9928d

تمهيد:
لم أكن لأعلق على ما ورد من حوارات أركون في موقع جدل قصدت آخرها المنقول عن الحياة لو لم أجد فيه الجواب الشافي عن سؤال كان موضع حيرتي: سؤال السر في نفاق الكاسد من بضائع الغرب في ما يشبه سوق الثياب المستعملة أو ما يوصف بكونه الساحة الثقافية التنويرية العربية التي تمثلها ملاحق الجرائد المقيمة والمهاجرة على حد سواء. والجواب يقبل التلخيص في كثير من النقاط سأقتصر على ثلاث منها معتمدا تحليلا سريعا لخطاب أحد نجوم هذه السوق الكاسدة. فلا أحد في الغرب يبالي بهذه الأصوات بعد أن تحرر من وهم التنوير والتحديث لما علم من نكباتهما في أوروبا نفسها فضلا عما لحق بالعالم منهما بشره وحجره:
النقطة الأولى: الضحالة المنطقية لخطاب أركون فضلا عن التخلف الفكري بالقياس إلى النموذج المقدم إذا سلمنا بأن التنوير الغربي لا يزال مثالا أعلى يدعى إليه:
فالجواب حول “علمنة الحضارة العربية الإسلامية رغم أنفها” خال من التناسق المنطقي بإطلاق. وهو خطاب لا يقبل به أي متعلم-له بقواعد المنطق الدنيا معرفة مهما كانت سطحية حتى لو كان متنورا تنور المتكلم وتنور الأعلام الذين ذكرهم أمثلة من التنوير الذي يدعو إليه-إذا كان فعلا يعي ما يقول. فالرجل لا يفسر حصول العلمنة في العمران البشري من حيث هو عمران كما يفعل ابن خلدون مثلا بصيرورة كونية للعقل الإنساني أو للضمير الخلقي الإنساني أو للمؤسسات الدستورية الإنسانية تسليما جدليا بوجود مثل هذه الأشياء بل هو يفسر حصولها في فرنسا بتاريخ المؤسستين الغربيتين اللتين يسميهما الشرع الروماني والشرع الكاثوليكي. وهذا الكلام يتضمن مقدمتين تاريخية وفلسفية:
المقدمة التاريخية: ما حصل في فرنسا له أسباب خصوصية ذكرها في النص عند وصف حصول العلمانية في فرنسا.
المقدمة الفلسفية: لا شيء يحصل في التاريخ من دون أسباب موضوعية وهو ما عبر عنه بفقدان العرب للوعي بهذه الحقيقة التي يريد أن يقنعنا بأنه يستعملها ليفسر بها ظاهرات العمران.
ما يترتب على المقدمة التاريخية:
النتيجة الأولى أن يعتبر العلمنة بالشكل الفرنسي أمرا ذا خصوصية تاريخية يصعب نقله بنفس الشكل.
النتيجة الثانية أن يعتبر محاوليها مخطئين ومن ثم أن يحملهم فشل العلمنة الكونية التي ليست بالضرورة على الشكل الفرنسي اللهم إلا إذا كان يتصور تاريخ فرنسا تاريخا كونيا ينبغي أن تخضع له كل الحضارات.
ما يترتب على المقدمة الفلسفية:
النتيجة الأولى ألا يفسر عسر العلمنة في الوطن العربي بإرادة من يتهمهم بالظلامية بل بأسباب تاريخية موضوعية كذلك اللهم إلا إذا كان التاريخ عنده يحصل بمجرد الأماني والقصود الاختيارية: فالمفروض فيمن يزعم الكلام التاريخي العلمي ويكثر من تسمية العلوم المنجية ذات العناوين الرنانة دون تجاوز العناوين أن يلتزم بالموقف العلمي فلا يفسر التاريخ بمجرد التمني.
