قصة الغرانيق و فك الارتباطات

– ذهب نيازي عز الدين إلى ربط قصة الغرانيق بقوله تعالى : (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِين) وقد أراد نيازي بهذا الربط معنى خبيثاً جداً ، وهو وقوع الشرك من النبي وحاشاه ، وهذا قول ظاهر البطلان ومردود متهافت ؛ وتفصيل ذلك كالآتي :

– قول نيازي هذا هو قول من لا يعرف البلاغة القرآنية ولا يفهم تنوع أساليب التنزيل وطرائقه في التعبير ؛ إذ قد يتوجه النهي في القرآن إلى من يستحيل أن يقع منه ، والغرض من ذلك التنديد بمن وقع منه الفعل والتحذير من منهجه ، ولهذا نظائر أخرى في القرآن كقوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) ، ومن المستحيل جدا أن يكون الشك أو الامتراء جائزا على الرسول صلى الله عليه وسلم أو واقعا منه ، وهذه الأمور الفرضية المستحيلة قد تنسب إلى الله أيضا في القرآن والمراد نفيها ؛ نحو قوله : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) وهذا لا يلزم منه أن يكون الولد جائزا على الله تعالى.

– التفسير الذي يميل إليه الباحث في تلك الآية هو ما يقوله سياق الآية نفسها ؛ إذ نزلت هذه السورة المكية لتحكي للنبي صلى الله عليه وسلم قصة فرعون وقارون اللذين طغيا بالسلطان والمال فأهلكهما الله ؛ ليبين أن متاع الدنيا قليل والآخرة هي المبتغى الأسمى ، وقد بيّن لنبييه صلى الله عليه وسلم أنه إن أُخرج من أرضه فسوف يعيده الله إليها منتصرا ، وهذا المعنى الذي في آخر السورة شديد الارتباط بأولها (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) ثم بين للنبي صلى الله عليه وسلم نعمته الكبرى عليه ؛ حيث لم يكن يأمل في إنزال القرآن عليه ولكن فضل ربه العظيم ورحمة الكبرى قد اقتضت ذلك ، ولهذا كله ينبغي له أن يتقوى على الدعوة ولا يأبه للمشركين الذين يحاولون صده عنها ثم قال : (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تكن من هولاء المشركين في شيء ، أي لا تطعهم في شيء صغر أو كبر قل أو كثر ؛ ويفسر ذلك : (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) أي لا تكن لهم معاونا فلا ارتباط لك معهم في شيء.

فك الارتباط بين هذه القصة وآية طه :-

ذهب هبة الله ابن سلامة إلى أن قصة الغرانيق هذه قد كانت سبب نزول قوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق العلا) فاغتتم فأنزل الله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ثم نزل : (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ثم نزل : (سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى) فنسخ كل ذلك وهذا قول ظاهر البطلان ؛ وذلك للآتي:-

– غرام هبة الله بالنسخ جعله يقول في كتابه ما ليس مقبولاً ؛ ولهذا قال ابن الجوزي: (ومن قرأ كتاب هبة الله المفسر رأى العظائم)

– ليس لهبة الله دليل على ما ذكر إطلاقا.

– سورة الحج مدنية ؛ فجعلها ابن سلامة نازلة قبل طه والأعلى المكيتين ، والحق أن الأعلى قد نزلت قبل النجم ، والنجم قبل طه ، لكن ابن سلامة قد خلط ذلك خلطاً عجيباً ليخرج بقصة غير معقولة ولا مقبولة ولا دليل عليها

فك الارتباط بين قصة الغرانيق ورجوع المهاجرين من الحبشة :-

ربطت بعض الروايات بين قصة الغرانيق ورجوع المهاجرين من الحبشة وإلى هذا أيضا ذهب كثير من كتّاب السير والمفسرين ، إلا أن بعض الكتّاب المعاصرين قد اعترض على ذلك وذكر أن سبب عودة المهاجرين إنما كانت لإسلام عمر بن الخطاب أو بسبب الفتنة التي وقعت في الحبشة وخوف زوال ملك النجاشي الذي كان يحمي المسلمين ، وهذه الآراء تحتاج لمناقشة ، وتفصيل ذلك كالآتي:

أولا: رجوع المسلمين بسبب إسلام عمر ابن الخطاب فيه نظر ؛ وذلك للآتي:-

– أسلم عمر بن الخطاب في ذي الحجة من السنة السادسة من البعثة وقد رجع المسلمون من الحبشة في شوال في السنة الخامسة من البعثة ؛ فبين رجوع المسلمين وإسلام عمر نحو سنة وشهر أو شهرين ، ومعلوم أن إسلام عمر كان بعد نزول سورة طه ، وسورة النجم نزلت قبل طه.

