يوسف القرضاوي : النفس المعصومة

86066 2047578690
يوسف القرضاوي : النفس المعصومة
روى البخاري ومسلم، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”[1].
حرَّم الله سبحانه الدماء والأموال والأعراض، وأكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرمة هذه الثلاثة، في حَجَّة الوداع، على ملأ من المسلمين، حيث يسمعه عشرات الألوف، في هذه البلد الحرام، وفي اليوم الحرام، قال لهم: “إن الله حرَّم عليكم دماءكم وأعراضكم وأموالكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا” [2]، وقال: “كُلُّ المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله”[3].                
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم، طاف بالكعبة وقال لها: “ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حُرمتك! والذي نفسي محمد بيده لحُرمة المؤمن أعظم عند الله حُرمة منك”[4].
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: “لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار”[5].
ذلك أن هذا الإنسان بُنيان الله تعالى، ولا يحق لأحد أن يَهْدم هذا البناء، إلا صاحبه وبانيه، وهو الله عز وجل.
بل ليس للإنسان نفسه حق في أن يَهدم هذا البناء، وأن يَقتل نفسه، ومَن فعل فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: “بَدَرَني عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليه الجنة”[6].
لقد حرَّم الله هذه الدماء، وجعل لها هذه المنزلة، وحرَّمها في سائر شرائعه، وفي كافة رسالاته ودياناته: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32].
لا يجوز أن تُقتل نفس بغير حق … أي نفس معصومة، صغيرة كانت أو كبيرة، نفس غني أو نفس فقير، نفس أمير أو نفس خفير … كل نفس، حرَّم الله قتلها ما دامت غير معتدية بالكفر أو بالظلم، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151].
متى يُهدر دم المعصوم؟
وقد جاء في الحديث الذي نحن بصدده بيان هذا الحق، الذي يُبيح الدم، ويُبيح قتل النفس، ويُهدر عصمتها … وذلك في إحدى ثلاث خصال:
1-الثيب الزاني
أي الزاني المُحصَن المُتزوِّج، فمن زنى وهو مُتزوِّج بعد أن عرَف الطريق إلى الحلال الطيب، وعرَف نعمة الله عليه بالزوجية، ونعمة الله عليه بظلِّ الأسرة يظلِّله، بعد أن عرَف ذلك، ثم خان زوجته، أو عرَفت المرأة ذلك، ثم خانت زوجها؛ مَن فعل ذلك فقد استحقَّ الموت.
استحقَّ الموت رجمًا … هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمن زنى وهو مُحصَن، أو زنت وهي مُحصَنة …
رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً اسمه ماعز، ورجم امرأة من غامد تعرف بالغامدية[7]، ورجم يهوديين[8]، وأمر أحد صاحبه -واسمه- أُنيس أن يرجم امرأة زنت وهي متزوجة -إذا اعترفت بذلك- فاعترفت فرجمها[9] …
متى تنزل العقوبة بالزاني المُحصَن؟
ولكن الإسلام لا يجعل هذه العقوبة إِلا لمَن يعالن بها، ويَفجُر بها جهرة علانية أمام الناس، بحيث يراه أربعة من الشهود، وهو يرتكب الفاحشة رأي العين، علانية بلا استخفاء ولا استحياء … أو يقرَّ هو على نفسه أربع مرات بأنه زنى، يقرُّ بذلك في مجلس الحكم والقضاء.
فمَن فعل ذلك، أي اعترف وأقرَّ على نفسه، وكرَّر الإقرار والاعتراف، أو مَن رآه أربعة من الشهود العدول المؤمنين المستقيمين، الذين لا جرح فيهم، ولا عيب في سلوكهم، مَن فعل ذلك فقد استحقَّ الموت رجما …
لماذا الشدة في هذه العقوبة؟
هذا الخائن، وهذا الذي كفر نعمة الله عليه بالزوجية، يستحق أن يُرجم، ويباح دمه … حتى لا تنتشر الفاحشة، ولا يستشري الفساد، ولا يشيع التحلُّل في المجتمع.
فهذا هو الإسلام، يعاقب على الزنى، حسب نوعية هذه الفاحشة، وحسب ظروفها.
فمَن كان عزبًا، لم يعرف الزواج بعد، فعقوبته أن يُجلد مائة جلدة، كما جاء في القرآن: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
وقد جاء بيان ذلك في السنة، أي أن المقصود بهذه الآية من الزانية والزاني: مَن لم يكن مُحصَنا.
