مـرةً أخـرى .. أينَ أخـطأ الشــيخ الشــريف؟

مـرةً أخـرى .. أينَ أخـطأ الشــيخ الشــريف؟

كتبه : بندر الشويقي

الرد ، والرد المضاد.
هذا ما وقعت فيه، والله المعين.
ههنا تقييدات قد لا تعني شيئاً للكثيرين، وقد تعني الكثير للقليلين.
كتبتُ تعليقاً على فتوى الشيخ حاتم الشريف -سدَّد الله قلمه- حول الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-.
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=18342

وفكرة تعليقي أن:
((الشيخ محمداً –رحمه الله- رأسٌ من رؤوس أهل السنة. ومقامه لديهم عالٍ رفيع. فالكلام عنه –بالتالي- يجب أن يكون برويةٍ، وبمنهج موضوعي متزنٍ، مدعَّمٍ بالحجةِ والدليل. ومخالفة هذا المسلك، ستؤدي –بديهةً- إلى ردود فعلٍ وانشقاق)).

ولقد آلمني كثيراً ما رأيته الآن من شيوع كلام الشيخ حاتم في جملةٍ من المواقع البدعية التي استبشرت بكلامه الموهم، وجعلته شهادةً و وثيقةً يدان بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- من داخل مذهبه.
وثيقة يضللون بها الأتباع، ويرمونها في وجه أهل الحق في مقام الجدل العقدي.
فأسأل الله أن يعفو عن الشيخ حاتم ويغفر لنا له.

و لو كانت فتيا الشيخ حاتم واضحةً في مقصودها، لهانَ الأمر.
لكن الإشكال في إجمالها الذي جعلها جاهزةً للتوظيف في أيِّ اتجاه.
و من تجربةٍ لا بأس بها في مخاصمة أهل الأهواء، فإني لم أرَ البدعيَّ اليومَ يفرح ويستبشر فرحه بوجود مثل هذه الكلمات التي تصدر من داخل الصف.
والله المستعان.

عموماً: وجهة نظري ومأخذي على الشيخ شرحته وبينته في مقالتي السابقة.
وقد حصل تحت المقالة بحثٌ ودرسٌ،، وأخذٌ وردٌّ،، منه ما يفيد،، ومنه ما يضر،، ومنه ما لا ولا.
وكان أجمع ما كُتب تعليقاً على المقالةِ ذاكم التعقيب المطوَّل الذي تفضل بكتابته أخي الشيخ وائل الحارثي -كتب الله أجره-.
لستُ أعرفه ولا أدري من هو. غير أني فهمتُ من بعض الأحبة أنه قريب من الشيخ حاتم -وفقهما الله لهداه-.

كتب وتعقَّب ، وتساءل وتعجَّب.
غير أن كتابته جاءت بعدما طال الحديث وتشعَّب.
وقد قرأتُ كلامه بعدما حزمت أمري على طيِّ بساط البحث والجدل.
ولقد ترددتُ في العودة ثانيةً، إذ ليس من العقل ولا الدين التمادي في الجدل دون توقف. كما أنه ليس من الأدب الإعراض عما تكلف هذا الفاضل وتعب في تحريره؟

فهل أعرضُ وأسكتُ فأخالف أصول الأدب مع أخي؟ أو أكتبُ وأبسُط فأهدر المزيد من الوقت في الخصومة و المراء؟
خياران كان أحلاهما -بالنسبة لي- مُراً.
وقد تجرعت أقلهما مرارةً، وزدتُ في مرارته بتطويل الكلام ونشره، لئلا يكون فيه موضع لبسٍ؛ إذ ليس لي نيةٌ في مواصلة الجدل، والإمعان في الخصومة.

فها هو التوضيح والبيان لمن أشكل عليه شيءٌ من كلامي الأول.
ومن لم يكن عنده إشكالٌ، فليختصر وقته، وليطوِ تلك الصفحة بما فيها.
وبالنسبة لي، فسوف أختصر وقتي وألتزم ألا أعلق بشيءٍ؛ إذ ليس لديَّ ما أضيفه بعد هذا الشرح والبيان.

(و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، واغفر لنا ربنا إنك رؤوفٌ رحيم)

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

كان أكبرُ اعتراضٍ ذكره أخي الشيخ وائل موجهاً إلى قولي إن الشيخ حاتماً قرَّر مسألتين في كتابه (الولاء والبراء)، تجرأ بندرٌ و وصفهما بوصف: “لوثة إرجاء”.

المسألة الأولى : حكمه بالإيمان لمن يصطفُّ في جيش الكفار محارباً النبيَّ – صلى الله عليه وسلم- .
المسألة الثانية : تجويزه ثبوتَ الإيمان الباطن لمن يعلن بلسانه أنه (يحب دين الكفار)!

فأنكر علي أخي الشيخ وائل هذه النسبة، وطالبني بالبينة عليها أو الأوبة. واستعاذ بالله من تهمةٍ تؤذي مسلماً أو تحط من قدر عالمٍ.
والعبد الفقير كاتب هذه الأحرف يعوذ بالله من تهمة أو فريةٍ تؤذي مسلماً، (أو حتى كافراً)، أو تحط من قدر عالمٍ.
و لعمرو الله لو خفَّ علي تحاملٌ على مسلمٍ من أفناء الناس، فلن تخفَّ عليَّ وصية المصطفى في آل بيته -صلوات الله وسلامه عليهم-.
غير أن الحقَّ أحق أن يتبع.

لكن ما عجبتُ له استكثارُ بعض الأحبة حديثي عن لوثة إرجاء في تقرير الشيخ حاتم لمسألتين نصصتُ عليهما تحديداً.
ثم استسهالهم إجمال الكلام عن (أخطاااء) لدى الشيخ محمد بن عبدالوهاب يتعين رفع الصوت بإنكارها.

ومهما قلنا وتحدثنا عن فضل الشيخ حاتم ومقامه، فالشيخ محمد -رحمه الله- بلغ مرتبة الإمامة في الدين، وهو رمزٌ من رموز أهل السنة، فكنت أتمنى لو يملك الإخوة حساسيةً تجاه الحديث المجمل الموهم عنه، كتلك التي ظهرت منهم تجاه الشيخ الفاضل الشريف د. حاتم العوني -رعاه الله-.

وقبل الدخول في التفاصيل أودَّ التذكير بأن أصل مأخذي على الشيخ حاتم كان موجهاً لما رأيته تجنياً على الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-.
أقولُ هذا لأني رأيت أخي الشيخ وائلاً -سلمه الله- يجهد في الانصراف عن هذه المسألة، إلى تعويم الكلام وتحويله إلى وجود أو عدم وجود غلوٍّ فيمن انتسب لدعوة الشيخ -رحمه الله-. ومع أني لن أخلي كلامي عن تفسير وبيان لهذه النقطة، لكني أذكِّر أنها ليست هي المأخذ الذي نلوم الشيخ حاتماً عليه.

فأقول -مستعيناً بالله- مقيماً بينتي وحجتي :
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

(1)
الشيخ حاتم -رعاه الله- بنى كتابه (الولاء والبراء) على تقرير أن النصرة العملية للكفار كلها ذنبٌ وليست معصيةً. ولم يكن هذا مقصودي حين ذكرتُ أني رأيت في كلامه لوثة إرجاء. بل مقصودي هفوةٌ وقعت له وهو يتطلب الأدلة لإسناد رأيه وإقامة مذهبه.
وفيما يلي بيانُ ذلك وتفصيله.
قال (ص83): “يدل على ذلك –أيضاً- حديث سهل بن بيضاء، وهو أنه كان مسلماً بمكةَ يخفي إسلامه. ثم إنه خرج مع المشركين ببدرٍ و وقع في الأسر. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لا ينفلتن منهم أحدٌ إلا بفداءٍ أو ضربة عنقٍ) فقال ابن مسعودٍ: (إلا سهل بن بيضاء)، فإني سمعته يذكر الإسلام. فقال -صلى الله عليه وسلم- بعد سكتةٍ- : (إلا سهل بن بيضاء)”.

الشيخ حاتم -سلمه الله من كلِّ سوء- تصوَّر هذا الحديث على غير وجهه، واستدل به في غير موضعه، فوقع فيما ادعيته عليه من إثبات حكم الإيمان لمن يصطفُّ في جيش الكفار محارباً النبيَّ – صلى الله عليه وسلم- . (و هو ما رأيت أخي الشيخ وائلاً يتابعه عليه الآن).

و قبل بيان موضع الخطأ في فهم هذا الحديث، أبدأ أولاً بشرح تصوُّر الشيخ حاتم -رعاه الله- لمعناه.

