مأزق التعظيم النظري للكلي:

غلاة المدنية يكثرون من ذم الحفاوة بالجزئيات وتفاصيل الشريعة, وحين يناضل الفقيه الشرعي أو المفكر المسلم من أجل مسألة شرعية فإنهم يجابهونه بأننا يجب أن نرتفع عن الجزئيات ونهتم بالكليات, وأن المهم ليس أعيان المسائل وإنما المهم الأصول العامة, وأننا يجب ألا نغرق في الخاص ونهمل العام, ونحو هذه العبارات, وبعضهم يحاول أن يسند هذه الفكرة بنصوص تراثية من علم مقاصد الشريعة حول أهمية “الكليات الشرعية” وخصوصاً من رائد المقاصد الإمام الشاطبي رحمه الله.

والحقيقة أنه هذه النظرة للعلاقة بين الجزئي والكلي تنطوي على إهدار شئ من معطيات الوحي, بل تحولت إلى آلية منظمة لابتلاع المفردات الشرعية وتغييبها باسم العناية بالكلي والعام ونحوه.

ومن أهم أوجه الخلل في هذه الرؤية أنها غيبت دور الجزئي في حفظ الكلي, فافترضت أن الجزئي نقيض للكلي, والواقع أن الجزئي هو التحقق الواقعي للكلي, فكل تطبيق واقعي يحمل في مضامينه معنى الكلي, إذ الكلي انما هو القدر المشترك المستخلص من استبعاد العارض والطارئ وإبقاء المعنى المشترك.

فإذا عظمنا الكلي وغيبنا تطبيقاته تحول هذا التعظيم إلى تعظيم نظري شكلي لا حقيقة له, ولنضرب على ذلك مثلاً, فإنك تجد بعض الكتاب يقول لك يجب أن نهتم بالفضيلة كقيمة كلية كبرى لا أن نهتم بتطبيقاتها الجزئية, ثم يفتت كل الآليات التي تعزز هذه القيمة ويتسامح في فتح كل الذرائع التي تعارض هذه القيمة, ويدعي بعد ذلك أنه ينظر إلى “الفضيلة” كقيمة لا كتطبيقات, فهذا إنما حفاظه على كلي الفضيلة حفاظ نظري شكلاني غير حقيقي.

ومن ادعى تعظيم كلي “الدعوة والبلاغ” ولكنه استهان بقيمة أفراد وآحاد وسائل الدعوة الشرعية, فهذا إنما تعظيمه للدعوة تعظيم نظري غير حقيقي.

وعليه فكلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لجزئيات الشريعة كان أكثر تعظيماً للكليات الضمنية فيها, وكلما كان الإنسان مستهيناً بجزئيات الشريعة كان أكثر استهانة بالكلي المتضمن فيها, فلا طريق لتعظيم الكلي إلا بتعظيم جزئياته وتطبيقاته, وبذلك يتبين أن دعاوى تعظيم الكلي التي يرددها غلاة المدنية إنما هي وسيلة لتفريغ الكلي من محتواه باسم تعظيمه.

وقد شرح الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات “دور الجزئي في إقامة الكلي” وذلك في فصل خاص عقده لهذه المسألة وساق فيه الأدلة, ومن ذلك قوله رحمه الله:

(فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي.., وحين كان ذلك كذلك: دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها)

ثم أشار الشاطبي إلى كون الكلي إنما هو مجرد “مفهوم نظري” ولذلك كان جمهور المناطقة يؤكدون أن الكلي إنما يوجد في الذهن أما ما هو خارج الذهن فإنما هو تطبيقاته, وهذا يعني أن من عظم الكلي دون تطبيقاته فإنما عظم مفهوماً نظرياً ذهنياً محضاً لا واقع فعلياً له, كما يقول الشاطبي في الاستدلال لهذه القضية:

(ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله, لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه, لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات, فتوجُّه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق, وذلك ممنوع الوقوع, فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات, وأيضا: فإن المقصود بالكلي هنا أن تجرى أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف, وإهمال القصد في الجزئيات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي, فإنه مع الإهمال لا يجري كلياً)

ومن وجه آخر فان المتأمل في أخبار أهل الكتاب التي ساقها الله في القرآن يلاحظ أن أهل الكتاب كانوا يعظمون ويقدسون كتبهم السماوية, ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذمهم وعابهم, لأن تعظيمهم وتقديسهم لتلك الكتب السماوية إنما كان تقديساً نظرياً وتعظيماً شكلانياً لا حقيقة له ولا أثر تطبيقي فعلي, فلم ينفعهم ذلك.

فليس المراد إذن “تقديس النص” شكلياً, أو تقديس المفاهيم نظرياً, وإنما إقامة الحقائق والمعاني واقعاً حياً معاشاً.

ولذلك روى أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأصحابه: (يوشك أن يرفع العلم) قال له زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقْرئه أبناءنا، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

( ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله, ثم قرأ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ)

فكشف النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل زياد بن لبيد -وهو أنصاري مهاجري- أن القضية ليست في وجود النص وحفظ ألفاظه, وإنما في إقامته واقعاً حياً معاشاً على الأرض, وإقامته لا تكون إلا بإقامة تفاصيله وتطبيقاته.

والمقصود أن مراعاة الجزئي هي الطريق لإقامة الكلي, وإنما يعاب الجزئي إذا صادم الكلي, أما إذا لم يصادمه ولم يعارضه فإن إهدارَه إهدارٌ للكلي كما سبق بيانه.

فكرة السلم المطلق:

بعض غلاة المدنية يردد فكرة السلم المطلق, ويدعو إلى مواجهة مشروعات الاحتلال العسكري الصريحة بلغة الحب ورحابة الصدر الأعزل ونحو ذلك من الافكار الحالمة المستلهمة من نموذج الحكيم الهندي المعروف “المهاتما غاندي”, وبعضهم يبالغ في تبجيل غاندي وعرضه كمخلص.

والحقيقة أن شريعة الله سبحانه وتعالى أرقى وأحكم من شريعة غاندي, وهذا الموضع موضع خطير على الإيمان لتضمنه المعارضة العملية لمحكمات الوحي, فإن الله سبحانه وتعالى شرع البر للمسالم والإثخان للمعتدي, وقد أمرنا الله بذلك كما في قوله تعالى:

{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}

وفي موضعين من كتاب الله تعالى في سورتي التوبة والتحريم أمرنا سبحانه أمراً صريحاً بالغلظة للمعتدين فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73 ، والتحريم:9]

وأمرنا سبحانه بالإثخان في قوله تعالى:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ}

وأمر سبحانه الملائكة بقوله:

{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]

وأمر سبحانه بالتشريد للمعتدين فقال سبحانه:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]

بل إن الله سبحانه وتعالى نهانا إذا نشبت المعركة مع المعتدي أن نبدأ الدعوة للسلام وإنهاء الحرب إذا كنا نحن الطرف الأقوى فقال تعالى {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} وهذا توجيه إلهي صريح لا تستطيع كل تعسفات النظرية السلمية أن تفرغه من محتواه.