وكأن القرآن الكريم يُشير إلى أن المسلم المُحصَن المُتزوِّج ليس من شأنه أن يزني، فلم ينزل في شأنه قرآن، بل تُرك القرآن ذلك، ليُعلِّم الناس وليدلَّ الناس بالإشارة والإيماء على أن هذا أمر لا ينبغي أن يقع فيه المسلم المُحْصَن … ولكن السنة فسَّرت وبيَّنت ووضَّحت وفصَّلت بالقول وبالعمل: أن مَن زنى وهو مُحصَن فجزاؤه الرجم نكالاً من الله، والله عزيز حكيم.
الإسلام يحارب الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، لا ترتكب فيه مثل هذه المُوبقات، وإن ارتكبت، ارتكبت على استحياء واستخفاء، بحيث لا يرى أحد ولا يسمع … فالمعصية إذا استترت لا تضرُّ … أما إذا استعلنت -كما نرى في بعض البلاد حيث يُرخص للزنى علانية، وللبِغاء جهارا- يُغرى بها بالطرق المختلفة والأساليب المتنوعة، فهذا ما يُحرِّمه الإسلام ويحاربه.
الإسلام يسد كل الطرق التي تؤدي إلى الزنا:
لا تظنوا أن الإسلام منع الزنى وحاربه بمجرد الرجم أو الجلد … ولكن هذه هي الوسيلة الأخيرة التي لا يُغني شيء عنها.
أما قبل ذلك فقد حارب الإسلام الزنى والفاحشة، بتيسير سُبُل الزواج، وحاربه بتربية الفرد المسلم، على العفَّة والإحصان، وعلى مراقبة الله -عز وجل- وعلى أن يقوِّي إرادته، إما بالصوم أو بالزواج إن استطاع.
كما حارب الإسلام الفواحش بتطهير المجتمع من أسبابها ودواعيها، التي تدعو إليها، وتغري الناس بها، وتجرِّئهم على ارتكاب الحرام.
فالكلمة الخليعة، أو الصورة العارية أو شبه العارية، أو الأغنية المثيرة، أو كل ما نرى ونسمع في هذا العصر من أساليب الإغراء، والدعوة إلى الفجور، يُحرِّمه الإسلام …
ثم في آخر ذلك إذا وقع الزنى، عاقب عليه الإسلام بالجلد أو بالرجم ..
2- قتل النفس التي حرم الله:
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “والنفس بالنفس”.
أي مَن قتل نفسا يُقتل، فإن نفسه ليست أفضل ولا أعظم من نفس غيره، فمَن قتل نفسا فقد أهدر عصمة نفسه، وأهدر حُرمة دمه، ويجب أن يقتصَّ منه، كما قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
لماذا القصاص؟
إن الأمر إذا تُرك دون قصاص كانت النتيجة أن يتجرَّأ المُعتدون، وأن يثأر أولياء المقتول بأكثر مما اعتُدي عليهم، حتى ينتشر العدوان، ويتسع الخرق، وتزداد النار اشتعالا، ولا يجدون لها ما يطفئها.
أما الإسلام فقد قرَّر القصاص، وإعدام القاتل، وهو ما يُسمَّى القَود أو القصاص، يقول تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178].
إلغاء عقوبة الإعدام مرفوض
ولهذا فإن الذين يدعون إلى إلغاء عقوبة الإعدام للقاتل: هم قوم يخالفون عن دين الله، ذلك لأن القصاص مفروض في الإسلام بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، كما أن الصوم مفروض في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] … فالفريضة في كلا الأمرين سواء … ومن هنا فإن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام خروج عن دين الله، وتعطيل لحكم مفروض من أحكامه … ومُحادَّة لله ورسوله جهارا علانية …
واعجبا لهؤلاء الناس!
لماذا يرأفون بالقاتل المجرم، ولا يرأفون بالمقتول وأهل المقتول؟ إن الذي يستأصل شأفة الجريمة ويقضي عليها أن يُعاقب فاعلها … ويُؤخَذ على يده، ويُردع أن يرتكب مثلها، ويُردع غيره -أيضا- أن يقترفوا مثلما اقترف.