الشيخ حاتم يصور معنى هذا الحديث كالآتي:

سهل بن بيضاء -رضي الله عنه- مسلمٌ مقيمٌ بمكة.
خرج مع المشركين يوم بدر.
اصطف مع جيشهم لحرب النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فلما وقع في الأسر، لم يكفِّره النبي –صلى الله عليه وسلم-. بل خلى سبيله لما شهد ابنُ مسعودٍ له بالإسلام.
والفقهاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- استدلوا بهذا الحديث، ولم يحكموا بالكفر على سهل بن بيضاء -رضي الله عنه-.

هكذا بنى الشيخ حاتم -سدد الله قلمه- دليله وحجته.

فما معنى هذا التقرير؟
وهل يظلم أو يفتري من يقول إن الشيخ حاتماً حكم بالإيمان لمن يصطفُّ في جيش الكفار محارباً النبيَّ – صلى الله عليه وسلم-.

وقبل أن أسوق نصَّ عبارة أخي الشيخ حاتم وهو يتحدث عن فقه هذا الحديث، أودُّ أن أبين الإشكال الذي وقع للشيخ، فأوجب له تصوير الحديث على غير وجهه:

– – – – – – – – – – – – – – – –

الشيخ حاتم -عافاه الله- ذكر في مطلع كلامه أن سهل بن بيضاء (كان مسلماً بمكةَ يخفي إسلامه). ولو أنه وُفق للإصابة -كعادته- وتوقف عند هذه المعلومة لكانت مفتاحاً لفهم الحديث فهماً صحيحاً، و لما أبعد النجعة في الاستدلال به في غير مورده.

يقول الحافظ ابن سعد –رحمه الله- طبقاته (4/213) عن سهل بن بيضاء: “أسلم بمكة، وكتم إسلامه، فأخرجته قريشٌ معها في نفير بدر، فشهد بدراً، مع المشركين، فأسر يومئذ، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة، فخُلي عنه”. وذكر نحو ذلك الحافظ ابن عبدالبر في الاستيعاب.

إذن قريشٌ أخرجت سهلاً معها، و لم يخرج هو باختياره؛ إذ كان فيهم مستضعَفاً يكتم إسلامه.
فهل يكون مورد الحديث فيمن يقاتل مع الكفار مختاراً، كما فهم الشيخ حاتم؟
أو أن مورده : من يخرج مكرهاً، ثم يقع في الأسر، فيقيم البينة على حقيقة حاله؟!
من الواضح أن صورة الإكراه هي مورد الحديث.

وبقطع النظر عن موافقة الشيخ حاتم على ذلك أو عدم موافقته. فما يعنينا الآن هو:

ما الذي يفهمه أخي الشيخ وائل من استدلال الشريف حاتم بهذا الخبر؟
وهل افتريتُ أو أسأت الفهم، حين قلت إنه أثبت حكمَ الإيمان لمن يصطفُّ في جيش الكفار محارباً النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
أستغفر الله من تهمةٍ باطلةٍ تؤذي مسلماً، أوتحطُّ من قدر عالم!.

سهل بن بيضاء خرج للمقاتلة مع المشركين يومَ بدرٍ؟
فالمشركون حين خرجوا لبدرٍ ، وخرج معهم سهل، كانوا يحاربون مَن؟
والمسلم الذي يصطفُّ معهم، ما حكمه حسب رأي الشيخ حاتم؟

فهل ظلمت أو افتريت حين قلت : إن الشيخ حاتماً حكم بالإيمان لمن (يصطفُّ في جيش الكفار محارباً النبيَّ – صلى الله عليه وسلم-)؟
أستغفر الله من تهمةٍ باطلةٍ تؤذي مسلماً، أوتحطُّ من قدر عالم!.

و إليكَ -أيها الفاضل- نصَّ كلامِه، وهو يقرِّر فقه حديث سهل بن بيضاء.
فهو -بعد أن نقل استدلال ابن قدامة بالحديث في مسألة الأسير إذا ادَّعى الإسلام- قال (ص86) :
“انظر إلى هذا التقرير البعيد كلَّ البعد عن التكفير بالنصرة العملية في حديثي سهل بن بيضاء وعمران بن حصين. وهو تقريرٌ لم يقع فيه الخلاف في البينة التي تدل على صدقِ كونه مسلماً قبل خروجه مع الكفار لقتال المسلمين. ولم يحكم واحدٌ من المختلفين بارتداده وكفره بخروجه في جيش الكفار المقاتل للمسلمين! بل حكموا بإسلامه، إذا ثبتَ أنه كان مسلماً قبل خروجه معهم”.

فكما يرى أخي الشيخ وائلٌ، فإن الشريف حاتماً يقرِّر أن خروج سهل بن بيضاء -رضي الله عنه- مع المشركين لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يوجب أن يحكُم أحدٌ بكفره وارتداده. وعدمُ تكفيره -في رأي الشيخ حاتم- ليس لأجل كونه مكرهاً، بل لأنه كان مسلماً، حتى وإن اختار القتال مع المشركين، ضد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فهل افتريتُ على الشيخ حاتم، أو نسبتُ له ما لم يقله حين زعمتُ أنه حكم بالإيمان لمن يصطفُّ في جيش الكفار محارباً النبيَّ – صلى الله عليه وسلم-؟!
أستغفر الله من تهمةٍ باطلةٍ تؤذي مسلماً، وتحطُّ من قدر عالم!.

وللعلم فإن القاضي عياضاً –رحمه الله- نقل في كتابه الشفاء (2/1069) الإجماع على كفر من حارب النبي –صلى الله عليه وسلم-. وهذا نص عبارته:
“من أضافَ إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- تعمُّد الكذبِ فيما بلَّغه وأخبر به، أو شك في صدقهِ، أو سبهُ، أو قال : إنه لم يبلِّغْ، أو استخفَّ به، أو بأحدٍ من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتلَ نبياً، أو حاربه، فهو كافرٌ بإجماعٍ”.

ففهمُ الشيخ حاتم -سلمه الله- للحديث يصادم هذا الإجماع الثابت.
على أن المسألة –في الأصل- ليست بحاجةٍ لأن ينصَّ القاضي عياضٌ –رحمه الله- على إجماعٍ عليها، إذ هي مقتضى مذهب السلف –رحمهم الله- في معنى الإيمان الشرعي بالنبوة، والذي لا يكفي فيه عندهم مجرَّد الإقرار بصدق النبي، ما لم يصاحب ذلك انقيادٌ وتوقير وتعظيم. ومحاربة الأنبياء مما ينافي ذلك وينقضه، إذ هي من جنس الهزء و السخرية بهم، فينتقض بها أصل الإيمان إذا وقعت اختياراً، حتى لو كان الدافع لها حبَّ الدنيا.
وأما غالية الجهمية المرجئة فعندهم يثبت الإيمان بالنبي بمجرد المعرفة بصدقه، حتى مع معاندته أو الهزء به، أو محاربته!
لأجل هذا قلت إن تقرير الشيخ حاتم هذا لا يأتي إلا على مذهب غالية الجهمية المرجئة.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

(2)

من أين دخل الخلل على الشيخ حاتم، و من بعده الشيخ وائل؟؟

يقول أخي الفاضل الشيخ وائل :
“هذا الذي أُلزم به الشيخ حاتم، يلزم الأخ بندر أن يجعله لازماً لجميع الفقهاء الذين استدلوا بالحديث نفسه على نفس استدلال الشيخ حاتم”.

وأقول: نعم لا شك أن هذا لازمٌ لي… فإن كان الفقهاء استدلوا بحديث سهل على عين ما استدل به الشيخ حاتم، فقد وقعوا فيما وقع فيه.
لكن هل فعل الفقهاء ذلك؟
هنا موضع الإشكال الذي دخل على أخي الشيخ وائل، وهو عينه الإشكال الذي دخل على الشيخ حاتم من قبل في فهم صنيع الفقهاء، حين استند إلى كلامهم في مسألةٍ لم يتصورها تصوراً صحيحاً. ويأبى الله الكمال لغيره.
ولعل الأمر هنا يستدعي بعض الشرح والبيان الموجز.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

يقول الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية أبي الحارث: “من أخَذ عِلجاً فقال: (كنت أسلمت قبل أن تأخذوني أسيراً) لم يقبل منه. وإن شهد له من أسره من المسلمين أنه كان قد أسلم قبل أن يؤخذ، قُبلت شهادته مع يمين المدعي”. (نقله ابن مفلح في نكته على المحرر 2/320).