فإذا كان جبار السموات والأرض -كما في الآيات السابقة- يحثنا على مواجهة المحتل والمعتدي بالإثخان والغلظة وضرب الرقاب والتشريد في الأرض وعدم البدء بالدعوة للسلام, ويحببنا في هذه الأعمال الشريفة ويثيبنا عليها, فكيف يتجرأ عاقل ويستدرك على الله جل وعلا ويرى أن رأي رجل هندوسي وثني أحكم وأرقى؟!

والله ولو امتلأ القلب بتوقير الله وقدره حق قدره لامتنع أصلاً أن يزاحم حكم الله بحكم رجل هندوسي, ولا يرتاب عاقل أن هذا الموطن الذي يقدم فيه حكم غير الله أن فيه شعبة من شعب النفاق التي حذر الله المسلم من الوقوع فيها, كما في قوله تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}.

هذا طبعاً من حيث علاقة فكرة السلم المطلق بنصوص الوحي, أما علاقتها بالواقع فهي فكرة رومانسية طريفة, ذلك أن جمهور الأمم المعاصرة اليوم تمجد أبطالها القوميين ذوي البسالة في المعارك الكبرى, وترفعهم بحسب عبقريتهم في ازهاق الأعداء وصناعة الانتصارات القتالية الحاسمة, وتبني لهم النصب التذكارية في مراكز المدن, وهذا أمر مشاهد معلوم.

ومواجهة المحتل بالإثخان والتشريد ونحوها لا تعني الإخلال بأخلاقيات الجهاد الشرعي, كاستهداف أمن البلدان الإسلامية, أو انتهاك فريضة الله في المعاهَد والمستأمَن ومن له شبهة أمان, فهذا انحراف عن الجهاد الشرعي الشريف لا يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام المتقدمين أو المعاصرين ولله الحمد, وإنما الموفق من أخذ الكتاب كله ولم يقع في تبعيضه, فعمل بشريعة الإثخان والتشريد وراعى حقوق معصومي الدماء من المسلمين والمعاهدين والمستأمنين ومن لهم شبهة أمان, فإن التحرز في الدماء عنوان الديانة.

بل ما أقرب أن يقال –والعلم عند الله- أنه ما استطال أهل الأهواء اليوم على الدعوة إلا بشؤم معصية الله في انتهاك أخلاقيات الجهاد الشرعي, فبعد أن كان أهل الدعوة في منعة لا يرقى إليهم الشك أصبح الكثير منهم اليوم موضع الارتياب والرقابة, وتسلط عليهم كثير من أهل الباطل بالتعيير والتشنيع, وما أكثر ما تتسبب معصية فردية في ابتلاء عام يطال الأخيار وأفاضل الناس, ولذلك لما عصى الرماة هدي الله في الجهاد سلط الله الكفار حتى نالوا من رسول الله وكبار أصحابه, فكسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه، ودخل في وجنته الشريفة حلقتان من حلق المغفر، كما قال تعالى: {وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون}

وفي وقعة حنين لما تسربت معصية العجب إلى بعض الأفراد ابتلى الله المسلمين أفاضلهم ومن دونهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت كما قال تعالى: {ويوم حنين اذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}.

فهذه العمليات المنحرفة التي استهدفت أمن البلدان الإسلامية واستهترت بضوابط الشريعة في عصمة الدماء, تسببت في تشويه الجهاد الملتزم بأخلاقيات الجهاد الشرعي وقيمه السامية, حتى أصبحت لا تكاد ترى من ينبس باسمه خوفاً من أن يجر بتهمة الإرهاب, وجرأت كثيراً من السفهاء على أن يستهينوا بشئ من مضامين الوحي ما كانوا يتجرؤون على الإعلان بمثلها, فأي شؤم لتلك العمليات أكثر من ذلك.

فهذه سنة كونية لآثار المعاصي على الدعوات لا يستوعبها العقل المادي وإنما يعقلها من امتلأ قلبه يقيناً بالآثار الغيبية, نسأل الله الكريم أن يتوب علينا جميعاً بواسع مغفرته ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

فكرة الكفر السياسي:

بعض غلاة المدنية في محاولتهم لاستبعاد صيغة العلاقة الدينية مع الحضارة الغربية يقولون: لا يمكن لنا أن نتعامل مع الغرب بذات الأدوات والصيغ الدينية التي حملها الوحي تجاه الكفار, ذلك أن الواقع الغربي المعاصر يختلف جذريا عن الكفار قبل هذا العصر, فالكفار في سابق العصور كانوا يناهضون النبوات والدعوات بدوافع دينية محضة, أما المؤسسة السياسية الغربية في هذا العصر فهي تتحرك وتخطط بدوافع مصلحية لا دينية محضة, فهي تراقب الحراك الإسلامي بدوافع إمبريالية لا دوافع عقائدية, بمعنى آخر إنه “كفر سياسي” وليس في حقيقته “كفر عقدي”.

وهم يظنون بذلك أن هذا التصور ينبني عليه استبعاد القراءة الدينية والتعامل الديني مع المجتمع الغربي, وأن علينا ان نواجه الدوافع المصلحية بدوافع مصلحية مماثلة, لا أن نواجه الدوافع المصلحية بموقف ديني أو عقائدي.

والواقع أن منشأ الخلل في هذه الأطروحة ليس في تصور دوافع المؤسسة السياسية الغربية المعاصرة, وإنما في الآثار التي توهموا أنها تنبني على هذا التصور!

فالمؤسسة السياسية الغربية هي مؤسسة كولونيالية/استعمارية ليس في ذلك شك, لكن هل من قاوم الدين باعتباره يهدد مصالحه لا نقف منه موقف ديني؟

هذا التصور المختل نابع من الجهل بدلالات القرآن حول دوافع الكفار أساساً, فجمهور الكفار الذين تحدث الله عنهم وقص لنا خبرهم وشرع لنا مناضلتهم وكشف لنا سوء مصيرهم لم يكونوا مدفوعين أصلاً بقناعات دينية محضة, بل إنما قاوموا النبوات والدعوات واتباع الرسل لأنهم رأوا في الدين ما يهدد “مصالحهم” الدنيوية, كمصلحة الاحتفاظ بالنفوذ والرياسة, أو تهديد مصادر الثروة, أو الحمية للآباء, أو الحسد العرقي, أو غيرها.

ومع ذلك كله فقد اتخذ القرآن منهم موقفاً دينياً برغم أنهم مدفوعون في كفرهم بدوافع مصلحية مادية, بل إن هذا هو جوهر الابتلاء الديني بين الإيمان والكفر، وهو التنازل عن شهوات الدنيا ومصالحها من أجل الدين!

