ابن تيمية و حصان طروادة المغاربي .. أبو يعرب المرزوقي نموذجا
ابن تيمية و حصان طروادة المغاربي
وحقيقة الأمر.. أن هؤلاء قد اتفقوا على الأمة, فقرروا خلع أنيابها, وكسر حربتها, وتقليم أظافرها, وكل ذلك بهدوء, ودون إحداث ضوضاء, ومن خلال التراث نفسه, وذلك بفض العلاقة الحميمة التي بين التيار الإسلامي وبين “إحياء التراث”, ثم بعد ذلك يتم, من خلال التراث نفسه, “سلب خاصية النفي في الفكر الإسلامي على مستوى الحركة وعلى مستوى الفكر”, والذي نعنيه بخاصية النفي تلك..
“أن شهود الإنسان للحق لا يكون بشكل مباشر, بل بسلب الإنسان معنى الحق عن كل ما هو باطل, أي أن الحق هو أساسا موقف من الباطل, يتمثل هذا الموقف في سلب الألوهية عما سوى الله, ثم إن هذا الموقف من الباطل له تمثلات تختلف بحسب تمثلات الباطل, فمن حيث مباشرة الباطل للإنسان, فالإسلام هو التبرؤ منه, ومن حيث أن الباطل يختلق لنفسه قيمة يدعم بها وجوده, فالإسلام هو الاستعلاء عليه بالحق, ومن حيث هو موجود بالفعل, فالإسلام هو محاولة إفناؤه, ومن حيث هو متمثل إنسانيا, فمآل الصراع معه هو القتال”
يبدو التباين بين تلك الفئة وبين التيار الإسلامي العام من خلال الموقف من الغرب, ففي الوقت الذي أصبح التيار الإسلامي يشكل الخطر الأكبر على الحضارة الغربية, والبديل المطروح بقوة أمامها, والإمكانية الوحيدة للإنسانية لمفارقة تلك الحضارة, فإن تلك الفئة لم تدخر جهدا في البحث عما هو إنساني ومشترك بيننا وبين الغرب, ويعبثون بكل أساس فكري للصراع المتحتم بيننا وبينهم, ينقبون عن قيمهم عندنا, ويفتشون عن قيمنا عندهم. يفصلون بين “روح الحداثة” وبين شكلها الغربي, حتى يألف الناس فكرة الحداثة, فتكون معبرا لنا إليهم, ويجاهدون في العثورة على “إرهاصات حداثوية في التراث” حتى تكتمل المهمة. ويعتبرون كل مواجهة مسلحة مع الغرب هي “غباء سياسي”. المهم أنهم على النقيض تماما مع التيار الإسلامي فيما يخص عنصر النفي الذي أشرنا إليه, والذي هو الاستعلاء والمفاصلة والاقتتال, والذي نؤكد دائما أنه روح الحركة الإسلامية وجوهر وجودها.
* * *
عندما ذكرت أنا أحدهم كنموذج, وهو “أبو يعرب المرزوقي”, وذلك في الحوار المشار إليه في أول المقالة.. لم تكن الصورة مكتملة في ذهني عن أبعاد تلك الفئة, ففكرت في أن أمر انتقاد هذا الرجل المستمر للإسلاميين, إنما هو مرض أخلاقي متعلق بالكبر وحب الظهور كمفكر متميز, أو هو جبن عن تحمل الضغط النفسي الموجه ضد كل من يصرح بانتمائه الروحي لهذا التيار, فتنصل منهم كعادة “الأبطال المشاهير”, وظننت أن أمر إعادة تقديمه ابن تيمية للإسلاميين.. هو مجرد “بيع للمياة في حارة السقائين” كما ذكرت في الموقع المذكور, وظننت أن الأمر هو “صداقة مضطربة” ليس أكثر, لكن تكشف الأمر عن “عداء موجه”, عداء يعرف أساليبه جيدا. والذي جعلني أتعمق في أمر تلك الفئة هو رد الفعل المبالغ فيه الذي صدر إثر عبارة كتبتها وكان المقصود بها.. تلك الفئة الغامضة:
و:
* * *
أثار الموضوع الذي أتى بنا على ذكر “المرزوقي”.. ظاهرة الحيادية التي يبدو بها هؤلاء تجاه التيار الإسلامي, لاحظ أن كونها حيادية كان ظنا مبدئيا مني لكن الأمر أعمق من ذلك كما ذكرت.