النتيجة الثانية وأن ينتهي إلى عكس ما فعل أي أن يتهم من يصفهم بالتنويريين لتجاهلهم المحددات التاريخية قفزا عليها واقتصارا على التقليد البليد لكأن التاريخ يعمل بالتمني: فهل نحن ظلاميون لأننا لم نقبل أن نتفرنس مثل البعض ممن خلب لبهم المثال الفرنسي إلى حد اعتناقه في لحظات التاريخ العصيبة؟
لكن الأستاذ أركون بعكس المنتظر يستعمل مفردة الاستنتاج “إذا” من مقدمتين تقتضيان منطقيا عكس ما توصل إليه فاستنكر على المسلمين عدم العلمنة بشكلها الفرنسي متهما من يولون أهمية للتاريخ الموضوعي لحضارتهم ويريدون أن يعملوا التاريخ بالانطلاق من محدداته الفعلية بالظلامية وممتدحا القافزين على الخصوصيات حلما بنقل الجزائر مثلا إلى الضفة الشمالية كما حلم المرحوم طه حسين في دعواه حول مصر الأوروبية.
هل إطلاق تاريخ فرنسا اليعقوبية ذات النموذج الذي لم يتعد حدودها حتى في أوروبا نفسها التي رفضت الثورة الفرنسية وفضلت العلمانية على اللائكية بسبب موضوعي هو كونها حققت الإصلاح الديني (الذي هو نسخة باهتة ومحرفة من الإصلاح الديني المحمدي) تفكير سوي؟
أليس المسلمون والسنة على وجه الخصوص (لأن الشيعة لا يختلفون كثيرا عن الكاثوليك) قد حققوا العلمانية كما يفهمها غالبية الأوروبيين الذين تحقق عندهم الإصلاح الديني فأغناهم عن الثورة الفرنسية واللائكية كما حصل في ألمانيا وأنجلترا: أعني كما فهم هيجل ذلك إذ صارت قيم الدين معيار عمل المؤسسات الفعلية ولم تبق مجرد ماورءا متعال فأصبحت من ثم ذات وجود دنيوي حقيقي وتلك هي علة الاشتقاق من العالم-وكان من المفروض أن يكون من الدنيا كما هي دلالة كلمة فلت الألمانية-دون أن يكون ذلك مستندا إلى حكم يدعي فيه الحاكم الحق الإلهي لأن ما هو إلهي هو مبادئ الشرع وقيم الجماعة القيم التي يحتكم إليها بين الناس وحتى بين الحكام والمحكومين.
أما التعريض بقصور اللغة العربية أو الترجمة على أداء معنى اللائكية كما يتبين من استعمال كلمة علمنه فلا يمكن التعليق عليه لأن مثيره لم يحدد فيم يتمثل القصور. ولو ترجمت الكلمة كما ينبغي لكان ينبغي أن نقول “لاييك = عامي” في مقابل خاصي صفة لرجل الدين الذي كان متعلما: فاللاييك هو الذي ليس له ثقافة دينية أو الذي ليس هو من رجال الدين ولذلك نفس المعنى لأنهم كانوا الوحيدين المتعلمين أو يكادون حينما قوبل هذا الإسم باسم رجال الكنيسة. وهذا الوصف أصح وصف للعلمانيين: فهم الأميون العرب الذين يتصورون عناوين العلوم علوما وأسماء الكتب ثقافة وشعارات التحديث حداثة خاصة عندما يصبح الباحثون في التاريخ والأدب فلاسفة تاريخ وعلماء حضارة ويزعمون وضع نظريات في الإسلاميات المطبقة بوصفها علم أمراض الحضارة الإسلامية.
لم يفهم أصحاب مثل هذه الثرثرة بعد أن الحداثة –إن سلمنا بضرورتها وهو ما لا معنى له إلا المفهوم الإيديولوجي المخمس الذي استعمله هيدجر مشترطا فيه عاملا أساسيا هو تسميح العالم مع أربعة مقومات هي التقنية والعلم والثقافة من حيث هي سياسة والفن من حيث هو تلذذ فردي- لا يمكن أن تحصل إلا من رحم الدين لأنها بالأساس بنت الإصلاح الروحي في كل الحضارات وهي تصبح مرض الحداثة عندما تخرج عن هذا الإطار كما حصل للحداثة الغربية التي انتهت إلى الداروينية الاجتماعية والتاريخية حيث بات الإنسان خاضعا لقانون التاريخ الطبيعي ومنفلتا من التاريخ الخلقي.
لذلك فهؤلاء المثرثرون هم السبب الحقيقي للأزمة وليس من يتهموهم بالظلامية: إذا بنيت قصورا على الرمل فلا تعجب من تساقطها بل ينبغي أن تفرح لذلك إذ كلما تأخر سقوط مثل هذه القصور كانت النكبة أكبر. التحديث القسري هو سبب الفشل وليس التطور الذاتي للأخلاق العامة التي هي دائما منبع كل تحديث فعلي إذا كان القصد التحرر المتدرج وخاصة في مجال الشرائع: فلا يمكن لأي قانون أن يكون مطاعا إذا لم ينبع من أرضية الأخلاق العامة للأمة التي يشرع لها ذلك القانون اللهم إلا إذا بات القانون مشروطا بالاستبداد المطلق الذي يضع أمام كل مواطن ووراءه شرطيا لفرض هذا القانون غير النابع من الأخلاق العامة أو ما يسمى بالمعروف والمنكرSittlichkeit
النقطة الثانية: التزيين اللفظي الذي يفضح عند التمحيص كما تلحصه هذه الجملة في جواب المحاور الثاني. فهي تفضح مقصوده دون علمه:
السؤال: “غياب العلمنة هو معطى بنيوي داخل الفكر العربي والإسلامي، لكنه ليس ميزة خاصة بمسار مجتمعاتنا”.
أولا الكلام عن غياب العلمنة يضمر أن المرء يتكلم عن شيء كوني خلا منه فكرنا لعطل بنيوي فيه ومسار مجتمعاتنا منه براء. لكن الجملة كان ينبغي أن تتخلص من الإضمار بمجرد تدقيق المقصود بالعلمنة كما تكلم عنها المجيب هو نفسه. فتصبح الجملة “غياب العلمنة بالمعنى الفرنسي إلخ…”
ثانيا الفصل بين بنية الفكر ومسار المجتمع تضمر أن التمييز بين الأمرين يمكن أن يذهب إلى حد الفصل بينهما فصلا يصبح فيه الفكر العربي الإسلامي أقل تناسقا مع المجتمع العربي الإسلامي من العلمنة الفرنسية. فيكون مدلول الكلام:”بنية الفكر العربي الإسلامي غير العلمانية هي العائق أمام مسار مجتمعاتنا نحو العلمنة”. وعندئذ يصبح مدلول الخطاب: لو كلفنا من تفرنس منا لقيادة فكرنا لصار فكرنا قابلا للعلمنة ولتطورت مجتمعاتنا. والنتيجة المنطقية لهذا الكلام: فليعد الاستعمار حتى يتم مهمة تحضيرنا.
وقد لا نحتاج إلى عودة المستعمرين (اسم فاعل) بل يكفي أن نعوضهم بالمستعمَرين الذي تخلصوا من بنية الفكر العائق أعني الذين صار فكرهم مثل فكر المستعمرين. وحاصل القول إن الأستاذ أركون يريد أن يقول: اعطوني القيادة الفكرية وسأعلمنكم ألا فرنساز.
النقطة الثالثة التبني الصريح في السؤال كما في الجواب لمنظور اليمين الجديد في أمريكا فضلا عن تبني النظرة الاستعمارية كما يتبين من السؤال الثالث وجوابه:
فالسؤال بصيغته التالية: “هل إن العبور إلى العلمنة يؤدي حتماً إلى إلغاء علم اللاهوت لمصلحة علم الانتروبولوجيا؟ ” يعني إذا كان صاحبه يدرك ما يقول ما يلي عند ترجمته عربيا إسلاميا: هل العلمنة تعني الانتقال من علم الكلام الإسلامي في الذات الإلهية إلى علم الكلام المسيحي في الذات الإنسانية ؟ وهذا مدلوله لمن له دراية بالفكر الغربي الحديث: تمسيح العالم عن طريق جعله يقول بأن الله حل في الإنسان رمزا إلى ذلك بحلوله في المسيح ابنه.
فتكون العلمنة ليست شيئا آخر غير تحقيق المسيحية في التاريخ كما يراها هيجل ولكن بمعنى تعين الروح المطلق في روح الشعب الأوروبي آخر تعينات الروح وليس بمعنى الاستخلاف حيث يكون الإنسان مجرد إنسان لم يحل فيه الله ومن ثم لن يتخذ البعض البعض أربابا كما نبهت آل عمران: الحداثة التي يدعونا إليها المحاور هي إذن تمسيح العالم أو علمنته بمعنى تحقيق قيم المسيحية في التاريخ الذي بلغ نهايته التي هي الروح الغاية لتعين المطلق.
ونتيجة هذه الدعوة هي تماما عين ما يدعو إليه بوش: واجب أصحاب الحداثة والتنوير أن يحرروا العالم من العائق الوحيد أمام تمسيحه أي البنية التي وصفها المحاور بكونها معارضة للعلمنة وهذه البنية هي البنية التي ترفض حلول الله في الإنسان حتى لو كان المسيح ابن مريم فضلا عن بوش الذي يجالس الرب فيأتمر بأمره في غزو العالم الإسلامي لتحضيره وعلمنته رغم أنف أهله.
لكن الجواب كان أوضح من السؤال: فهو قد أشار إلى ترجمة هذا العائق في ما يعد فرعيه الممثلين للخطر الذي يتهمه بوش بتهديد الحضارة بالبربرية:
1- التكاثر النسلي
2- والإرهاب
وقد صاغهما المحاور كما يلي: ” ولكن على رغم اندفاع معظم المجتمعات البشرية في هذا الاتجاه الذي يقود إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من إنسانيتنا، ينشغل العرب بالتعبيرات الطقوسية المختلقة لديانتهم. من المحزن أن نرى شعوبنا العربية تسجّل نسبة نمو ديموغرافي مخيف بلا أي تثقيفٍ حقيقي يبيّن لها خطر العيش داخل روحانية لم يعد فيها الإنسان موجوداً إلا كفرد يُختصر دوره بالنزول إلى الشارع لصرع عدو أو لقلب نظامٍ. هذا كل ما نعرف القيام به”.
1- انشغال العرب بطقوس دينهم هو العائق = الدين الإسلامي
2- التكاثر المفرط أو النمو الديموغرافي المخيف (مخيف لمن؟ لإسرائيل مثلا ؟).
3- فرد يختصر دوره بالنزول إلى الشارع لصرع عدو (المقاومة=الإرهاب؟)
4- قلب نظام (رفض الطغيان الذي ينصبه الغرب=انقلاب على الديموقراطية ؟).
الخاتمة
تكفي هذه النقاط الثلاث ليشكر المرء الجريدة الناشرة والموقع الآخذ مثل هذه الأفكار الدالة على سذاجة أصحابها وحسن ظن القراء بهم لاقتصارهم على دلالة السطح من النص. لكن فضح ضمائر مثل هذا الخطاب يبقى من واجب كل القراء. ولست بهذا التحليل أتهم النوايا وإنما أسأل لأذكر إذ إن الذكرى تنفع المؤمنين خاصة والقراء العرب في المشرق العربي قد يكون ذهنهم خاليا من خلفيات مثل هذا الدعوات التي عانينا منها نحن أبناء المغرب العربي لمساسها بأعمق ما في ذواتنا: التحديث القسري وما يؤدي إليه من صدوع تتجاوز ما عانت أوروبا نفسها منه حتى في شكله الأقل قسرا.

2010

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + 1 =