وانظر إلى رموز الكفار في القرآن الكريم تجد ذلك واضحا بيناً, فهذا فرعون وقارون وأهل الكتاب وأبو جهل وغيرهم إنما كانت دوافعهم للكفر دوافع مادية بحتة وليست دوافع عقائدية.

وفي نص مطول ومبدع لابن القيم حاول فيه تحليل دوافع الانحراف على ضوء القرآن نجتزئ منه هذا المقطع:

(قيام مانع: وهو إما حسد أو كبر, وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر, وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله وعرفوا صحة نبوته, وهو الذي منع عبد الله بن أبي من الإيمان, وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل وسائر المشركين, فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأن الحق معه, لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر, وبه تخلف الإيمان عن أمية وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد.

السبب الرابع: مانع الرياسة والملك, وان لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق, لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته, كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار, الذين علموا نبوته وصدقه وأقروا بها باطناُ, وأحبوا الدخول في دينه, لكن خافوا على ملكهم, وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة, وهو داء فرعون وقومه ولهذا قالوا: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون.

السبب الخامس: مانع الشهوة والمال, وهو الذي منع كثيراُ من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم, وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته, فيدخلون عليه منها, فكانوا يقولون لمن يحب الزنا أن محمداً يحرم الزنا ويحرم الخمر, وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام, وقد فاوضت غير واحد من أهل الكتاب في الإسلام وصحته, فكان آخر ما كلمني به أحدهم: أنا لا أترك الخمر وأشربها آمنا فإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها, وقال آخر منهم بعد أن عرف ما قلت له: لي أقارب أرباب أموال وإني إن أسلمت لم يصل إلي منها شيء, وأنا أؤمل أن أرثهم أو كما قال, ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار فتتفق قوة داعي الشهوة والمال وضعف داعي الإيمان, فيجيب داعي الشهوة والمال.

السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة، يرى أنه اذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم, وهذا سبب بقاء خلف كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.

السبب السابع: محبة الدار والوطن, وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى, فيضن بوطنه.

السبب الثامن: تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءُ وطعناُ منه على آبائه وأجداده وذماُ لهم, وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام, استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم, ورأوا انهم إن أسلموا سفهوا أحلام أولئك وضللوا عقولهم ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك, ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: ترغب عن ملة عبد المطلب؟, فكان آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب)

سلطة الغموض:

كثير من الشباب المنبهر بأطروحات غلاة المدنية إذا دخلت معه في حوار حول أعماق قناعاته اكتشفت أنه مأخوذ بلغة الخطاب وغموضه المبهر أكثر من حقائقه وبرهنته, وسلطة الغموض على شريحة من القراء هي في الحقيقة ظاهرة معرفية قديمة لا يمكن إنكارها.

ولذلك تجد بعض الكتاب يميل إلى التحذلق والتقعر في الكتابة وعدم القصد إلى المعاني مباشرة, حيث يشعر أن طرح الفكرة في قالب مباشر يبدد وهجها, وأن وضع الفكرة في طرق ملتوية يبهر القارئ ويجعله يذعن للنتيجة.

وهذا الإذعان والخضوع للغموض ناشئ عن عدة أسباب, منها أن بعض القراء يسلم لتلك النتائج لظنه أن عدم فهمه فرع عن عبقرية الخطاب وأنه فوق إمكانياته, ومنها أن بعضهم يعجبه أن يتميز عن جمهور الناس بشئ ما, فلذلك تبتهج نفسه بالخطاب المعقد حيث يحقق له فرادة شخصية.

وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في درء التعارض فقال:

(وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء: قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة, ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور, ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة, فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزئيات تحت كليات, قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين, وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج اليها, بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه ونفر عنها عقله, ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا)

فبعض القراء يكون قد اعتاد التعقيد فيصبح يتفاعل معه أكثر من الصياغة المباشرة, وبعض القراء يحب التعقيد لما يمنحه من الزهو الداخلي, كما يقول الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

والحقيقة أنه لا يذعن أمام سلطة الغموض والتعقيد إلا القارئ ضعيف الشخصية, أما القارئ الواثق فإنه يعتبر التعقيد والغموض عياً في الكاتب لا ضعفاً في القارئ, ومن المؤسف أن سلطة الغموض من أشد الأمور تأثيراً على بعض القراء, خصوصاً من يتحاشى التهمة بعدم الفهم, فيظهر المشاكلة حذراً من الانتقاص, ويظهر ذلك خصوصاً في المصطلحات المعربة, أو الاصطلاحات المنقولة بتعابير وعرة غير موحية بدلالاتها, مع ما ينضاف إلى ذلك من تهويل المتحدثين بها, وفي حالة مشابهة يقول الإمام ابن تيمية في درء التعارض:

(ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة, وصاروا يدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم, ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض, وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه, ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة, فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته, فأخذ يعترض عليهم, قالوا له: أنت لا تفهم هذا, وهذا لا يصلح لك, فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده, وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل)

ومما هو شديد الصلة بذلك أن كثيراً من غلاة المدنية إذا عبر لهم عن “المعنى المعين” باصطلاح شرعي أو تراثي استخفوا به واستعلوا عليه, وإذا عبر لهم عن ذات المعنى باصطلاح فكري حديث أو تعبير فرانكفوني معرب خضعوا للمعنى المتضمن به, لامتلاء قلوبهم بتعظيم المدنية الحديثة, وتبعية تفكيرهم لقوالب المعاني أكثر من المعاني ذاتها, وقد رصد الإمام ابن تيمية هذه الظاهرة وهي سلطة المصطلح ونفوذه الضخم على التفكير وكيف تسلبه القراءة الموضوعية الهادئة كما يقول في منهاج السنة:

(وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده, وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول, وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب, ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك, فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك)

وبرغم يقيننا أن الخطاب الغامض المعقد قد يكون أحياناً حالة غير سوية, إلا أنه لا يمكن إنكار أن بعض القراء قد يستفيد منه في شحذ ذهنه وصقل إمكانياته التحليلية والجدلية وقدرات التفنيد ونحوها, وهذا أمر مشاهد, ولذلك قال الإمام ابن تيمية في الرد على المنطقيين:

(فإن النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن, ويدربه ويقويه على العلم, فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل, تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال, وهذا مقصد حسن, ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة: كالجبر, والمقابلة, وعويص الفرايض والوصايا والدور, لشحذ الذهن, فإنه علم صحيح في نفسه, ولهذا يسمى الرياضي, فإن لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم, وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة, وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة)

هل أضاع المسلمون دنياهم؟

بعض غلاة المدنية يرى أن كل ما نحن فيه اليوم من هوان وضعة إنما منشؤه غفلة المجتمع المسلم عن بناء الدنيا, بل إن بعض غلاة المدنية يقول بصراحة “المسلمون اليوم عمروا آخرتهم وأضاعوا دنياهم”, وبعضهم يقول: تطرق الخلل للمسلمين من جهة ضعف دنياهم لا من جهة ضعف دينهم, وبعضهم يقول: المسلمون اليوم بالغوا في شأن الآخرة حتى تخلفوا, ونحو هذه العبارات. وهذا التصور ناشئ عن مركزية المدنية والغلو فيها.