هذه المسألة التي يتحدث عنها الإمام أحمد -رحمه الله- هي أحد الفروع الفقهية المعروفة التي تتكرر في كتب الفقهاء. وهي حكم الأسير إذا ادَّعى أنه أسلم قبل أن يتمكن منه المسلمون تمكناً تاماً. وشهد له شاهدٌ بذلك. فما حكمه؟
الفقهاء يقرِّرون أنه إن أقام البينة على قوله، حُكمَ بصحة إسلامه، وخُلي سبيله، و حرم قتله أو استرقاقه أو أخذ الفدية منه.
فما الحكم : لو حصر المسلمون كافراً، فلما تيقن الأسر أظهر الإسلام قبل أن يتمكنوا منه طلباً لحقن دمه.
أو تقابل الجيشان، فلما رأى الكافر غلبة المسلمين، انشرح صدره للإسلام، فأسلم لكن بغَته المسلمون وأسروه.
هذه مسألة يبحثها الفقهاء في مصنفاتهم.

ويدخل تحت هذا الفرع صورٌ يدَّعي فيها الأسير أنه مسلمٌ أصلاً، كما وقع ذلك في قصة سهل بن بيضاء، (وهي حالة إكراه).
وكما لو حاصر المسلمون حصناً، فدخلوه عنوةً، وادَّعى بعض من فيه أنه مسلمٌ.
أو أغار المسلمون على بلدةٍ بدار حرب، فغنموا وأسروا، فادَّعى بعض الأسرى أنه مسلمٌ.

وهناك صورٌ أخرى قد يعسر حصرها، تندرج تحت هذا الفرع الفقهي المعروف.

ونصوص الفقهاء في تقرير ذلك كثيرة مستفيضة. من ذلك قول النووي -رحمه الله- في الروضة (10/252): “لو أسلم قبل أسره والظفر به، عصِم دمه وماله، سواءٌ أسلمَ وهو محصورٌ وقد قربَ الفتح، أو أسلم في حال أمنه، و سواءٌ أسلمَ في دار الحرب أو الإسلام”.
وفي شرح المنتهى (1/626) : “من أسلم من الكفار قبل أسره -ولو كان إسلامه لخوف- فكمسلمٍ أصليٍّ لعموم (فإذا قالوها عصموا مني دماءهم… الحديث)”.
وفي حاشية الرملي من الشافعية (4/360) : “لو ادعى الإسلامَ واحدٌ من الكفار قبل أسره، وأقام به شاهداً وامرأتين فإنه يكفيه”.
ويوجد نصوص أخرى مماثلة بالمعنى نفسه في المغني والمبدع والإقناع وكشافه والمطالب، وفي جملةٍ من كتب الشافعية وغيرهم.
ومن ذلك ثلاثة نصوصٍ نقلها الشيخ حاتم في كتابه، كقول ابن قدامة -رحمه الله- : “من أسر أسيراً، فادَّعى أنه كان مسلماً، لم يقبل قوله إلا ببينةٍ…فإن شهد له واحدٌ، حلف معه، وخُلي سبيله…”.

فالمسألة معروفةٌ مشهورة لدى الفقهاء. فكيف تعامل معها الشيخ حاتم -سلمه الله-.
و ما علاقة هذا بما سميته لوثة إرجاء؟

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

الشيخ حاتم -رعاه الله- أراد استثمار نصوص الفقهاء هذه، فطرح -من حيث لم يشعر- جميع حالات الأسْر المتصورة التي شرحتُ بعضها آنفاً، ثم أنزل كلام الفقهاء على صورةٍ واحدةٍ سيطرت على ذهنه وهو يكتب بحثه، وهي صورة المسلم الذي يخرج مع الكفار مختاراً، فيقاتل أهل الإسلام إلى أن يقع في الأسر، فيشهد له شاهدٌ بأنه مسلمٌ.
فحملَ قولَ ابنِ قدامةَ: “من أسر أسيراً فادعى أنه كان مسلماً” على هذه الصورة وحدها، ثم بنى على هذا الدبوس جبلاً كبيراً.

و بقليلٍ من التأمل سوف يدرك الشيخ حاتم -بفطنته المعروفة- أن هذه الصورة ليست مقصودةً قطعاً من كلام الفقهاء.
ذلك أن ابن قدامة وسائر الفقهاء يقرِّرون في هذا الفرع أن الأسير إذا ادَّعى أنه مسلمٌ، وثبتت دعواه، (( خُلي سبيله)).
فهل يمكن أن يكون مرادهم أن المسلم الذي يقاتل مع الكفار ضد المسلمين إلى أن يقع في الأسر، يحقن دمه، و يخلى سبيله، ولا يعاقب بشيء؟!
قطعاً لا..
فلو أن مسلماً قاتل مع قطاعٍ مفسدين مسلمين، ثم قُدر عليه قبل التوبة لأبيح دمه، وقتلَ وصُلبَ، أو قطعت يده ورجله من خلاف.
فهل يصح -مع هذا- أن يقال: إن المسلم الذي يقاتل أهل الإسلام في صفوف الكفار، إذا وقع في الأسر، يخلى سبيله إن ثبت إسلامه؟!!
قطعاً لا..
مقصودُ الفقهاء من كلامهم صورٌ تقتضي اتصاف الأسير بما يمنع عقوبته. ككونه مكرهاً، أو كونه أحدث إسلاماً يجب ما قبله، أو نحو ذلك من الصور المشروحة آنفاً.
أما صورة المسلم الذي يخرج مع الكفار، ثم لم يزل -باختياره- ضارباً بسيفه، مقاتلاً محارباً في صف الكفار، إلى أن يأسره المسلمون، فهذه لا محل لها هنا.

يقول القاضي أبو يعلى -رحمه الله- : “إذا ادَّعى (الأسير) إسلاماً سابقاً، يُرجَع إلى شاهد الحال: فإن لم يكن معه سلاحٌ قُبل منه، ولم يقتل. وإن كان معه سلاحٌ قتل”. (نقله ابن مفلح في نكته على المحرر 2/321).
فالقاضي -رحمه الله- يشترط لقبول دعوى الإسلام ألا يكون مع الأسير سلاحٌ. لأن وجود السلاح قرينة إصراره على القتال المبيح لدمه، المكذب لدعوى إسلامه.
أما حسب تقرير الشيخ الفاضل حاتم -وفقه الله-، فحتى لو كان مع الأسير سلاح، وكان ممعناً في قتاله وقتله للمسلمين، إلى أن أمكن الله منه، فإنه يخلى سبيله!!!
فقط يكفي أن يشهد معه أحدٌ أنه مسلمٌ، وينتهي كل شيءٍ!!
و أظن الخطأ في هذا الفهم ظاهر لمن تأمل.

إذا علم هذا فما علاقة هذه المسألة بلوثة الإرجاء التي ذكرتها في كلامي؟؟

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

كما قلتُ آنفاً : الشيخ حاتم -سلمه الله- كتب كتابه وفي ذهنه صورة واحدة:
(مسلم يقاتل في صفوف الكفار مختاراً).
فحمل كلام الفقهاء في (الأسير يدعى الإسلام) على تلك الصورة الذهنية المسيطرة.
ثم لما رأى الفقهاء يستدلون بحديث سهل بن بيضاء، حمله هو الآخر على تلك الصورة الذهنية، ولم يتفطن إلى عارض الإكراه.
ثم التزم لازم دليله، فأثبت الإيمان لمحارب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما أراد التعليق على فقه الحديث.
ومن هنا دخل الإشكال.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(3)

مما ذكرته في مقالتي أن الشيخ حاتماً -رفع الله قدره- جوَّز ثبوتَ الإيمان الباطن لمن يعلن بلسانه أنه (يحب دين الكفار)!
وإنما أخَّرت هذه المسألة عن الأولى، لكونها (تخصُّصيةً)، قد لا يدرك أبعادها بعضُ قراء كلامي هذا.
فمن لا يعرف الفرق بين الإيمان الظاهر والباطن، وحقيقة التلازم بينهما، فليتجاوز هذه الفقرة إلى ما بعدها.

وقبل ذكر عبارة الشيخ حاتم يحسن التنبيه إلى ما نتفق عليه جميعاً من طريقة أهل السنة: أن من تلفظ بالكفر الصريح، فإنه يكفر ظاهراً وباطناً، ولا يجوز أن يتلفظ أحدٌ بكلمة الكفر، ثم يقول قائلٌ : نحكم بكفر ظاهراً، والله يتولى سريرته. ومن قال هذا فقد دخل في بعضِ لوثات الإرجاء الغالي.
لن أطيل في تقرير هذا، لأني أراه -في الجملة- محل اتفاقٍ بيني وبين الشيخ وائل، لكن خلافنا: هل قال به الشيخ حاتم، أو لا؟

يقول الشيخ حاتم (ص70) : “أمّا إذا صرَّح الشخص بحبّه لدين الكفار، أو بتمنيه نصرة دينهم على دين المسلمين، فتصريحُه هذا كُفرٌ يُكَفَّرُ به , وإن كان باطنُه (مع ذلك) قد يخالف ظاهره ، لكنّنا إنما نحكم بالظاهر، والله تعالى يتولَّى السرائر”.

