مقاومة النصرانية للعلم في التاريخ

e0309 2047578690

تحت هذا العنوان كتب الإمام محمد عبده يقول:
(لا أجد في التاريخ ذكرا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة لعهد قسطنطين وما بعده، إلا في أثناء المنازعات الدينية التي كان يُفصل فيها تارة بسلطان الملوك، وأخرى بجمع المجامع، وثالثة بسفك الدماء، فتخمد شعلة العلم، وينتصر الدين المحض!
وإنما الذِّكر كل الذِّكر لما كان بين المسيحية وما جاورها من المِلل الأخرى من الحروب الدينية للحمل على العقيدة بما كان يعتقد المسيحيون، وما كان يقع بين ملوك أوربا من التسافك في الدماء بإغراء رؤساء الكنيسة، وأمر ذلك معروف عند من له إلمام بالتاريخ، وليس من موضوعنا الكلام فيه.
ولكني أرى شبه نزاع بين العلم والدين ظهر في أوربا بعد ظهور الإسلام واستقرار سلطانه في بلاد الأندلس، واحتكاك الأوربيين بالمسلمين في الحروب الصليبية.
رجع الآلاف من الغُزاة الصليبيين إلى بلادهم، وحملوا إلى الناس أخبارا تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة، من أن المسلمين جماعة من الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة، وأجلوا عنها دين التوحيد، ونفوا منها كل فضيلة وإخلاص، وهم وحوش ضارية، وحيوانات مُفترسة، فلما قفل الغُزاة إلى ديارهم قصُّوا على قومهم أن أعداءهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة، وذوي ودٍّ ووفاء، وفضل ومُجاملة.
ثم كان الخليفة (الحكم الثاني) جعل من بلاده الأندلس فردوسا، كما قال الفيلسوف الأمريكاني، وكان اليهود والنصارى يتلاقون في تلك البلاد تحت ظلال الأمن والحُرية، قال بطرس المحترم الشهير: إنه رأى كثيرا من العلماء يأتون إلى تلك البلاد لتلقِّي العلوم الفلكية حتى من بلاد انكلترا، وأولئك الذين يسعَون إلى طلب العلوم من أي بلاد جاءوا كانوا يجدون فيها رحبا وسَعة، وكان قصر الخليفة يُشبه أن يكون مصنعا للكتب – نسخ وتذهيب وتجليد – إلخ ما قال.
ثم انتشرت صناعة الورق التي اخترعها العرب، ثم وُجدت المطبعة وسهل على الناس أن ينشروا آرائهم بعد أن تنبَّهت أفكارهم بما جلب إليهم رُسُل العلم الذين حملوه إليهم من أهالي أسبانيا، ومن حملوه مما جاورها، ثم انساب إلى العلم شيء مما سماه الأوربيون فلسفة ابن رشد، وعند ذلك اهتمَّت المسيحية بالأمر، وأخذت تُحارب كل ما يظهر على ألسنة الناس أو يرد على أسماعهم مما يُخالف ما في الكتب المقدسة وتقاليد الكنيسة.
قال دي رومنيس: إن قوس قزح ليست قوسا حربية بيد الله ينتقم بها من عباده إذا أراد، بل هي من انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء، فجُلب إلى روما وحُبس حتى مات، ثم حُوكمت جثته وكتبه، فحُكم عليها وأُلقيت في النار، وقيل في علة الحكم: إنه أراد الصلح بين كنيستي روما وانكلترا، وأي ذنب أعظم من هذا الصلح؟ هو أضخم بلا ريب من ذنب القول بأن قوس قزح من انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء.
مراقبة المطبوعات ومحكمة التفتيش:
أُنشئت المُراقبة على المطبوعات، وحُتِّم على كل مؤلِّف وكل طابع أن يعرض مؤلَّفه أو ما يريد طبعه على القسيس أو المجلس الذي عُين للمُراقبة، وصدرت أحكام المجمع المقدس بحرمان مَن يطبع شيئا لم يُعرض على المُراقب، أو ينشر شيئا لم يأذن المُراقب بنشره، وأُوعز إلى هذا المُراقب أن يُدقِّق النظر حتى لا ينشر ما فيه شيء يومئ إلى مخالفة العقيدة الكاثوليكية، ووُضعت غرامات ثقيلة على أرباب المطابع يعاقبون بها فوق الحرمان من الكنيسة (كأن الحكومة العثمانية على ما تنشر بعض الجرائد: أخذت نسخة من قرار المجمع المقدس لتُجرى عليه مراقبة المطبوعات ولكن للسياسة لا للدين).
أُنشئت محكمة التفتيش لمُقاومة العلم والفلسفة عندما خِيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد وتلامذة تلامذته، خصوصا في جنوب فرنسا وإيطاليا. أُنشئت هذه المحكمة الغريبة بطلب الراهب توركماندا.
قامت المحكمة بأعمالها حق القيام، ففي مدة 18 سنة – من سنة 1481م إلى 1499م – حكمت على 10 آلاف ومائتين وعشرين شخصا بأن يُحرقوا وهم أحياء، فأُحرقوا، وعلى 6 آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير، فشُهِّروا وشُنقوا، وعلى سبعة وتسعين ألفا وثلاثة وعشرين شخصا بعقوبات مختلفة فنُفذت، ثم أُحرقت كل توراة بالعِبرية.