وهذا هو الإسلام … {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
والثأر مرفوض
وإذا كان بعض الناس يدعون إلى إلغاء عقوبة القصاص والإعدام، فهناك آخرون يبالغون في القصاص، ويبالغون في القتل جزاء القتل.
كان العرب في الجاهلية، إذا قتل واحد من قبيلة، قتلت قبيلته في المقابل اثنين أو أكثر … ولا يكتفون بالممثالة في القصاص … وتجدُر الإشارة هنا إلى أن القصاص معناه المساواة … أي النفس بالنفس، ولكنهم كانوا يغالون.
وكان الرومان قبل الإسلام لا يقتلون كل نفس بأي نفس، إنما إذا قتل الشريف رجلا من غير الأشراف والنبلاء، فإنه لا يستحقُّ القتل، ولكن إذا قتل رجل من طبقته، فإنه يستحقُّ القتل …
وهكذا قسموا الناس طبقات … ولكل طبقة معيار خاص، وقالوا: إن المسيحية جاءت تقول: إنه لا داعي لمقابلة القتل بالقتل، ودعت إلى العفو: (مَن لطمك على خدك الأيمن فأَدِر له خدك الأيسر)[10].
وسطية الإسلام حتى في العقوبة
ولكن الإسلام جاء بالأمر الوسط، فليس هناك عفو مفروض واجب، وليس هناك قصاص بأكثر من المثل، وبأكثر من المساواة.
جاءت الشريعة تُبيح القصاص، وتحثُّ على العفو: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237].
حينما طُعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في رمضان في سنة أربعين هجرية، وكان الذي قتله غدرا أو اغتيالا عبد الرحمن بن مُلجَم، وقد أمسك المسلمون به، فقال علي رضي الله عنه، إن عشت فأنا مالك أمر نفسي، أقتص أو أعفو، فإن مت فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى[11]. هذا هو كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
التمثيل بالقتلى حرام
فحينما يقال: (القصاص)، لا يراد منه التمثيل …
ولهذا جاء في الحديث: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة”[12].
فالمرء الذى يُقتل قصاصًا ينبغي أن يكون قتله بغير مُثلة ولا تعذيب، ألا يُقتل إلا إذا قَتل فعلاً.
لا يُقتل إنسان لتُهمة أنه كان يفكر في القتل، أو أنه أعدَّ مؤامرة ليَقتل، أو دبَّر أمر القتيل، أو أحضر السلاح ليَقتل …
كل هذا لا يُبيح قتل امرئ مسلم أبدًا، إنما الذي يُبيح القتل أن تُرتكب عملية القتل بالفعل …
فأما إذا لم يَقتل بالفعل، فلا يجوز قط أن يُعاقب بالقتل … وإنما يجوز أن يُعاقب بشيء آخر: كغرامة مالية، أو بتعزير، أو بحبس … أو ما إلى ذلك.
حتى إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حينما قاتل البُغاة الذين خرجوا عليه وهو أمير المؤمنين، قال لأنصاره وقد وضع البُغاة السلاح: دعوهم لا يُتَّبع مُدبر، أو يُقتل أسير، ولا يُجهَز على جريح[13].
فهؤلاء البُغاة الذين قاتلوه بالفعل، أمر بألا يُقتل منهم مَن وضع سلاحه وأدبر، أو وقع في القبضة أسيرًا، أو سقط جريحًا في المعركة … وذلك لأنهم مسلمون، والقصد من قتالهم كفُّ شرهم -إذا خرجو على الإمام الشرعي- وكسر شوكتهم.
إن قتلك فأنت في الجنة
إن الإسلام يحترم دماء الناس، ويحترم أرواحهم، ولا يُجيز أبدًا قتل امرئ لأنه قال كلمة أو شتم إنسانًا أو ضربه …
يجوز القتل دفاعًا، كما جاء في الحديث حيث سأل أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلاً: إذا دخل رجل على داري يا رسول الله، يريد قتلي أو أخذ مالى! فقال له عليه الصلاة والسلام: “فلا تعطه مالك”. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: “قاتله”. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: “فأنت في الجنة”. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: “هو في النار”[14].
هذا هو القتل دفاعًا عن النفس أو العِرض
هبْ أن رجلاً دخل فوجد رجلاً مع امرأته في حالة تلبُّس بجريمة وقتله، فهل يقتص منه؟ لا … لأنه قتل دفاعًا عن عِرضه، فلا يجوز أن يُقتل في هذه الحالة.
