جني ثمار الحرب الباردة

![]() |
جني ثمار الحرب الباردة |
جني ثمار الحرب الباردة : محمد جلال القصاص
وبعد انتهاء “الحرب الباردة” بهزيمة الاتحاد السوفيتي تحللت الكتلة الشرقية المغلوبة، وأعيد تشكيلها، وراح الغالب في الحرب الباردة (الكتلة الغربية الليبرالية الرأسمالية بقيادة أمريكا) يبحث عن وسيلة يجني بها ثمار انتصاره، فكان مبدأ “التدخل الإنساني” والذي يقضي بأحقية القوى الدولية أن تتدخل في شئون الدول من أجل الدفاع عن “حقوق الإنسان”، واستخدموا ما ابتدعوه (التدخل الإنساني) من أجل مزيدٍ من النفوذ وتفكيك بقايا الكتلة الشرقية، فخاضوا حروبًا في أوروبا الغربية ضد يوغسلافيا حتى اخضعوها وفرضوا رؤية الأمريكان تحديدًا عليها. وخاضوا حروبًا في الشرق (أفغانستان والعراق) من أجل مواطن جديدة أكثر تقدمًا. يحاولون زحزحزة منطقة الصراع من الوسط (البحر المتوسط) إلى الشرق (المحيط الهندي، ووسط أسيا وأوروبا الشرقية).
وليس فقط في المجال العسكري. بل راح المنتصرون في الحرب الباردة يفرضون أنفسهم على المهزومين حضاريًا في جميع المجالات… راحت الحضارة الغربية، بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصارها على الكتلة الشرقية، تجتاح المهزومين سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا،..، فيما عرف بـ”العولمة. ودارت عجلة الغالب (العولمة) وأحدثت تغيرات في المجتمعات الصغيرة المتخلفة مثل المجتمعات العربية. ظهرت هذه التغيرات في ثقافة الفرد (ما يتعلق بمفردات حياته في مأكله ومشربه وملبسه، وما يسمع ويشاهد، وما يقرأ، ونحو ذلك)، وراحوا يخططون لجني ثمار ما غرسوه من خلال العولمة فأطلقوا نظرية “الفوضى الخلاقة”، وهي: لخبطة وإعادة ترتيب من جديد، أو :إعادة تموضع داخل المنظومة الغربية بما يتناسب وتطورها الجديد بعد انتهاء مرحلة ثنائية القطبية وبدء مرحلة أحادية القطبية.
فما يحدث الآن هو بحث عن إعادة هيكلة للعالم، تمامًا كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن ملاحظة ذلك في مخرجات المفكرين، فبعضهم يتحدث عن صراع حضارات يخفي بعضها ويظهر أخرى، وعن حضارة أمريكية ستستقر عقودًا من الزمن، وبعضهم يتحدث عن انتهاء صيغة “الدولة القومية” وأن علينا أن نفكر في جديد، وبعضهم يتحدث عن تطوير للأمم المتحدة، ,هكذا… إعادة هيكلة للعالم.
والذي يعنيني هنا هو بيان كيف يصنعون الصراع ويديرونه، وقد قدمنا أن ذلك يتكئ على ثلاثةٍ: رؤية، وأدوات، وإدارة قوية.
أولًا: الرؤية:
الإطار العام، أو الرؤية الكلية، كانت إعادة هيكلة العالم من جديد ليكون تحت سيطرة المنتصرين في الحرب الباردة، وجاءت “الفوضى الخلاقة” كرؤية متوسطة المدى (استراتيجية). وظهرت مرونة واسعة في المستوى التكتيكي (الخطط قصيرة المدى) فاختلف التنفيذ من دولة لأخرى.
ثانيًا: الأدوات:
ثانيها: الأدوات تعمل بشكل ذاتي، بناءً على الأطر التي بنيت عليها، وبناءً على ارتباط وجود المؤسسة بمصالح خاصة للأفراد الذين يتحكمون فيها، فالقائمين على المؤسسات أو المنتفعين منها يحافظون عليها (أيَّا كان وصفها) حفاظًا على مصالحهم الشخصية.
ثالثها: كثرة هذه الأدوات وتطورها المستمر. فهذه الأدوات كثيرة متنوعة تتواجد في كل شيء، وكذا متطورة، سواء التطور الذاتي لنفس المؤسسة في اتجاه بعيد عن المنظومة الإسلامية، كما يحدث في المؤسسة العسكرية والإعلامية مثلًا، أو التطور بإضافة أدوات جديدة في المجتمع تبعًا لما يستجد من حاجات للناس.
رابعها: يحدث لبس عند بعضهم حين ينظر للأدوات وحدها فيظن أنها تعمل دون تأثير خارجي، يظن ذلك حين يرى كل الوجوه من بلده، تتكلم بلغته وتنتسب لذات الدين، وتحمل ذات الأسماء، ولو قرأ سياق النشأة، والأهداف التي تسعى إليها المؤسسة لعلم أنه أمام كائن غربي، والوطني فيه يسعى لمصلحته الشخصية، أو لمصلحة محدودة جدًا تفوت أخرى أكثر أهمية للأمة المسلمة.