واذا عرضنا هذا التصور على أصول الوحي تبين كم فيه من إهدار لحقائق القرآن, فحب الدنيا والعناية بها هما أصلاً غريزة مركوزة في النفس البشرية ويستحيل بحسب سنن التاريخ أن تتحول الأمم الكثيرة إلى ظاهرة زهد شمولي مطْبِق كما يتصور غلاة المدنية عن واقع المجتمع المسلم, وقد كشف القرآن عن هذه الغريزة البشرية في قوله تعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}

وقال تعالى:

{كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ}

وقال تعالى:

{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]

بل إن أزكى النفوس البشرية التي تلقت التزكية النبوية مباشرة طالما عانت من مجاهدة “إيثار الدنيا” ونبهها القرآن في كثير من المواضع إلى التفاتها إلى الدنيا برغم اشتغالها التام بالعبادة والجهاد, فقال تعالى للصحابة المجاهدين حين اندفعوا يجمعون الغنيمة:

{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]

فبالله عليك تأمل كيف يقول ذلك لهم, وينبههم إلى التفاتهم إلى الدنيا, وهم في حالة قد جمعوا فيها بين مشهد التضحية ومقام الصحبة.

وقال لهم حين مالت نفوسهم للسلم والفداء:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]

وقال لهم حين استثقل بعضهم مشقة الجهاد:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة:38]

وقال لهم حين انتهوا من نسكهم وأخذوا يدعون الله ويلجأون اليه:

{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة:200]

فإذا كان “تعظيم الدنيا” غريزة مركوزة في النفس البشرية, وإذا كانت أزكى النفوس البشرية ومن تلقت التربية النبوية لم تسلم من التفات القلب إلى الدنيا واحتجاب حظ الآخرة في بعض المواطن, بل وهي في أعظم المواطن كالجهاد والحج, فكيف يقول غلاة المدنية أن المسلمين اليوم عمروا آخرتهم وزهدوا في دنياهم حتى تخلفوا؟

ثم إنه لو صح أن المسلمين اليوم عمروا آخرتهم –كما يقوله بعض غلاة المدنية- فإن نتيجة ذلك ليس ضياع الدنيا, بل النصر والتمكين وانهمار بركات الموارد الطبيعية, وهذا المعنى الغيبي لا يستوعبه العقل المادي, وإنما يعقله قلب المؤمن الذي امتلأ يقيناً بصدق الوعود الربانية, ومن قال بخلاف ذلك فقد عارض محكمات الوحي, وسيأتي الإشارة إلى شواهد ذلك.

تأجيل نتائج الاستقامة:

يحاول كثير من غلاة المدنية أن يجعلوا المأمورات والمنهيات الشرعية مرتبطة بالجنة والسلامة من النار فقط, ولا علاقة لها بسعادتنا وظفرنا وسلامتنا الدنيوية, فالدين لبناء الآخرة والمدنية لبناء الدنيا, أو كما يقول بعضهم: الدين شرط للنجاة الأخروية لا للنجاح الدنيوي, ولذلك يشعر بعضهم أن المجتمع الغربي ليس بحاجة فعلية إلى الإسلام لإصلاح دنياه, وإنما يحتاج الإسلام فقط لينجو من النار, وتبعاً لذلك يعبر بعضهم عن المجتمع الغربي بأنه الإسلام بلا مسلمين.

والواقع أن هذا جهل مؤلم بمضامين الوحي ودلالاته على الآثار الدنيوية للالتزام الديني, فقد دلت محكمات الوحي على خمسة آثار دنيوية للاستقامة الدينية وهي:

التمكين السياسي في الأرض, واستقرار الأمن في البلاد, والرخاء الاقتصادي, والطمأنينة النفسية, والسلامة من كوارث الغضب الإلهي.

فكيف يقال بعد ذلك أن الدين لبناء الآخرة فقط والمدنية لبناء الدنيا, أو أن المجتمع الغربي لا يحتاج الإسلام لإصلاح دنياه؟!

فقد أخبرنا الله خبراً قاطعاً لا يحتمل النسبيات وأشكال التأويل أن “الاستقامة تورث التمكين والأمن” كما قال تعالى:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]

وأكد تعالى هذا الوعد الرباني في محكمات كثيرة كقوله تعالى:

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ} [القصص:5-6]

ومن شدة اهتمام الله بهذا الوعد الرباني أخبرنا عن تتابع الأنبياء والكتب السماوية على تأكيده كما قال تعالى:

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]

وقال تعالى عن وعده لأنبيائه السابقين:

{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات:171 -173]

وربط الله سبحانه وتعالى النصر العسكري على الأعداء بعمارة الآخرة, لا أن عمارتها سبب للهزيمة, كما قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]

وقال تعالى:

{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40]

وقال تعالى:

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:5]

وقال تعالى:

{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}

والمنطوق المصرح به في مثل هذه الآيات أن من نصر الله نصره الله, أما المفهوم الذي تضمنته فهو أن من لم ينصر الله فإن الله سيخذله, وهذا المفهوم ليس مجرد استنباط بل هو منصوص في محكمات أخرى, كقوله تعالى:

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].

وقال تعالى:

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}

وقوله تعالى:

{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}

فحين يقرأ المؤمن هذه المحكمات وكيف يثنيها الله سبحانه وتعالى مرة بعد أخرى فإنه يشعر بالأسى والألم وهو يسمع بعض الشباب المسلم يردد أن المسلمين عمروا آخرتهم وأهملوا دنياهم.

كما دلت شواهد الوحي الكثيرة على أن الاستقامة الدينية تخلق الرخاء الاقتصادي وازدهار الموارد الطبيعية, كما في قوله تعالى:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}

وأيقظ الله العقل المادي ونبهه على أن الاستقامة تورث الرزق بطريق لا يتنبه له المرء ولا يمكن حسابه بالحسابات المادية المحضة فقال تعالى في لفتة دقيقة:

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}

وهذا شأن عام في الأمم السابقة فقد قال تعالى لأهل الكتابين:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}

وقال نوح لقومه:

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً, يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً, وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.