وهذا مما يخالف فيه القانونُ الشريعة الإسلامية
فالشريعة الإسلامية لا تعتبر مثل هذا الإنسان مُرتكبًا لجريمة قتل، وقد جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعه سيف يقطُر دمًا، وخلفه رجال يقبضون عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل قتل ابننا. فقال له عمر: أحق ما يقولون؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنما ضربت بسيفي فخذي امرأتي، فإن كان بينهما رجل فقد قتلتُه. فقال لهم عمر: أكذلك؟ قالوا: نعم. فأعطاه عمر السيف وقال له: خذ، فإن عادوا فعد[15].
إن هذه الحالة -حالة الدفاع- الذي يضطَّر معه الإنسان أن يدفع عن نفسه أو عِرضه أو ماله، فإذا قَتل المُعتدِى فلا قصاص على المُعتدَى عليه، والإسلام يُجيز في مثل هذه الحالة أن يقتصَّ لنفسه، وفيما عدا ذلك لا يجوز للناس أن يقتصُّوا بأنفسهم، فإن الذي من حقه أن يقيم العقوبة الشرعية، ليسوا هم الأفراد، وإنما هو ولي الأمر المسلم …
مَن الذي يقتص من القاتل
إن ولي الأمر هو الذي عليه أن يقتص، وأن يستوفى العقوبة في الإسلام، يستوفي ولي المقتول العقوبة بيده، ولكن بإذن الإمام، ولا يجوز له أن يقتص أو يجعل من نفسه قاضيًا ومُنفِّذا، بل لا بد من إذن الحاكم، وذلك لأنه لو تُرك الأمر للأفراد أن يقتصُّوا لأنفسهم لأصبح الشرع أُلعوبة، ودبَّت الفوضى، واقتصَّ كل إنسان لنفسه أو اقتصَّ له وليه بالشُّبهة أو بالظِّنة، أو بالتُّهمة، أو بمجرد غضب قديم، أو بشواهد غير كافية في الغالب …
إن الإسلام -لكي يحفظ دماء المسلمين- جعل أمر القصاص من حق ولي الأمر، أي الإمام، فهو يتولى التحقيق في الأمر، فإذا ثبتت التُّهمة على إنسان أنه قتل عمدًا، ينفذ به القصاص ويقتل.
3- التارك لدينه[16]:
والصنف الثالث من الناس، الذي نصَّ الحديث على أنه يحلُّ دمه، هو: “التارك لدينه المفارق للجماعة”.
فالذي ترك الإسلام، ومَرَق من دين الله عز وجل، وفارق جماعة المسلمين، يجب أن يقتل … إنه مرتد … والمرتد عن الإسلام حكمه القتل.
جاء في الحديث الصحيح: “من بدل دينه فاقتلوه”[17].
إن الإسلام لا يُكره أحدًا على أن يدخل فيه، ولكن مَن دخل في هذا الدين، والتزم بأحكامه وشرائعه، فليس له أن يجعل الدين مَلعَبَة، كل يوم في دين، يدخل هذا الدين ويخرج منه إلى دين آخر، كما قال اليهود من قبل: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72].
لا … ليس الدين لهوًا أو لعبًا … فمَن فعل ذلك فقد استحقَّ أن يُقتل ..
وقال الإمام أحمد: إن تارك الصلاة كافر، ولهذا يُجوِّز أن يُقتل، أو هو يُوجب أن يُقتل تارك الصلاة المُصرُّ على تركها[18].
يا معشر المسلمين، إن الدماء حرام …
هل للقاتل توبة[19]؟
إن الله حرَّم دماء المسلمين، فلا يجوز لمسلم أن يقتل مسلمًا إلا خطأ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَأ} [النساء:92]، ويقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
حتى قال ابن عباس وبعض الصحابة: إن القاتل لا تقبل له توبة. لأن حق المقتول، كيف نصنع به؟
ولهذا قالوا لا توبة لقاتل. وقال غيرهم من العلماء: إن باب التوبة مفتوح لكل مذنب في الدنيا، حتى الكفر والشرك، فمَن تاب من الشرك والكفر تاب الله عليه، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وكذلك التوبة تمسح ما قبلها، ولكن القاتل إذا تاب فعليه ثلاثة أمور:
1- عليه أن يسقط حق الله تعالى، بالندم والاستغفار.
