السحر و أشياء أخرى : 3/5 ماروت وهاروت

قصة هاروت وماروت
السحر و أشياء أخرى : 3/5 ماروت وهاروت

سلسلة أحاديث آخر الزمان

السحر و أشياء أخرى : ( 3/5) ماروت وهاروت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
/البقرة/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لازلنا في رحلتنا في مرحلة استعراض البيانات التي تقدمها لنا الآية والتنقيب في مواضع اللمسات البيانية والاسترشاد بنقاط العلام التي يمكن أن نعثر عليها بين كلماتها، وسنؤجل عملية ربط البيانات مع بعضها البعض والتأويل النهائي إلى المرحلة الأخيرة من الرحلة
لقد عرفنا حتى الآن أننا في هذه الآية أمام صنفين من العلوم تعلمهما الشياطين للناس
العلم الاول هو السحر، وهو ((علم سفلي)) مصدره الشياطين نفسها وله جانب وحيد شرير وضار، وليس فيه أي جانب نافع، وعملية تعليم السحر الشيطاني لا يسبقها تحذير أو تنبيه، بل على العكس هناك إغواء و تزيين و توريط و جر أرجل الناس إليه كي يقعوا في الفخ القاتل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و العلم الثاني هو ((علم علوي)) من لدن الضار النافع الذي يبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، علم أُنزل على زوجين محددين من الملائكة، في زمان محدد، وفي مكان محدد، ولغاية محددة.
إنه علم حيادي نظرياً، لكنه سيف ذو حدين عملياً، لذلك هو فتنة، وقد قام الملكان بتعليمه لمن أراد واختار الفتنة من الناس بعد تحذيرهم من المخاطر.
( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ )
ولهذا العلم جانبان: جانب ضار خطير لو أسيء استخدامه، وجانب نافع لو أحسن استخدامه.
ولأن الجانب الضار في هذا العلم الذي أنزل على الملكين قد يؤدي إلى الكفر والطغيان لذلك هو علمٌ يهم الشياطين أن تستحوذ عليه لأن الهدف الأساسي للشيطان هو أن يصل الناس الى الكفر
فبطريقة أو بأخرى استطاعت الشياطين أن تسطو عليه وعلّمت التطبيقات العملية للجانب الضار منه للنخبة التي اختارت الكفر والفتنة
ما طبيعة هذا العلم الذي أنزل على الملكين، وما الذي يميزه عن السحر الشيطاني ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السحر مجاله هو الخداع والتخييل على الناس، والاسترهاب
فهو يستطيع أن يغير احساسك بالأشياء والأشخاص والأحداث من حولك
يخيّل إليك أن العصي تسعى من ذاتها، لكنها في الحقيقة ليست كذلك
ويخيّل إليك أنك فعلت الشيء وأنت في الحقيقة لم تفعله
أي أن تأثيره محصور في مجال حواسنا من بصر وسمع، وأيضاً مجال ادراكنا النفسي وذاكرتنا المؤقتة لما يصل إلى عقلنا من بيانات مخادعة يريدها السحرة