وقال هود لقومه:

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ}

فهذه محكمات الوحي الصريح تتابعت على لسان الأنبياء تؤكد أن الاستقامة الدينية من أعظم أسباب الرخاء الاقتصادي وغنى الموارد, وأنا أسوق هذه الآيات، أدرك تماماً أن “العقل المادي” الذي تشبع بالثقافة الغربية الحديثة لايطيق ولا يستوعب هذه الوعود الإلهية, ولا يفكر إلا في الآليات الملموسة, والواجب إزاء ذلك أن لا ننجرف مع هذه العقول وتكوينها المتصادم مع مقتضيات الإيمان, وإنما الواجب أن نسعى قدر المستطاع إلى تنويرها بالوحي ودلالتها إلى تزكية النفوس حتى تستطيع عقولها أن تترقى من ماديتها السطحية فتوقن بوعد الله سبحانه وتعالى, فمن ذا سيكون أصدق وأبر وعداً من الله جل وعلا؟ ولذلك قال تعالى:

{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟}

وقد دلت شواهد الوحي أيضاً على أن الخلل الديني من أهم أسباب الكوارث العظيمة الناشئة عن الغضب الإلهي, وهذه الحقيقة يتبرم بها كثيراً غلاة المدنية ويحاولون تحييدها, ويتضايقون من تفسير الكوارث على أنها عقوبات إلهية, ويحاولون دوماً أن يجعلوا الخلل الديني عقوبته أخروية فقط, أما الدنيا فمربوطة بقوانين طبيعية لا صلة لها بهذه التفسيرات الغيبية, وبعضهم يتجارى به التطرف ويسمي ذلك “تفسيراً ميثولوجياً” أي أسطورياً خرافياً.

والواقع أن هذا التصور يتضمن إهداراً وتضييعاً لأحد الركائز القرآنية في تصور التاريخ, فقد كشف القرآن في محكمات صريحة عن أن الخلل الديني له عقوبتان دنيوية وأخروية وقد ذكر سبحانه نوعي العقوبة كما في قوله تعالى:

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:56]

وأشار في موضع آخر إلى نوعي العذاب بقوله:

{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ}

ومن هذه العقوبات الدنيوية الكوارث الطبيعية وغلاء الأسعار وشح الموارد وانفراط الأمن وغيرها كثير كما قال تعالى:

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41]

ويضرب الله لنا مثلاً عن دور الانحراف الديني في رفع الرغد والأمن كما يقول تعالى:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}

فهانحن نرى أن العقوبات الدنيوية إزاء الانحراف الديني ليست تفسيراً ميثولوجياً أو خرافياً, بل هي أحد المكونات الرئيسية لحركة التاريخ في التصور القرآني.

وبعض غلاة المدنية يردد دعوى مفادها أن (المعاجلة بالعقوبة استثناء لا ظاهرة تاريخية)، والحقيقة أن إهلاك الأمم المتجبرة المعرضة عن الوحي وطاعة الله ورسوله ومعاجلتها بالعقوبة ليس استثناء في مدونة التاريخ, أو حادثة شاذة خارقة للعادة, بل إن المعطيات التاريخية التي يقدمها القرآن تكشف أنه ظاهرة تاريخية فعلية! كما قال تعالى:

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [ الإسراء: 17]

ويذكر الله الأمم السابقة وكيف شملهم بنوعي العقوبة الدنيوية والأخروية فيقول تعالى:

{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ, فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ}

ثم إن تلك الشعوب السابقة في التاريخ الإنساني كانت تمتلك إمكانيات مدنية وقوة اقتصادية وموارد هائلة ومع ذلك حين سخط الله عليها عاجلها بالعقوبة الدنيوية بسبب ذنوبهم كما قال تعالى:

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6]

ويسرد القرآن شيئاً من عقوبات الأمم السابقة فيقول:

{فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا, وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ, وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ, وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}

وانظر إلى مشهد الخراب المروع الذي يصوره القرآن وهو يقول:

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]

فهذه الرؤية التي يتصورها غلاة المدنية تتضمن أن الإيمان والعمل الصالح والعبودية ليس لها آثار اجتماعية خارجية منفصلة, بل آثارها ذاتية خاصة, وهذا تصور مناقض للمحكمات السابقة, وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى شيء من ذلك فقال في الصفدية:

(فقد علم بالاضطرار من النقل المتواتر, والتجارب المعروفة, أن الأعمال الصالحة توجب أمورا منفصلة من الخيرات في الدنيا, وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك, وأن الله تعالى عذب أهل الشرك والفواحش والظلم,كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون, بالعذاب المنفصل والمشاهد, الخارج عن نفوسهم, وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة في المشاهدة, وهذا أمر تقر به جميع الأمم, فكيف يقال إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخُلُق؟)

فإذا كانت الاستقامة الدينية تتعلق بها كل هذه النتائج الدنيوية الحيوية فهل يجوز للمسلم بعد ذلك أن يقول أن المسلمين عمروا آخرتهم وأضاعوا دنياهم, أو أن الدين شرط للنجاة لا النهضة؟

ومما هو شديد الصلة بهذه النظرة أن بعض غلاة المدنية يتحاشون النظر إلى قوة الكفار على أنها نوع من الإملاء والاستدراج الإلهي لهم, ويميلون إلى النظر اليها باعتبارها نتاج طبيعي لدأبهم وتفانيهم يستحقون نتائجه, لا أنهم مستكثرون من أسباب العقاب الإلهي!

والواقع أن من أظهر قوانين التاريخ التي سطرها لنا الوحي “قانون الإملاء والاستدراج الإلهي” , فالقوة المادية وتعملق الإمكانيات التي بأيدي الكفار هي نوع من ذلك كما قال سبحانه:

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}

وقال تعالى عمن يكذب بهذا الوحي:

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}

وقد قص الله علينا طرفاً من ألوان هذا الإملاء والاستدراج الذي ترتجف له قلوب المؤمنين, فقال تعالى:

{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55]

بل تأمل في هذا المشهد المخيف حين يخبر تعالى بأنه يزيد للمعرض كل شئ ثم يباغته بالعقوبة, كما قال تعالى:

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}

وقال سبحانه وتعالى:

{فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}

كما أن بعض غلاة المدنية يقول: هؤلاء خطباء المنابر يعدوننا منذ آماد بأن الله سيهلك الكفار وسينصر الإسلام ولم نر شيئاً! بل لا يزال الكفار في تقدم والمسلمون في تراجع, ويذكر الإسلاميون أن البيع مبارك والربا ماحق ولم نر الاقتصاد الغربي الربوي إلا يتعاظم واقتصاداتنا تنهار.