ماذا كانت وسائل التحقيق عند هذه المحكمة (المقدسة)؟ وسيلة واحدة: هي أن يُحبس المُتهم، وتُجرى عليه أنواع العذاب المُختلفة بآلات التعذيب المتنوعة، إلى أن يعترف بما نُسب إليه، وعند ذلك يصدُر الحكم، ويعقُبه التنفيذ.
قرَّر مجمع (لاتران) سنة 1502م: أن يلعن كل مَن ينظر في فلسفة ابن رشد، وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه، ولعن مَن ينظر في كلامه شيئا من الصناعة والعبادة، لكن ذلك لم يمنع الأُمراء وطلاَّب العلوم من كل طبقة من تلمُّس الوسائل للوصول إلى شيء من كتبه، وتحلية العقول ببعض أفكاره.
اشتدَّت محكمة التفتيش في طلب أولئك المجرمين، طلاب العلم والسعاة إلى كسبه، ونيط بها كشف البدعة، والحكم فيها مهما اشتدَّ خفاؤها: في المدن، في البيوت، في السَّراديب، في الأنفاق، في المخازن، في المطابخ، في المغارات، في الغابات وفي الحقول. فوفَّت بما كُلفت مع البهجة والسرور اللائقين بأصحاب الغيرة على الدين، عملا بالقول الجليل: (ما جئتُ لأُلقي سلاما بل سيفا).
كان يُؤخذ الرهبان في صوامعهم، والقسوس في كنائسهم، والأشراف في قصورهم، والتجار بين بضائعهم، والصناع في مصانعهم، والعامة في بيوتهم ومزارعهم، وحيثما وُجدوا، وأينما ثُقفوا، ويُوقفون أمام المحكمة، وتصدر الأحكام عليهم يوم اتهامهم.
قرر مجمع (لاتران) أن يكون من وسائل الاطلاع على أفكار الناس الاعتراف الواجب أداؤه على المذهب الكاثوليكي أمام القسيس في الكنيسة (أي الاعتراف بالذنوب طلبا لغفرانها).
تذهب البنت أو الزوجة أو الأخت لأجل الاعتراف بين يدي القسيس يوم الأحد، فيكون مما تُسأل عنه عقيدة أبيها أو زوجها أو أخيها وما يبدُر من لسانه في بيته، وما يُظهره في أعماله بين أهله. فإذا وجد القسيس مُتلقِّي الاعتراف شيئا من الشُّبهة في طلب العلم غير المقدس على مَن سأل عنه، رفع أمره إلى المحكمة، فينقضُّ شهاب التُّهمة عليه. فإذا سُئل عن الشاهد الذي عوِّل عليه في اتهامه لا يجاب، وإنما يُقام التعذيب مقام شخص الشاهد، وهو من أهله حتى يعترف.
أوقعت هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما يُخيل لكل مَن يلمع في ذهنه شيء من نور الفكر إذا نظر حوله أو التفت وراءه: أن رسول الشؤم يتبعه، وأن السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه ومن وُرود الفكرة العلمية إليه، وقال باغلياديس ما كان يقوله جميع الناس لذلك العهد: (يقرُب من المُحال أن يكون الشخص مسيحيا ويموت على فراشه).
حكمت هذه المحكمة من يوم نشأتها سنة 1481م إلى سنة 1808م على ثلاثمائة وأربعين ألف نسمة، منهم نحو مائتي ألف أُحرقوا بالنار أحياء.
اضطهاد المسيحية للمسلمين واليهود والعلماء عامة:
لما كان ابن رشد هو الينبوع الذي تفجَّر منه ماء العلم والحرية في أوربا على زعم القسوس، وكان ابن رشد أستاذا يتعلَّم عنده كثير من اليهود، وقد اتُّهموا بنشر أفكاره وآرائه، ثم هو مع ذلك مسلم، صُبَّ غضب الكنيسة على اليهود والمسلمين معا، فصدر الأمر في 30 مارس (آذار) 1492م بأن كل يهودي لم يقبل المعمودية في أي سن كان، وعلى أي حال كان: يجب أن يترك بلاد أسبانيا قبل شهر يوليو (تموز)، ومَن رجع منهم إلى هذه البلاد عُوقب بالقتل، وأبيح لهم أن يبيعوا ما يملكون من عقار ومنقول، بشرط أن لا يأخذوا في الثمن ذهبا ولا فضة! وإنما يأخذون الأثمان عُروضا وحوالات، ومَن ذا الذي يشتري اليوم بثمن ما يأخذه بعد ثلاثة أشهر بلا ثمن؟ (يعني أن أموال اليهود تكون مباحة بعد جلائهم الذي تمَّ في يوليو)، وصدر أمر (توركماندو): أن لا يساعدهم أحد من سكان أسبانيا في أمر من أمورهم، وهكذا خرج اليهود، تاركين كل ما يملكون، بأرواحهم على أنه لا نجاة لكثير منها، فقد اغتالها الجوع ومشقَّة السفر مع العدم والفقر.