– شذ ابن الجوزي وذكر أن إسلام عمر كان في السنة الخامسة وإذا صح ذلك جدلاً لم يكن من المقبول رجوع المسلمين لأجل إسلام عمر رضي الله عنه ؛ فإذا صح ذلك فإن عمر وقد أسلم فما المبرر لرجوعهم إلى الحبشة مرة أخرى.

– ما يحكى عن قوة عمر الخارقة وشدته التي تفوق التصوّر حتى يشكل حماية لكل المسلمين أمر لا يتقبله العقل ؛ وقد كان في المسلمين من هم في قوته وشجاعته ، إذ أن منهم من كان يتصدى له ، وقد هدّد حمزة بن عبد المطلب أن يقتله بسيفه “أي بسيف عمر نفسه “إن أراد شراً بالمسلمين ، وكذلك أخذه رجلان من المسلمين عندما جاء ليسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم أرسلوه ، كل ذلك فضلاً عن وجود النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بين المسلمين ، فليس بمعقول عند الباحث اختزال قوة المسلمين في عمر رضي الله عنه أو اختزال فضل عمر رضي الله عنه في قوته

– أعز الله تعالى الإسلام بعمر رضي الله عنه ليس لقوته البدنية فحسب ؛ بل لما فيه من صفات الخير الكثيرة والأخلاق ، وقد اعترضت عائشة رضي الله عنها على ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب) فقالت لقد أعز عمر بالإسلام (5) وقال عكرمة معاذ الله دين الإسلام أعز من ذلك ، ولكنه قال : أعز عمر بالدين

– لا يتصور أن رجلاً واحداً مهما بلغ من القوة أن يرجع له القوم من ناحية ، ثم إن بطش عمر وقوته وشدته وشجاعته لم يكن المسلمون في حاجة إليها في حمايتهم آنذاك ؛ لأن الجهاد لم يشرع بعد من جهة أخرى.

ثانيا : رجوع المسلمين بسبب الفتنة التي وقعت بالحبشة فيه أيضاً نظر ؛ لأن الله تعالى قد ثبّت ملك النجاشي والمسلمون في الحبشة ، وقد شهد الواقعة ابن الزبير وأتى بخبر انتصار جيش النجاشي من الشاطئ الآخر للنيل كما ذكر البيهقي في الدلائل وأحمد في مسنده ، وهذا يدل على أن المسلمين كانوا آمنين بأرض الحبشة ولم يكن هنالك من شيء يقلقهم حتى يرجعوا.

ثالثاً: رجوع المسلمين بسبب شائعة إسلام أهل مكة:

رغم أن الباحث يرفض رفضاً قاطعاً قصة الغرانيق إلا أن هناك أدلة صحيحة تدل على سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري والحاكم وأبو داود وابن حبان والبيهقي وأحمد بن حنبل وابن خزيمة ، وهذه الحادثة العظيمة يمكن أن تشكل تلك الشائعة فتبلغ المسلمين فيرجعون ، إلا أن هنالك أمورا تضعف ذلك أيضا؛ وذلك كالآتي :

– إن حادثة السجود هذه – عندما من يربطها بهجرة الحبشة الأولى – قد وقعت قي رمضان من السنة الخامسة وكان رجوع المسلمين في شوال من السنة نفسها و هذه فترة قصيرة جداً لا يتيسر فيها وصول الخبر إليهم ثم مجيئهم ، ولكن إذا كانت مكة قريبة من الحبشة (السودان) كما زعم العلامة عبد الله الطيب والبرفيسور حسن الفاتح قريب الله أو أرتريا كما زعم غيرهما – فإن تجاوز البحر عرضا يستغرق يومين أو ثلاثة بالريح المعتدلة آنذاك ولكن المسافة وإن كانت قريبة – فرضا – فإن شيوع الخبر حتى وصوله الحبشة وعزمهم على الرجوع وتشاورهم ثم الشروع في الرجوع يستغرق زمنا .

– الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة من البعثة ، وسورة النجم – التي وقع السجود عند تلاوتها كما في الروايات الصحيحة – نزلت بعد السنة العاشرة من البعثة أو خلالها ؛ لأنها تحكى ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه .

ولا شك أنه لا يمكن إطلاقا تفسير رجوع المسلمين دون معرفة أثر هذا الدين العظيم في نفوسهم ومعرفة أحوالهم آنذاك ، والحق أن المسلمين كانوا يحبون هذا الدين العظيم – الذي لم تكتمل شرائعه بعد – حباً شديداً ، ولم يكن يصلهم – وهم في الحبشة – ما ينزله الله من قرآن وما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام وإرشادات وتوجيهات طوال هذه الأشهر الثلاثة ؛ فتشاوروا فرجعوا ؛ خاصة وأنه كان لهم إخوان يعذّبون في مكة فآثروا العذاب ؛ بل إن بعض المسلمين بعد الرجوع دخلوا في جوار بعض المشركين فلما رأوا إخوانهم يعذّبون ردوا جوارهم وآثروا العذاب ؛ كعثمان بن مظعون الذي رد جوار الوليد بن المغيرة ، ومما يدل على أنهم لم تكن تصلهم أحكام هذا الدين أن عبد الله بن مسعود في الهجرة الثانية عندما جاء من الحبشة سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، ولم يكن يعلم أن الكلام في الصلاة قد منع كما روى البخاري والبيهقي ؛ فحب هذا الدين والرغبة في تعلمه وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان أقوى عند المسلمين من حبهم لأنفسهم فآثروا العذاب فرجعوا حتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعودوا إلى الحبشة تارة أخرى لما ازداد البطش وفاق التصوّر ، ولهذا المواقف نظائر أخرى عند الصحابة رضوان الله عليهم .

استحالة تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالغرانيق :-

رغم عدم ارتباط آية الحج بهذه القصة كما سبق ؛ إلا أن كثيراً من العلماء والمفسرين قد ربطوهما ببعضهما ، وقد ذهبت جل روايات الغرانيق إلى أن الشيطان قد تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حتى روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – وحاشاه- : (افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل وشركني الشيطان في أمر الله) وذهب الإمام الزمخشري إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سها وغلط وقال آخرون كان ناعساً وكل هذه الفظائع فيها نظر كبير ؛ وذلك للآتي:-

– الشيطان لا يستولى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يقظة ولا مناماً ولا نعاساً ، إذ أن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم هو الذي له سلطان على الشيطان لا العكس ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ) وإذا لم يكن للشيطان سلطان على الذين آمنوا فمن باب أولى أن لا يكون له سلطان على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سُلّط على الشيطان لا الشيطان قد سُلّط عليه، إذ أعانه الله على قرينه فأسلم كما روى مسلم وأحمد ، وهو قد كاد يخنق الشيطان ويربطه بسارية في المسجد كما روى البخاري ومسلم

-رفض القرطبي وابن عادل رفضا قاطعا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ناعسا أو ساهيا فيتكلم بالغرانيق ؛ وقد ذهب القرطبي إلى أن ضعف الحديث مغن عن كل تأويل ، وذهب ابن عادل أنه إذا جاز عليه السهو في هذا الموضع لجاز عليه في مواضع أخرى وحينئذ تزول الثقة عن الشرع ، وهو لو سها فرضاً – وهذا محال – فإنه كان سوف يصحح ذلك

– ذهب ابن حزم إلى أن تلك الروايات التي تذكر أن الشيطان تكلم بلسان النبي صلى الله عليه وسلم كذب محض ، والكذب لا يعجز عنه أحد

– كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدر أن ذلك من الشيطان حتى عرّفه جبريل فأمر في غاية البعد والاستحالة والشذوذ ، وقد رفض ابن العربي ذلك وذهب إلى أن حثالة أمة النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون أن ذلك ليس بقرآن فلا يمكن بحال أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه

– كون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك عمداً ليتقرب إلى قومه ويجذبهم إلى الدين هو أبعد الأقوال وأشنعها وأكثرها بطلاناً ، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفنى عمره في الدعوة إلى التوحيد وهو لا يجامل في ذلك أحدا ولا يخاف لومة لائم ولا عداوة عدو ، وكسب رضا الله عنده كان أكثر أهمية بكثير من رضا أعدائه .