فالشيخ حاتم سيحكم بالكفر لمن يقول إنه (يحب دين الكفار) بناءً على ظاهره، وأما الباطن فالله يتولاه.
فهل أخطأت على الشيخ أو نسبت له ما لم يقل؟!

وقد رأيتُ الشيخ وائلاً اجتهد -مأجوراً إن شاء الله- في إثبات سوء فهمي لكلام الشيخ حاتم، لكنه -في الواقع- أثبت لي صحةَ دعواي، كما أثبتَ أنه -كالشيخ حاتم- يجوِّز الإيمان الباطن لمن يعلن بلسانه أنه يحب دين الكفار، وهذا عينُ ما زعمت أنها لوثة أرجاء.

ذكر أخي الشيخ وائل إن مقصود الشيخ حاتم أن من أعلن محبة دين الكفار بلسانه، فإنه يكفر. ثم قال: “فإن جاء، واعتذر بأنه إنما قال ذلك من أجل الحصول على عرض من الدنيا (غير مكره)، فهو كافرٌ عند الشيخ حاتم حتى مع هذا التصريح، ولا يُقبل منه هذا الاعتذار، حتى مع احتمال صدقه في الباطن لأن مناط التكفير قد تحقق لنا في الظاهر، والله سبحانه يتولى سريرته”.

إذن رأي الشيخين -رضي الله عنهما- أن الذي يعلن بلسانه محبةَ دين الكفار، ثم يأتي ويعتذر بأنه قال ذلك لأجل الدنيا، فإن مناط التكفير يكون قد تحقق لنا في الظاهر، والله سبحانه يتولى سريرته.
لكن أئمة أهل السنة يقولون: من قال إنه (يحب دين الكفار)، فقد تحقق مناط كفره الظاهر والباطن، حتى لو ادَّعى أنه قال ذلك طمعاً في الدنيا.
(والكلام هنا عن العامد ، العالم ، المختار).

يسألني أخي الشيخ وائل ويقول: “ألا يُتصوَّر وقوع حالةٍ يكون القائلُ فيها صادقاً في دعواه: أنه إنما قال ما قال لعرضٍ من الدنيا وإن كان يعتقد بغضَ دين الكفار”.

وأقول : بلى يتصوَّر ذلك بداهةً. لكنه من قال إنه (يحب دين الكفار)، فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً، صدق في كلامه أو كذب.
فإن كان صادقاً في قوله: (إنه يحب دين الكفار)، كفر ظاهراً وباطناً لأجل محبته لهم.
وإن قال ذلك طمعاً في الدنيا، وكان كاذباً في قوله: إنه ( يحب دين الكفار)، كفر ظاهراً وباطناً، لاستخفافه ونطقه بكلمة الكفر.

وهذا معنى قولِ أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- : “من قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجةٍ عامداً لها، عالماً بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهراً و باطناً. و لأنا لا نجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً، و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام”. وقال في موضعٍ : “من جوَّز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه”. الصارم (1/523).

وسواءٌ قبل هذا أخي الشيخ وائل هذا التقرير أو لم يقبله. فهل افتريتُ على الشيخ حاتم حين قلت إنه جوَّز ثبوت الإيمان الباطن لمن يعلن بلسانه محبة دين الكفار؟؟
الشيخ حاتم يقول هذا.. والشيخ وائل يوافقه ،،، والله الهادي.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

ذكر أخي الشيخ وائل أن الشيخ حاتماً قرر في كتابه أنه (لا يكفر إنسانٌ بعملٍ أو قولٍ، إلا وقد كفر قلبه)، وأن (من كفر ظاهراً بترك الصلاة فقد كفر باطناً). وتساءل: لماذا لم أجعل هذا التقعيد تفسيراً لكلامه الذي زعمت أن فيه “لوثة إرجاء”.

وأقول لأخي وائل: لأجل هذا التقعيد وصفت خطأ الشيخ حاتم -سلمه الله- بأنه: “لوثة إرجاء”.
ولو أنه خالف في التقعيد -وحاشاه- لكان الحديث عن أكبر من مجرد لوثة.
وقد تقدم حديثُ ابن تيمية عن “خلع ربقة الإسلام”، و “المروق منه”.

كثيرون اليوم يقرِّرون مثل هذه القواعد، ويكتبون فيها، ويناظرون عليها.
فإذا حاققت معهم وجدتهم يحفظون ألفاظها، ويخرقون معانيها عن التطبيق.
وطالما خرج تقريرها وتقرير نقيضها من رأسٍ واحدةٍ.
والله الهادي.

هذا ما يتعلق بكتاب الولاء والبراء للشيخ حاتم -وفقه الله-. وفيه مآخذ أخرى غير هذه. والكتاب -في الجملة- يعوزه الكثير من تحرير استدلالاته وشواهده. وكاتبه -مع براعته وفطنته- إلا أنه استخدم فيه مهاراته الكتابية والجدلية، أكثر من مهارته البحثية. وقد ظهر أثر ذلك حين أطلق القول بأن التكفير بالمظاهرة العملية قولٌ محدث في الإسلام (ص142). فمثل هذا الإطلاق يحتاج إلى استقراءٍ تامٍ لأقوال أهل العلم، وهو ما لا أظن الشيخ فعله، لأن أقوال العلماء الناقضة لكلامه هذا كثيرةٌ معروفةٌ قريبةٌ، يستطيع الشيخ الوصول لها بسهولةٍ في مصادر مشهورة في متناول يده.
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

(4)

كنت ذكرتُ في مقالتي أني لمستُ من الشيخ حاتم (نبرة تبري وتنصل) من دعوة الشيخ محمد -رحمه الله- وذلك من خلال تكراره لعبارة (أتباع محمد بن عبدالوهاب).
فجاء أخي الشيخ وائل ليلومني على سوء ظني، وذكر أن الشيخ حاتماً أثنى على الدعوة، فكيف حملتُ كلامه على معنى (التبري والتنصل)؟

لا أدري ما الذي فهمه أخي الشيخ وائل من قولي: (نبرة تبري وتنصل). وكأنه فهم مقصودي أن الشيخ حاتماً يتبرأ من دعوة الشيخ محمد -رحمه الله- على معنى المجافاة والعداوة. وهذا المعنى ما أردته ولا خطر لي على بالٍ. وسياق كلامي كله يأباه. كيف وأنا أخاطب الشيخ حاتماً خطاب المعاتب الذي يستكثر منه ما يقبل من غيره من الأبعدين.

ما قصدته أن الشيخ حاتماً -شرف الله مقداره- جعل نفسه خارج الصورة وهو يتحدث عن (أتباع محمد بن عبدالوهاب). فقد ظل يتحدث عن الغلو لدى أناسٍ اسمهم: (أتباع محمد بن عبدالوهاب)، وذكر أن الغلو في (أتباع محمد بن عبدالوهاب كثير)، وأن على (أتباع محمد بن عبدالوهاب) دراسة أخطاء الشيخ، ورفع صوتهم بإنكارها.

فهذه الخطاب الموجه لـ (أتباع محمد بن عبدالوهاب) هو ما عنيته بحديثي عن نبرة التبري و التنصل.
وهذا -أيضاً- ما قصدته حين ذكرتُ أنه لا يوجد في هذه البلاد سلفي يتحدَّث عن شيءٍ اسمه (أتباع محمد بن عبدالوهاب).

ظاهر كلام الشيخ حاتمٍ أنه قسم السلفية عندنا إلى قسمين: أتباع وغير أتباع لمحمد بن عبدالوهاب. ثم وضع نفسه في القسم الثاني، وتوجه بخطابه للقسم الأول مطالباً إياهم بمراجعة أخطاء محمد بن عبدالوهاب، ورفع الصوت بإنكارها.
لأجل هذا تساءلت في مقالتي: “من هم هؤلاء الأتباع؟.. وما مذهبهم؟.. وما الأصل الجامع لهم؟”.

كم أتمنى لو أكون مخطئاً في فهم كلام الشيخ حاتم. بل أقول -صادقاً إن شاء الله- إني أتلهف لو يشفيني أخي الشيخ وائل -بحكم قربه من الشيخ حاتم- بجوابه عن هذا السؤال (ولو في رسالةٍ خاصةٍ).
هل الشيخ حاتم يعتبر نفسه من أتباع محمد بن عبدالوهاب؟ أو أنه يقسم السلفية في بلادنا إلى أتباع وغير أتباع لمحمد بن عبدالوهاب؟؟

أما إن كانت الثانية: فهذا ما أردته من حديثي عن نبرة (التبري والتنصل).
و أما إن كانت الأولى، فالحمدلله أولاً وآخراً، وأعتذر للجميع عن سوء فهمي لعبارات الشيخ حاتم -سلمه الله-.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

الشيخ وائل نقل نصاً عن الشيخ ابن بازٍ -رحمه الله- استخدم فيه عبارة (أتباع محمد بن عبدالوهاب) في مجموع فتاويه (1/399).
وإن أراد أخي الشيخ وائلٌ أتيته بنصوصٍ أخرى لمن هو أقدم من الشيخ ابن بازٍ -رحمه الله- استخدموا فيها هذه الصيغة.
لكن سؤالي لأخي الشيخ وائل :
هل رأى في سياق كلام الشيخ ابن بازٍ -رحمه الله- ما يوهم أنه يخرج نفسه من هذه المسمى حين استخدمه، كما هو ظاهر كلام الشيخ حاتم؟
هنا موضع البحث والاعتراض.