المرزوقي
” إن الصدام بين الأصوليين والعلمانيين نقل الصراع إلى قلب الأمة”
وكيف يمكن لفكر لم يحتفظ أصحابه من فكر المنظر (ابن تيمية) الذي ينسبونه إليه إلا وجهه السلبي قصدت مجرد سلب نظريات ابن عربي الوجودية والقيمية أن يؤسس نهضة تحرر الإنسان وتحقق قيم الإسلام: وذلك هو جوهر الحل “البنلادني” الذي يستبدل سلطان الكنسية علي الدولة بسلطان الدولة المسيطرة علي الكنسية في ما يدعو إليه من نظام ؟ فلا يكون الفرق بين بن لادن والخميني إلا بتقديم الاستبداديين وتأخيرهما: إما أن يكون استبداد العلماء تابعا لاستبداد الأمراء أو العكس فيكون استبداد الأمراء تابعا لاستبداد العلماء”
لقد ذكرت أن الحياد بين أهل السنة وبين الروافض يعني أمرا واحدا.. هو الاستهانة بأمر المعتقد الديني, وهذه الاستهانة تعني أمرا آخر.. هو الاستهانة بهوية الأمة, أي بالأمة نفسها, وهذا واضح من الأسلوب الذي يتحدث به “المرزوقي” في وصفه للأمة المسلمة إذ يقول:
“ويمكنني أن ازعم أن نسبة ما يفهمه العرب والمسلمون اليوم من الإسلام إلي ما فيه من قيم ثورية للإنسانية كلها وليس للمسلمين وحدهم.. هي عينها نسبة ما في أرضهم من ثروات مادية عاشوا عليها آلاف السنين وهم بها جاهلون. و لو لم يحقق الغرب ثوراته العلمية والصناعية لما أصبحت الثروات الإسلامية ذات وجود فضلا عن أن تكون مادة لوعيهم وأداة لإرادتهم” (يحيى: أي أن رسول الله إن كان قد مات, فإن “المرزوقي” حي يرزق, ولا داعي للقلق من ضياع القيم الإسلامية بعد أن ضيعها العرب والمسلمون بجهلهم)
والحقيقة أن التوسط بين الأفكار عندما يتحول لغاية في ذاته, وتقاس المسافة بين الأفكار بالمتر, ليس له من نتيجة سوى التخبط في التفكير. , فليست كل فكرتين مختلفتين.. يكون ما بينهما حقا, فربما يكون ما بينهما خطأ ثالثا, والعكس غير صحيح, أي أن أي حق قد يكون تعبيرا عن وسطية بين باطلين. وقد لا يكون الحق متوسطا بين باطلين أصلا, أما يما يخص مسألة التوسط بين فكرتي الصراع والحوار بين الحضارات, فالصراع متحتم بين الحضارات, أما الصراع السياسي في إطار الحضارة الواحدة فلا يستدل عليه منطقيا بنفي وجود الصراع بين الحضارات, فهذا الأخير لا ينفي وجود أسباب أخرى للصراع داخل الحضارة الواحدة. وما الصراع السياسي في النهاية إلا تعبيرا عن روح الحضارة, وما الدولة إلا أداة من أدوات حضارتها, الرغبة في الوحدة السياسية العربية لا تعكس إلا وجودا للوحدة الحضارية, الميول العدوانية لدولة إسرائيل إلا تعبيرا وانعكاسا للحضارة اليهودية وللتاريخ اليهودي. ومهما استقلت إرادة الدولة فليست إلا تعبيرا عن إرادة أكبر منها وأعمق.. هي إرادة الحضارة التي تنتمي إليها. وحيثما وجدت الإرادة.. وجد الصراع, لأن الصراع هو حتما بين إرادتين.
* * *
عندما كنت أظن أن المرزوقي “صديق متعجرف” وليس “عدوا ماكرا”, كنت أدعوه إلى تحسين علاقته النفسية بالإسلاميين, فأظهرني بمظهر ساذج هو أنني أدعوه إلى “جماعة” أو إلى “حزب” معين, فقال:
“وكان يمكن ألا أكتب في الأمر لو كان مقصورا على هذه الأحكام التي ليس فيها ما يستحق الرد إذ جلها إن لم يكن كلها يرجع إلى اللوم على عدم الانتساب إلى حزب المعلِّق أعني الأستاذ يحيى رفاعي سرور.”
