11c77 alblushi

وقفتُ في مقدمة “مختار الأغاني” لابن منظور الأفريقي على نقلٍ عجيبٍ يصف مكتبة الصاحب ابن عبّاد وضخامة قدرها وكثرة مؤلفاتها، إذ يتحدّثُ ابن عبّاد واصفاً خزانة كتبه فيذكر أنَّها تشتمل على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد – 117000 مجلّد – (تُراجع مقدمة “مختار الأغاني” ص 1 ط المكتب الإسلامي).
وعندما استدعاه نوحُ بن منصور أحدُ ملوك بني سامان – تجد ترجمته في “النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي 4 / 198 – ليوليه الوزارة اعتذر إليه الصاحب ابن عبّاد بأنه لا يستطيع حمل أمواله، وأنَّ عنده من كتب العلم خاصّة ما يُحمل على 400 جمل أو أكثر – كما في ترجمة الصاحب من “وفيات الأعيان” 1 / 231 – وكان فهرس كتبه يقع في عشرة مجلدات – انظر “دراسات في مصادر الأدب” د. الطاهر مكّي ص64 -.
والصاحب ابن عبّاد هو أحد اثنين مشمولين بهجاءٍ مقذعٍ وتجنٍّ سافرٍ من طرفِ ريحانة الأدب وأسطورة النثر أبي حيّان التوحيديِّ، فقد صنّف فيه وفي أبي الفضل ابن العميد آيةَ بلاغته وأعجوبةَ ذهنه كتابهُ الشهيرَ “أخلاق الوزيرين” غير أنَّ أبا حيّان على ملاحة لفظه وعذوبة أسلوبه ورهافة حسّه مغموزٌ في نقله، مطعون في خبره، وهو إلى الوضع والدسِّ أقرب منه إلى التحوّط والعدالة – لعبود الشالجي كلام نقديٌّ مهم لخّص فيه حال أبي حيّان وتجنّيه وتزيّده بالوضع وخلق الأخبار تجده في مقدمة تحقيقه لكتاب “الرسالة البغدادية” لأبي حيّان ص 20 – 41 ط دار الكتب -، والعجب من ياقوت الحموي كيف يقضي على كتاب “أخلاق الوزيرين” بأنه من وضع أبي حيّان – انظر لسان الميزان 2 / 138 ط أبو غدة – ثم يسرد منه أخباراً مطوّلة ويورد قصصاً متعددة في الطعن على ابن عبّاد كما في “معجم الأدباء” 2 / 662، على أنَّ الصاحب ابن عبّاد هو الآخر لحقه نقد من بعض العلماء والمؤرخين، طال شيءٌ من ذلك دينه ونقله وأخلاقه، تجد جملة منه في ترجمته من “لسان الميزان” 2 / 137 وكذلك في “سير أعلام النبلاء” 16 / 511، أمّا ابن كثير وهو المؤرخ المدقق فقد ذكره بخير في موضع ترجمته من “البداية والنهاية” 11 / 335 – 337، والله أعلم بحقيقة الحال.
ومن لطيف خبره ما ذكره ابن كثير قائلاً: “وقد مرض مرّة بالإسهال فكان كلّما قام عن المطهرة وضع عندها عشرة دنانير لئلا يتبرّم به الفرّاشون، فكانوا يتمنّون لو طالت علّته!” البداية والنهاية 11 / 335، وهو دليل على كرم نفسه وسموّه ذاته، وفي مثل الخبر وأشباهه نورد الكلمة المشهورة لأبي الطيّب المتنبي:
بذا قضت الأيّام ما بين أهلها ********* مصائب قوم عند قوم فوائدُ!
وفي ذات الموضع من ترجمته في “البداية والنهاية” أنه كان يبعث كل سنةٍ إلى بغداد بخمسة آلاف دينار لتُصرف على أهل العلم.
ولن نرتحل عن ذكر الصاحب حتّى نقف على سبب تسميته بذلك، إذ أن اسمه هو إسماعيل بن عبّاد و”الصاحب” صفة له، فقد ذكر ابن خلكان في “وفيات الأعيان” 1 / 229 نقلاً عن الصابئ أنّهُ إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة بن بويه منذ الصبا وسمّاه الصاحب، فاستمر عليه هذا اللقب واشتهر به، ثم سُمّي به كل من ولي الوزارة بعده.
وابن خلّكان في كتابه الوحيد وإنتاجه الذي انتظم أهم مراحل حياته وأفنى فيه غالب وقته “وفيات الأعيان” – إذا استثنينا مجاميعه الأدبية وهي ليست بشيء – يُعد مرجعاً مهمّاً في ضبط الأسماء والمواضع وتحرير ذلك تحريراً متقناً، قال الزركلي فيه: “صاحب “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان” وهو أشهر كتب التراجم، ومن أحسنها ضبطاً وإحكاماً” الأعلام 1 / 220.