ثم مع من كان يتحدث الشيخ ابن بازٍ -رحمه الله-، حين استخدم تلك الصيغة؟؟
بالرجوع لفتاوى الشيخ ستجد كلامه جاء جواباً عن أسئلة وردت إليه من الخارج. هذا نصها :
ما هي الوهابية وهل هي مذهب خامس أم تتبع بعض المذاهب الأربعة؟..هل الوهابيون ينكرون شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؟…هل ما أشيع أن أتباع الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لما استولوا على الجزيرة العربية ووصلوا إلى المدينة المنورة ربطوا خيولهم في الروضة الشريفة الواقعة في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ؟.

هذا هو الطرف الذي كان يخاطبه الشيخ ابنُ بازٍ -رحمه الله-.
فهل يريد أخي الشيخ وائلٌ أن نجعل الحديث بيننا وبين الشيخ حاتم، كما نتحدث مع مثل ذاك السائل الجاهل بدعوة الشيخ محمد -رحمه الله-؟

ليرجع أخي الشيخ وائل لمقالتي، وسيجدني أقول بالحرف الواحد: “هذه الكلمة يمكن فهم المقصود منها حين يكون البحث مع صوفي مخرِّف أو رافضي ممخرق، أو مع شخصٍ يعيش خارج النطاق الجغرافي لتلك الدعوة. أما حين يكون الكلام مع مثل الشيخ حاتم بمشربه السَّلفي، فمن العسير فهم مراده بكلمة (أتباع الشيخ محمد)”.

فهذا موضع الاعتراض، وهذا موجب الإشكال في عبارة الشيخ حاتم.

ولمعترضٍ هنا أن يقول : وهل الانتساب لمحمد بن عبدالوهاب فرضٌ لازم؟
وأقول : لم أقل هذا. وليس لعاقلٍ أن يقوله. و هذه النقطة بالذات هي سبب اعتراضي على استخدام تلك الصيغة في كلام الشيخ حاتم.
فالانتساب للإمام محمد بن عبدالوهاب إن كان على معنى العصبية والتبعية المطلقة، فلا أحد يرضى أن ينسب إليه على هذا المعنى.
وأما إن كان المقصود بالتبعية تعظيم الشيخ محمد ومحبته، ومشاركته في الأصول، أوالنشأة السلفية في نطاق دعوته، فهذا القدر من المفترض أن يشمل الشيخ حاتماً كما يشمل كل سلفي في هذه البلاد. فما المعنى الذي جعل الشيخ حاتماً يصنف أناساً تحت اسم (أتباع محمد بن عبدالوهاب)، ثم يخرج نفسه من هذا المسمى؟

إنما يسوغ هذا إذا التصنيف إذا كان الشيخ حاتم يرى أصلاً جامعاً لأولئك الأتباع زائداً عن أصول الدعوة السلفية. فهنا يحق له أن يتحدث عن أولئك الأتباع بهذه الطريقة. كما يحق لهم أن يسألوه عن هذا الأصل الذي أوجب له تصنيفهم تحت هذا الاسم، وإخراج نفسه منه.

فهو إما أن يصنف نفسه داخل الدائرة.
أو يأبى مبدأ التصنيف كله له ولغيره.
أو يصنف غيره، ويخرج نفسه، وهنا يأتي الإشكال.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

(5)

سألني أخي الشيخ وائل : “هل هناك مسائل خلافية بين أئمة الدعوة في مسائل التكفير؟
وإن وُجِدَت فكيف تُفسر ذلك ؟ أم أنهم لم يختلفوا في مسائل التكفير اختلافا حقيقياً أبداً ؟

وأقول لأخي : بلى. قد اختلفوا.
وتفسير هذا الخلاف، هو ما ظللنا نردِّده ونرفع أصواتنا به:
لا يوجد شيء اسمه وهابية!

الشيخ محمد -رحمه الله- أطلق دعوةً تجديديةً لطريقة السلف في الأصول العقدية، وفي منهج التلقي.
دعوة امتد أثرها على مدى أكثر من قرنين ونصف من الزمان، شاعت في أرجاء الجزيرة العربية، باديتها وحاضرتها.

دعوة تتبنى طريقة السلف في الاعتقاد، ومبدؤها الأخذ بالدليل، وإن غلب على الأكثير من علمائها الفقه الحنبلي المطعَّم باختيارات ابن تيمية وتلميذه.
و يوجد داخل هذه الدعوة العالم والجاهل، وفي علمائها المحقق والمتوسط، و فيهم المجتهد والمقلد.
ويوجد ردودٌ ومناقشات داخل إطارها، كما يوجد ردود ومناقشات مع المخالفين.
وإذا استثنيت المشرب السلفي، فلا يوجد أصلٌ علمي جامعٌ بين علماء هذه الدعوة يوجب تصنيفها تحت مسمى فرقة أو جماعة أو (أتباع فلان).

غير أن تلك الدعوة نشأت على أساسها دولة مترامية الأطراف على ثلاث مراحل تاريخية.
في المرحلة الأولى كان الشيخ و تلاميذه يقودون مسيرة الدعوة ويسوسونها.
وفي المرحلة الثانية والثالثة، اشتبه تاريخ الدعوة بتاريخ الدولة والملك.

وازداد الاشتباه و الإشكال لاحقاً بسبب حركة “الإخوان” الذين أسهموا واستُخدموا في تأسيس الدولة الثالثة، وكانوا -في الجملة- أهل صدقٍ وديانةٍ وتضحيةٍ، غير أن الجهل كثيرٌ فيهم، و لبعضهم تصرفات في الدماء والأموال كانت محل اعتراضٍ وإنكارٍ من أهل العلم. وأكثر الانتقادات التي كتبت -من غير الخصوم- على دعوة الشيخ محمد -رحمه الله- جاءت نتيجةً لسمعةٍ سيئةٍ سببتها وقائعُ جرت على أيدي بعض أولئك الإخوان -رحمهم الله وعفا عنهم-.

فإن أخذتَ هذا التاريخ الطويل العريضَ كله قطعةً واحدةً، ورسمتَ في رأسك شيئاً اسمه (الوهابية)، أو (أتباع محمد بن عبدالوهاب)، ثم حمَّلت فلاناً مسؤولية كلام فلانٍ، وحملتَ العالمَ تصرفَ السائس، وألصقت بأهل العلم تصرفات الرعاع. فسوف تظلم وتجور في حكمك.
بل لو حمَّلت بعض علماء الدعوة تبعة كلام بعضهم الآخر، فلن توفَّق للإنصاف.

ها نحن اليوم نعيش في هذه البلاد المترامية الأطراف الممتلئة بالعلماء وطلبة العلم السائرين على الطريقة السنية السلفية.
فهل نضع هؤلاء تحت اسم (أتباع محمد بن عبدالوهاب)، ثم نبدأ في قياس نسبةِ الغلو فيهم؟!

هل يحمل عالمٌ في الرياض مسؤولية خطأ آخر في تبوك، أو يحمل عالمٌ في مكة مسؤولية خطأ خطيبٍ في جيزان، أو قاضٍ في عرعر مسؤولية طالب علم في الدمام، أو يحمل باحثٌ في نجران، مسؤولية خطأ واعظٍ في حفر الباطن. فضلاً عن أن يُحمَّل أحدٌ منهم تصرفات العامة والدهماء، أو حتى الساسة والعسكر.
لا شك أن هذا مسلك جائرٌ ظالمٌ. وأشد منه جوراً، من يتجاوز عصرنا هذا، فيسحب هذه المحاكمة لتشمل جميع علماء البلاد وعامتهم على مدى قرنين ونصف من الزمان.
هذه المسلك لا يسوغ ولا يجوز، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي أن يجمع هؤلاء أصلٌ نظريٌّ، أو منهج خاطئ في الاستدلال وبناء المسائل، وهو ما نطالب الشيخ حاتماً أو غيره ببيانه إن كان عندهم شيءٌ من ذلك، وهو ما أرجو ألا وجودَ له عندهم.