والحقيقة المؤلمة هي أن هذا الوعد بانتصار الإسلام والوعيد بسقوط الكفر ليست قضية فكرية يتبناها الإسلاميون, بل هي وعد ووعيد إلهي, وقد نبه الله سبحانه وتعالى رسله واتباع الرسل إلى أنهم سيواجهون مثل هذا الاعتراض المبطن بالسخرية من وعد الله ووعيده الدنيوي, كما قال تعالى:

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}

والاستخفاف بوعد الله من شعب النفاق الخطيرة على الإيمان كما قال تعالى:

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}

ولشدة تأثير هذا الكلام في أتباع الرسل فقد أكد تعالى على وعده فقال:

{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}

ولا سيما أن وعد الله ووعيده كثيراً ما يتحقق في اللحظات الحرجة أو في المشهد الأخير حين يستكمل الله سبحانه وتعالى سنة الابتلاء والتمحيص ويمر المؤمن بساعات الشدة كما قال تعالى:

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}

ونبه سبحانه على أن المؤمن قد يمد الله في حياته حتى يشاهد العاقبة بكاملها وقد يتوفاه الله قبل ذلك لكن الله لا يخلف وعده كما نبه تعالى على ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه فقال:

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}

وقال سبحانه وتعالى:

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}

وقال سبحانه وتعالى:

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}

ونبه الله عباده المؤمنين الى أن هذا الامهال الالهي له حكم كبرى وليس عجزاً من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى:

{ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ} [النور: 57]

ولشدة الافتتان باستمرار الكفار في تقلبهم في قوتهم أشار القرآن الى عدم الاغترار بهذه الحال فقال تعالى:

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران: 196].

ولذلك كله فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نجيب على مثل هذا السؤال المتضمن استبطاء الوعد والوعيد بأن المسألة “مسألة وقت” كما قال تعالى:

{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}

نفوذ المخاطبين:

الحقيقة أن من تأمل كافة تلك القضايا التي ناقشناها في الفقرات السابقة فسيلاحظ أن بعض المنتسبين للدعوة قد قارب بعضها بحسن نية وتحت وطأة الرغبة الملحة في هداية الناس وتأليف قلوبهم وتحبيبهم في الخير والتودد لهم والدخول إلى قلوبهم من جهة ما تهواه, والمرجو أن يكون أمثال هؤلاء الدعاة تحت مظلة العذر الإلهي والكرم الرباني.

ولكن المأمول دوماً هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر, حتى لا يقع الداعية في هوة التحرج من حقائق الوحي, أو التدسس عنها مجاملةً لوسائل الاعلام, أو تربيتاً على أكتاف الذوق الجماهيري الحديث.

ولطالما اشتد عجبي وأنا أتأمل آيات القرآن من كثرة تنبيه الله سبحانه لنبيه من مخاطر الوقوع تحت “سلطة الجماهير”, والحقيقة أن الكثيرين يظنون أن الصراع مع الهوى هو صراع مع هوى النفس الشخصي فقط, ولكن هناك ما هو أقوى على العامل للإسلام من ذلك, إنه الصراع مع أهواء المخاطبين, والرغبة في الاستحواذ على رضاهم وكسب تعاطفهم مع الإسلام.

لا أشد على العامل للإسلام من تلك الفتنة التي حذر الله منها نبيه وهي فتنة استمالة المدعوين, والرضوخ لهوى المكلفين, والانصياع لضغوط مألوفاتهم, وتوجيه التعاليم الإلهية بالشكل الذي يرتاحون به ويميلون اليه.

فالضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لا يكاد يفلت منها داعية إلى الله, ولو لم تكن هذه الفتنة بهذه الخطورة لكانت كثرة تحذير الله لنبيه منها عبث ينزه القرآن عنه, فكثرة التنبيه فرع عن شدة الخطورة, وتثنية التحذير مرة بعد أخرى انعكاس لدحض الطريق ومزلة الأقدام.

ولا سيما إذا كان التحذير والتنبيه موجها إلى أكمل من أدى أمانة الرسالة على وجهها, فكيف بمن يليه في المنزلة والتسديد.

انظر مثلاً كيف صور الله الجماهير المتلقية وهي تحاول استمالة النبي عن مقررات الوحي وتعده بأن تنساق خلفه وتنصره فقال سبحانه في سورة الاسراء:

{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}

إنهم على استعداد تام للاتباع والانخراط في جملة المسلمين ولكن بشرط واحد, شرط واحد فقط, إنه “تبديل” بعض هذا الوحي الذي لاتروق لهم مضامينه!

وقد كشف القرآن في الآية التي تليها مباشرة أن هذا الاستسلام لنفوذ المخاطبين كان خطراً فعلياً على النبي صلى الله عليه وسلم لولا العصمة الإلهية ولذلك قال تعالى:

{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا}

فإذا كان نفوذ المخاطبين كاد أن يبلغ تأثيره سيد المرسلين لولا العصمة الربانية فكيف يأمن من بعده ذلك؟

وقد أشار القرآن إلى هذا الإلحاح بتبديل الوحي كما قال سبحانه في سورة يونس:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ, قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ, قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي, إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}

وكرر الله ذات التنبيه إلى خطورة “سلطة المخاطبين” فقال في سورة المائدة:

{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}

مع أن هذه الآية تحكي صفقة على “بعض الوحي” وليس “كل الوحي” إنما هي مجرد “تحوير” بعض الأحكام والتصورات فقط, ولكن الله سبحانه وتعالى مع كل ذلك نبه نبيه وحذره وسمى ذلك “فتنة”, وقد أجمع أرباب الطريق إلى الله على أن “الفتنة” موضع الابتلاء والامتحان والاختبار.

وليس المطلوب فقط هو الامتناع عن التنازل عن بعض مضامين الوحي, بل نحن مطالبون بقدر زائد على ذلك, وهو الفخر بهذه المضامين, والشموخ بها, وعدم التحرج منها, كما قال سبحانه في مطلع الأعراف:

{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ}

وجعل الرضا بالحكم الإلهي وتصورات الوحي والخلوص من التحرج منها معيار “الإيمان” كما قال سبحانه:

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}

ففي هذه الآية أكد هذا الشرط للإيمان بأنواع من الأدوات الألسنية لترسيخ المعنى كالقسم والنفي والتعقيب والتكرار والاسم المطلق وغيرها من الصيغ اللغوية للتأكيد مما هو مبسوط في مطولات المفسرين.

وهكذا تمضي آيات القرآن تثنّي مرة بعد مرة هذا التنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن خطورة ضغوط أهواء المخاطبين كما قال سبحانه في سورة المائدة:

{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ}

وفي لغة تحذير مدوِّية يضطرب لها قلب القارئ يقول سبحانه:

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ}

هذا التأكيد الإلهي البليغ المتكرر حول الصراع الشرس بين هذين القطبين “هوى المكلفين” و “كتاب الله” وأثر ذلك على الداعية المبلغ عن الله سبحانه ليس مجرد ملحوظة فكرية تُحتسى في مقهى مسائي, بل هي قاعدة عميقة نابعة من عظمة العلم الإلهي بسنن الدعوة وتبليغ الدين.