“لذلك فإني لا أستبعد أن يكون قادة مثل هذه الأعمال ضحايا لعملاء المخابرات الأمريكية ( إن لم يكن بعضهم منها ) لكون هذا الحد من الرعونة التي تميز سلوكهم السياسي لا يمكن تفسيره حتى لو تصورنا أصحاب هذا السلوك مصابين جميعا بالغباء السياسي: فبن لادن وكل من يفكر تفكيره في تصور الجهاد قتالا بدائيا(يحيى: في الواقع ليس عندي فكرة عن التمييز بين قتل متحضر وقتل بدائي) هم عندي مخربون وعملاء إذا لم يكونوا ضحايا فكرهم البدائي لكون ما يبذرونه من أموال لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين وخلق الأعداء لنهضتهم ( مثل التحالف الذي هو بصدد التكون بين الهند وروسيا وإسرائيل وأمريكا ضد ما يوصف بالإرهاب الذي صار يوسم بكونه إسلاميا) لا يمكن أن توفره ثروة شخص مهما كبرت, ثروة تعجز جميع القوى في العالم التي يدعي بن لادن معاداتها عن تجميدها وهي مكنوزة في بنوكها أو مرصودة في شركاتها لو لم تكن في خدمتها.(يحيى: طبعا.. المطلوب منا أن نعتقد أن المرزوقي يحتفظ في درج مكتبه بأرقام حسابات الشيخ أسامة في البنوك الأمريكية)
المرزوقي في أحد مقالاته
من هذا المقطع يبدو للقارئ من يريد استبعاد الآخر, وحصر مفهوم الأمة في فئته هو, ثم من الذي يقحم في أمور الفكر مصطلحات سياسية وليست فكرية مثل مصطلح “الإرهاب”, أليس حريَّاً بأهل الفكر بأن لا يتعاطوا مصطلحات مشحونة بشحنات آتية إليهم من خارج الفكر, أي من السياسة, خاصة وأن أهل السياسة أنفسهم لم يحسموا بعد حدود ذلك المصطلح؟ أيستعير الفكر من خارجه ألفاظا غير محسومة فكريا بل ولا حتى سياسيا؟ إنه في ذلك يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه صاحبه “البوطي”, فهو أيضا رجل دين(!) لا يليق به استخدام مصطلح “الإرهاب”, ولو لم يتفق مع من يمارسه, كان عليه أن يكتفي بالتوصيف الشرعي للفعل, لا التوصيف السياسي له, ثم لو تجاوزنا نقد الشيخ “أسامة” كحركة, باعتبار أن هذا النقد نوع من النصيحة الواجبة, (والنقد البناء هو القناع الأكثر وسامة لجلد الذات أحيانا), فإلى أي شيء ينتمي التدخل في نواياه ونقد أخلاقه, والقول بأنه: خائن.. وغير صادق. أليس في هذا تركاً للفكر, وممارسة فعلية للاستبعاد؟ ثم أليس هذا تدخلا في “النوايا” التي نأي الدكتور “المرزوقي” بنفسه عن الخوض فيها حينما توقف عن الحكم على شخصي بالصدق؟ فأي الفريقين حاول استبعاد الآخر من مفهوم الأمة؟ وأي الفريقين دار في فلك نفسه؟
“وعندي أن مثل هذه الثروة (يحيى:أي ثروة الشيخ أسامة) لو كان صاحبها صادقا فعلا في الدفاع عن قضايا الإسلام الحقيقية لكانت كافية لتحقيق أهم شروط النهضة دون حاجة إلى قتال. (يحيى: في حياتي لم أر أمة ظهرت, أو حافظت على استمرارها دون قتال, لم يحدث هذا حتى في أفلام “توم وجيري”.. الأمم لا تعرف نفسها إلا عندما تقاتل) فلو آمن صاحبها حقا بعزة الإسلام واعتبر نفسه جنديا في خدمته لسلم كما يقتضي العقل السليم بان هذه الخدمة تكون أفعل وأكثر تأثيرا في تغيير التاريخ بتعميم تعليم العربية على أبناء كل المسلمين في العالم (يحيى: أي كما تفوق الغرب بإتقان اللغة الإنجليزية!!وكما تفوق الألمان بانتشار معاجم اللغة الألمانية في كل بيت!! وكما ساد عرب الجاهلية العالم قبل الإسلام لأنهم كانوا متمكنين من العربية!!) وببناء معاهد علمية راقية (يحيى: كي نعلم أبنائنا عبقرية الرجل الغربي تقنيا) أو بتوفير المنح للمعاهد العلمية ولأفضل العلماء لتمكين المسلمين من أدوات الإرادة الحرة, أعني العلم والتقنية, تمكينا لا يبقيهم مغلوبين في كل بقاع الدنيا بحكم عدم فهمهم سر القوة الحقيقي أعني العلم والعمل المنظم ذا المدى والنفس الطويلين.”
وتساءلت أنا.. إذا كان العلم والتقنية هما أداتي الإرادة الحرة.. أفلا يتحتم أن تسبق تلك الإرادة الحرة أدواتها في الظهور, ثم تقوم هي بخلق تلك الأدوات؟ أم أن الأداة هي التي ستخلق إرادتها الحرة!, لا أرى الدكتور “المرزوقي” إلا أنه كالأستاذ “عمرو خالد” في مجهوده الضائع في برنامج “صناع الحياة” الذي ارتكز فيه على التقدم التقني وزراعة أسطح المنازل.. كوسيلة للتحرر النفسي الشامل. هل كان صمود “عمر المختار” أمام الجيوش الإيطالية سببه فائض في التقنية ووفرة في الثروة لدى “المختار”؟
يقول عمر ابن الخطاب:
“إننا قوم أعزنا الله بالإسلام, فإذا ابتغينا العزة في غيره.. أذلنا الله”.