ولعل أخي الشيخ وائل يقول: إنه لا هو ولا الشيخ حاتم يحملان أحداً مسؤولية أحدٍ.
وأقول : تصنيف إخوانكم تحت اسم (أتباع محمد بن عبدالوهاب)، ثم إخراج أنفسكم من هذا الاسم، ينتهي إلى هذا لا محالة.

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(6)

كما تقدم، فإن كلام الشيخ حاتم جاء مجملاً، وهو يتحدث عن الشيخ محمد -رحمه الله-، وعن الغلو فيمن سماهم أتباعه.
و مع أن البحث في وجود غلوٍّ في المنتسبين للشيخ، ليس هو أساس البحث والاعتراض، فلدي ههنا نصوصٌ أود أن أسوقها لمن أراد أن تتضح له الصورة دون لبسٍ.
هي نصوصٌ لبعض أئمة تلك الدعوة المباركة تكشف بعض التفاصيل التي لا يعرفها الكثيرون حول وقائع أساءت لمسيرة الدعوة، وكانت محل إنكارٍ أهل العلم.

النص الأول يتعلق برسالة بعث بهاء جماعةٌ من العلماء للملك عبدالعزيز -رحمهم الله جميعاً- حين اعتدى بعض “الإخوان” على حجاجٍ من أهل اليمن. وهذا نصها:
“من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى ; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فاعلم ـ أطال الله بقاءك ـ أن الذي فعل هذا الأمر أناس من جهال العوام الذين ليس لهم عناية بمدارك الأحكام، ولا معرفة لهم بالحلال والحرام، وهذا لا يحل في دين الله وشرعه، فالواجب عليك : أداء ما أخذوا من أموالهم، وتأديبهم على ما فعلوه من الأمور التي يعود ضررها على الإسلام والمسلمين.
ومعلوم : أنك قد أعدت وأبديت وبالغت في نصيحتهم وتحذيرهم، من الأمور التي تخالف الشرع، ولكن المقدر كائن لا محالة. ويلزمك المبادرة بالقيام في ذلك. لأن هذا من أهم الأمور، وفيها صيانة لعرضك وأعراض المسلمين، وبراءة لذمتك نرجو الله أن يوفقك ويسددك ويعينك. والسلام”. (الدرر السنية 9/343).

وهذه رسالة أخرى من الشيخ عبدالله العنقري -رحمه الله- يقول فيها:
“أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، لما من على بادية نجدٍ، في آخر هذا الزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، والعمل به، وكثر ذلك فيهم وانتشر، ورأى الشيطان منهم قوةً في ذلك، وحرصاً على الخير، يئس منهم أن يردَّهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، فأخذ في فتح أبوابٍ من أبواب الشر، حسَّنها لهم وزينها، وجعلها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهم المتمسكون بملة إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم… إلى أن قال : “إذا علم هذا؛ فمن الأمور التي أدخلها (الشيطان) على الإخوان- وفقهم الله تعالى- أنه غلَّظ أمر الأعراب عندهم، حتى صار منهم من يعتقد كفرهم مطلقاً، ومنهم من يرى جهادهم، حتى يلتزموا سكنى القرى”. (الدرر السنية 9/ 127).

وفي رسالةٍ ثالثةٍ للشيخ سليمان بن سحمان -رحمه الله- يقول :
“اعلم: أنه قد حدث في هذه الأزمان, من بعض (الإخوان) من الغلو, والمجاوزة للحد في بعض المسائل الدينية, والأوامر الشرعية, ما يجب على كل مسلم إنكاره, وبيان خطأ من أحدثه في الدين, من غير بينة, ولا برهان, ولا حجة , يجب المصير إليها, من السنة والقرآن؛ ولا قال بها أحد من أئمة الإسلام, الذين هم معالم الهدى, ومصابيح الدجا, وهم القدوة, وبهم الأسوة في بيان مراتب الدين”. الدرر السنية (2/349).

هذه نصوص لبعض العلماء في إنكار ما كان يقع من تعدٍ في الدماء أو الحقوق، وأحسب أن هناك غيرها الكثير، غير أن هذا ما بين يدي الآن. وقد قلت وكرَّرت أني أكتب حال سفر وغربة، وجلُّ ما أثبته هنا، مصدره تقييدات قديمةٌ محفوظة لديَّ على الجهاز. ومرادي من ذكر هذه النصوص أن من أعظم الجناية والظلم تحميل أهل العلم ما لا يد لهم فيه. وإنما يتحمل العلماء -فقط- مسؤولية تقريراتهم النظرية والتطبيقية.
فمن أراد أن يحاسب أو ينقد عالماً فلينظر لكلامه هو وحده دون سواه.

وقد كان علامة العراق الشيخ محمد بهجت الأثري يذب عن دعوة الشيخ ويقول: “الغلو والتعصب الذي التزمه بعض عامة نجدٍ في بعض الأعمال هو ما لا يسلم من مثله خواص الناس في كل عصرٍ ومصرٍ أبداً… لكنَّ علماءهم لا يسكتون لهم على منكرٍ ارتكبوه. وحاشا لله أن يكون علماء نجدٍ الأعلام غلاةً متشددين”.
وذكر -رحمه الله- أن أولئك العلماء في “معتقداتهم السلفية لم يحولوا عن عن هدي الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- قيد شعرةٍ”.
وذكر أن هذا ما تحقَّقه من مصنفاتهم، ومما بلغه من ثقات الرواة.

(ذكر هذا في تعليقه على تاريخ نجد للآلوسي، في الموضع الذي استشهد به أخونا الشيخ وائل).
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

و مما يحسن التنبيه عليه أن تلك الأحداث التي استنكرها العلماء، كانت مصاحبةً لنشأة الدولة السعودية الثالثة الحالية، لذا فإن بحثها له حساسية سياسية، وأخرى قبلية.
والإشكال في القبلية أكثر منه في السياسية. ولعل الخير في طيِّ ذلك كله ودفنه، فذاك أشفى وأصفى للقلوب.
أو على الأقل حصر البحث في الدوائر العلمية دون غيرها من المنابر العامة.
و (الإخوان) لم يكونوا دائماً طرفاً معتدياً، بل كان التعدي يقع منهم وعليهم.
والاهتمام بالعلم النافع، وتأليف القلوب، أولى من التنقيب في مثل تلك الوقائع التي مضى فيها المختلفون لخالقهم.
وقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (12/170) إذا سئل عن الإخوان وما جرى منهم، ينشد قول الشاعر :
دع عنك شيئا مضى لسبيله …… وعليك بما غالك في يومك فاقبل

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –

ومع ذلك، فمن أراد أن أن ينبشَ في هذا، ويبحث بحثاً تاريخياً، و يتحمل العواقب والتبعة فهذا شأنه. لكنَّ الواجب المتعين الفصل بين هذه الوقائع، وبين تلك الدعوة المباركة؛ التي أطلقها الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-، والذي كانت آراؤه و سيرته في هذا الباب مثالاً صادقاً للنهج السلفي الواضح الجلي. وكان تعامله وتعامل تلاميذه مع الناس -في الجملة- موزوناً بميزان الكتاب والسنة. فكان هو وطلابه وأولاده يجتهدون في نصرةِ الحق بقوةٍ وحزمٍ، لكن ينكرون الغلو فيه.

فمما رأيته للشيخ -رحمه الله- من إنكار الغلو أنه بلغه عن فلانٍ وفلانٍ أنهم أنكروا على بعض الأشراف تقبيل الناس لأيديهم، ولبسهم العمامة الخضراء. فكتب لهم الشيخ يقول: “الإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة؛ فأول درجات الإنكار: معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله. وأما تقبيل اليد، فلا يجوز إنكار مثله، وهي مسألة فيها اختلافٌ بين أهل العلم، وقد قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس -رضي الله عنهم-، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى كل حال، فلا يجوز لهم إنكار كلِّ مسألةٍ لا يعرفون حكم الله فيها.
وأما لبس الأخضر، فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت، لئلا يظلمهم أحدٌ، أو يقصِّر في حقهم من لا يعرفهم. وقد أوجب الله لأهل بيت رسول -الله صلى الله عليه وسلم- على الناس حقوقاً، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم، ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو”. (الدرر 8/51).

وقد أنكر الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- واقعةً حدثت في زمنه أقدم فيها بعض الجهلة على إحراق كتبٍ لبعض أهل الطائف توهموها كتباً بدعية، فكتب الشيخ يقول: “ما اتفق لبعض البدو في إتلافِ بعض كتبِ أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله، وقد زُجر هو وغيره عن مثل ذلك” الدرر (1/228).
فهذا حالهم مع الكتب، فكيف مع الدماء والأنفس.

