رابعاً: إشكالية “التجديد وتجاوز الخطاب السلفي”:

ذكر بعض المعلقين أن المقالة كرست منهج الفهم السلفي للنصوص, وأننا اليوم بحاجة إلى منهج تجديدي لقراءة النص الشرعي, فما فائدة تكريس هذا الخطاب السلفي.

والحقيقة أنه لم يتبين لي ماذا يعني هؤلاء بمفهوم “الخطاب السلفي”؟ هل هو مقتصر على مشائخ محلتنا وأهل بلدتنا؟ أم يتعدى ذلك إلى منهج المذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة؟ أم يتعدى ذلك إلى منهج القرون المفضلة؟ فلاأدري أي سقف للسلف يقف عنده؟

ولست أدري “ماهية التجديد” في نظره, هل الخروج بشئ جديد مطلب في حد ذاته أم المطلوب هو الوصول للدليل والحق سواء كان مضموناً جديداً أم تقليدياً؟

وهل التجديد عنده هو الخروج عن الاختيارات السلفية لعلماء نجد؟ أم الخروج عن سلفية المذاهب السنية الأربعة؟ أم الخروج عن سلفية القرون المفضلة؟

لكن بغض النظر عن تحديد موقف هؤلاء من هذه الاشكاليات, فلنحاول تقديم الأصل الشرعي في هذا الباب:

الذي أعتقده أن مفهوم “التجديد” يستمد أصالته الجوهرية من حديث النبي صلي الله عليه وسلم الذي رواه ابوداود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».

وقد نقل الامام السيوطي اجماع المحدثين على تصحيح هذا الحديث.

والذي يبدوا لي أن التجديد في أصله ينقسم قسمين “تجديد إحداث” و “تجديد إحياء”.

فأما تجديد الإحداث فهو يعني الخروج بفهم مخترع لدين الله يتناقض مع ماكان عليه النبي صلى الله عليه وأصحابه وأئمة القرون المفضلة, وهذا تجديد مذموم. وأما تجديد الإحياء فهو يعني إحياء مااندرس من هدي الاسلام الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم باحسان, وهذا هو التجديد الشرعي المحمود.

والأصل في تحديد الموقف الشرعي من “تجديد الإحداث” مارواه الشيخان عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها)

وماأخرجه الشيخان أيضاً من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ».

والنصوص في ذم “الاحداث في الدين” كثيرة مشهورة, والقدر المشترك بينها هو “معنى قطعي” يدخل في أعلى درجات التواتر المعنوي بلاشك, سيما إذا علم الباحث أن بعضها آيات قرآنية متواترة لفظاً, ولله الحمد.

والمراد هاهنا أن “مفهوم الاحداث” في الدين عام يشمل: إحداث الألفاظ, وإحداث المضامين, وإحداث مناهج القراءة, بل إن الإحداث في “مناهج القراءة” على خلاف هدي القرون المفضلة هو أغلظ أنواع الاحداث.

ووجه ذلك أن اختراع حديث واحد فقط لايقتضي إلا ماتضمنه ذلك النص المخترع من محتوى محدود, واختراع مضمون معين واحد لايقتضي إلا ذلك المعنى المحدود, أما إحداث منهج لقراءة النصوص يصادم منهج القرون المفضلة فإن مؤداه مسخ المأثور وتسلسل المحدثات والدلالات المخترعة.

فإذا كان هذا شأن الشارع في التحذير من محدثة واحدة, وهو ماعلم من تتابع القرون المفضلة في النكير على آحاد المحدثات, فكيف سيكون الموقف الشرعي من إحداث “منهج قراءة” يقوم بتوليد الدلالات بطريقة لايعرفها أصحاب النبي ولامن تبعهم باحسان؟!

والتجديد المذموم يدور دوماً حول محورين: إما استبعاد وبتر شئ من هدي الاسلام, أو أن يضاف إليه من المعالم ماليس منه.

