بهذه القلوب المتشبعة بالتربية النبوية لمعنى “عظمة الوحي” بلغت هذه النفوس المستنيرة تلك المنازل والدرجات الرفيعة والشرف الراقي, لابقلوب يشعر أصحابها أن “الوحي” عبء يجب تكريس الدراسات الانثروبولوجية لزحزحة هيمنته على الشباب المسلم.

على أية حال .. النصوص في هذا المعنى كثيرة معلومة, والقدر المشترك بينها أن صحابة رسول الله “فقهوا” معاني الوحي, واهتدوا إلى “دلالاته”, وكانوا على بصيرة من دينهم, بصورة أكمل من كل من جاء بعدهم, وقد شهد لهم الشارع شهادة عامة بالبصيرة, وشهادة خاصة لبعض أعيانهم بكمال العلم, وبالتالي فإن “منهج قراءة النص” عند صحابة رسول الله ومن سار على هديهم هو أكمل المناهج, والشرف كل الشرف في الاجتهاد في تحقيقه وتتبعه لا في مناهضته ومجافاته.

والمراد هاهنا أن نصل إلى النتيجة التالية وهي أن: من تأمل “قيام المقتضي” الذي سبقت الاشارة إليه وهو نهمة الصحابة رجالاً ونساءً بالوحي, وماينضاف إليه من شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وكمال حرصه على “تعليم الكتاب والحكمة”, ثم ثناء الشارع على علم الصحابة عموماً وتخصيصه بعض أعيانهم بمزيد من العلم, فكيف يتصور مع قيام هذا المُقتضِي القطعي أن يتخلف عنه مقتضاه؟ فيكون “منهج قراءة النص” عند الصحابة منهج قاصر لايفهم النص كما ينبغي, وتكون مناهج “قراءة النص” التي اخترعها طوائف من الكفار المحرومين من نور النبوة والغافلين عن ذكر الله هي الأجدر بفهم كتاب الله وسنة رسوله؟ هل يقول هذا شخص يحترم قواعد البحث العلمي؟

ثم إذا تأمل الباحث المتجرد الوثائق التاريخية الدقيقة التي رصدت “الحياة العلمية” لأئمة التابعين سيما كبار التابعين مثل مسروق بن الأجدع وشريح القاضي وسعيد بن المسيب, ومن يلي هذه الطبقة كالشعبي وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والحسن البصري ومحمد بن سيرين وطاووس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح, وغيرهم كثير, فإنه سيرى تنافسهم الأخاذ في تتبع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للتلقي عنهم, وسؤالهم عن تفسير القرآن, وماحفظوه من مرويات السنة, وتفاصيل الأحكام الحادثة مما هو معروف مشهور, حتى أن الامام مجاهد بن جبر استوقف ابن عباس عند كل آية من كتاب الله وسأله عنها, كما روى ابن إسحاق عن مجاهد، قال:

(عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أقفه عند كل آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت)أعلام النبلاء 4/450

وكانوا يتشاورون في مسائل تفسير الوحي ويتداولون الاجتهاد مع كمال التحري والصدق, كما قال ابن المبارك :

(كان فقهاء أهل المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وسالم، والقاسم، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله، وخارجة بن زيد, وكانوا إذا جاءتهم مسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها فيصدرون) اعلام النبلاء 4/461

بل بلغ الحال بشغف التابعين بالتلقي عن الصحابة أن بلغ بعضهم الاحتجاج بقول كبار فقهاء الصحابة, حتى إن ابن عباس لم يرتض ذلك منهم, وقال لهم (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء, أقول لكم قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر)

واحتج بعض التابعين على ابن عمر في مسألة متعة الحج بقول عمر بن الخطاب, فقال لهم: (أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟)

فهذا مما يكشف كيف بلغ عمق حفاوة التابعين بما تلقوه من علوم الصحابة, وماأخذوه عنهم من معاني الكتاب والسنة, وأن “علم أئمة التابعين” متلقى في أصله من “علم الصحابة”.

ثم استمر السلف في تناقل “فقه الوحي” حتى آل ذلك إلى المذاهب المتبوعة كمذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة, واجتهد من جاء بعدهم في ايضاحه وشرحه والاستدلال له وتحقيق مسائله.