يقول المستشرق بركهارت المعاصر للدولة السعودية الأولى -وكان بمكة حين دخلها الإمام سعود بن عبدالعزيز- : “لم يزل أهل مكة يذكرون اسم سعود بالشكر والرضى حتى الآن. وما زالت معاملة الجنود الطيبة تذكر بثناء ومدح وبالخصوص معاملتهم في أيام الحج والزيارات. ولم يستطيعوا أن ينسوا تلك المعاملة العادلة التي شاهدوها من جيوشه”. ().

فليقارن هذا ببعض ما وقع لاحقاً من بعض ذوي الجهالة عند نشأة الدولة الثالثة، من وقائع أنكرها العلماء وتبرأوا منها. وهذا الإنكار منه ما حفظ لنا في رسائلهم، ومنه ما بلغنا شفاهاً من الشيوخ، ولم يقيد في الكتب.

و لستُ أريد من كلامي هذا البراءة مما وقع في الدولتين الثانية والثالثة، مما أفتى به العلماء أو أمروا به. بل مقصودي أن على الناقد والدارس أن يدرك أن رأي علماء الدعوة وموقفهم يؤخذُ من أقوالهم وفتاواهم المحفوظة في مصنفاتهم، وليس من تهورات ذوي الجهالة، ولا من وقائع حكمتها ملابسات السياسة، أكثر مما حكمتها قواعد الديانة. ثم إن النقد لكلامهم يكون بالعلم والحجة، وليس بالتهويل الخالي من المضامين.

كما أني لا أريد -أيضاً- من كلامي هذا الوصولَ إلى نفي التكفير والقتال عن الشيخ محمد وتلاميذه -رحمهم الله- في الدولة الأولى، فسيرة الشيخ واضحةٌ وضوحَ الشمس. كان يقاتل من قاتله، ولم يكن كل قتاله ولا أكثره سببه التكفير. لكنه -أيضاً- كان يقاتل أهل البلد التي يصر أهلها على الشرك بعد مراسلة علمائهم ورؤسائهم وإقامة الحجة عليهم، فإن تعصب لهم أحدٌ وقاتل معهم، قاتله الشيخ، وجعل حكمه حكمهم.
تماماً كما فعل الصديق -رضي الله عنه- مع أهل الردة.

فهذا مقتضى الأدلة، وهو مقتضى ما يقرِّره أهل العلم في مثل الحال التي عالجها الشيخ -رحمه الله-.
وقد رأيتُ بعض من كتب معترضاً يطالب الشيخ بأن يقيم الحجة على أهل كل بلدةٍ فرداً فرداً!!
فمثل هذا القائل لا يعرف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أهل الكفر الأصلي، ولا يعرف سيرة الصديق مع أهل الردة.

وأما الشيخ محمد فقد كانت سيرته مبنيةً على علمٍ وبصيرةٍ. و من قرأها بعلمٍ وإنصاف، فلن يرفع صوته مطالباً (أتباع محمد بن عبدالوهاب) بإنكار أخطائه، بل سيرفع صوته بشكر الله وحمده أن هيأ مثل هذا الإمام المصلح المجدِّد لطريقة السلف.

ومع هذا فالتخطئة بعلمٍ لا ضيرَ فيها، وإنما الذي يعاب إجمال الكلام ورميه دون حجةٍ أو برهانٍ.

والأصول إذا صحَّت على وفق طريقة السلف، فإن الخلاف في التنزيل على الوقائع و الأعيان متصورٌ. وقد اختلف العلماء في تكفير التتار مع انتسابهم للإسلام، واختلفوا في تكفير الخوارج، واختلفوا في تكفير جملةٍ من الفرق البدعية الغالية. بل قد اختلف الصحابة -أول الأمر- في تكفير مانعي الزكاة.
فالاختلاف في مثل هذا واردٌ، غير أن الفارق بين أئمة الدعوة وغيرهم من أهل العلم، وجود من يتبنى قولهم وينصره بالسيف.
وقد تكلم الشوكاني -رحمه الله- في رسالته (دفع العدو الصائل ص34) عن تحاكم أهل البوادي باليمن لعوائدهم القبلية، فحكم بكفرهم وردتهم، ثم قال: “هؤلاء جهادهم واجب، وقتالهم متعين، حتى يقبلوا أحكام الإسلام، ويذعنوا لها، ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة، ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية”.

فلو تهيأت للشوكاني سيفٌ ودولةٌ، وطبق هذه الحكم، كيف سيتحدث التاريخ عنه، إذا قاتل أولئك الدهماء، واستباح دماءهم وأموالهم؟
وهل سيتحدث أحدٌ عن وجوب رفع الصوت بمراجعة أخطاء الشوكاني؟!

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(7)
يسألني الشيخ وائل:
هل وقع في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الشيخ أو أئمة الدعوة) أخطاء في تقرير بعض مسائل التكفير العقدية ؟
هل وقع فيها شيء من الأخطاء في الممارسات العملية ؟

وأقول : هذا السؤال لا معنى له، بعدما ذكرت لك أنه يقع بين علماء هذه الدعوة خلافٌ، حتى في مسائل التكفير.
فنتيجة هذا أنه لا بد أن يكون قد وقع خطأ.
وتبقى مشكلة أخي الشيخ وائل وغيره: الإصرار على أخذ تاريخ هذه الدعوة قطعةً واحدةٍ، فيظل الواحد منهم يتحدث ويتساءل: هل وقعت أخطاء في الدعوة، وهل وقع غلو، وهل ، وهل ، وهل…؟؟
ولو تعامل مع كل عالمٍ بما يقوله وما يفتي به، لاتضحت له الصورة جليةً خاليةً من كل لبسٍ.

وكما قلت -آنفاً- فإن الخلاف في مسائل التكفير (نظرياً ، وعملياً) أمرٌ واردٌ وسائغٌ حتى داخل الدائرة السنية السلفية. وليست موجبات التكفير مما يتعين أن يتفق عليه العلماء. ويكفي مطالعة أبواب (الردة) في كتب الفقه، للوقوف على مسائل يتنازع في التكفير بها أهل العلم.
لكني – مع ذلك- لا أعلم لدى أئمة هذه الدعوة ما يمكن اعتباره خطأً صرفاً يستوجب أن ترتفع الأصوات بإنكاره كما هو مطلب الشيخ حاتم.

اللهم إلا مسألتان اثنتان، ظهر فيهما الخلاف فيهما مؤخراً، وقال بهما رؤوسٌ كبار.
لكن لا أظن أخي الشيخ وائلاً، و لا الشيخ حاتماً سيفرحان بإقراري بهذين الخطأين، لأنه أقرارٌ في (الاتجاه المعاكس).
المسألة الأولى : ما يقرره بعض شيوخنا، ونحا إليه الشيخ حاتم من (إطلاق) القول بأن المظاهرة العملية (كلها) ذنب وليست كفراً.
و المسألة الثانية: القول بأن التحاكم لشريعة غير شريعة الإسلام من الكفر الأصغر.
فهاتان المسألتان عندي تندرجان تحت عنوان : “الخطأ المحض”، وإن قال بهما من قال من أهل الفضل والعلم في هذه البلاد وغيرها.
ومع ذلك ، فإن الكتابات في الطرفين منشورة مشهورة لا يخفى أمرها على أدنى طالب علمٍ.

فها هو الشيخ حاتم يرانا -نحن الذين سماهم (أتباع محمد بن عبدالوهاب)- نختلف ويرد بعضنا على بعض، تماماً كما فعل السلف -رحمهم الله-.
فما المطلوب أكثر من هذا؟؟

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(8)
سألني أخي الشيخ وائلٌ عن رأيي في الانتقادات التي أبداها كل ٌمن رشيد رضا، وصديق حسن خان، والآلوسي، والألباني -رحمهم الله جميعاً-. وتساءل إن كنت سأقول إن نقدَ هؤلاء يعبر عن تبري وتنصل من الدعوة؟! أو أنهم يجهلون حقيقة التوحيد، أو حقيقةَ الدعوة.
ولا أدري أين رآني أخي قلت: إن كل نقدٍ يوجه لدعوة الشيخ لا يمكن تفسيره إلا بمثل هذا.
اعتراضي كان على فاضلٍ يعيش داخل هذه الدعوة، وينشأ في ظلالها، ثم يتحدث عن أناسٍ اسمهم: (أتباع محمد بن عبدالوهاب).
وأحسب أني شرحت هذا بما هو كافٍ -إن شاء الله-.

وأما بالنسبة لتلك الأسماء الأربعة، فأعلمهم بكتب وتاريخ أئمة الدعوة أولهم، و هو الشيخ رشيد رضا -رحمه الله-. وهو الذي قال ليوسف الدجوي -حين كتب متهماً (الوهابية) بالمغالاة في التكفير- : “علماء الوهابية لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة إلا بما أجمع فقهاء أهل السنة على أنه كفرٌ وردةٌ عن الإسلام”. المنار (19/9).