ولما كان الأمر كذلك فإن هنالك طريقين لهذه القصة – إن فرضنا وقوعها – هما:-

– الأول أن يكون الشيطان هو الذي تكلم بين الآيات وحاكى نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بين السكتات بعد الفواصل كما قال أكثر العلماء ، وقد ضعف الرازي ذلك

– الثاني أن يكون الشيطان قد ألقى للمشركين بتلك العبارات دون أن يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في تلك اللحظة ، فالأمر بين الشيطان والمشركين ولا علاقة له البتة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المسلمين وقد وردت روايات تؤيد هذا الاتجاه

ورغم أن القائلين بالرأي الأول هم أكثر العلماء إلا أن الباحث يرجح الرأي الثاني كما سيأتي.

الأمر كان بين الشيطان والمشركين ولا علاقة له بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بآية النجم :-

ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام وياقوت الحموي وابن حجة الحموي أن قريشاً كان تطوف بالبيت وتقول:

واللات والعزى

ومناة الثالثة الأخرى

تلك الغرانيق العلا

منها الشفاعة ترتجى

فنزلت آية النجم تذم الأصنام

ومن الممكن أن يكون الله تعالى قد ذم الأصنام بأول تلك العبارات نفسها التي كانوا يمدحون بها أصنامهم ؛ خاصة وأنه أشهدهم في أول الآية بقوله (أفرأيتم) وهو استفهام معناه التقرير والتهكم التوبيخ ؛ فألقى الشيطان في قلوبهم بقية العبارة ؛ فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غيّر موقفه من آلهتهم المزعومة أو قد يكونون قد اختلقوا ذلك وأسمعوه بعضهم ، لكن المهم إذا صح ذلك هو في أي وقت جاءت هذه العبارة على لسان الشيطان؟ وما هو هذا الشيطان ؟ وكيف قالها هذا الشيطان ؟.

سبب سجود المشركين :-

بمعزل عن روايات الغرانيق فقد جاء في الروايات الصحيحة أن المشركين قد سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم ، وذهب الالوسي إلى أنهم سجدوا خوفاً ، إذ أن في سياق السورة تهديد شديد وذكر سيد قطب أنهم سجدوا إعجابا ببلاغة القرآن وسحر البيان الذي سلب ألبابهم وأخذ بأفئدتهم ، وذكر سليمان بن عبد الله أنهم سجدوا لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ما يقولون ، ومن الممكن أن يجتمع لدى المشركين الخوف والإعجاب والوهم فيقوى الإحساس بذلك ثم يقودهم إلى تقليد النبي صلى الله عليه وسلم في السجود ، ولهذه الاستجابة من المشركين تجاه القرآن نظائر أخرى، وبذلك يمكن أن تحمل الروايات الضعيفة إلى تلك الصحيحة فيستقيم معناها ؛ خلافاً لمن حاول حمل الصحيح على الضعيف ابتغاء للفتنة وابتغاء تأويل الصحيح .

ولهذا يتصور الباحث القصة كالآتي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) ، أي: ما تعرفونه من أصنامكم نحو اللات والعزى ومناة فشابه صدر الآية ما يقولون في الجاهلية ألقى الشيطان بقية ما كان يقولون من كلام ، وهذا الشيطان إما أن يكون إنساناً كالنضر ابن الحارث أو ابن الزبعري أو جاناً ، والشيطان يكون من الإنس والجن كما ذكر القرآن : (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) وبهذا يكون هنالك طريقان :-

1- إذا كان الشيطان إنساناً فمعلوم أنه كان للمشركين لغط وصياح وضجيج عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن لإخفاء هذا القرآن باللغو ؛ فلما سمع أحدهم (شيطانهم) صاح ببقية قول الجاهلية ، وقد ضعف الرازي هذا الوجه ، إذ لو وقع ذلك لصححه النبي صلى الله عليه وسلم في الحال ولنقل إلينا تصحيحه ، وهذا وجه معقول مقبول إذا كان في غير وجود النبي صلى الله عليه وسلم .