وحسبُك هذه الشهادة من الزركلي وهو المؤرخ البحّاثة الذي قضى حياته وبدّد أيّامه صابراً على محنة الجمع والتأليف ينقّب كادحاً في التراجم والسيَر، ولا ينبؤك مثل خبير!
عوداً على بدءٍ: فتلك المكتبة الضخمة المملوكة لرجل واحدٍ عاش في القرن الرابع الهجري تفوق في موجوداتها مجموع الموجودات لدى المكتبات الأوروبية مجتمعة في تلك الحقبة الزمنيّة، ولئلا يغضب عليَّ أو يتبرّم منّي مثقفونا المتأوربون – بحسب تعبير د. الطاهر مكّي – فإن هذا الوصف والحكم ليس من كيسي، وإنّما هو تعبيرٌ وتوصيفٌ من المستشرق الفرنسي جاك ريسلر.
يقول جاك ريسلر: “وهناك جامع كتب آخر هو الصاحب بن عبّاد – في المطبوعة عبّاس وهو خطأ – الذي كان يملك منذ القرن العاشر كتباً أكثر مما يمكن إحصاؤه في كل مكتبات أوروبا مجتمعة” (انظر كتاب “الحضارة العربيّة” لجاك ريسلر ص 106 ط عويدات، وهذا الكتاب يحوي معلومات مكثّفة)
ثم يقول ريسلر: “بكلمة: عاش النّاس ورأوا ما بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر – أي الميلاديين- ما لم يكونوا قد صادفوه أبداً: ففي كل مكان شغف شديد بالكتب، وألف جامعٍ تسطع ببيان العلماء وبلاغتهم، ومائة بلاط أميري تصدح فيها ألسنة الشعراء أو الفلاسفة، ودروب مكتظة بالجغرافيين والمؤرخين والفقهاء الباحثين عن العلم والمعرفة، إنها أعظم يقظة فكرية في التاريخ الإسلامي”.
وكتاب “دراسات في مصادر الأدب” لـ د. الطاهر مكّي المُشار إليه في ثنايا المقال، كتابٌ نفيسٌ وبحثٌ محكمٌ وجهدٌ نادرٌ، يغمرك إجلالاً ويكسوك ثقة بصنيع العلماء وجهودهم، وهو من منشورات “دار المعارف” ويقع في حوالي 300 صفحة، يقول فيه العلامة محمود الطناحي: “هذا كتاب جليل القدر غفلتُ عنه طويلاً، وأحسب أيضاً أنَّ كثيراً من النّاس قد غفلوا عنه طويلاً.. والكتابُ مليء بمواضع الفخر والاعتزاز بذلك التراث الذي انتهى إلينا خلال خمسة عشر قرناً.. إنَّ أقدم نصٍّ أدبي في أي لغةٍ أوروبيّة معاصرةٍ مثلاً لا يتجاوز القرن الثاني عشر الميلادي بحال، وما قبله فآداب بلغات أخرى، اندثرت أو أصبحت تاريخاً يُدرس.. أما الأدب العربي فأقدم نص فيه يعود إلى مطلع النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، أي له من العمر ألف وخمسمائة عام كاملة، ولا يجد القارئ العادي صعوبة في قراءته أو عُسراً في تمثّل معناه.. ثم أعود إلى ما اقترحته من أن يكون هذا الكتاب فرض عين على كل طالب علم في كليّاتنا ومعاهدنا المعنيّة بالدراسات العربيّة والإسلاميّة، لا أستثني معهداً أو كليّة” انتهى كلام الطناحي مختصراً، وهو في المقالات 2 / 493 – 516 ط دار البشائر.
وبعدُ: فهذه لمحة يسيرةٌ عابرةٌ عن تاريخ مهيبٍ جليلٍ بهر العالم بأسره وسلب ألبابهم، لا كما يزعم ويفتري بعض الصحفيين وأدعياء الثقافة والفكر الذين بُليت بهم الأمة أن تاريخنا وحضارتنا دماءٌ وتخلّفٌ وجهلٌ! بل يحقُّ لكل مسلم أن يفخر بتاريخه ويزهو به، ويدعونا ذلك الماضي التليد إلى أن نستحث الخطى وبذل الجهود لإعادة الأمة إلى الواجهة والصدارة علماً وعملاً، وما ذلك على الله بعزيز.

2010

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 − 19 =