فهل سيقبل أخي الشيخ وائل هذه الشهادة، كما قبلَ الأخرى؟
أم سيقول العبرة والحجة في الدليل والبرهان، وليس في الأسماء كما نقوله ونطالب به؟

وبالمناسبة، فإن الشيخ رشيد رضا قد يكونُ من أهل الغلو -أيضاً- حسب تقريرات الشيخ حاتم -وفقه الله-.
فإذا كان الشيخ حاتم يرى المظاهرة العملية كلها ذنباً وليست معصيةً، ويرى التكفير بها غلواً وقولاً محدثاً، فإن الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- كان يرى مجرَّد قبول جنسية دولة كافرةٍ دون ضرورةٍ ردةٌ عن دين الإسلام (المنار 25/27).
فهل سيطالب الشيخ حاتم بأن يرفع أهل مصر أصواتهم بضرورة مراجعة أخطاء رشيد رضا، وعدم السكوت عنها؟!

هذا القول من الشيخ رشيد -رحمه الله-، ضمن أقوالٍ كثيرةٍ مستفيضةٍ، قديمةٍ ومتأخرة، لعلماء الإسلام في حكم مظاهرة الكفار قفز فوقها الشيخ حاتم في بحثه، ولم يلتفت إليها، لينتهي بعد ذلك إلى القول بأن التكفير بالمظاهرة العملية -أي مظاهرة- قول محدثٌ في دين الإسلام!
– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(9 )

يسألني الشيخ وائل:
هل ثمة غلاة في دعوة الشيخ محمد -رحمه الله- ممن كتب أو ألَّف كما قد حصل مثل ذلك في بعض أتباع الإمام أحمد أو غيره؟
وإن وجد ذلك فليعطينا أمثلة لذلك، وأن يذكر لنا مظاهر هذا الغلو؟

هذا ما سأل عنه الشيخ وائل ـ عافاه الله-، و إني لأعجب كيف يجتهد أخي كلَّ مرةٍ في صرف بحثنا عما دعا إليه الشيخ حاتم من ضرورة رفع الصوت بإنكار أخطاء (محمد بن عبدالوهاب)، لينقل الكلام عن أتباع الشيخ، وعن وجود الغلو فيهم.
كلام الشيخ حاتم لو اقتصر على وجود من يغلو في الشيخ محمد، لما أثار كلَّ هذه الزوبعة. غير أن الإشكال يكمن في حديثه المجمل عن التكفير لدى الشيخ محمد نفسه، مع ما يعلمه من كون هذه تهمةً قديمةً لم تزل توجه للشيخ -رحمه الله-. فالإجمال في هذا المقام خطأ ظاهرٌ. وقد رأيتُ جملةً من منتديات أهل البدع طارت بكلام الشيخ وهللت له.

وإني لأكرِّرُ عجبي وأعيده: كيف ينزعج الشيخ وائلٌ وغيره من الأحبة حين عينتُ مسألتين وقعتا للشيخ حاتم، وقلت إن فيهما لوثة إرجاء. وفي الوقت نفسه يسوِّغون للشيخ حاتم أن يرمي كلاماً مجملاً عن (أخطااااء) في التكفير لدى الشيخ محمد توجب أن ترتفع الأصوات بإنكارها، من غير أن يسمي لنا هذه الأخطاء.
فهل هـذا من العـدل في شيء؟؟

قلت وأعدتُ وكررتُ :
((الشيخ محمد –رحمه الله- رأسٌ من رؤوس أهل السنة. ومقامه لديهم عالٍ رفيع. فالكلام عنه –بالتالي- يجب أن يكون برويةٍ، وبمنهج موضوعي متزنٍ، مدعَّمٍ بالحجةِ والدليل. ومخالفة هذا المسلك، ستؤدي –بديهةً- إلى ردود فعلٍ وانشقاق)).

هذا موضع النقد الأساس. فتضييع الكلام بالحديث عن أتباعٍ لديهم غلو لا معنى له.

و سـوف أختصر هذا الطريق على أخي الشيخ وائل، وأورد له نصوصاً رائعةً لباحثٍ بارعٍ معاصرٍ حول ظاهرة الغلو:

“لا بد من وجودها في المجتمع البشري”.
“ولا بد من وجودها في المجتمع البشري كله، بجميع ألوانه وأديانه”.
“الغلو…له أسبابه التي لا ينفك عنها مجتمعٌ بشريٌّ”.
“وأي مجتمعٍ يمكن أن يقال : إن جميعَ أفراده على درجةٍ واحدةٍ في كمال التصوُّر الصحيح لجميع الأمور، حتى ينجو جميع أفراده من الغلو”.
“هذا المجتمع لم يوجد ولن يوجد”.
“هذا أكمل مجتمعٍ بشري عرفته البشرية، وهو مجتمع سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- لم ينجُ من ظاهرة الغلو”.
“فلم يكن حدوث هذا الغلو من زمنه -صلى الله عليه وسلم- دليلاً على خطأٍ في الدين، ولا على خطأٍ في تعليم الدين”.

هذه الكلمات النيرات سوف تريح أخي الشيخ وائل من كثير من التساؤلات التي طرحها والتي تدور حول: هل وجد أو لم يوجد غلو لدى أتباع الشيخ محمد -رحمه الله-.

وقـبل أن أنسى، فإن تلك العبارات المنقولة آنفاً هي من نتاج قلم الشيخ الشريف د. حاتم بن عارف العوني في كتابه (الولاء والبراء ص67-68).

– – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – – –
(10)

سألني الشيخ وائلٌ: ما موقف الشيخ محمد عبد الوهاب من المظاهرة العملية للكفار إذا كانت من أجل مصلحة دنيويه وإن قارنها بغض دينهم؟
وتساءل إن كنت أرغب في نقاشٍ علمي حول هذه المسألة.

وأقول لأخي: إن كانت هذه المسألة هي التي عناها الشيخ حاتم حين طالب برفع الأصوات بإنكار (أخطاااء) محمد بن عبدالوهاب. فلعمري لقد جار وظلم في حكمه.
ثم إن مطالبته تلك ليس لها معنى، لأن الكتابات اليوم في هذه المسألة أكثر من أن تحصر، ولعل أكثرها يخالف ما كان يذهب إليه الشيخ محمد -رحمه الله-.
وهذه الكتابات خطتها أيدي من يصفهم الشيخ حاتم بـ (أتباع محمد بن عبدالوهاب)!

فنقاشنا وجدلنا حول هذه المسألة لن يضيف جديداً، علاوةً على أني لا أملك الوقت لذلك.

أما عن رأي الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في هذه المسألة، فالصورة التي تحدث عنها هي صورة: (من يلحق بأهل الكفر، ويقف في صفهم مقاتلاً أهل الإسلام).

هذه الصورة هي التي كفَّر بها الشيخ محمد -رحمه الله-.
وكلامه فيها -عندي- هو الحق الذي لا ريب فيه.
فتلك هي الموالاة المطلقة ،،، وهي المظاهرة التامة الموبقة.

وإلحاقها بصورة الجاسوس -بناءً على كون ضرره أشد- خطأٌ آخرُ في التصوُّر يشبه الخطأ الأول في حكم الأسير المسلم.
وقد رأيتُ الشيخ حاتماً -عافاه الله- يهجم على من لا يقبل هذه الحجة، ويقول (ص90) : “هذه حجة لا مناص من الخضوع لها إلا على المعاند!”.

ويكفي في إبطال ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع استفصاله من حاطبٍ لما تجسَّس- لم يعرف في سيرته قط ولا في سيرة الصحابة بعده مع أهل الردة، أنهم استفصلوا ممن قاتلهم، أوسألوه: ما حملك على هذا؟
وقد اختلف الفقهاء في حكم الذمي إذا كاتب الكفار بعورات المسلمين، لكن لم يختلفوا في انتقاض عهده لو قاتل في صفهم.

وتفصيل البحث في هذا يطول، لكني أقول اختصاراً لوقتي ولوقت الإخوة جميعاً:
إن كان أخي الشيخ وائل يزعم -كالشيخ حاتم- أن هذه المسألة مما تفرَّد به الشيخ محمد عبدالوهاب أتيته بما ينقض هذه الدعوى. مع أني لستُ أراه في حاجةٍ لذلك، فكلام أهل العلم في هذا قريبٌ يستطيع الوصولَ إليه بأقل الجهد والعناء.
وأما إن كان يقرُّ بوجود هذا القول قبل الشيخ، وأن الشيخ مسبوقٌ إليه، وأنه قولٌ معروفٌ متقرِّرٌ لدى أهل العلم، فليس هناك معنى للدعوة لرفع الصوت ببيان (أخطاااء) محمد بن عبدالوهاب.

 

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر − خمسة =