2- إذا كان الشيطان المقصود من الجن فإنه يوسوس للمشركين ببقية ما كانوا يقولون ففي رواية موسى بن عقبة أن الكفار قد سمعوا ذلك ولم يسمعه المسلمون ؛ مما يدل على أن الوسوسة كانت في صدور الكافرين فحسب ، وقد ضعف الرازي هذا الوجه أيضا

والحق أن عبارة الغرانيق لم تكن سبباً لسجود المشركين ؛ بل كان السجود هو سبب العبارة ؛ إذ يرى الباحث أن أولى التصورات بالقبول وأقربها إلى الحقيقة ؛ هي : أن شيطان المشركين”أحدهم” الذي قال عبارة الغرانيق لم يقلها في لحظة تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اختلقها فيما بعد فركّب عبارة الجاهلية في القرآن حتى يبرر موقفا معينا ، والنفس البشرية المعاندة المغلوبة على أمرها تميل إلى كل ما يبرر فعلها كما هو شائع ؛ ولهذا ذهب ابن عاشور والمباركفوري إلى أن ابن الزبعري أو غيره من السفهاء قد حاول إيجاد معذرة لهم عند قومهم في سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فعمدوا إلى تلك الآية التي ذكر فيها اللات والعزى ومناة فركّبوا عليها تلك الكلمات لتبرير موقفهم من جهة ولإلقاء الفتنة بين الناس من جهة أخرى ، هذا طبعا إذا صحت القصة كلها ابتداء.

خاتمة :-

ذهب كثير من العلماء إلى أن الروايات التي تحمل قصة الغرانيق روايات واهية ومرسلة لا أصل لها ، وذهب ابن حجر إلى أن لها أصلا ، ولكنها تحتاج إلى تأويل مختلف ، وقد ذهب الألباني في الرد عليه إلى أن قاعدة تقوية المراسيل بكثرة الطرق ليست على إطلاقها ، وليست مضطردة.

وقد ذهب كثير من العلماء إلى بيان كيفية وقوعها – لو كانت قد وقعت فرضا – وذهب الباحث إلى أن هذه القصة لا علاقة لها بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بآية سورة الحج ولا بآيات سورة النجم ولا بآية سورة الإسراء ولا بآية سورة الزمر ولا بآية سورة القصص ولا بآية سورة طه ولا برجوع المهاجرين من الحبشة ولا هي آيات منسوخة التلاوة ولا هي بالصحيحة في نفسها.

وإذا كانت هذه الحادثة قد وقعت فرضا فينبغي أن تحمل على الروايات الصحيحة في ذلك ؛ نحو رواية البخاري والحاكم وأبي داود وابن حبان والبيهقي وأحمد بن حنبل وابن خزيمة ؛ حيث روى هولاء الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ سورة النجم وسجد في آخرها “سجدة تلاوة” فسجد معه المشركون ، وبذلك يبدو واضحا للباحث أن المشركين قد حاولوا تبرير سجودهم لقومهم بعد خروجهم من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فركّبوا في الآيات ما كانوا يقولونه في الجاهلية في أصنامهم ، ولهولاء المشركين كثير من الافتراءات والأكاذيب والحيل في محاولة إطفاء نور الله تعالى ، ولا يكاد الباحث يتصور شكلا آخر للقصة لو وقعت ، رغم أقوال العلماء الكثيرة في ذلك .

المصادر والمراجع :-

1- الألباني: محمد ناصر الدين ، نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ط/3 المكتب الإسلامي ، بيروت سنة 1996م.

2- الألوسي محمود أبو الفضل ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت (د.ت)

3-الإيجي : عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد ، المواقف تحقيق عبد الرحمن عميرة ، ط/ 1دار الجيل ، بيروت ، سنة 1997م،

4- البخاري: محمد بن إسماعيل:صحيح البخاري “الجامع الصحيح المختصر” ، تحقيق مصطفى ديب البغا ، ط/ ط/3 دار ابن كثير ، بيروت، سنة 1407هـ – 1987م.

5- البغدادي :عبد القاهر ، الفرق بين الفرق ، ط/2 دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، سنة 1977م

6- البغوي : الحسين بن مسعود : معالم التنزيل ، تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرون ، ط/4 دار طيبة للنشر والتوزيع، سنة 1997 م

7- البيهقي : أحمد بن الحسين : سنن البيهقي الكبرى ، تحقيق محمد عبد القادر عطا ، ط/ مكتبة دار الباز ، مكة المكرمة ،سنة 1414 هـ – 1994م

8- الترمذي: محمد بن عيسى ، العلل الصغير ، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون ، ط/ دار إحياء التراث العربي بيروت

9- التفتازاني : سعد الدين مسعود بن عمر ، شرح المقاصد في علم الكلام ، ط/دار المعارف النعمانية باكستان،سنة 1981م

10- الثعالبي: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف ، الجواهر الحسان في تفسير القرآن “تفسير الثعالبي” ط/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ،بيروت(د.ت)

11- الثعلبي : أحمد بن محمد بن إبراهيم : الكشف والبيان ، تحقيق محمد بن عاشور ، ط/1 دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1422 هـ ، 2002 م

12- ابن الجوزي: عبد الرحمن بن علي نواسخ القرآن ، تحقيق محمد أشرف علي المليباري، ط/ الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة 1404هـ ، 1984م

13- الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت، سنة 1990م

14- الحاكم محمد بن عبد الله المدخل إلى كتاب الإكليل تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد ط/ دار الدعوة الإسكندرية

15- ابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، ط/ 2 مؤسسة الرسالة ، بيروت، سنة 1414 – 1993م

16- ابن حجر : أحمد بن علي ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ط/دار المعرفة – بيروت ، سنة 1379

17- ابن حزم الظاهري: علي بن أحمد بن سعيد الفصل في الملل والأهواء والنحل ،ط/ مكتبة الخانجي ، القاهرة، (د.ت)

18- الحلبي :علي بن برهان الدين السيرة الحلبية، ط/ دار المعرفة، بيروت،سنة 1400هـ

19- ابن حنبل: مسند الإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، ط/ مؤسسة قرطبة ، القاهرة، (د.ت)

20- الحموي ، ابن حجة ، خزانة الأدب ، تحقيق عصام شعيتو ،ط/ دار ومكتبة الهلال ، بيروت 1987م

21- الحموي ، ياقوت ، معجم البلدان ،ط/ دار الفكر ، بيروت (د.ت) .

22- أبو حيان الأندلسي: محمد بن يوسف: تفسير البحر المحيط ، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمد معوض ، ط/دار الكتب العلمية ،بيروت، سنة2001م

23- الخازن :علي بن محمد بن إبراهيم ، التأويل في معاني التنزيل ،ط/ دار الفكر ، بيروت ، سنة 1399 هـ – 1979 م

24- ابن خزيمة: محمد بن إسحاق : صحيح ابن خزيمة ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي ، ط/ المكتب الإسلامي ، بيروت ،سنة 1390 هـ – 1970م

25- أبو داود : سليمان بن الأشعث السجستاني: سنن أبي داود ، ط/ دار الكتاب العربي (د.ت).

26- الرازي ، فخر الدين: محمد بن عمر، مفاتيح الغيب ، ط/1 دار الكتب العلمية – بيروت ، 1421هـ – 2000 م

27- الزَّبيدي : محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق تاج العروس من جواهر القاموس ط/ دار الهداية ( د.ت)

28- الزمخشري: محمود بن عمر ، تحقيق عبد الرزاق المهدي ، ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت

29- أبو السعود : محمد بن محمد العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ، ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت

30- ابن سلامة: هبة الله ، الناسخ والمنسوخ ، تحقيق زهير الشاويش و محمد كنعان ، ط/1المكتب الإسلامي ، بيروت ، سنة 1404هـ

31- السمرقندي : نصر بن محمد بن إبراهيم : بحر العلوم ، تحقيق محمود مطرجي ، ط / دار الفكر ، بيروت (د.ت)

32- السمعاني ؛ أبو المظفر: منصور بن محمد بن عبد الجبار تحقيق ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عباس بن غنيم ، ط/دار الوطن – الرياض ، سنة 1418هـ- 1997م

33- ابن سيده : علي بن إسماعيل ، المخصص ، تحقيق خليل إبراهم جفال ، ط/1 دار إحياء التراث العربي – بيروت 1996م

34- السيوطي ، جلال الدين: عبد الرحمن بن أبي بكر الدر المنثور ، ط/ دار الفكر ، بيروت ،سنة 1993م

35- الشنقيطي : محمد الأمين بن محمد بن المختار : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، ط/ دار الفكر ، بيروت ، سنة 1415 هـ- 1995م

36- الصالحي: محمد بن يوسف سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ، ط/1دار الكتب العلمية بيروت، سنة 1993 م

37- الطبراني: سليمان بن أحمد المعجم الكبير ، تحقيق حمدي بن عبدالمجيد السلفي ، ط/2 مكتبة العلوم والحكم ، الموصل ، سنة 1404هـ – 1983م

38- الطبري : ابن جرير :

أ- تاريخ الأمم والملوك ، ط/1 دار الكتب العلمية ، بيروت سنة 1407هـ

ب- جامع البيان ، تحقيق أحمد محمد شاكر ط/ 1 مؤسسة الرسالة ،سنة 2000 م

39- ابن عادل الدمشقي : عمر بن علي ، اللباب في علوم الكتاب، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ، ط/1 دار الكتب العلمية سنة 1419 هـ -1998م

40- ابن عاشور: محمد الطاهر: التحرير والتنوير ، ط/ دار سحنون للنشر والتوزيع ، تونس ، سنة 1997 م

41- ابن عطية الأندلسي : عبد الحق بن غالب : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد ، ط/1دار الكتب العلمية بيروت ، سنة 1413هـ ـ 1993م

42- العمري ، أبو مايلة: بريك بن محمد ، السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة تحقيق أكرم ضياء العمري ط/1دار ابن الجوزي سنة 1996 م

43- عياض اليحصبي الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء للشمنى ط/ دار الفكر للطباعة والنشر بيروت 1988 م

44- القرطبي : محمد بن أحمد بن أبي بكر : الجامع لأحكام القرآن ، تحقيق هشام سمير البخاري ، ط/ دار عالم الكتب ، الرياض ، سنة 1423 هـ/ 2003 م

45- القمي ، نظام الدين: الحسن بن محمد بن حسين ، غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، تحقيق الشيخ زكريا عميران ، ط/1 دار الكتب العلمية – بيروت ،سنة 1996 م

46- ابن كثير ، سيرة ابن كثير، تحقيق مصطفى عبد الواحد ط/دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت سنة 1971 م

47- الكشميري، ابن معظم شاه العرف الشذي شرح سنن الترمذي تحقيق محمود أحمد شاكر ، ط/1 مؤسسة ضحى للنشر والتوزيع

48- ابن الكلبى ، الأصنام ، تحقيق أحمد زكى ط/ الدار القومية للطباعة والنشر

49- الماوردي : علي بن محمد : النكت والعيون ( تفسير الماوردى ) ، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت ، (د.ت)

50- المباركفوري :عبد الرحمن بن عبد الرحيم: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، ط/ دار الكتب العلمية – بيروت(د.ت)

51- المباركفوري : عبيد الله بن محمد عبد السلام ، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، ط/ الجامعة السلفية ، بنارس الهند ، سنة 1984م

52- مقاتل بن سليمان : تفسير مقاتل ، ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت ، سنة 1424 هـ – 2003 م

53- النعيم : عبد الله محمد الأمين ، الاستشراق في السيرة النبوية ط/ المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، فيرجينيا 1997م

 

 

د. جمال الدين عبد العزيز شريف

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 + 10 =