ويعيد سبحانه وتعالى ذات التأكيد على تعارض هذين القطبين “الهوى البشري” و “الوحي الإلهي” فيقول سبحانه في سورة القصص:

{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ}

ويشير سبحانه إلى ذات التعارض فيقول في سورة الشورى:

{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ}

والمواضع التي نبه الله نبيه فيها إلى خطورة سلطة المخاطبين, وضخامة نفوذهم على الداعية كثيرة جداً, ومن تدبر هذه المواضع, وقلَّب وجوه معانيها, ورأى ما فيها من تكرر الإشارة إلى مشقة مواجهة الهوى البشري على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتحذير الله سبحانه من الاستجابة لضغط أهواء الناس في تغييب بعض حقائق الوحي, ورأى كثرة ربط الله سبحانه بين النقيضين أهواء المكلفين وكتاب الله: انكشف له سر تعقيب الله سبحانه بذكر “الصبر” بعد ذكر “اتباع الوحي” وذلك في قوله سبحانه في سورة يونس:

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ}

فعلاً.. ما أحوج من أراد أن يجمع الوحي كله إلى “مقام الصبر”, الصبر على تعارض الوحي مع الهوى البشري, الصبر على تثاقل النفوس وتمنعها بحبال مألوفاتها, الصبر على الإلحاح النفسي الرهيب الذي يدفع الداعية إلى تلبية ما ينتظره الجمهور منه وإن كان لا ينسجم مع ما تمليه آيات الوحي.

وإن لم يعتصم العامل للإسلام بمقام “الصبر” فسيقع حتماً في سوق النصوص تجاه مراعي الشهوات الأرضية, بدل أن تعرج به هي في مدارات العبودية.

وأحياناً كثيرة لا يقع العامل للإسلام تحت ضغط الرغبة في هداية الناس, بل يقع ضحية تحاشي السخرية والاستهزاء, ذلك أنَّ من الملاحظ عند بعض غلاة المدنية أنهم يضعون كثيراً من المفاهيم والمصطلحات الدينية والتراثية الجادة في قالب ساخر أثناء أطروحاتهم النقدية, والواقع أن السخرية والاستهزاء من أمضى أدوات النفوذ والتأثير على الآخرين, ذلك أنها من أشد الأمور إيلاما لأصحاب المروءة, فتحجزهم عن كثير من المواقف تحاشياً أن يقعوا في مثار سخرية أو موضع استخفاف, ولذلك نبه الله الرسل والمصلحين على استغلال خصوم الدعوات الإلهية لهذه السلطة, فقال تعالى:

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}

وقال تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ, وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}

وأحياناً أخرى يواجه المصلحون جور الاتهامات السياسية, وأنهم يسعون للنفوذ السياسي ولعبة السلطة, والاستحواذ على الجمهور, ونحوها من الاتهامات التي تؤثر على سلوك العامل للإسلام في كثير من الأحيان, وقد نبه القرآن أيضاً على ذلك, وبين أن خصوم الدعوات الإلهية سيلوكون هذه الاتهامات السياسية, ولذلك اعتبر قوم فرعون أن موسى مجرد “طامح سياسي” يخطط للاستيلاء على أرض الوطن, كما نقل الله قولهم:

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}

وذكروا أن موسى وهارون يهدفان للسلطة كما نقل الله قولهم:

{وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 78 ]

الشجن الأخير

عزيزي القارئ..صدقني ليس المقام مقام تحليلات فكرية باردة, ولا موضع استمتاع باسترسالات ذهنية تقدم على طبق مجاور لفنجان قهوة, لا يا صاحبي..كم أتمنى أن تشعر أن الأمر جلل, وأن ثمة ما يستدعي الجدية في النظر للموضوع.

يتبرم البعض ويتنمر فوق حواجبه عبوس الضجر حين يتمتم له العاملون للإسلام بمفصلية هذا الموضوع, وحدة الخيارات المطروحة فيه, وأن الرأي فيه مخوف مشرف إما على حافة الهاوية أو سلم النجاة, ويرمي هذا الطرح بأنه لون من النياحة والتباكي بلا جنازة أصلاً, أو على كثيب توهموه لحداً.

هذا “القرآن” ليس مجرد مخزون معرفي أو تراتيل طقوسية بل هو رسالة إلهية تحمل “قضية” هي فوق كل قضية, حتى قطعت بها أواصر موصولة, وسلت لها سيوف مغمدة, وسقطت لها عروش شامخة, وصعد بها رويعي الغنم مرتقى صعباً.

كم هو مؤلم أن يصبح الإبداع اليوم -في نظر كثير من المثقفين- هو أن لا تكثر من القرآن والسنة في كتاباتك, وأن لا تنير مقالاتك بذكر الله سبحانه وتعالى وبركة آياته وهدايتها, وإنما الإبداع هو الاستعراض بحشو مقالاتك بذكر فلان وفلان من الأسماء الفرانكفونية الرنانة, ومن هو دون الله من كلام المخلوقين, فتستبشر لك الوجوه وتحتفي بك النفوس.

بالله عليك تأمل في نفرة كثير من غلاة المدنية من النصوص الدينية وابتهاجهم بذكر الأعلام الغربية وقارنها بقوله تعالى في سورة الزمر:

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}

ويقول سبحانه في سورة الحج:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}

الحقيقة أن “الصدود عن الوحي” والتبرم به مؤشر خطير على أن ثمة “شعبة نفاق” خفية في القلب تستدعي المبادرة إلى تنظيفه قبل أن يفوت الأوان, كما قال تعالى:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]

فالمصدرية الفكرية لون مما يجب إفراد الله فيه بالحكم, وإفراد الله بالحكم والطاعة أس العبودية والخضوع, وتدبر كيف حكى الله لنا حال الكفار في تعظيمهم من هو دون الله والشغف بذكره والتبرم بذكر الله, وقل في نفسك: ألا ما أشبه الليلة بالبارحة.

وفي ختام هذه الورقة النقدية يهمني كثيراً أن أؤكد مجدداً وبشكل خاص على أن هدف هذه الورقة ليس التزهيد في شأن اعداد القوة واتخاذ الامكانيات الحديثة, ولا تحريم الطيبات والرفاه.

وانما الباعث الجوهري على كتابة هذه الورقة تنامي الخلل في ترتيب الأولويات عند قطاع واسع من المثقفين بما ترتب عليه تضييع كثير من حقائق الوحي والاساءة لمشروع النهضة ذاته, حتى صارت العلوم المدنية هي الغاية والعلوم الالهية مجرد وسيلة تابعة لها, مع أن حقائق القرآن جاءت بعكس ذلك تماماً وجعلت العلوم الالهية هي الأصل وغيرها تابع خادم لها.

فهذه الفقرات السابقة لم يكن الهدف منها اسقاط قيمة المدنية أو الغاء أهمية الحضارة أو ترسيخ حالة الاستهلاك والتبعية في مجتمعاتنا المسلمة, وانما كانت مجرد مساهمة في اعادة ترتيب أولويات المثقف المسلم, وكشف تصورنا الاسلامي “المختلف” لمفهوم الحضارة والمدنية والتقدم والنهضة والتحديث, بهدف اعادة الاعتبار وكشف أولوية التزكية وشرف العلوم الالهية الموروثة عن خاتم الرسل, وحاجتنا اليها أولاً ثم حاجة العالم المعاصر اليها ثانياً.