لكن السحر لا يستطيع أن يغير في الطبيعة الكيماوية أو التركيب الذري للأشياء، فلا يستطيع السحر أن يجعل العصا الخشبية تتحول إلى حية حقيقية تسعى، ولا يستطيع السحر أن يجعل المرأة العاقر ولوداً ولا العكس، وانما قد يغير في بعض الخصائص الفيزيائية للأشياء المسحورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي السحر ليست قدرة الساحر هي التي تُحدث الأثرَ الحسي (السمعي –البصري) أو النفسي الذي يتأثر به المسحور، وإنما الشياطين التي يعوذ بها الساحر أو يستعين بها هي التي تحدث هذه الآثار الضارة للسحر.
الشيطان المخلوق من نار والذي يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم والذي يجري من ابن آدم مجرى الدم هو الذي يجعل المسحور يرى بعينيه ما يريد الساحر له أن يرى .
الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس هو الذي يوهمك أنك فعلت الشيء وأنت لم تفعله
ربما ينفذ الشيطان ذلك عن طريق سيل من الوساوس القهرية يغزو بها عقلك الباطن سواء في اليقظة أو النوم، أو ربما بأسلوب آخر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولأن السحر هو استعاذة بالشيطان بدل الاستعادة بالله منه ، لذلك هو كفر صريح
إنه عبارة عن اتفاقية كفر متبادل ما بين فريقين من عالمين متناقضين: الساحر (من الإنس ) و الشيطان (من الجن ).
الساحر يستعين بالشيطان كي يوكله بإحداث الآثار الضارة التي يطلبها أو يتوهم بأن الشيطان قد يحققها له
لكن في الحقيقة قدرة تأثير الشيطان على البشر ليست مطلقة، وسلطانه الفعلي محدود، ووسائله ليست كثيرة
لكنه بكل تأكيد لديه قدرات خاصة تتفوق على قدرات البشر بحكم طبيعته الخلقية النارية وحركته السريعة ونوافذه المفتوحة على عالمنا فهو يرانا ولا نراه ، وهو قادر على التسلل الى كياننا النفسي وقراءة افكارنا ويستطيع أن ينفث في صدورنا ما يشاء من وساوس.
فإذا كان الساحر يعبر هذا البرزخ المحرم طمعاً – كما يتوهم – من الاستفادة من قدرات الجان التي يتفوقون بها على بشريتنا، فماذا يريد الشيطان في المقابل من هذه الاتفاقية ؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما يلبي الشيطانُ للساحر بعض الأمور، ويقدم له بعض الخدمات التي يقدر عليها فإنه بكل تأكيد لا يفعل هذا لوجه الله أو دون مقابل؛ هناك ثمن على الساحر أن يدفعه.
لذلك في الحقيقة هذه الاتفاقية ليست اتفاقية بين ندين متكافئين من حيث القوة والقدرات
إنها صفقة بيع و شراء.
والشيطان الذي له اليد العليا في هذه الصفقة هو الطرف المشتري وهو السيد المتبوع ، و الساحر هو البائع وهو العبد التابع الذي يتبع ما تتلو الشياطين
أما السلعة المباعة في هذه الصفقة فهي النفس
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فماذا عن العلم الآخر الذي سطت عليه الشياطين وصارت تعلم الجانب الضار منه للناس مقابل الكفر؟
ما هو ذلك العلم الذي أنزل على هاروت و ماروت ؟
لو حاولنا استخراج اسماء العَلَم الصريحة المذكورة في هذه الآية فإننا سنعثر فقط على ثلاثة اسماء عَلم

1- سليمان عليه السلام

2- بابل

3- والمَلًكان هاروت و ماروت

وعندما يذكر الله اسماً صريحاً في القرآن فهذا يعني أن هناك لوحة إرشادية تخبرنا من أين يجب أن نبدأ رحلتنا في مشروع البحث.
اسماء العَلم الثلاث هذه لابد – منطقياً – أن يكون هناك علاقة ما تربط فيما بينها .
وهذه الاسماء هي نقاط العَلّام أو المصابيح التي ستنير لنا هذا الجانب الغامض في القصة، ما الذي أنزل على هاروت و ماروت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لنبدأ أولاً ببعض الملاحظات المتعلقة بهذه الأسماء الثلاث:
عندما ذكر الله اسم سليمان لم يُعرّف سليمان بأنه النبي سليمان، فلم يقل (على مُلك النبي سليمان)
وكذلك فعل أيضاً عندما ذكر بابل، لم يعرفها بأنها مدينة بابل.
لأن هذين الاسمين ( بابل وسليمان) اسمان معروفان لدى الجميع، و ليس من البلاغة تعريف المُعرف
لكنه عندما ذكر هاروت وماروت سبق اسميهما بكلمة الملَكين
لأنهما شخصيتان تحتاجان إلى تعريف، إنهما اسمان غير معروفان عند عامة الناس، ويجب أن يذكر طبيعتهما الخلقية كي لا يحتار الناس فيهما أو يتوهم البعض أنهما من البشر أو من الجن أو غير ذلك.
وكي يشير أيضاً إلى أن طبيعة المهمة الموكلة إليهما لا ينبغي أن يقوم بها إلا زوجان من الملائكة تحديداً.
لماذا يجب أن يكونا حصراً من الملائكة و ليس من الإنس أو الجن ؟
أليس الرسل من البشر هم عادة ما يعلمون الناس ما أنزل عليهم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسناً، طبيعة العلم الذي أنزل على الملكين يختلف عن الرسائل السماوية التي يكلف بها الأنبياء، فالأنبياء منزهون عن تعليم الناس علماً فيه جانب ضار، ولا يليق بالأنبياء أن يكونوا فتنة
هذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها إلا ملائكة تفعل ما تؤمر، ولا تعصي الله، ملائكة لا علم لها إلا ما علمها الله.
وعلى هذه الملائكة وهي في صورتها البشرية أن تُعرّف عن نفسها أنها من الملائكة .
لكن لماذا زوجان اثنان من الملائكة؟ ألا يكفي مَلك واحد فقط لأداء المهمة ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا ، لا يستطيع ملَك واحدٌ أن يقوم بهذه المهمة
يجب أن يكونا زوجين اثنين من الملائكة، ويجب أن يكون كل زوج منهما هو نقيض الآخر ، ومكمله
ليس فقط لأن هذا العلم له جانبان: جانب ضار وجانب نافع وإحدى الآثار الضارة لهذا العلم هي التفريق ما بين المرء وزوجه.
بل لأن طبيعة هذا العلم الذي أنزل على هذين الزوجين من الملائكة يتعلق بشيء اسمه ((الزوجية)) في هذا الكون.
ما هي الزوجية ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزوجية: هي بصمة الخالق الواحد الأحد سبحانه و تعالى على خلقه
هي الختم الذي يضعه على كل خلق من خلقه كي ينطق أن هذا الكون كله من الذرة إلى المجرة له خالق واحد.
كلمة زوج في هذه الآية هي أكبر وأوسع بكثير مما يتبادر إلى ذهننا في اللحظة الأولى من أن المقصود بها هو فقط الزوجين الذكر والأنثى
الذكر والأنثى يدخلان فيها طبعاً، لكن المعنى أوسع و أشمل.
لم ينزل هذا العلم على الملكين على شان الست فتكات تقدر تكيد جارتها اللي تنشك بنظرها و تعمل ليها عمل يفرقها عن زوجها !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلم ذو الجانبين (الضار – النافع ) الذي أنزل على هاروت وماروت هو أعظم بكثير وأكبر و ذو معنى أوسع من مجرد جمع الأزواج الذكر والانثى أو تفريق ما بينهما
حدود هذا العلم الذي أنزله الخافض الرافع، الضار النافع، المعطي المانع على هذين الزوجين من الملائكة هاروت وماروت يتعلق بسر وجود المادة و الاشياء والخلق كلهم
إنه العلم الذي يتعلق بسر تصميم وهندسة وتركيب هذا الكون
أي النظام الموحد الذي أبدعه الله عندما خلق هذا الخلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله سبحانه و تعالى يقول:
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
/ الذاريات/
:وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
/ ق، 7/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:
” ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) أَيْ : جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ أَزْوَاجٌ : سَمَاءٌ وَأَرْضٌ ، وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ ، وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ ، وَبَرٌّ وَبَحْرٌ ، وَضِيَاءٌ وَظَلَامٌ ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ ، وَمَوْتٌ وَحَيَاةٌ ، وَشَقَاءٌ وَسَعَادَةٌ ، وَجَنَّةٌ وَنَارٌ ، جِنٌّ وَإِنْسٌ ، ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ ، حَتَّى الْحَيَوَانَاتُ وَلِهَذَا قَالَ : ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أَيْ : لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْخَالِقَ واحدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ “
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعم ، الكون كله عبارة عن سلسلة كبيرة معقدة ولا تحصى من العناصر الزوجية
سواء كانت عناصر مادية مجسدة ، أو حسية ، أو مجازية
هناك زوجية في كل شيء كان كبر أو صغر ، سواء كان حياً أو جامداً ، سواء كان كلياً أو جزئياً
من المادة والمادة المضادة ، إلى الوجود والعدم ، إلى اليمين و اليسار
بل حتى نظام تشغيل الكومبيوتر كله معتمد على هذه الثنائية الرقمية (0، 1)
والشحنات الكهربائية هي إما موجبة أو سالبة ، تماماً كالإقرار والانكار، كالنفي و الايجاب
لامعنى للنور بدون ظلام، ولا معنى للحركة إن لم يكن هناك سكون، ولولا وجود الجوع فقد الشبع معناه، و لولا الشر ما كان للخير قيمة ، ولولا الكفر ما تجلت عظمة الإيمان، و لو كان كل شيء خفياً فلا معنى للظهور؛ فبضدها تتمايز الأشياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حتى الذرة التي هي أصغر عنصر من المادة هي في حقيقتها زوجان من الشحنات الكهربائية
انها عبارة نواة موجبة الشحنة حولها غمامة من الكترونات سالبة، وطالما كنت شحنة النواة الموجبة مساوية للشحنة السالبة فالذرة مستقرة و لا تسعى للتفاعل مع غيرها
لكن إن تم تغيير التوازن الكهربائي ما بين نواة الذرة و زوجها، أو التفريق بينهما
كأن فقدت الذرة الكتروناً واحداً من الكتروناتها أو أضيف إليها الكترون زيادة؛ عندئذ يزول استقرار الذرة و تتحول إلى شاردة
( الشاردة : المصطلح الكيميائي العربي المقابل لمصطلح آيون. وهو المصطلح الأدق في المعنى )
أي تتحول إلى ذرة غير مستقرة تسعى للتفاعل والتزاوج مع أي ذرة تكمل النقص العددي في الكتروناتها أو تفرغ فيها الزيادة العددية في شحنتها، وهكذا تحدث التفاعلات الكيمياوية ما بين الذرات الشاردة ذات الشحنة الموجبة و الذرات الشاردة ذات الشحنة السالبة وتتشكل نتيجة هذا التفاعل الجزئيات
ملح الطعام على سبيل المثال هو جزيء و ليس ذرة ، و جزيء ملح الطعام مكون من تزاوج شاردة صوديوم موجبة الشحنة مع شاردة كلور سالبة الشحنة NaCl
و الجزيئات بدورها إن لم تكن في حالة جزيئية مستقرة تسعى للارتباط و التزاوج مع ذرات أو جزيئات أخرى كي تتشكل عناصر أعقد ، وهكذا
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه البصمة الزوجية نلاحظها أيضاً تشع في كل ركن من أركان هذه الآية العظيمة
كالزوجية في الضرر و النفع ، والزوجية في الكفر (الشياطين) و الايمان (سليمان) ، والزوجية في هاروت و ماروت

بل إن هذه العلاقة الزوجية تبرز بشكل مدهش في الكلمة الوحيدة التي تتكرر في كل جملة من جمل الآية التسع ، كلمة مكونة من حرفين و لها معنى زوجي >>> كلمة ((ما))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعيدا عن التعقيدات النحوية لوظيفة كلمة (( ما )) فلهذه الكلمة معنيان ببساطة :
معنى يقر الأمر >>> اسم موصول >>> اقرار
و معنى لا يقر الأمر >>> نافية >>> انكار
يعني بعبارة أخرى لها معنيان : ايجابي و سلبي
و في ترتيب جمل الآية التسع تتقلت ((ما)) في معانيها بين الاقرار والانكار في نظام وترتيب عجيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
1- وَاتَّبَعُوا ((مَا)) تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ >>> ما: اسم موصول >>> وظيفة نحوية ايجابية >> اقرار
2- وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا >>> ما : نافية >>> وظيفة نحوية سلبية >> انكار
3- يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ >>> اسم موصول >>> اقرار
4- وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ >>>نافية >>> انكار
5- فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ>>> اسم موصول >>>اقرار
6- وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ>>> نافية >>>انكار
7- وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ>>> اسم موصول >>> اقرار
8- وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ>>>نافية >>>انكار
9- وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ>>>اسم موصول >>>اقرار
/ البقرة ، آية 102/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو تأملتم جيداَ لوجدتم أن معنى ((ما)) تبدل بالتتالي بين الاقرار و الانكار ، بين النفي و الإيجاب ، لكن في النهاية كفة المعنى الايجابي هي التي رجحت ، لأنه (ما يضرون به من أحد إلا بإذن الله ) ، فكلمة الله هي العليا ، و الشر المطلق لا استقرار له في كون الله .
و لو نظرتم وتأملتم بعمق أكثر في معاني كل جملة على حدى من جمل الآية التسع لوجدتم أن ((ما)) عندما تكون نافية في الجملة ( أي ذات وظيفة نحوية سلبية تدل على الانكار) يكون معنى الجملة النهائي معاكساً لوظيفتها النحوية في هذه الجملة أي يكون المعنى العام ايجابياً
و عندما تكون ((ما)) اسم موصول في الجملة ( أي ذات وظيفة نحوية ايجابية تدل على الاقرار) يكون معنى الجملة النهائي معاكساً لوظيفتها النحوية في هذه الجملة أي يكون المعنى سلبياً.
أي أن ((ما)) في وظيفتها النحوية ذات الجانبين (التقريري الإيجابي ، و النافي السلبي) تعاكس دوماً معنى الجملة العام أو النهائي ، أي تعاكس ما نخرج به من فهم من دلالة الجملة سواء كان ايجابياً أو سلبياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجملة الأول اتبعوا ((ما)) تتلو الشياطين على ملك سليمان
الوظيفة النحوية التي تؤديها ((ما)) هنا هو اسم موصول بمعنى الذي ، ووظيفتها النحوية تقريرية تؤدي معنى الاقرار أي معنى ايجابي ، لكن مدلول الجملة العام والنهائي هو مدلول سلبي وسيء ، فأي شيء أسوأ من اتباع ما تتلو الشياطين!؟
أما في الجملة الثانية :
وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا
الوظيفة النحوية لكلمة ((ما)) هنا هي نافية أي معنى سلبي فهي هنا تؤدي معنى الإنكار، لكن مدلول الجملة بأكملها هو مدلول ايجابي وجيد ، لأن الله ينفي تهمة كفر باطلة عن نبي كريم و ينزهه عن تعلم السحر .
وهكذا هو الحال في بقية الجمل ..
وكأن الله سبحانه و تعالى يريد أن يقول لنا بهذا النظام البديع الذي يصوغ به كلماته : أنه في كل ابتلاء و ضرر هناك خير كامن ، وفي كل نعمة هناك فتنة كامنة
هذا هو القرآن العظيم، أفلا يتدبرون؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله خلق هذا الكون ووضع الميزان ، والميزان له كفتان اثنتان
وطالما كان الثقل الموضوع في كل كفة من كفتي الميزان متساوياً ، يكون الميزان في حالة توازن ولا تطغى كفة على الكفة الأخرى
وطالما كانت العلاقة ما بين الثَقلين (الانس و الجن) متوازنة، و كل ثقل منهما في الكفة الخاصة به، ولا يعبر أحدهما إلى كفة الآخر كان الميزان الدنيوي في وضع توازن
لذلك عندما يتبع بعض الانس ما تتلو الشياطين يختل التوازن الكوني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الزوجية هي بصمة الخالق الواحد الأحد سبحانه و تعالى في كل شيء خلقه
و العلم الذي أنزل على الملكين الزوجين – هاروت و ماروت – له علاقة بهذه البصمة الزوجية الموجودة في كل شيء خلقه الله ، و القوة النافعة والضارة التي يمكن نحصل عليها من تجميع او تفريق زوجين من العناصر
لكن كي نعرف أكثر ما هو هذا العلم تحديداً يجب أن نعرف ماذا يعني اسم كل واحد من هذين الملكين
ماذا يعني هاروت ؟ و ماذا يعني ماروت ؟
و بأي لغة يجب أن نعرف معنى اسميهما ؟
هل باللغة الآرامية ، أم العبرية ، أم العربية ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرآن الكريم قال أنهما كانا ببابل
و بابل هي في أول مدينة تم بناءها بعد الطوفان العظيم
انها المدينة التي تبلبلت فيها ألسنة البشر ونشأت فيها اللغات بعد أن كان الناس كلهم يتكلمون لسانا واحداً حسب سفر التكوين في التوراة
وهي اول المدن التي تطاولت في البنيان ، وكان فيها أولى عجائب الدنيا السبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ نـورـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكي نعرف ماذا يعني اسمي هاروت و ماروت علينا أن نشد الرحال إلى بابل
للحديث بقية

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة عشر − عشرة =