وعليه أن يسقط حق الأولياء، بأن يسلم نفسه إليهم، ليتصرَّفوا فيه، فإما قتلوه، وإما أخذوا منه عِوضًا.
3-وعليه بعد ذلك أن يستغفر للمقتول، عسى أن يرضى عنه يوم القيامة، فإذا فعل ذلك تُرجى توبته.
وصدق الله العظيم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:67-70].
[1]- متفق عليه: رواه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربون والقصاص والديات (1676)، وأحمد في المسند (3621)، وأبو داود في الحدود (4352)، والترمذي في الديات (1402)، والنسائي في تحريم الدم (4016)، وابن ماجه في الحدود (2534)، عن ابن مسعود.
[2]- متفق عليه: رواه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القَسامة والمحاربون والقصاص والديات (1679)، وأحمد في المسند (20386)، عن أبي بكرة*.
[3]- متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6064)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2559)، وأحمد في المسند (12691)، وأبو داود في الأدب (4910) عن أنس.
[4]- رواه الترمذي في البر والصلة (2032) موقوفا، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد، وابن ماجه في الفتن (3932)، وابن حبان في صحيحه كتاب الحظر والإباحة (13/75)، عن ابن عمر، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (852).
[5]- رواه الترمذي في الديات (1398)، وقال: حديث غريب، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، وصححه الألباني في الجامع الصحيح (5247).
[6]- متفق عليه: رواه البخاري في الجنائز (1364)، ومسلم في الإيمان (113)، عن جندب.
[7]- انظر قصة ماعز والغامدية في الحديث الذي رواه مسلم في الحدود (1695)، زابن أبي شيبة في المصنف كتاب الحدود (5/543) مختصرا، والطبراني في الأوسط (5/117)، والدار قطني في السنن كتاب الحدود والديات (3/91)، والبيهقي في الكبرى كتاب الإقرار (6/83)، عن بريدة بن الحصيب.
[8]- انظر الحديث المتفق عليه: رواه البخاري في المحاربين من أهل الكفر والردة (6841)، ومسلم في الحدود (1699)، وأحمد في المسند (4498)، وأبو داود في الحدود (4446)، والترمذي في الحدود (1436)، وابن ماجه في الحدود (2556)، عن ابن عمر.
[9]- رواه البخاري في الوكالة (2314)، ومسلم في الحدود (1698)، وأحمد في المسند (17038)، وأبو داود في الحدود (4445)، والترمذي في الحدود (1433)، والنسائي في آداب القضاة (5410)، وابن ماجه في الحدود (2549).
[10]- إنجيل متَّى الفقرات (38-43)، وإنجيل لوقا (6/29،30).
[11]- رواه الشافعي في المسند (1476)، والبيهقي في الكبرى كتاب جماع أبواب صفة قتل العمد (8/56) بألفاظ قريبة منه.
[12]- رواه مسلم في الصيد والذبائح (1955)، وأحمد في المسند (17113)، وأبو داود في الضحايا (2815)، والترمذي في الديات (1409)، والنسائي في الضحايا (4405)، وابن ماجه في الذبائح (3170)، عن شداد بن أوس.
[13]- رواه عبد الرزاق في المصنف كتاب العقول (10/123)، وسعيد بن منصور في السنن باب جامع الشهادة (2/337)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجمل (7/543)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/181).
[14]- رواه مسلم في الإيمان (140)، عن أبي هريرة.
[15]- رواه سعيد بن منصور في سننه، وراجع ما ذكره ابن قدامة في المغني (9/337)، وابن القيم في زاد المعاد (5/362) طبعة الرسالة*.
[16]- راجع ما ذكرناه في كتابنا: (جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء الكتاب والسنة) طبعة مكتبة وهبة. القاهرة.
[17]- رواه البخاري في الجهاد والسير (3017)، وأحمد في المسند (1871)، وأبو داود في الحدود (4351)، والترمذي في الحدود (1458)، والنسائي في تحريم الدم (4059)، وابن ماجه في الحدود (2535)، عن ابن عباس.
[18]- *.
[19]- راجع ما ذكرناه في كتابنا: (التوبة إلى الله) صـ120 وما بعدها طبعة مكتبة وهبة. القاهرة.

موقع القرضاوي/ 23-12-2007

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان + سبعة عشر =