أما استفراغ الوسع والاستطاعة في اعداد القوة واتخاذ الوسائل والامكانيات فهذا واجب شرعي محكم لاخلاف فيه, فالمسلمون اليوم بحاجة ماسة الى الامكانيات الحديثة لابلاغ الرسالة الاسلامية ولتحقيق الغاية الالهية الشريفة التي ذكرها الله في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة التوبة والفتح والصف وهي قوله تعالى:

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق “ليظهره” على الدين كله)

ومثل هذه الغاية الالهية الشريفة لاتتحقق الا باتخاذ الوسائل الشرعية من اعداد القوة والامكانيات, ولذلك قال تعالى:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ].

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر:

(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر, وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: اليد العليا خير من اليد السفلى, واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة)

ولكن استفراغ الوسع والاستطاعة في اعداد القوة واتخاذ الأسباب والامكانيات لايعني الركون اليها وتعلق القلب بها, ولذلك لما قال نبي الله لوط لقومه:

{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}

علق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تعليقاً بليغاً, حيث روى الترمذي وغيره بسند حسن عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد -يعني: الله عز وجل – فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه) .

كما ان الاستمتاع بالطيبات مما جاءت الشريعة بتقريره كما قال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }.

ولذلك روى الامام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)

ويمكن تلخيص هذه الاشكالية عبر تقسيم العلاقة بالممتلكات الدنيوية إلى ثلاثة مراتب رئيسية:

إما أن يكون الاهتمام ببناء الدنيا مربوطاً بغاية نصرة الاسلام وتحقيق قيمه, وإما أن يكون لمجرد اشباع احتياجات الانسان, وإما أن يكون بهدف المباهاة والمفاخرة والترف والمنافسة الدنيوية ونحوها.

فهذه المراتب الثلاث لخصها النبي صلى الله عليه وسلم ووصف كل مرتبة بوصف بليغ جامع وذلك في حديث الخيل الشهير, فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر, ولرجل ستر, ولرجل وزر. فأما التي هي له أجر: فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له, فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا, ولو رعاها في مرج ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرا, ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر, حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها, ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر. وأما الذي هي له ستر: فالرجل يتخذها تكرما وتجملا, ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها, وأما الذي عليه وزر: فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء الناس, فذاك الذي هي عليه وزر)

فهذا الحديث العظيم غني بالدروس والمعاني, وهو يختصر في عبارات موجزة كل ماأرادت هذه الورقة أن تقوله وزيادة, ويهمنا فيه الاشارة الى فضل الممتلكات والامكانيات الدنيوية حين توجه الى نصرة الاسلام ويبتغى بها وجه الله, حتى أن الإنسان يؤجر على تفاصيل حركاتها التي تقع منها أثناء فعل الطاعة وإن لم يقصد الانسان تلك التفاصيل, وقد أشار الى ذلك غير واحد من شراح الصحيحين, في مقابل بؤس وتفاهة تلك الممتلكات والامكانيات اذا اتخذت للمنافسة الدنيوية.

ويمكن اجمال بعض الغايات والنتائج التي سعت اليها هذه الورقة في الخطوط التالية:

-أن العبودية هي الغاية الكبرى, أما العلوم المدنية فهي وسيلة تابعة لها.

-أن التنوير الحقيقي هو الاستنارة بالعلوم الالهية التي تضمنها الوحي, وأن الظلامية والانحطاط الرئيسي هو الحرمان من أنوار الوحي مهما بلغت درجة العلوم المدنية.

-أن اشرف مراتب العمارة هي العمارة الايمانية, وأن جوهر وظيفة الاستخلاف هو تمكين الدين.

-أن الغلو المدني هو ينبوع الانحراف الثقافي وجذر التخبطات الفكرية المعاصرة.

-أن الاسلاميين ليسوا ضد المثاقفة, ولكن لديهم موقف تفصيلي يفرق بين الانتفاع والانبهار, ويفرق بين مستويات الانتاج في الحضارات الأخرى.

-أن خطاب أنسنة التراث آل الى تغييب دور النص في تشكيل التراث, ورد العلوم الاسلامية الى عنصرين: الثقافات السابقة وصراعات المصالح, بما ترتب عليه انفصال الشاب المسلم عن نماذجه الملهمة.

-أن المغالاة في مفهوم الانسان آلت الى طمس المعايير القرآنية في التمييز على أساس الهوية الدينية.

– أن التبرم بمرجعية الوحي, والإزراء بالقرون المفضلة, واللهج بتعظيم الكفار, من أكثر شعب النفاق المعاصرة التي تستدعي التحصين الايماني.

-أن المغالاة في النسبية يقود الى العدمية, بما يترتب عليه خسارة فضيلة اليقين ومنزلة الاحسان, والاغراق في الارتياب والحيرة واللاحسم.

-أن الغضب لله ورسوله اذا انتهكت محارمهما قيمة محمودة وليس توتراً ولانزقاً ولا دوغمائية ولاوصاية ولااقصاء.

-ان الاستغراق في ربط الشعائر بعلل سلوكية محضة, أو ربط التشريعات بحكم اجتماعية محضة, من أعظم أسباب توهين الانقياد وذبول الدافعية.

-أن تعظيم الكلي مع تجميد تطبيقاته يؤول الى تعظيم شكلي نظري لاحقيقة له, لأن الجزئي معتبر في اقامة الكلي.

-أن الاستقامة الدينية ليست لمجرد السلامة من النار, بل لها آثار دنيوية كبرى في جلب الخيرات ودفع الكوارث.

-أن الضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لايستهان بسطوتها على العامل للاسلام الشغوف باستمالة المدعوين.

-أن استفراغ الوسع والاستطاعة في اعداد القوة واتخاذ الامكانيات من الواجبات الشرعية المحكمة.

وسائر المعاني التي تمت الاشارة اليها في هذه الخاتمة حول أهمية اعداد القوة سبقت الاشارة اليها متناثرة في سياق الفقرات السابقة, وانما أعدتها للتأكيد على هذه القضية واحترازاً مسبقاً من سوء الفهم, وهذه هي آخر فقرة حول علاقة الخطاب المدني المتطرف بأصول الوحي, ولم يكن القصد هو استيعاب ظواهر الخلل في الخطاب المدني المتطرف وانما ذكر نماذج يتبين بها ماهو من جنسها, وعسى أن يكون لنا لقاء قريب في الجزء الثاني الذي هو عن علاقة الخطاب المدني المتطرف بالفكر الحديث.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الاثنين 10/06/1428هـ

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − 6 =