1-أن الراجح في تفسير معنى “الخليفة” في هذه الآية ليس كون آدم خليفة ينوب عن الله, وإنما معناه “خلافة الآدميين بعضهم بعضاً” بمعنى أن جنس الآدميين يتداولون الخلافة ووراثة الأرض, وقد أكد هذا الترجيح كثير من المحققين.

والحيثيات التي تبرهن رجحان هذه الفهم متعددة تتبين بتأمل سياق هذه الآية ذاتها, وباستيعاب مجمل نصوص الشارع واستخلاص مراده من مفهوم “خلافة الآدميين”.

فمن هذه الحيثيات التي تؤكد هذا التفسير: أن الخلافة والنيابة لاتكون إلا عن “غائب” والله سبحانه وتعالى ليس بغائب بل هو شهيد رقيب وهذا مقتضى قيوميته سبحانه وتعالى, فلاخليفة عنه سبحانه ولانائب يقوم مقامه جل وعلا, وقد أشار الحق تبارك وتعالى الى ذلك بقوله سبحانه:

{وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } الآية [يونس: 61]

وقال سبحانه وتعالى:

(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة : 7]

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه قرب الله منهم وشهوده وعدم غيابه وأثر ذلك على السلوك التعبدي كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لاتدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)

ولذلك قال الامام ابن تيمية:

(والله لا يجوز له خليفة.., والخليفة أنما يكون عند عدم المستخلف, بموت أو غيبة, ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف, وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو, وهو قائم خلفه, وكل هذه المعانى منتفية في حق الله تعالى, وهو منزه عنها)الفتاوى 35/45

فإذا كان الله سبحانه شهيداً رقيباً ليس بغائب فلايكون غيره خليفة عنه إذ الخلافة لاتكون إلا عن غائب, وقد دل على استعمال الخليفة عن الغائب كثير من النصوص كقوله تعالى:

{ وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] .

فأمره أن يخلفه بعد غيابه, وكذلك قوله تعالى:

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15]

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي)

فالنبي الذي يخلف نبياً آخر لايكون الا بعد هلاك الأول وغيابه, صلى الله عليهم وسلم.

وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا, ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)

فجعل القيام بشؤون أسرة المجاهد خلافة بسبب غياب المجاهد.

وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا غاب عن المدينة إما لجهاد أو حج ونحوه فإنه يستخلف على المدينة, كما استخلف ابن أم مكتوم وعلى بن أبى طالب وغيرهم, وهذا بسبب غيابه, فإذا حضر صلى الله عليه وسلم زال وصف الخلافة عن خليفته لزوال سببها وهو الغياب.

بل إن النصوص الشرعية أثبتت عكس المعنى المرجوح تماماً, فأثبتت أن الله سبحانه وتعالى هو الخليفة الذي يخلف الانسان في غيبته, لا أن الانسان هو الذي يخلف ربه, حيث روى الامام مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قال:

(اللهم أنت الصاحب في السفر, والخليفة في الأهل).

وهذا الفهم للآية يسنده تتبع الآيات الأخرى التي استخدمت مفهوم “الخليفة” إذ القرآن الذي هو كلام الله يفسر بعضه بعضاً, وكثيراً ماتكون الدلالات المجملة في موضع معين تكشفها الدلالات المبينة في موضع آخر, وهذا المعنى وهو كون “جنس الآدميين يخلف بعضهم بعضاً” مبثوث شائع في كتاب الله في مواضع كثيرة منها قوله تعالى:

{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129] .

فكانت هذه الخلافة بعد هلاك من قبلهم, ومثل هذا المعنى قوله تعالى:

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ)

والمتأمل في جمهور آيات “خلافة الانسان” يجدها تشير الى معنى “البعدية” أو التعاقب, بحيث أن هذه الخلافة كانت بعد من سبق من الناس, فهي تشير الى تداول الخلافة بين بني آدم لا الخلافة عن الله, وسنشير الى بعض نماذج الآيات التي دلت على مفهوم “تداول الخلافة” والتعاقب عليها, فمن ذلك قوله تعالى:

{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} [يونس: 14].

ومثله قوله تعالى:

{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [مريم: 59].

ومثله قوله سبحانه وتعالى:

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}

ومثله قوله سبحانه:

{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ)

فهذه الآيات كلها تشير الى معنى البعدية الدال على مفهوم التعاقب.

وكذلك قال سبحانه وتعالى:

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام: 165]

وقال سبحانه وتعالى:

{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل: 62].

فهذه الشواهد المبينة من الوحي تكشف الدلالة المجملة في قوله تعالى “إني جاعل في الأرض خليفة” وأن المراد تداول الخلافة والتعاقب عليها بين جنس الآدميين, لا الخلافة عن الله سبحانه وتعالى.

ثم إن مما يؤكد أن معنى “خليفة” هاهنا كان الالتفات فيه الى جنس الآدميين وليس مجرد آدم عليه السلام, أنه لو كان المراد “آدم” لما صح أن تقول الملائكة:

{قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]

ذلك أن آدم عليه السلام ليس بمفسد في الأرض ولايسفك الدماء, فتبين أنهم عنوا جنس الآدميين.