وفي فبراير (شباط) سنة 1502م نُشر الأمر بطرد أعداء الله المغاربة (أي المسلمين) من إشبيلية وما حولها، مَن لم يقبل (المعمودية) منهم يترك بلاد أسبانيا قبل شهر أبريل (نيسان)، وأُبيح لهم أن يبيعوا ما يملكون على الشرط الذي وُضع لليهود، ولكن وضع للمسلين شرط آخر، وهو ألا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية، ومَن خالف ذلك فجزاؤه القتل! فهؤلاء المساكين نُفوا جميعا إلى القتل، إن لم يكن قتل الجزاء عند الرجوع، فالموت مُلاقيهم بالتعب مع العُرى والجوع.
ألا يعجب القارئ إذا رأى أن (برونو) يُحرق بالنار حيا بعد حبس طويل سنة 1600م، لأنه قال بقول الصوفية في وحدة الوجود، وقال: إن هذا العالم يحتوي على عوالم كثيرة؟ (الحمد لله رب العالمين).
ظهر القول بكُروية الأرض – ذلك الأمر الذي عرَفه المسلمون وصار رأيا لهم في أول خلافة بني العباس، ولم تتحرك له شعرة في بدن – فأحدث اضطرابا شديدا في عالم النصرانية، ولا يسع هذا المقال ما وقع من الحوادث في شأنه.
هل يصدق القارئ أن ما قصده كريستوف كولمب من السفر في المحيط الاطلانطيقي لعله يكتشف أرضا جديدة، كان من الأمور التي اهتمَّت لها الكنيسة، وحكم مجمع (سلامانك) بأنه مُخالف لأصول الدين، ثم أُعيد النظر فيه وعرض على أقوال الآباء من كريزستوم، وأوغستين، وجيروم، وغريغوار، وبازيل، وانبروازو، وعلى رسائل الرسل والأناجيل والنبوات والزبور والأسفار الخمسة، ولم يُنتج هذا العرض شيئا، ولكن ساعده على ما قصده بعض الملوك رغم الكنيسة كما هو معلوم. قال كريستوف كولمب: (إن الذي أوحى إليه هذا القصد النبيل هي كتب ابن رشد)، من هنا تفهم لِمَ قامت الكنيسة وقعدت؟
قاعدة سلطان رجال الكنيسة على غيرهم؟
ما أشد تمسُّك الكنيسة بهذا الأصل الجليل: (السلطة للقسوس، والطاعة للعامة)، كل رأي لم يصدر عن ذلك المصدر الديني الذي يربط ويحل في الأرض والسماء، فهو باطل، تجب مُقاومته بكل ما يُستطاع! لهذا حُكم على غاليلي الذي ذهب إلى أن حركة الكواكب هي على النظام المعروف عند الفلكيين اليوم.
مقاومة الكنيسة للحقن تحت الجلد:
هل تدري ماذا حصل من المُقاومة لإدخال الحقن تحت الجلد بمادة المرض؟ اكتشفت هذه الطريقة الطبية عند المسلمين في الاستانة، ثم نقلتها إلى أوربا امرأة تسمى ماري مونتاجو سنة 1721م، فقامت قيامة القسوس وعارضوا في استعمالها، واحتيج في تعضيدها إلى التماس المساعدة من ملك إنكلترا، وعادت هذه الشدَّة في المُعارضة عندما اكتُشف طريقة تطعيم الجُدَرِي!!
مقاومة تسهيل الولادة:
أيُّ مقاومة لم يلاقها اكتشاف تخدير المرأة عند الولادة، حتى لا تُحسَّ بألم الطلق، اكتشاف أمريكاني رأى حضرات القسوس فيه أنه يُخلِّص المرأة من تلك اللعنة أو تلك العقوبة التي سُجلت عليها في سفر التكويين: (إذ جاء في الاصحاح الثالث منه: وقال للمرأة: تكثيرا أُكثِّر أتعاب حملك، بالوجع تلدين أولادا).
هذا بعض ما ذكره العلامة محمد عبده من الوقائع والآثار العملية للأصول المسيحية الدينية في حياة الشعوب المسيحية، ولا سيما فيما يتعلق بالعلم والفكر والثقافة، وهي وقائع واضحة الدلالة، ولا تحتاج إلى تعليق.
فأين هذا التاريخ الأسود المظلم الجنبات في مقاومة العلم والفكر، ومحاربة التجديد والابتكار، والإصرار على إبقاء كل قديم على قدمه.. مما يحكيه تاريخ المسلمين المشرق: من علوم قديمة تجدد، ومعارف موروثة تهذب، وعلوم جديدة تخترع.
كل ذلك بمباركة علماء الدين الإسلامي وتأييدهم، بل بمشاركة بعضهم مشاركة فعلية في العلوم الطبيعية والرياضية، كما سجل لهم ذلك تاريخ العلم بكل جلاء. وسنذكر شيئا من ذلك فيما يأتي إن شاء الله.

مقطتف من كتاب :” البابا والإسلام”   يوسف القرضاوي

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إحدى عشر + 7 =