت شيخنا رحمه الله :عن المسلمين في أمريكا ، هل يشاركون في الانتخابات التي تجري في الولايات لصالح مرشح يؤيد مصالح المسلمين؟ فأجاب بالموافقة، دون تردد)[ثمرات التدوين:م593].

حسناً .. لو جاء شخص وقال أن ابن عثيمين يجيز إقامة ديمقراطية على الطريقة الأمريكية أو الكويتية لأنه أجاز المشاركة فيهما، لكان قوله هذا لا يحتاج الرد عليه أصلاً، لأن العقلاء يفرقون بين مقامي الاختيار والاضطرار، ومقامي الإنشاء ابتداءً والمشاركة السياسية للمصلحة الراجحة.

وعلى وضوح هذا الأمر، أعني التمييز بين الاختيار والاضطرار، والإنشاء والمشاركة، وحال القدرة وحال العجز، الخ إلا أنني لا حظت كثيراً ممن يخوضون في موضوع الديمقراطية يخلط فيهما خلطاً مضحكاً، فيأتون بنصوص بعض أهل العلم في جواز المشاركة في نظام سياسي غير شرعي في حال الاضطرار والعجز، ويستنبطون منها جواز إنشاء نظام سياسي غير شرعي ابتداءً وفي حال الاختيار والقدرة!.

على أية حال .. هذه هي القاعدة العامة في السياسة الشرعية، وهي التمييز بين الإنشاء والمشاركة، والتمييز بين مقامي الاختيار الاضطرار، والتمييز بين حالي القدرة والعجز.

وهنا يتساءل البعض وبشكل متكرر: من شارك في نظام سياسي غير شرعي، هل يأثم على الأمور الشرعية التي تركها ولم يعمل بها؟ وقد أجاب ابن تيمية في خاتمة كتابه “السياسة الشرعية” على هذه المسألة بقوله:

(فمن وُليِّ ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتناب ما يمكنه من المحرمات؛ لا يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه، من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير؛ لم يكلف ما يعجز عنه)[السياسة الشرعية:133].

 

-صيانة المال العام:

كنت أريد أن أستعرض هاهنا بعض القواعد الشرعية في صيانة وحفظ المال العام، وإبراز مركزية المال العام في فقه أهل السنة، وشدة عنايتهم به، ولكن المساحة لم تعد تحتمل فلذلك فإني أحيل القارئ الكريم إلى ورقة نشرتها بعنوان (مغلوطات المال العام) وهي موجودة على الشبكة، يمكن الوصول لها بمحركات البحث، وقد استعرضت فيها بعض القواعد الشرعية للمال العام مثل: إنما أنا قاسم، ومن أين لك هذا؟، هلا جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟، اكتبا كل مالٍ لكما، انتفاء الحد لا يعني انتفاء التعزير، المصلحة تقييد لا تخيير، العدل في الإقطاع العقاري، ونحوها.

-قطعية نصوص الصبر والطاعة ومنع الخروج:

لاحظت في عدد من المجالس الفكرية، ومواقع التواصل الاجتماعي، أن بعض المعنيين بالتغيير السياسي الناقمين على الاستبداد، يرمون أحياناً ببعض العبارات التهكمية تجاه أحاديث (الصبر والطاعة ومنع الخروج)، وهذه المشاهد في الحقيقة من أكثر الانحرافات إزعاجاً للمؤمن المعظّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأشخاص الذين يتهكمون بأحاديث الصبر والطاعة وتحريم الخروج هم في الواقع في غاية الحماقة، بل لا يستطيع العقل أن يتصور حماقة أطرف من ذلك، إذ كيف يهينهم المتغلب ويكبتهم، فيفرغون حنقهم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذا والله الخسارة والغبن بعينه.

الأمر بطاعة أولي الأمر جاء في كتاب الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء:59] فهو نص متواتر قطعي.