والحقيقة أن من أكثر ماشوش على بعض متأخري المفسرين في فهم دلالة “خليفة” هو ورودها بصيغة المفرد, بينما الخلائف بصيغة الجمع, والواقع أن اللفظ المفرد إذا كان “اسم جنس” فإنه يكثر اطلاقه في كلام العرب مع أن المراد به الجمع, وهو نمط أسلوبي مطروق استعمله القرآن في غير موضع.

ومن ذلك أن الله تعالى لما ذكر نعيم الجنة قال سبحانه “في جنات ونهر” فذكر النهر بصيغة الاسم المفرد مع أن المراد به الجمع, فلايجوز الاستدلال بهذه الآية مثلاً على أنه ليس في القرآن الا نهر واحد, وذلك لقوله تعالى(فيها أنهار من ماء غير آسن)

2-أنه على التسليم بصحة القول المرجوح الذي اختاره بعض متأخري المفسرين وهو أن معنى “خليفة” هاهنا أي “خليفة عن الله” فإن هؤلاء المفسرين الذين مالوا الى هذا القول المرجوح لم يجعلوا مضمون هذه الخلافة هي عمارة الأرض مادياً, بل جعلوا مضمون هذه الخلافة “إقامة دين الله” كما قال البغوي مثلاً:

(والصحيح أنه خليفة الله في أرضه: لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه)

والخلافة في تنفيذ أوامر الله واقامة أحكامه مؤداها أن معنى الخلافة هاهنا آل إلى معنى العمارة الايمانية, لامعنى العمارة المادية, فلاجديد في هذه الدلالة.

وبكل اختصار فان احتمالات الدلالة في هذه الآية ثلاث دلالات -وليعذرنا القارئ على الدخول في تفصيلات فنية اضطررنا اليها بسبب كثرة استدلال غلاة المدنية بهذه الآية- وهذه الدلالات الثلاث هي:

إما أن يكون “خليفة” على وزن فعيلة بمعنى مفعول, أي مخلوف, فيكون جنس بني آدم يخلف بعضهم بعضاً, وهذا هو الفهم الراجح لللآية.

وإما أن يكون “خليفة” على وزن فعيلة بمعنى فاعل, أي خالف لمن قبله, فيكون آدم قد خلف خلقاً سكنوا الأرض قبله, كما ذهب اليه طائفة من السلف.

أو يكون خليفة عن الله أي نائباً عنه في إقامة حكم الله.

فعلى كل هذه الاحتمالات الثلاث لللآية –راجحها ومرجوحها-فإنها لاتدل على ماركبه عليها غلاة المدنية من دلالات حول مركزية العمارة المادية وغائية الحضارة وكونها جوهر وظيفة الانسان.

3-أما الاستدلال بهذه الآية على “تكريم جنس الانسان” باعتباره خليفة الله بغض النظر عن هويته الدينية وعبوديته, فهذه مصادمة لمعطيات الوحي.

فإن خلافة الانسان –سواء كان المعنى خلافة الآدميين بعضهم أم خلافة الانسان عن الله- ليس لها الشرف المطلق كما يتصور غلاة المدنية, بل شرفها ورفعتها مرتبط بتحقيق العبودية, فأما إذا أعرض الانسان عن الوحي فانه يسلب شرف هذه الخلافة, ولذلك قال تعالى مبيناً دور الاعراض عن الوحي في سلب شرف الخلافة:

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا}

وذكر الله سبحانه شيئاً من أخبار التاريخ وكيف كان سبحانه يسلب الأمة شرف الخلافة في الأرض اذا أعرضت عن النبوات والوحي, ويمنحه أمة أخرى كما قال تعالى:

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ, ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

فبينت هذه الآية جوهر وظيفة الاستخلاف وهي الابتلاء بالايمان والعمل الصالح واتباع الرسل بعد ما سلب الله الأمم السابقة ذلك بسبب اعراضها, وهذا المعنى حول وظيفة الاستخلاف بينته آيات أخرى أيضاً كما قال تعالى:

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)

ولذلك فان الأمة التي تحقق العبودية هي الأمة التي استوعبت معنى الاستخلاف وخلافة الانسان, كما قال تعالى:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]

فهذه هي الخلافة الشرعية الايمانية المحمودة من كل الوجوه, وهي التي تكون بالايمان والعمل الصالح والاستنارة بنور النبوات وتمكين الدين, لاأنها مجرد العمارة المادية.

والواقع أن الاستشهاد بهذه الآية على تكريم “جنس الانسان” بغض النظر عن هويته الدينية يعبر عن انتقائية حادة تتضمن طمس بقية مضامين الوحي التي تكشف دور الهوية الدينية في تشكيل معيار التقييم والعلاقات, وسنعرض لهذه القضية تفصيلاً في فقرة “أنسنة العلاقات”.

وخلاصة الأمر أن هاتين الآيتين –أعني آيتي العمارة والاستخلاف- تتعلل بهما أكثر شعارات الخطاب المدني المتطرف, وكثير منهم يحاول أن يلتمس نسباً الى الشريعة عبر التكلف في تأويلهما, وجعلهما أرضية لتبيئة مفاهيم التطرف المدني, وقد استكشفنا سوياً حجم التعسف والاجحاف الجائر في تأويل الآيتين ذاتهما, فضلاً عن مصادمة هذا التأويل لبقية معطيات الوحي, وثمة استشهادات شرعية أخرى يرددها بعض غلاة المدنية, وسنشير لهذه الاستشهادات ونناقشها في مواضعها في الفقرات القادمة.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة − ثلاثة =