والمراد من ذلك كله أن حقيقة الاسلام لاتخرج عن دواوين الاسلام المشهورة المعروفة, ولايحتاج الوحي لفهمه مناهج غربية محدثة تعلِّم المسلمين فهم دينهم ونصوص ربهم بما لم يفهمه سلفهم, بل يحتاج في الحقيقة إلى تشمير سواعد البحث في تحقيق منهج القرون المفضلة, ودعوة الناس إليه لننال الأجر والثواب من الله, والنصر والتوفيق في مشروعنا الاسلامي.

والحقيقة أن الباحث العلمي إذا ابتعد عن الضجيج التسويقي لمناهج الألسنية, ووازن بـ”هدوء” بين “نماذج القراءة الحديثة للنص” وبين “النموذج الفقهي الاسلامي” والذي تضمنته المدونات النظرية لأصول الفقه وقواعده ومقاصده, والمدونات التطبيقية للفقه الاسلامي المقارن, فإنه سيشعر بحجم الافلاس العميق وضعف الاقناع وغياب المنطقية والعقلانية في مناهج القراءة الحديثة المخالفة لمنهج القرون المفضلة, وأنها كلها افتراضات تقبل اثبات العكس.

فالجهاز الأصولي/الفقهي في التراث الاسلامي منظم بشكل متماسك ومبهر, وأكثر جدية في تلمس الدلالة واقناع القارئ بها, بل لانسبة بينهما أصلاً, فالجهاز الأصولي/الفقهي يستوفي كافة المعطيات كطبيعة اللغة التي نزل بها القرآن, ويتتبع أنماط أساليبها اللغوية في الدلالة, وينظم العلاقة بينها, ويدرس أثر السياق الذي نزل فيه النص, ودلالة النصوص الأخرى في ذات الموضوع, مع استيعاب تصرفات الشارع التطبيقية, إذ النصوص بنية متماسكة, معتضداً في ذلك بنتائج علم أصول الحديث التي يقع فيها تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم واستيعاب طرقها وتمييز درجات اليقين في ثبوتها, ومن كان له طرف علم بفن أصول الحديث علم أن لأهل الحديث من اليقين بالثبوت بسبب توارد الطرق ماليس لغيرهم, “وكل من كان لنور النبوة أجمع كان كلامه أحكم وأنفع”.

ثم تتابع على هذا الصقل والمدارسة والابداء والاعادة عباقرة في تاريخ الاسلام شهد العام والخاص بحذقهم وبراعتهم وتقواهم واخلاصهم, ودرسوا مسائل الشريعة فرعاً فرعاً وأدلى كل منهم فيها بدلوه, ومن تأمل موسوعات الاسلام كمصنف ابن أبي شيبة والتمهيد والاستذكار والمحلى والمجموع والمغني علم قدر الجهود التطبيقية الجبارة التي تتابعت عليها قرون بعد قرون.

والمراد أنه في نهاية ذلك كله ينتج المصطلح الشرعي النهائي محملاً بخلاصة توازنات النصوص الشرعية.

فأين هذا العمل المنظم الجادّ المعتضد بشهادة الشارع بالفضل من منهج يطير بموضة ألسنية ويختزل نصاً واحداً ليسقط التجربة عليه, ويهدر بذلك مجموع النصوص المتماسكة والتصرفات التطبيقية؟

بل إن كثيراً منهم لايدري شيئاً من آليات “فحص الثبوت” أصلاً, بل تجد أمثال هؤلاء أحد رجلين, إما مكابر عن السنة وعلومها أصلاً, وإما حاطب ليل لايميز بين مرتبة الصحيحين, والسنن الأربعة, وتاريخ ابن الجوزي, والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني, فضلاً عن أن يعرف المتواتر من المستفيض من الغريب, وهذا له نماذج كثيرة بعضها أقرب الى الطرافة منها إلى الدراسة العلمية, إذ ليس في رؤوس المفكرين الداعين الى التجديد الانقلابي اليوم مفكر واحد له دراية وخبرة بعلوم السنة وقوانين القبول والرد, وتمييز العلل الاسنادية والمتنية, ودرجات الثبوت, وقرائن تقوية الأخبار.

وإزاء كل هذا الجهل المطبق بالعلوم التي ينبني على أساسها “المعطى الثاني” لفهم الشريعة فإنك تجد بعضهم في غاية الجرأة على إطلاق الأحكام العشوائية المرسلة, فكم هو مشهد مؤلم حين ترى مستوى الجرأة مع هذه الهشاشة العميقة.

والحقيقة أنه حين يعرض الحديث عن مخاطر الازراء بالقرون المفضلة واللهج بتعظيم الكفار, يتساءل البعض بأنه ماقيمة الحديث عن أمر قلبي وهو حب السلف وبغض الكفار, فما هو الأثر العملي لذلك؟ فالمهم هو اتباع الكتاب والسنة, ولاداعي للحديث عن امتلاء القلب بحب القرون المفضلة, والصواب أن أعظم أثر لذلك هو مارواه البخاري ومسلم في صحيحيهما –وهو حديث متواتر أصلاً-  عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “المرء مع من أحب” ).

ولذلك فإن الله ذكر عن صفات اللاحقين من أهل الايمان سلامتهم من الغل لمن سبقهم من أهل الايمان, كما قال تعالى:

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَااغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر:10]

وأما مايذكره البعض من أن “تعظيم القرون المفضلة” مؤداه أنه “لايجوز نقد التراث الاسلامي” وأنه يعني رفع التراث إلى “مرتبة المقدس” ونحو هذه العبارات, فهذا مرده سوء الفهم, إذ هناك فرق ظاهر بين “الاسقاط الجُمْلي” للتراث عبر آليتي التسييس والمديونية اللتين مآلهما رد التراث إلى الاقتراض الثقافي أو الصراعات السياسية, وبين “النقد الجزئي” المستمد من قواعد الكتاب والسنة ومنهج القرون المفضلة, والذي هو معنى التجديد أصلاً.

ولذلك فإن أئمة السلف كمالك والشافعي وأحمد ومن بعدهم من المحققين كابن تيمية والشاطبي والذهبي وغيرهم انتقدوا كثيراً من المخالفات الكلامية والأصولية والسلوكية الواردة في بعض كتب التراث عبر حاكمية الوحي, لكن شتان بين النقد الجزئي المنهجي الشرعي, وبين الاسقاط الكلي المبني على سوء الظن وامتلاء القلب بالغل للقرون المفضلة, والفرق بينهما ظاهر جداً.

وبعض الناس يقول أن (القرون المفضلة ليس لهم منهج في التلقي والاستدلال أصلاً, وإنما هذه دعاية روجها السلفيون المعاصرون) وهذه مغالطة صريحة, فالقرون المفضلة لهم منهج واضح الملامح والمعالم, منها معالم نقلية أثرية, ومنها معالم عقلية نظرية, ومنها معالم سلوكية أخلاقية.

فأول معالم منهجهم في التلقي والاستدلال “تعظيم الوحي” والانقياد له, وجمعه كله وعدم “تبعيض الكتاب”, واستقراء سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وأحواله, وكل من خالف منهج القرون المفضلة في أصل من الأصول فستجد منبع ذلك حتماً آفة “تبعيض الكتاب”, إما تبعيض ألفاظه وإما تبعيض معانيه.

كما أنهم يتتبعون “فهم سلفهم” الذي تقدمهم فيعينون القدر المشترك بينهم, والقدر المختلف, ويعملون بما تتابع عليه سلفهم, ويرجحون فيما اختلفوا فيه.

كما أنهم لايقبلون “المنهج الرمزي” الاشاري الذي يجعل أدنى علاقة بين الدال والمدلول مسوغاً لحمل النص عليه, ولا “المنهج الباطني” الذي يجعل النص أسراراً, ولا “المنهج المعجمي” الذي ينسج منظومة الاسلام عبر لعبة “الفروق اللغوية” كالتفريق بين الكتاب والقرآن, والتفريق بين الدين والاسلام, والتفريق بين النبي والرسول, ونحوها ثم يبني على ذلك معطيات تشريعية جديدة, كما أن القرون المفضلة لايتتبعون مساحات “اللامفكر فيه” ويجعلونه هو المعنى الأصلي ويزيحون مافهمه سلفهم أصلاً, كما أنهم لايجعلون الوحي “نص مفتوح” عائم الدلالات تتعدد معانيه بعدد قرائه, كما في القراءات التفكيكية المحدثة.

بل لايستعيرون أصلاً مناهج أخرى لفهم الوحي مستمدة من طبيعة “لغات أخرى” تخالف طبيعة لغة القرآن, بل جرت القرون المفضلة على فهم لغة الوحي طبقاً لـ”معهود الأميين” في الاستعمال والتناول والتعاطي إذا لم يعارضها معارض راجح, ولذلك حرصوا على تتبع ديوان العرب الذي هو سجل لغتهم, بل لم يكتسب “علماء اللغة” هذا الوزن في تاريخ الاسلام إلا بسبب ماأدلوا به الى الشريعة من هذا السبب, وقد عقد الشاطبي لذلك عدة فصول في كتابه الموافقات لتحليل هذا المبدأ وبرهنته والاحتجاج له, منها قوله:

( فصل: لابد فى فهم الشريعة من اتباع “معهود الأميين”, وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم, فإن كان للعرب فى لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه فى فهم الشريعة, وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى فى فهمها على ما لا تعرفه وهذا جار فى المعانى والألفاظ والأساليب)

وهذا الأصل الذي ذكره ابواسحاق الشاطبي مبني على قوله تعالى:

{ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]

{ وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[طه:113]

{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58]

ومقتضى إنزاله وتيسيره باللغة العربية أنه يفهم من خلال أساليبها اللغوية, إذا لم يعارضها معارض شرعي راجح, وهذا أصلاً ليس شأناً مختصاً بالقرآن, بل هو شأن عام في الكتب السماوية, كما قال تعالى:

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}

وعليه فكل منهج حديث لقراءة النص يتنكب “معهود الأميين في أوضاعهم اللغوية” فهو مصادم لمبدأ انزال القرآن بلغة العرب ومعارض لمنهج القرون المفضلة في التلقي والاستدلال.

والباحث المسلم إذا وازن بين “أئمة القرون المفضلة” وبين “دعاة تجديد منهج القراءة” من حيث الأركان الأربعة لفهم “خطاب الوحي” وهي: استيعاب النصوص وتمييز درجات ثبوتها, والخبرة بأوضاع العرب في استعمالاتهم اللغوية وأنماط تعبيرهم التي هي لغة الوحي, وتحصيل اجتهادات السابقين في تفسير نصوص الوحي والقدر المشترك فيها والقدر المختلف, وعمق الديانة والصدق والتجرد في الوصول للمراد الالهي وليس استجابة لضغوط خارجة عن حقيقة النص.

إذا وازن الباحث هذه الأركان الأربعة بين الفريقين علم أنه لانسبة بينهما أصلاً, بل سيعلم الانسان أن كثيراً من دعاة تجديد القراءة إنما تسوروا تخصصات ليست لهم, وأن أكثرهم درس علوماً أجنبية قد تكون نافعة في ذاتها, لكنه للأسف ترك مجال استثمارها وصار يعبث في تخصصات لم يتأهل لها.

ومن أصول القرون المفضلة في التلقي والاستدلال أنهم لايسقطون المخترعات والكشوف العلمية على نصوص القرآن والسنة, ولذلك قال الامام الشاطبي في الموافقات:

(تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ فى علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي, كما استدل أهل العدد بقوله تعالى “فاسأل العادِّين” , وأهل الهندسة بقوله تعالى “أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها” , وأهل التعديل النجومى بقوله تعالى “الشمس والقمر بحسبان” , وأهل المنطق فى أن نقيض الكلية السالبة جزئية موجبة بقوله تعالى “إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب” , وأهل خط الرمل بقوله سبحانه “أو أثارة من علم” وقوله عليه السلام “كان نبي يخط فى الرمل” رواه مسلم, إلى غير ذلك مما هو مسطور في الكتب)

كما أنهم لايعتبرون فقه الأئمة المستنبط من الوحي مجرد اقتراض ثقافي أو صراع سياسي, كما أنهم لايكتفون بالامكانية اللغوية لتعيين الدلالات بل يضيفون إلى ذلك دراسة سياق النص, وتتبع الطرق والمرويات وتحليل أسانيدها, وعلاقة الدلالة بمقاصد الشريعة, وتفسير النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية, ويوازنون ذلك بتصرفات النبي وتطبيقاته, وماورد من نصوص أخرى في ذات الموضوع.

كما أن للسلف منهج عام مشترك في أصوله الكبرى في قرائن قبول الأخبار وقواعد الثبوت, وهذه القواعد لايعرفها -فضلاً عن أن يطبقها- أكثر المخالفين لمنهج القرون المفضلة, فكيف يقال أن السلف ليس لهم منهج في التلقي والاستدلال؟!

كما أن للقرون المفضلة منهج عام مشترك في إلحاق الحكم غير المنصوص بالمنصوص, كما أنهم لايربطون التشريعات بحكم عامة منتشرة غير منضبطة, ولهم مسالك دار عليها كلامهم في كشف مناطات الأحكام.

كما أن تصرفات القرون المفضلة في “قراءة نصوص الوحي” كشفت أن لهم منهجاً عقلياً موافقاً للشريعة, كمراعاة مفهوم اللزوم والاقتضاء, ومفهوم الجامع والفارق وأثرهما على الاشتراك والافتراق في الأحكام, ومفهوم الاطراد وأثره على صحة المبدأ المستنبط, ومفهوم المعارض الراجح وأثره في تقييد الدلالات, وتمييز مراتب المدركات كالقطع والظن, وماتواردت عليه المعطيات, ومفهوم تعدد المدرك والمأخذ ككون الشئ محبوب من وجه مبغوض من وجه, وغير ذلك من أصول النظر العقلي السلفي الموافقة للشريعة وأمثال القرآن.

كما أنهم لايغالون في ربط الشعائر بعلل سلوكية محضة, ولايغالون في ربط التشريعات بغايات اجتماعية خالصة, ولايعظمون المعاني الكلية ويفرغونها من تطبيقاتها, ولايسقطون الاصطلاحات الحادثة على نصوص الشارع, وإذا تضمنت المفردة العربية عدة احتمالات دلالية –وهو كثير- استعانوا بأنواع المرجحات الشرعية لتحديد الدلالة الراجحة.

كما أن للقرون المفضلة هدي سلوكي أخلاقي معروف في التلقي والاستدلال, مثل كراهية السؤال عما ليس تحته عمل, وذم أن يقفو الانسان ماليس له به علم من الدلالات, وتعظيم رد العلم الى الله فيما لم يتبين رجحانه, والتشنيع في الفتيا بلاعلم, وكراهة الإغراب, والاعتقاد بأثر التقوى وتزكية النفس في سلامة البصيرة والنظر والاهتداء لمعاني الوحي.

وماسبق كله مجرد أمثلة ونماذج وليس المراد الاستقصاء, وإنما المراد بيان وجه المغالطة عند من قال بعدم وجود منهج للقرون المفضلة في التلقي والاستدلال, برغم أن الأمر ظاهر جداً ولله الحمد.

كما يلاحظ في خطاب تجديد القراءة أن من معاييره المضمرة “معيار المغايرة” بمعنى “مخالفة السائد”, وهذا يذكرني بأحد أوجه الترجيح عند بعض من كتب في أصول الفقه الشيعي والتي هي “مخالفة الجمهور”!

فترى كثيراً من غلاة المدنية يقولون لك: مالإضافة التي قدمتها بهذه الرؤية الدينية؟ وكأن المعيار في صحة الرؤية الدينية أن تغاير الموجود؟! أو يقولون لك أين استقلاليتك؟ وكأن معيار الصواب في المفاهيم الشرعية هو أن تخالف من حولك! والحقيقة أن هذا الأمر “دين” إنما يبحث الانسان فيه عن الحق والهدى وماكان عليه الأمر الأول, وليس غرضاً للمباهاة والمغايرة والاستقلالية الشخصية.

والمراد مما سبق كله برهنة  “حجية منهج القرون المفضلة في التلقي والاستدلال”  والذي ينبني عليه أن “التجديد” الذي يتشرف الانسان به هو العودة لمنهج القرون المفضلة, والاجتهاد في احياء مااندرس من معالم الاسلام.

ومن الملاحظ أن من أكثر مايجعل بعض الكتَّاب يتحاشون الاشارة لاحترامهم لـ”منهج القرون المفضلة” أمران:

أنهم رأوا أخطاء بعض المنتسبين للسلف كبعض البغي والتجني والفظاظة في الاحتساب الفكري على الأشخاص المعينين, أو جعل أقوال آحاد السلف منهجاً عاماً, أو مراعاة الأصول العلمية للسلف دون الأصول السلوكية الأخلاقية, ونحو ذلك, فصارت تلك الأخطاء الفردية فتنة لهم صرفتهم عن الخير, والواقع أنه كما أن أخطاء المنتسبين للكتاب والسنة لايجوز أن تقودنا لتركهما, فكذلك بعض أخطاء المنتسبين للقرون المفضلة يجب أن لاتقودنا لهجر منهجهم, بل الواجب الذب عن منهجهم واستنقاذه أن تلوثه تلك الأخطاء, وقد اشار الامام ابن تيمية اشارة لطيفة حول هذا الموضوع فقال:

(وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان, وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها, فإنَّ ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضلالا كبيرا) مجموع الفتاوى 4/155

والأمر الثاني أن هؤلاء الكتَّاب وقعوا ضحية لسخرية دعاة “تجديد القراء” عبر ألوان المعايب والمهامز التي يسكونها للتنفير من متبعي هذا المنهج, ككثرة لمزهم بعبارة “التقليدية” و “الأدلجة” وتشويه مصطلح “السلف”, والواجب على العامل للاسلام أن يسير في جهاده التجديدي المحمود, على منهج القرون المفضلة في النقل والعقل والسلوك, ويسليه في هذا الطريق قوله تعالى (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}.

وبالجملة فكل من تأمل ماورد من النصوص الشرعية في فضل القرون المفضلة عموماً وأعياناً, واطلع على تاريخ حياتهم العلمية والسلوكية: علم قطعاً أن توقير القرون المفضلة, والاجتهاد في تحقيق مذهبهم, وحبهم واللهج بذكرهم, أمارة خير وحسن قصد, ومفتاح هداية في أهم المطالب, ولذلك قال الامام ابن تيمية:

(وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة: بقدر استنانها, وقلة ابتداعها) المجموع 4/156

وخلاصة الأمر في الموقف من هذه الإشكالية أن: الدعوة الى تجديد منهج قراءة النصوص بمايعارض منهج القرون المفضلة مؤداه تجهيل وتضليل تلك القرون المفضلة في أهم المطالب ومصادمة قطعيات النصوص في تقرير اهتدائهم وبصيرتهم, إذ الفضيلة ملازمة للاهتداء, ولاتكون الفضيلة مع الضلالة.

وختاماً .. أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا جميعاً حسن القصد والنية, وأن يسلم قلوبنا من الالتفات الى ثناء المخلوقين وتطلب حمدهم, وأن يحمينا من تزين بعضنا لبعض, فقد تتابعت عبارات أئمة القرون المفضلة على أنه من أصلح مابينه وبين الله أصلح الله مابينه وبين الناس, بل لقد كان أئمة السلف يتراسلون فيما بينهم بهذا المعنى, ولذلك روى الامام ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص والنية بسنده الى معقل بن عبيد الله الجزري قال:

(كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه)

وأنا أعلم أن هذه المقامات منازل إيمانية صعبة, الكلام عليها يسير ولكن بلوغها من أعسر الأعمال, وبها تميز أئمة القرون المفضلة حيث كانوا يجتهدون في أعمال القلوب ويقتصدون في العبادات الظاهرة, وإنما المراد من ذكر هذه المقامات تذكير النفس والاخوان بها, ومن تتبع وسائل الشريعة في بلوغ هذه المقامات الايمانية العزيزة وجدها تدور حول ثلاثة وسائل: الاستعانة, والمجاهدة, والتواصي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 1 =