وأما أحاديث (منع الخروج فيما دون الكفر) فقد جاءت بطرق كثيرة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تبلغ حد التواتر، قال الشوكاني عنها (ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، أي باب الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وذكرناها، متواترة المعنى كما يعرف ذلك من له أُنسةٌ بعلم السنة)[نيل الأوطار:13/469، ت حلاق]

 

كيف يعرف المؤمن أن نصوص (الصبر، والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، ومنع الخروج المسلح فيما دون الكفر البواح) كلها قطعية متواترة عن رسول الله، يجزم القلب بأن رسول الله قالها، ونطق بها، ثم يتهور المرء بمثل هذه العبارات في انتقاص هذه النصوص؟! لا أدري والله كيف يطاوعه قلبه ويستخف بها وهو يعلم أن رسول الله نطق بها؟ يسيء لك المتغلب فتقتص من نبيك؟!

والبعض يقول لأن هناك فريقاً يستغل هذه النصوص بتطبيقات سيئة، ولذلك نحن نتهكم بهذه الأحاديث، وما رأيت حجة أضل من هذه الحجة، إذن لتسخر بنصوص الحكم بما أنزل الله لأن هناك من يسيء تطبيقها، ولتسخر بنصوص النهي عن المنكر لأن هناك من يسيء تطبيقها، ولتسخر بأحاديث القتال في سبيل الله لأن هناك من يسيء تطبيقها، وهكذا، فهل هذا تفكير مؤمن يحترم نبيه؟!

يجب أن نحاول الإصلاح السياسي من الداخل، وتكثير العدل الشرعي وتخفيف الظلم؛ دون أن نخسر علاقتنا بحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فماذا تساوي صناديق الاقتراع في العالم كله إذا أسأنا بنصف كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

يجب بناء حاجز نفسي عظيم بين هؤلاء المتهورين وبين نصوص (الطاعة والصبر ومنع الخروج) يجب أن لا تكون هذه الأحاديث كلأ مباحاً يُستهتر بها ونحن نشاهد، فأين الغيرة والحمية لرسول الله؟! انتشار الاستبداد والأثرة والمظالم السياسية ليس مبرراً بتاتاً لهذه الإساءات المتكررة لحديث رسول الله، بالله عليك تأمل هذه الآيات وانظر مقام رسول الله:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[الحجرات:1-3]

 

انظر كيف كان مجرد “رفع الصوت” بحضرة رسول الله يجعل المرء على حافة “حبوط العمل”! نعم تحبط أعمالك كلها من صلواتك وصدقاتك وذكرك لله كل ذلك بمجرد “رفع الصوت” بحضرة رسول الله، يهبط رصيد أعمالك إلى الصفر، وتفقد كل ما عملت، لمجرد جهر بالصوت على رسول الله، فكيف بالله عليكم بمن يستهتر وينتقص أحاديث رسول الله؟!

وبعض الفضلاء يعتذر ويبرر لهذه الشريحة من المتهورين، بأنهم مستاؤون من التطبيقات الخاطئة للطاعة السياسية! وهذا خطأ خطير، أي مكسب لك في تسويغ الإساءة للسنة النبوية تحت أي ذريعة كانت، بالعكس، كان يفترض بك يا أخي الفاضل أن تكون في صف سنة رسول الله، لا في صف أقوام يعبدون الله على حرف، وتراهم إذا دعوا إلى النصوص معرضين، فإذا جاءت النصوص بما يهوون يأتون مذعنين، وما ذاك إلا بسبب مرض القلوب الذي غزاهم، قال الله:

 (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا)[النور:48-50].

أخيراً.. هذه معالم عامة، ولازال هناك الكثير من مسائل السياسة الشرعية، سأحاول استيفاءها في مناسبات قادمة، وما سبق كله ليس هو من الكليات القطعية المجمع عليها، بل بعضها ثوابت لا يختلف فيها الفقهاء، وبعضها مسائل اجتهادية لذلك عبرت فيها بلغة (الراجح والمرجوح) لا بلغة (الحق والباطل)، ويبقى للمخالف من أهل السنة فيها احترام اجتهاده، والله أعلم،،

وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،

ابوعمر – محرم 1433هـ

مفاتيح السياسة الشرعية

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

10 + 17 =