وماأكثر ماأشار القرآن الى هذين النوعين من الضلال, وهما إما الزيادة على الوحي أو النقص منه, كما قال تعالى في سورة العنكبوت:

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ }

وقال تعالى في سورة الأنعام:

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}

وقال في سورة الأعراف:

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)

فهذه الآيات -ونظائرها كثير- تشير دوماً إلى أن الضلال نوعين: إما إعراض عن شئ من مضامين الوحي, أو زيادة مضامين لم ترد فيه, وهذا يعني أن الهدى هو التمسك بالكتاب كله بلانقص عنه ولازيادة فيه.

ومن تأمل موارد التجديد المحمود وجدها في غالبها تنصب في مقاومة التجديد المذموم, فتجديد الاحياء هو مناهضة تجديد الاحداث وابطاله, ولذلك فالتجديد المحمود هو إما بعث ماانطمر من تعاليم الاسلام, أو تخليصه مما ألحق به وأضيف إليه.

وكثير من الكتَّاب اليوم حين يتحدث عن “التجديد” يتكلم عن حاجتنا الى “منهج جديد” لقراءة النص, ويدندنون كثيراً حول فكرة تجديد منهج القراءة, فهذا إن كان مقصودهم بتجديد منهج القراءة العودة الى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة القرون المفضلة فهذ تجديد إحياء محمود مشكور, أما إن كان المقصود هو اختراع منهج جديد لفهم الوحي يعارض منهج القرون المفضلة فهذا تجديد إحداث مذموم.

وللأسف فإن كثيراً من هذه الدعوات تعني بقراءة النص اختراع مضامين جديدة يمكن إدراجها تحت ألفاظ النصوص, فغاية مافي هذا المنهج الحفاظ على “لفظ النص” فقط دون فحواه ومضمونه, فهو تفريغ لوعاء النص من مضمونه الأصلي وصب مضمون جديد فيه, وهذا مسخ لدين الله ليس من التجديد المحمود في شئ, فهل يعقل أن يكون المراد الالهي بالوحي الذي أنزله الله, وحض على اتباعه, وأمر بالاستسلام له, وعاقب على الاعراض عنه؛ هو مجرد “صورة ألفاظ” لامضامين ولامحتوى, بل هل يعقل أن يكون جوهر الوحي و”أصول معانيه” تتناقض الاجيال في تفسيرها جذرياً ؟! بل هل يعقل أن تكون “أصول معاني الوحي” تجهلها القرون المفضلة؟!

فلايتشرف الباحث المسلم أن يغرق في هذا اللون من التجديد, بل الشرف كل الشرف في مناهضته وتبيين بطلانه وصيانة عقول شباب الاسلام من كوارثه.

والواقع أن هذا التفسير الانقلابي لمعنى التجديد قد تسرب جزء كبير منه من خلال التأثر الخاطئ بقراءة تاريخ الفلسفة والنظريات العلمية, ومحاولة اسقاط فكرة الثورات والنظريات والتحولات الجذرية والانقلابات العلمية المفاهيمية على “العلوم الشرعية” وهذا خطأ قاتل, فالعلوم المدنية يقبل فيها معنى الاختراع, بل كثيراً مايكون الاختراع موضع الابداع, أما المعاني الدينية فلايحمد فيها الاختراع, بل موضع الابداع فيها القدرة على العودة للأمر الأول.

وغاية مايحمد الاختراع في العلوم الشرعية هو في الوسائل والآليات لا في أصول المعاني والمفاهيم, بل الاختراع في “أصول المعاني” إحداث وابتداع مذموم, فانظر كيف تحولت البدعة المذمومة في الشرع الى مطلب محمود عبر ألاعيب الألفاظ!

والعودة للأمر الأول لاتقتصر على “لفظ النص” فقط, بل اللفظ والمحتوى ومنهج القراءة, إذ منهج القراءة هو الواسطة بين اللفظ والمحتوى, فإذا بدلنا منهج القراءة عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة القرون المفضلة أنتج لنا محتوى مختلفاً ليس هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا هدي أصحابه.

وبالتالي فإن “منهج القرون المفضلة في التلقي والاستدلال” حجة لايداخل الباحث فيها شك, ومما يدل على ذلك أمور كثيرة منها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين معلم النجاة فقال: (هم من كان على مثل ماأنا عليه اليوم وأصحابي)

ومماثلة منهج النبي وأصحابه لاتكون بأخذ ألفاظهم فقط, وادراج ماشئنا فيها من المعاني والمضامين, بل يكون ذلك بالاقتداء بمنهجه وتتبع أحواله.

كما أنه لولا أن لهدي أصحابه قدر زائد في كشف الدلالة والهدى الشرعي لماذكره, بل لاقتصر على قوله هم من كان على مثل ماأنا عليه.

وهذا شأن الشارع في شواهد متعددة حيث يشير فيها إلى دور هدي الصحابة وسيرتهم في كشف “الهدي الشرعي” واستيفاء معالم هدي النبوة, ومن ذلك الحديث المشهور الذي رواه ابوداود والترمذي بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)

وقد تتابع أهل الحديث على تصحيح هذا الخبر, ومن المعلوم أنه لو كان “هدي الخلفاء الراشدين” ليس فيه قدر زائد في كشف الهدي الشرعي لما ذكره صلى الله عليه وسلم, فكيف وقد أكد على ذلك بقوله ” تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ”.

وليس يخفى على من له أدنى بصيرة أن هدي الخلفاء الراشدين لايقتصر على مراعاة ألفاظ النصوص, بل يدخل في ذلك دخولاً أولياً منهجهم في التلقي والاستدلال وفهم النصوص الشرعية وتنظيم العلاقة بينها.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم عن النظم السياسية التي تعقبه بين أن أصحها ماكان على المنهاج النبوي, كما قال صلى الله عليه وسلم (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها) ثم قال بعد ذلك (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)

ومنهاج النبوة ليس هو مراعاة ألفاظ القرآن والحديث, بل يدخل في ذلك دخولاً أولياً الأحوال والمنهج وطرائق التلقي للوحي, فإذا حافظنا على ألفاظ الوحي وتسلطنا عليها بمنهج جديد للفهم لم تكن عليه القرون المفضلة لم نكن على منهاج النبوة أصلاً.

ومن وجه آخر فإن النبي صلى الله عليه أثبت اهتداء الخلافة الراشدة بعده بمنهاج النبوة, وعليه فإن من خرج عن منهجهم وهديهم في التلقي والاستدلال فقد خالف بطريق اللزوم منهاج النبوة, ومن التناقض القول بأن منهج الخلافة الراشدة كان على منهاج النبوة ولكن يجوز مخالفته!

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن هذا الخلل في تنكب الاهتداء بهديه كما روى البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يكون بعدي أئمة يستنون بغير سنتي, ويهدون بغير هديي, تعرف منهم وتنكر)

وهذا الاتباع لهدي السلف ليس خاصاً بعصرنا أو بعصر من بعد القرون المفضلة, بل حتى القرون المفضلة ذاتها كل جيل منها يهتدي بهدي سلفه, وجاء ذلك في كتاب الله حيث أن الله تعالى أثنى على من بعد السابقين من الصحابة بكونهم “اتبعوا” السابقين, كما قال تعالى عن هذين الجيلين من الصحابة:

{ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}[التوبة:100]

ولو لم يكن هدي سابقي الصحابة محلاً للاتباع لما أثنى على من اتبعهم بهذه الصفة, فهذه الآية دلت على فضل اتباع السلف الصالح وهم في مرتبة واحدة وهي مرتبة الصحابة, فكيف سيكون فضل ومنزلة ذلك إذا تفاوتت المراتب تفاوتاً عظيماً, فعلم أن اتباع القرون المفضلة هو من أعظم أسباب الهداية والرفعة في ميزان الله.

ومما يبين دلالة هذه الآية ويوضحها أن عبدالرحمن بن عوف كان يطلب البيعة على “سيرة الشيخين” ولذلك كان جواب عثمان كما روى البخاري في صحيحه من حديث المسور بن مخرمة, أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال:

(أبايعك على سنة الله ورسوله, والخليفتين من بعده)

فهذا اهتداء بمن سبق من سلفهم, ولو لم يكن لذكر سنة الشيخين دلالة على معنى اضافي في كشف الهدى الشرعي وايضاحه لما ذكره عثمان بن عفان في توليته.

وتلاحظ في حديث المجدِّد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “من يجدد لها دينها” فنسب الدين للأمة, ودين الأمة هو المعروف مسبقاً المطمور وقت التجديد, وليس هو الفهم الشخصي المخترَع, فإن صاحب الفهم الشخصي المخترَع لم يجدد لها دينها بل ابتكر لها ديناً مستقلاً من عنده.

وقد ذكر تعالى في كتابه أن جمهور آيات القرآن هي آيات محكمة المعاني, كما قال تعالى في سورة آل عمران:

{هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }

فجعل المحكمات هن “أم الكتاب” أي أصله وأساسه, ومقتضى كونها محكمة إمكانية فهمها, وبالتالي إمكانية فهم القرون المفضلة لهذه الآيات المحكمة التي هي أم الكتاب وغالبه, وعليه فإن من اعتقد أن القرون المفضلة لم تفهم أصول معاني النصوص الشرعية كما ينبغي, فهذا مؤداه أن جمهور آيات الوحي ليست بمحكمة أصلاً, فهذا طعن في أم الكتاب وجعله متشابه موهِم.

فهل يخطر ببال باحث يحترم مقتضيات البحث العلمي أن الله أنزل إلينا “ألفاظاً” ليختبر إمكانيات كل جيل في التحليق بمعانيها كيفما اتفق؟ وأن الله سبحانه وتعالى لايعنيه المراد الالهي فيها بقدر مايعنيه مراعاة ألفاظها ؟! وأن الاحتمالات الدلالية لألفاظها كلها خيارات متاحة؟! هذا عبث ينزه الشارع عنه, ويتناقض مع وصف القرآن لأم الكتاب بأنه “محكم”.

بل إن هذه الدعوة الى تجاوز فهم القرون المفضلة واختراع منهج جديد للفهم هو مما أيقظنا الشارع إلى حدوثه, وحذرنا من أهله فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:

«سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم».

فما لم يكن على العهد الأول من أمر الدين فليس بشئ.

وذكر ذلك النبي صلى الله عليه في سياق آخر كما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

« ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل »

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن حوارييه وأصحابه يقتدون بسنته ويستنون بامره, وليس يأخذون فقط ألفاظ النصوص.

ومن طرائف المفارقات العجيبة أنك تجد المتطرفين في دعاوى “تجديد القراءة” شديدي التبرم بظواهر التكفير والتبديع, ويكثرون من الحط عليها, مع أنهم يقعون في ألوان من التضليل هي أشد وأعتى, فهم يضللون الأمة خمسة عشر قرناً ويرونها لم تفهم نصوص ربها, ويعتبرونها كانت في غاية السذاجة في أهم المطالب, وأننا لايمكن أن نفهم نصوص ربنا حق فهمها حتى نوظف مناهج الألسنية والآركيولوجيا والتفكيكية والسيميولوجيا والهرمنيوطيقيا ونحوها من المناهج الحديثة التي كثر الحديث عنها هذه الأيام, فأي تضليل للأمة ورميها بالانحراف أبشع من ذلك؟!

يمكن القول ببداهة ظاهرة أن القرون المفضلة كانت لاتعرف النظريات العلمية والخبرة البشرية الحديثة كالنظريات الفيزيائية والرياضية والطبية الحديثة المنتمية لعلوم العمران, هذا أمر يعرفه ويقر به كل عاقل, بل إن النبي صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره أثبت أن الصحابة أعلم منه ببعض أمور العمران, كما في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن التأبير (أنتم أعلم بأمر دنياكم), فإذا كان بعض الصحابة أعلم من رسول الله ببعض علوم العمران, فمن بعد الصحابة أولى بجواز ذلك بالنسبة للصحابة, وهذا لايخالف فيه أحد من علماء الاسلام.

لكن الذي يستحيل القول به هو أن تكون القرون المفضلة لم تفهم الوحي كما ينبغي وأن المناهج الغربية المعاصرة هي التي يمكن لها أن تقدم لنا الأسلوب العلمي الصحيح لفهمه, هذا تفكير خرافي ينتهي بإقالة العقل والتفكير المنهجي السليم, وليس وراء ذلك من العقل حبة خردل.

وفضلاً عن ذلك فهذا ينطوي على اتهام ضمني لأمة الاسلام طوال قرونها السابقة بالضلال الديني, والانحراف في فهم النصوص, فإن كان ثمة نزعة غلو في التكفير في بعض المنتسبين للاسلاميين, فهذا التكفير الذي تضمنته لوازم هذه المقالة لغلاة المدنية أشد وأبشع وأكثر فظاعة.

وبعض هؤلاء يحاول الفصل بين “الفضيلة” و “الهدى” فتراه يقول لك: صحيح أنه ورد أحاديث متواترة قطعية الثبوت في فضل القرون المفضلة, لكن هذا يدل فقط على “فضلهم” ولايقتضي “علمهم” بالنصوص, فآل هذا الكلام الى أن الصحابة والتابعين وتابعيهم فضلاء في أنفسهم, لكنهم غير مهتدون في دينهم, فكيف تتحقق الهداية بلاعلم إذ الجهل مفتاح الضلال, وكل من لم يهتدِ فهو ضال كما قال تعالى:

{ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36]

فالله تعالى لم يرفع منزلة الجاهل بكتابه, بل خفض منزلته كما قال تعالى:

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]

والعلم قرين الايمان في كتاب الله كما قال تعالى:

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ} [الروم:56]

وفي حادثة مشابهة تكلم الامام ابن تيمية عمن أبهرته “تقريرات المتأخرين” فجعلهم أعلم من القرون المفضلة, فكان مؤدى ذلك كما يقول الامام ابن تيمية:

(كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين, واستبلاههم, واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة,لم يتبحروا في حقائق العلم بالله, ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي, وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله, ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده: في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة)مجموع الفتاوى (5/10)

بل إن مقتضى الخروج عن منهج القرون المفضلة وتجهيلهم في معاني الوحي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤدِّ أمانة “تعليم الكتاب والحكمة” وإنما أدى وظيفة “تلاوة الألفاظ فقط”, وكلاهما أمانتان أداهما رسول الله على أتم وجه, وقد عرض الله ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة, كما قال تعالى:

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[آل عمران:164]

وقال تعالى في مطلع سورة الجمعة:

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة:2]

فإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهموا النص الشرعي كما ينبغي, فإن هذا مقتضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلِّم صحابته الكتاب والحكمة حاشاه عليه السلام, وبالتالي فإن التابعين الذين تلقوا عن الصحابة لم يتلقوا معنى النص الشرعي أصلاً, وهكذا من بعدهم من قرون الأمة الذين بقوا في غاية الجهل في أهم المطالب وهي فهم الوحي, فكم هي صورة بائسة آل إليها هذا الخطاب.

وإذا استوعب الانسان دلالة هذه الآية حول قيام النبي بأمانة “تعليم الكتاب والحكمة” فحتماً سيتوضح له أنه يستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى أصحابه يمارسون “مناهج قاصرة” لفهم النص فأهملهم ولم ينبههم, بل تركهم يهيمون في هذه المناهج المختلة, فهل يستقيم هذا مع شدة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وكمال نصحه لهم وحرصه على هدايتهم؟!

والواقع أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوه قد اهتدوا بالعلم كما قال تعالى:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف : 108]

فبين القرآن أن الصحابة الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على بصيرة, والبصيرة ليست حفظ الحروف والألفاظ, وإنما عقل المعاني وحسن فهمها والفقه فيها, فلو كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهموا الوحي فمقتضى ذلك أنهم ليسوا على بصيرة, وهذا مصادمة لدلالة هذه الآية.

وبغض النظر عن هذه الشواهد العامة التي تدل على فقه الصحابة ودقة فهمهم لنصوص الوحي, فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على كثير من أعيان الصحابه بفهمهم للنص وفقههم فيه وحسن تأويلهم للقرآن, بمايعني صحة “منهج القراءة” عندهم, ومن ذلك ماروى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن, فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري, ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال:(العلم).

فهذه شهادة جليله من الشارع على مابلغه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مراتب العلم في فهم الوحي واستيعاب دلالاته.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف أباعبيدة بـ”أمين الأمة” كما روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

( إن لكل أمة أميناً, وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح).

ومقتضى “أمانة الأمة” كمال العلم, إذ لاتكون “أمانة الأمة” لجاهل بكلام الله وكلام رسوله, ومما يبين هذا ويوضحه ماروى مسلم في صحيحه عن أنس:

(أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنَّة والإسلام, قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: “هذا أمين هذه الأمة” ).

فلما طلب أهل اليمن من يعلمهم “السنة والاسلام” أرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم أباعبيدة بمقتضى كونه “أمين الأمة” مما يبين أن هذا الوصف يستلزم كمال العلم بالوحي وحسن فهمه وفقه معانيه.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وصف علي بن أبي طالب بوصف يتضمن كمال العلم كما في الصحيحين عن سعد بن ابي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي:

( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

فهل يعقل أن يبلغ علي هذه المنزلة الرفيعة وهو جاهل بمعاني الوحي؟! سيما أن الله تعالى يقول:

{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]

بل إن من أكثر منازل الصحابة إبهاراً يقشعر له جسد المؤمن ماورد في مكانة “سعد بن معاذ”, حيث روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله أنه قال “بينما كانت جنازة سعد بن معاذ موضوعة بين أيديهم” سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

(اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)

فهذا الصحابي الجليل ذو المنزلة الرفيعة السامية هل يعقل أن يهتز العرش الإلهي لموته وهو جاهل بمعاني كلام الله وكلام رسوله؟ أو أن لديه “منهج قاصر” لقراءة النص؟ فهل بلغ تلك الغاية إلا بسبب كمال اهتدائه للمعنى ثم عمله بمااهتدى إليه؟

ومما يجلي هذا المعنى أن يلاحظ الباحث “قيام المقتضي” وهو شدة تشوف الصحابة وشغفهم وتشوقهم للقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتفانيهم وتنافسهم فيها, فهل يعقل أن يكون الصحابة معرضين عن سؤال النبي عن معاني الوحي مع هذا الشغف المعروف عنهم به؟ ومما يؤكد هذا الشغف ماروى الامام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود أنه قال:

(والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت, وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت, ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه).

بل إن صغار الصحابة كانوا يتتبعون كبارهم لتلقي مافاتهم من معاني الوحي, كما روى ابن سعد بسنده عن ابن عباس قال:

(لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الانصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس, أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي عليه السلام من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك) أعلام النبلاء 3/343.

ولم يكن هذا الشغف بالوحي والتفقه في معانيه مقتصراً على الرجال في عصر الصحابة, بل كان أيضاً هذا شأن النساء, ولذلك روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت:

( نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)

بل لقد كانت بعض “نساء الصحابة” تجري مدامعهن تفجعاً على الوحي الإلهي, وقد روى الامام مسلم في صحيحه ذلك المشهد البليغ في رسم علاقة الصحابة بالوحي, حيث روى مسلم عن أنس قال:

(قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها, فلما انتهينا إليها بكت, فقالا لها: مايبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ماعند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم, ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء, فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

13 + ستة =