خامسها: استطاع القوي توظيف الضعيف واستخدامه لتحقيق أهدافه هو. بمعنى أن الضعيف دخل ضمن أدوات القوي، كما استخدم الجهاد الإسلامي كأحد وسائل التصدي للاتحاد السوفيتي، وكأداة ضغط وإفشال للأوربيين حين أراد حل مشاكلهم (البوسنة والهرسك) بعيدًا عن أمريكا، ثم انتهى بعد اتفاق دايتون.
سادسها: تستطيع أن تقول أن كل ما في المجتمع بشكلٍ ما يمكن توظيفه واستخدامه كأداة لتحقيق الرؤية الغربية، على الأقل على المستوى النظري، وعلى المستوى العملي يمكن توظيف أشياء كثيرة في المجتمع. مثلًا: أداة الإعلام مع السلطة الأمنية تحددان بشكل كبير من يتحدث للناس باسم الدين ومن لا يتحدث، تقدم هذا وتؤخر ذاك، وتصنع أبطالًا وشيوخًا، ومفكرين… قيادات مجتمعية تسير بالناس حيث يشاءون، أو حيث لا يرفضون.
سابعها: الأدوات تعمل م صاحبها، ويصعب أسلمتها، فهي منظومة متكاملة تحافظ على كيان يرفض التصور الإسلامي ويعاديه جملةً. وكذا: التصور الإسلامي له أدواته الخاصة التي يدير بها المجتمع، فلا السلطة كالسلطة، ولا آلية التشريع كآلية التشريع، ولا القطاع الخدمي (التعليم والصحة…) كالقطاع الخدمي… أدوات جديدة .. أو منظومة جديدة.
فيما يخص موضوعنا (سياق هبة الشعوب العربية في ثورات الربيع العربي)، استخدمت أدوات عدة، منها:جماعات الضغط، وهي أداة غربية، مراكز الأبحاث، الإعلام، المؤسسسة العسكرية، المؤسسة الأمنية، القضاء، بعض التيارات الإسلامية، وبعض المستقلين وخاصة من تربوا في حضن الأدوات الغربية.
ثالثا: إدارة الأدوات:
تطورت الأداة على الأرض بفعل الدعم الغربي والحافز الداخلي حتى أثمرت حراكًا شعبيًا كاد يقلب الموازين ويأتي الغرب بمن لا يعرفونه، أو بخياراتٍ أقل مما يريدون، وهو الأصولية الإسلامية أو وطنيون أحرار حقيقة، وحينها حرَّك الغرب أدوات أخرى كي يحافظ على الوضع في الاتجاه الذي يسعى إليه، وهو “إعادة التموضع داخل المنظومة الجديدة”. فحرك الغرب الأدوات الفكرية وما يساعدها من أدوات بحثية، ثم الأدوات التي تنفذ نتاج الفكر والبحث على أرض الواقع، فكان أن تدخلت باقي الأدوات الموالية للغرب، أو التي صنعها الغرب للحفاظ على المجتمع في صيغة يرضاها أو لا يرفضها، فشاركت المؤسسة الأمنية، والمؤسسة الإعلامية، والمؤسسة القضائية، وأصحاب المصالح من رؤوس الأموال… إلخ. حتى تم ضبط المجتمع من جديد وكبح جماحه.
أين نحن مما يحدث؟
بشكل مباشر وواضح الرؤية الكلية عندنا مشوشة، لم تتضح معالمها بعد، أو متنازع فيها، ويتضح ذلك من تتبع مستويات الفعل (أمة، جماعة، أفراد، وطن..). ولا نملك أدوات إلا في المجالات الخدمية وبشكلٍ ما يستفيد من جهدنا الخدمي المتجه للفقراء النظام الاستبدادي، والمنابر الإعلامية التي تصل للجماهير (فضائيات ومساجد) تسيطر عليها أو على محتواها الدولة. ولا نملك عددًا كافيًا من النخبة الواعية التي لها القدرة على فهم ما يحدث والوثوب في فترات الضعف والاهتزاز التي تصيب هذه المنظومة المتجبرة، كما حدث بعد هبَّات الشعوب المنطقة العربية. وتستطيع النخبة الواعية القوية أن تستفيد من الثغرات، بل أن تحدثها.
أزمة النظام العالمي أحادي القطبية:
النظام العالمي أحادي القطبية يعاني من تحديات قد تودي به، نستطيع اختصارها في التالي:
1- افتقاره للطاقة،
والحديث عن أنه يمتلك مخزون من الطاقة حديث إعلامي، فالطاقة لا تخزن بكميات كبيرة، وكذا لا يسعه أن يترك هذه الطاقة لغيره من القوى الصاعدة كالصين أو الهند أو غيرهما فصعود مثل هذه القوى يهدده بشكل مباشر. ومصادر الطاقة القريبة منه (أمريكا الجنوبية) أصبحت دول صناعية وتحتاج لطاقتها، وعلاقتها بالولايات المتحدة غير جيدة.2- سهولة التفكك وإعادة الترتيت: