أصبح هناك اليوم منهجان واضحان لصيانة الهوية ومقاومة تهديدات التغريب, واذا شئنا أن نتجاوز المفاهيم الثقافية الى جوهر الاشكالية في عبارة بسيطة فإن الفتنة التي تعرض للشباب المسلم اليوم هي “استعظام دنيا الكفار”, والمراد أن هذه الفتنة المعاصرة خلقت منهجين لمقاومتهما, كلاهما يحاولان الاجابة على اشكالية “مقاومة تهديدات التغريب” وهذان المنهجان:

أولهما: منهج “تعظيم الدنيا” ويستهدف هذا المنهج إعادة عرض الوحي في صورة المعظِّم لشأن عمران الدنيا, وإعادة عرض التراث باعتباره ينشد الحضارة والمدنية الدنيوية, وهدف هذا المنهج من إعادة رسم المشهد بهذه الطريقة “تلافي الاصطدام بين سطوة الحضارة والدين” حتى لايتخلى الناس عن عقيدتهم وايمانهم وتراثهم إذا رأوها لاتدفع باتجاه الحضارة الدنيوية, وهذا المنهج أخذ به بعض المنتسبين للُّغة الدعوية الحديثة, ولايشك الانسان أن كثيراً منهم أخذ بهذا المنهج بحسن قصد بهدف تقريب الاسلام للناس وخصوصاً للطبقات المثقفة بالثقافة الغربية المعاصرة, حيث يردد كثيراً أصحاب هذا الاتجاه (أن آخر مايمكن أن نقاوم به التغريب هو التزهيد في الدنيا).

وثانيهما: منهج “تعظيم العبودية” ويستهدف هذا المنهج تربية الناس -والشباب خصوصاً- على ماتواتر عليه القرآن والسنة وفقه القرون المفضلة من “تعليق القلوب بالآخرة”, والاستعلاء على حطام الدنيا وزهرتها, واعتبارها مجرد وسيلة نحرص عليها لننصر مبدأنا لالكونها عظيمة في ذاتها,  وترسيخ هذا المعنى في النفوس.

فإذا امتلأ قلب الشاب المسلم بمعاني “تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا” أصبحت القرون المفضلة في وعيه أرقى المجتمعات وأشرفها بمابلغته من تنوير العلوم الالهية ومنازل العبودية ثم الاجتهاد في تحصيل وسائلها الدنيوية مع عدم الركون إليها, وأصبح المجتمع الغربي في نظره حالة من الانحطاط والظلامية بسبب ماسُلِبه من تنوير العلوم الالهية والاعراض عن الله, والاستغراق في تدبير المعاش الحاضر وعلم ظاهر الحياة والدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون, وهذا المنهج أخذ به جماهير الاسلاميين اليوم ولله الحمد.

والواقع أنه عند التأمل والتدبر يكتشف الانسان –بكل بداهة- أن المنهج الثاني هو المنهج الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم, وربى أصحابه عليه.

فإن أصحاب النبي رضوان الله عليهم لم يستطيعوا أن يدكوا حضارة فارس والروم إلا حين زكى النبي صلى الله عليه وسلم نفوسهم وربى فيهم تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا, والشموخ بالعلوم الالهية, فرباهم على ذلك بكل حدث يمرون به, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل الأحداث والوقائع لترسيخ معنى ارادة الله والدار الآخرة في نفوس أصحابه والاستعلاء على مظاهر الدنيا واعتبارها مجرد وسيلة لبناء المستقبل الأخروي.

والشواهد والمستندات التي تؤكد أن هذا المنهج هو “المنهج النبوي” في مقاومة تهديدات الهوية كثيرة جداً, بل أكثرها يعرفها القارئ الكريم, ومنها على سبيل المثال أنه حين مر النبي صلى الله عليه وسلم بالجدي الأسك استغل الحادثة وربى في أصحابه حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة, فكما روى مسلم من حديث جابر:

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية, والناس كنفته, فمر بجدي أسك ميت, فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء, وما نصنع به. قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).

وحين أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية, أعاد ذات الدرس عليهم, فكما روى البخاري عن البراء بن عازب قال:

(أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرقة من حرير, فجعل الناس يتداولونها بينهم ويعجبون من حسنها ولينها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون منها؟ قالوا: نعم يارسول الله. قال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة خير منها)

وحين تضايق عمر من بذاذة بيت رسول الله بالنسبة الى قصور الحضارات الأخرى, رباه النبي صلى الله عليه وسلم بحزم على هذا المعنى, حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب أنه قال:

(رفعت رأسي في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أُهباً ثلاثة, فلما رأيت أثر الحصير في جنبه قلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله,  فاستوى النبي جالسا ثم قال: « أفي شك أنت يا بن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا »)

هذا الحوار العظيم بين النبي وعمر من أدق المشاهد التي تحكم بين المنهجين السابقين وتفصل فيهما, فحين عبَّر عمر عن تألمه وهو يقارن “المظاهر الدنيوية” في الحضارة الفارسية والرومية بمحدودية المجتمع الاسلامي,لم يعبر له صلى الله عليه وسلم عن “تعظيم الدنيا” ليداري سطوة الحضارة عليه, فلم يقل له النبي إن لدينا نصوصاً كثيرة في فضل عمران الدنيا ونحن نسعى لبنائها أيضاً.

بل بالعكس من ذلك تماماً,  فقد حذره من أن يغتر بتلك المظاهر المدنية الدنيوية, وأعاد تذكيره بقطب رحى الاسلام “مركزية الآخرة”, وخاطبه بعبارة شديدة فيها استعظام لموقف عمر, فقال له « أفي شك أنت يا بن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا»

وفي رواية أخرى في الصحيحين أن النبي قال له: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟».

هذه هي التربية النبوية, وهذا هو منهج النبوة في مقاومة سطوة الحضارات الأخرى, أما إذا أكدنا للمتسائل عظمة الدنيا فقد أججنا دوافع الانبهار أصلاً, وصببنا الزيت على النار, ذلك أن استعظام دنيا الكفار لايعالج بـ”تعظيم الدنيا”, لأنه وبكل بساطة لايعالج الأثر السلبي بتكريس دوافعه! فهل عالج القرآن الركون بتأكيد احترام الاسلام للدعة؟ وهل عالج القرآن التثاقل الى الأرض عن الجهاد بتأكيد احترام الاسلام لجبلَّة كراهية القتال؟ وتأمل في كل الآثار السلبية لاتجد القرآن يعالجها بتأكيد دوافعها, وهذا أمر ظاهر.

وإنما يحسن بيان “أهمية الدنيا” في حالتين فقط: إما أن يوجد مثقف يظن أن الاسلام يدعوا للرهبنة وتحريم الطيبات والرفاه, فهذا يبين له أن الله أمر المؤمنين بماأمر به المرسلين من أكل الطيبات, وأن الله لم يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق, وأنه من أَخذ المال بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع, وأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه, ونحو ذلك.

وأما الحالة الثانية: فهي أن يوجد شاب متحمس يظن أن العمل للاسلام لايستحق تحصيل الأسباب والسعي فيها وأنه ليس ثمة سنن كونية للنجاح الاصلاحي, فهذا يبين له أمر الله باعداد القوة واتخاذ الأسباب, وأن مالايتم الواجب الا به فهو واجب, وأن النبي ظاهر بين درعين, وقال ألا إن القوة الرمي, وأن قوم شعيب قالوا (ولولا رهطك لرجمناك), ونحو ذلك.

فمثل هذين الحالين –وان كانا ليسا شائعان بحمد الله- يحسن فيهما بيان أهمية الدنيا لايخالف في ذلك أحد من فقهاء الاسلام, أما تحويل الخطاب الديني كله إلى شحن قلوب الناس والشباب المسلم بتعظيم الدنيا والمغالاة في قيمة المدنية المادية واقرار كونها المعيار في تقييم المجتمعات والشخصيات فهذا انحراف مصادم للمنهج القرآني والتزكية النبوية وهدي القرون المفضلة.

ومما يؤكد ماسبق أنه حين جاءت الجزية من البحرين صلى بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم متعرضين له عله أن يصيبهم من المال فأعاد النبي درس الدنيا/الآخرة فكما روى البخاري في الصحيح عن عمرو بن عوف الأنصاري:

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي, فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين, فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم, فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ قالوا أجل يا رسول الله. قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم, فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)

وهذا المعنى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الفقر على أمته, بل كان يخشى عليهم المنافسة في شؤون الدنيا, أعاده عليهم بحروفه, وذلك حين صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين, كما روى البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامر قال:

(صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات, ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط, وأنا عليكم شهيد, وإن موعدكم الحوض, وإني لأنظر إليه من مقامي هذا, وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).

بل كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً مايقارن بين قيمة الدنيا وقيمة الآخرة, فكما قارن بين مناديل سعد في الجنة والدنيا, فإنه قال كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:

(لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها, ولقاب قوس أحدكم من الجنة, أو موضع قيد يعني سوطه, خير من الدنيا وما فيها)

وقد كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن الرفاه التام إنما هو في الآخرة, وأن الكفار هم الذين يتتبعون ألوان الرفاه في الدنيا كما نبههم على ذلك حين حرَّم الحرير وآنية الذهب فقال لهم:

(لا تلبسوا الحرير ولا الديباج, ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة, ولا تأكلوا في صحافها, فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) خرجاه من حديث حذيفة.

بل تأمل في صورة الدنيا كلها كيف ضرب لها النبي صلى عليه وسلم مثلاً فريداً فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر).

وضرب لها مثلاً آخر فقال صلى الله عليه وسلم:

(لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ماسقى منها كافراً شربة ماء)

ومن وجه آخر لم يكتف الخطاب القرآني ببيان وسيلية الدنيا وخطر تعظيمها فقط, بل كانت آيات القرآن تتنزَّل على مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوالية في وقائع متتابعة تؤكد مرة بعد أخرى على تعميق الشعور بفرادة المجتمع المسلم وعلوهم على كل قوى المجتمعات الدنيوية الكافرة, انظر كيف تزكيهم آيات القرآن بهذا المعنى:

{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:139]

والخطاب في هذه الآية ليس لرسول الله بل هو لـ”المؤمنين” في مجتمع الصحابة ومن بعدهم, كم هي دلالة عميقة أن تكون هذه الآية نزلت أصلاً في لحظة “انكسار عسكري” أمام قوى الكفر, ومع ذلك يؤكد لهم تعالى أنهم “الأعلون”, بل ولايعتبر هذا المعنى مجرد “تشريف” بل هو “عقيدة” ولذلك ربط التمسك بها بصحة الايمان فقال “إن كنتم مؤمنين”.

هذا المعنى لـ”علو الايمان” لايعقله غلاة المدنية, ولذلك إذا رأو بعض الدول الاسلامية المستضعفة تتساقط تحت قوى الامبريالية الغربية, يرددون أن دعاة الاسلام هم باعة الوهم ومروجوا التضليل وتغييب الوعي إذ خدرونا بشعار “استعلاء الايمان” ونحن نتساقط تحت قوى الكفر.

وهذا من أبين الأدلة وأظهرها على أن المعيار الالهي لقيمة المجتمعات ليس هو “مظاهر القوة المدنية” بل المعيار الالهي هو “العبودية” بمعناها الشامل, الذي تكون فيه التزكية الايمانية وفروض الاعيان في هرمه, ويليها الفروض الكفائية ومصالح المسلمين العامة.

وعلى أية حال أمثال هذه النصوص الشرعية لاتخفى القارئ العزيز قطعاً, بل هو يعرف مثلها وزيادة, وإنما المقصود تذكير النفس والاخوان بها, والاشارة إلى طرف من البراهين الكثيرة على صحة المنهج الاسلامي في صيانة الهوية ومقاومة تهديدات التغريب, وضعف المناهج الحديثة.

وكون الدنيا وسيلة للآخرة, يؤكده ماذكره بعض محققي الأصوليين من أن وظيفة التشريع إقامة مصالح الدنيا لتقوم مصالح الآخرة, كما قال الامام ابوحامد في الإحياء:

(وأحكام الخلافة, والقضاء, والسياسات, بل أكثر أحكام الفقه, مقصودها: حفظ مصالح الدنيا, ليتم بها مصالح الدين).

مع أن هذه بعض وظائفها, إلا أنه ربطها بالهدف النهائي وهو إقامة الدين, والكلام على تعليل الشريعة سبق في المقالة الأصلية.

ومن تأمل في “تراجع الخيرية” في قرون الاسلام الأولى علم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الاسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالايحصل لسابقيهم, وهذا كله بسبب مانقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمن سبقهم, وماداخل القلوب من التثاقل الى الأرض.

بل إن من تأمل لحظة ارتطام الفكر الاسلامي بسطوة الحداثة اليونانية في تاريخ الاسلام المبكر وكيف سببت ارتجاجات وفقدان تماسك لدى كثير من العباقرة والأذكياء, علم أن أئمة الاسلام الذين ثبتوا في تلك المحنة لم يتمكنوا من مقاومة تلك الأعاصير الحداثية إلا حين كانت العلوم الالهية الموروثة عن خاتم الرسل اعظم في نفوسهم من كل ماسواها, فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين كل خير.

وهذه البراهين السابقة إنما هي مستقاة من دروس القرآن والسنة وهدي القرون المفضلة, أما لوشئنا الانتقال إلى “النتائج الواقعية” وقارنَّا مثلاً بين “مخرجات المدرسة التربوية الاسلامية” وبين مخرجات الخطاب الديني المتبني لـ”تعظيم الدنيا” فسنرى البون الشاسع في الفعالية والنجاعة.

فمخرجات المدرسة التربوية الاسلامية عميقة الايمان بمرجعية الوحي, وشديدة الاعتزاز بسلفها, متشبعة بقيم العمل للاسلام والغيرة على الدين, وراسخة الايمان بظلامية الثقافة الغربية, وجادَّة في امتلاك الوسائل الحديثة كالتخصصات العلمية والمؤسسات الاعلامية وتوظيف التقنيات البرمجية والاتصالية, وغير ذلك مما هو ظاهر لكل أحد, فانظر كيف أن اتِّباع منهج الوحي وهدي القرون المفضلة في تعظيم الآخرة لم يقدها الى الرهبانية كما يزعم غلاة المدنية, بل قادها الى النجاح في تنظيم هرمية اهتماماتها بشكل صحيح, فكانت تلك المخرجات التربوية أنجح من غيرها في دينها ودنياها ولله الحمد.

وبالمقابل قارن ذلك بمخرجات الخطاب الديني المتبني لـ”تعظيم الدنيا” تجد من يتصالح معه من العلمانيين لم يتزحزحزا عن علمانيتهم قيد أنملة, ومن استمع له من الشباب الدعاة وتشبع بمفاهيمه تجد الكثير منهم اضطربت معاييره, فنقصت هيبة السلف في نظره, وارتفعت قيمة الكفار, وبدأ يشعر بسذاجة المشروعات الدعوية الايمانية, ثم خسارة “المكتسبات السلوكية” الراقية التي تربى عليها, وغير ذلك من المظاهر المعروفة.

فأين هذا المنهج من ذاك؟

وأساس الخلل الذي لم يتنبه له خطاب “تعظيم المدنية الدنيوية” هو أنه يمارس دون وعي “إعادة تشكيل داخلي للمعايير” بمايتناقض مع المعايير الالهية لقيمة المجتمعات والشخصيات والثقافات والأمم.

صحيح أن من اقترب من بعض النخب المثقفة ممن ابتلي بالتبرم بدين الله فسيرى أن محاولة ابراز معاني المدنية في القرآن والسنة والتراث لهم يساهم في تخفيف إحتقانهم, لكن هذا المنهج وإن كان يخفف بعض الاحتقان لدى أمثال هؤلاء إلا أنه يدمر الشاب المسلم الذي تربى على معاني الايمان ووقر في قلبه إيثار الله والدار الآخرة.

وأصدقك القول أيها القارئ الكريم أنني تأملت كثيراً في ظواهر الانحراف الثقافي في صحافتنا ومنتدياتنا –وخصوصاً في مستوياته الشبابية- فرأيت انه إذا تشرب قلب الشاب “تعظيم المدنية الدنيوية” و “الغلو في الحضارة المادية” بحيث أصبحت “معياره” في تقييم المجتمعات والشخصيات قاده ذلك “تدريجياً” الى زهاء خمسة عشر كارثة:

التحييد العملي للنص, والازراء بالقرون المفضلة, والاستخفاف بقيمة علوم الشريعة, واللهج بتعظيم الكفار, والسرور بالحديث الفكري المجرد, والتدهور السلوكي, والعزوف الدعوي, والتحول للمشروعات الفكرية “الشخصية”, واستسذاج الموعظة والخطاب الايماني, والحدة في محاسبة الاسلاميين, والرحابة وحسن الظن تجاه الدراسات المنحرفة, وذبول الحمية لله ورسوله تجاه الكتابات المنتهكة للمحكمات, والتركيز على زلات المحتسبين بمايفوق عدوان المجاهرين,  والتلذذ بمناهضة الفتاوى, والولع برخص العلماء وشذوذات الفقهاء.

وباختصار شديد: إن خطاب الغلو المدني يبدأ بالتجديد وينتهي بالتجديف.

ومن الانصاف أن أؤكد أن أمثال هذه الكوارث لايجمعها كل من غلا في المدنية والعياذ بالله, بل هناك تفاوت هائل لاينضبط طرفاه, وهذا أمر يعرفه كل من تابع الساحة الثقافية, فبعضهم يقارف بعضها وبعضهم يزيد عليها, بل بعضهم فاضل في ذاته لكنه لم يحسم رؤيته تجاه هذه المظاهر نسأل الله أن يحفظ مثل هذا النمط.

وإنما المراد أن أمثال هذه المظاهر الكارثية بمجموعها باتت مشاهد مؤلمة ومحزنة تستدعي استيقاظ الشعور وصعق احساس الدعاة لاطفاء الحريق في منزلنا الداخلي, يجب أن نعمل سوياً بكل مانملك لتحريك الوعي بهذه الأزمة, والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

والمقصود هاهنا أن الأمر المشاهد المعلوم الذي أكدته التجارب الحية أن بعض النخب المثقفة المحتقنة تجاه الدين حتى وإن خف احتقانها عن طريق الخطاب الديني المتبني لـ”تعظيم الدنيا” فإنها تستمر في فرض الرقابة على النص الديني, وتطالبه دوماً أن يكون مبرِّراً ومسوِّغاً لمنتجات الحضارة المعاصرة, ولاتقبل منه أن يمارس دوراً سيادياً حقيقياً.

ولايشك مؤمن أن هذه الحالة التي هي “فرض الرقابة على النص” ليست مكسباً دعوياً ولامنجزاً يتشرف الانسان بتحقيقه, بل هذه الحالة لايرضى بها من عقل حقيقة الاسلام الذي هو “امتلاء القلب بالاستسلام لله”, فالانقياد والخضوع والتسليم والامتثال هو جوهر حقيقة الاسلام, ولذلك اشتهر بين أهل العلم تعريف الاسلام بأنه “الاستسلام”, وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى الجوهري في حقيقة الاسلام, كما جاء في قوله تعالى:

(ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى) [لقمان:22].

كما أقسم الحق تبارك وتعالى على هذا المعنى في قوله تعالى:

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا}[النساء:65].

فانظر كيف أقسم تعالى هذه المرة بذاته العظيمة-لابشئ من مخلوقاته كما هي غالب أقسام القرآن- وماذاك إلا تعظيماً للمُقسَم به, وهو نفي الايمان على من لم يرض ويسلم لأوامر الشارع ونواهيه مع تنظيف القلب من كل حرج أو تردد في القبول.

وأكد سبحانه أنه ليس للمؤمن اختيار أمام أوامر الله ونواهيه, كما قال تعالى:

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:36 ].

فبالله عليك أخي القارئ تأمل هذا المعنى الذي علق الله عليه الايمان, ثم قارنه بموقف بعض النخب المثقفة التي لاتبتهج بالوحي إلا إذا وافق الحضارة المعاصرة, فإذا لم يوافقها مارست أشد أساليب التعنت في تطلب الحسم الدلالي, وستجد حتماً أن ذلك نابع من شعبة خفية في القلب تعبر عن شرخ عميق في “أرضية الانقياد” التي يقف عليها إسلام المرء.

ولذلك تجد بعضاً منهم لايسأل أصلاً عن موقف الوحي من هذه المستجدات والمنتجات والتطبيقات والأفكار والفلسفات, بل يتمنى أن لايثير أحد هذا الموضوع أصلاً, فإذا جُوبه بالدليل استنجد بصناع التأويلات, ألا يعكس ذلك ضمور الشغف بمرجعية الوحي.

وبعض آخر من هذه النخب المثقفة يشعر شعوراً عميقاً أن الوحي ليس لديه إضافة جوهرية للحضارة المعاصرة, بل يعتبر أن أعظم خدمة يسديها للوحي هو أن يؤكد للناس أنه موافق لإبداعات الحضارة المعاصرة, وأن الوحي ولله الحمد ليس ضدها, ونحو ذلك, وهذا جهل عميق بوظيفة النبوات أصلاً, فإن الله تعالى بين أنه بعث النبوات وأنزل معهم الكتب السماوية بهدف أن “تحكم” بين الناس في كل شؤون حياتهم, لاأن تسوِّغ لهم حياتهم, كما قال تعالى:

{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213].

وتأمل في هذا الشمول الذي ذكرته هذه الآية عن وظيفة الكتب السماوية “ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه” حيث تؤكد هذه الدلالة الشاملة أن “الحاكمية” ليست مقتصرة على الجانب التشريعي فقط, بل يدخل في ذلك الحاكمية الفلسفية والفكرية والثقافية وكل مايختلف الناس فيه, مما يبين أن الصراع مع العلمانية اليوم لايتوقف على “العلمانية التشريعية” التي تدعوا لإقصاء الشريعة عن الأوعية القانونية والمؤسسة القضائية, بل هناك صراع أعمق مع “العلمانية الثقافية” التي تدعوا –نظرياً أو عملياً- لعزل الوحي عن الحاكمية في نقاش القضايا الفكرية والمنهجية والشؤون العامة.

فإذا أعاد المؤمن تدبر قوله تعالى عن “وظيفة النبوات” {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}  شعر بالهوة الكبيرة التي تفصل بين منهج “تبيئة الحضارة” بمعنى تسويغ منتجات الحضارة عبر التأويلات المتكلفة وشذوذات الفقهاء, وبين منهج “هداية الحضارة” الذي امتلأ باليقين بشدة حاجة أمراض هذه الحضارة الى الدواء الالهي.

إنه بكل بساطة افتراق جذري متصاعد بين من يريد “تقليص” دور الوحي في حياة الناس, وبين من يريد “تفعيل” دور الوحي وبسط هيمنته على الحياة العامة.

والمقصود هاهنا بيان أن هذه “الحالة الدينية” التي سبقت الاشارة إليها –وهي أن بعض المثقفين المحتقنين انتفعوا بالخطاب الديني المتبني لـ”تعظيم الدنيا”- إنما تعبر في الحقيقة عن تدين “غير جاد” ذلك أنه مربوط بمقدار مايقدمه الوحي من “معطيات دنيوية”, فإذا نقصت هذه المعطيات الدنيوية أصابته فتنة, وهذه الحالة الدينية المهترئة حالة قديمة قد كشفها لنا القرآن بشكل مبكر, كما يقول تعالى:

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج: 11].

وقد استنبط ترجمان القرآن ابن عباس هذا المعنى أيضاً من قوله تعالى{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} حيث يقول رضي الله عنه في معنى هذه الآية:

(كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر).

فإذا وازن العاقل بين “مكسب” تخفيف احتقان بعض النخب المثقفة تجاه الدين, وبين “خسارة” حرارة التدين عند آلاف الطاقات الشبابية الدعوية, علم يقيناً أنه ليس من العقلانية في شئ أن نستصلح بضعة مثقفين محتقنين يعبدون الله على حرف, ونخسر آلاف الشباب المسلم الذين يعدون مكتسبات أضخم وأهم, إذ هم قاعدة الاسلام وأمله القادم.

كم نحن بحاجة إلى التطعيم المسبق بمصل إيماني يحمي شباب الاسلام أن يجرفهم وهج الحضارة المادية ومعايير المدنية الدنيوية, ليواصلوا مسيرتهم النهضوية دون أن ينهار “سلم الأولويات”, فتراهم في كل حقل يسبقون غيرهم مع امتلاء قلوبهم بعظمة الوحي وعبقرية القرون المفضلة ومتاعية الدنيا وانحطاط الكفار.

والله الشاهد أنني ماكتبت تلك المقالة إلا بهدف أن تكون “حصانة وقائية” للشاب المتدين أن ينجرف في طريق بات معروفاً لكل ذي بصيرة, ومعلوم كيف تدهور فيه عشرات من الشباب الذين كانوا طاقات دعوية ومشاعل هداية, فأصبحوا اليوم من أعظم المتثاقلين عن الفرائض, وأشد الناس ضيقاً بالذكرى والموعظة, وأكثر الناس هجراناً للوحي, فضلاً عن العمل للاسلام وحمل هم المسلمين.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 1 =