ويقول الأستاذ “سيد قطب”:
” إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال.. لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست ماديا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية.. ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره, لأنه لم يعد يملك رصيدا من “القيم” يسمح له بالقيادة., لا بد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية, عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي, وتزود البشرية بقيم جديدة جدة كاملة, بالقياس إلى ما عرفته البشرية, وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته, والإسلام, وحده, هو الذي يملك تلك القيم, وهذا المنهج.”
ثم يقول:
“إن هذه الأمة لا تملك الآن, وليس مطلوبا منها, أن تقدم للبشرية تفوقا خارقا في الإبداع المادي, يحني لها الرقاب, ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية.. فالعبقرية الأوروبية قد سبقته في هذه المضمار سبقا واسعا, وليس من المنتظر, خلال عدة قرون على الأقل, التفوق المادي عليها, فلا بد إذا من مؤهل آخر, المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة, إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي, فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا, ولكن لا بوصفه “المؤهل” الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة, إنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا, كذلك بوصفه واجبا يفرضه علينا “التصور الإسلامي” الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض, ويجعلها تحت شروط خاصة, عبادة لله, وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني”
ولكن الدكتور “المرزوقي” لم يكتف بالطعن في نوايا الشيخ “أسامة”, ولم يكتف بالتماس الخيرية في “التقنية”, بل لقد التمس الخيرية أيضا في “حرية التعبير” (!), فعندما تحدث في نفس الملف باسم مستعار هو ” أبو لؤي العامري”.. قال:
“ولو فرضنا أن حارة السقائين استبدت وعدلت في استبدادها لما عليه السقاءون من حسن النية فإن المدينة ستبقى قائمة على الاستبداد وهو شر، و لا يخولها أن تكون خير المدن”
والغريب أن “المرزوقي” يقرر هنا أن مناط الخيرية هو: “العدول عن الاستبداد”, في حين أنه عندما كان يعطيني درسا في اللغة, قرر أن مناط الخيرية هو: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو مخطئ في درسه اللغوي, كما هو مخطئ في حصر الخيرية بالإيمان دون أي تمييز بين “خيرية الجنس” وخيرية “الوجود المتعين” كما بينت أنا في مقالة مفهوم المساواة, أن خيرية الجنس ليست مشروطة بالإيمان, وكما سأبين ذلك مرة أخرى.
“لو أن مفجر الماء(يحيى: يقصد الإنسان المفكر الحيادي) قام أيضا بحمل الماء إلى الناس داعيا إليه تحسينا و تزيينا (يحيى: أي لو أعلن بصراحة انتمائه الكامل للإسلاميين) لجاز لهم أن يتهموا ذمته و يقدحوا في صدقه ظنا أنه إنما يدفعه الهوى و حب النفس (يحيى: أي سيقول له الناس: نحن لا نصدقك لأنك إسلامي صاحب مصلحة). و السقاءون أقل عرضة لهذا الأمر . فيلزم أن يتنزه ساقي السقائين عن هذه الشبه ليبقى تعييره الماء غير متهم، وليس في تمييزه من السقائين تعلية له عليهم إلا بما يجده السقاؤون أنفسهم نحوه من اعتراف وتبجيل و محبة”.
* * *
لكن موضوع ضرورة إتقان المصطلحات فلسفة لتحصيل الكمال المعرفي..قضية أخرى نختلف فيها مع تلك الفئة, ونبدو في هذا الاختلاف متفقين مع شيخ الإسلام, فهؤلاء يأخذون على التيار الإسلامي قصوره الفلسفي, وعدم إلمامه بمصطلحات الفلسفة, رغم أنهم بذلك يخالفون من يزعمون اكتشافه, أي ابن تيمية, الذي هاجم نفس الفكر قديما, أي فكرة حتمية الإلمام بمصطلحات الفلسفة لتحصيل الكمال المعرفي, فقال:
“..فكل ما يحتاج الناس إلي معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر, إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس, وهو من أعظم ما أقام الله الحجة علي عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه, وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول, لفظه ومعانيه, والحكمة, التي هي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم, التي نقلوها أيضا عن الرسول, مشتملة من ذلك علي غاية المراد, وتمام الواجب والمستحب, والحمد لله الذي بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب تفصيلا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين”
ثم يقول في موضع آخر:
“وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع.. كثير منتشر, قد كتب في غير هذا الموضع, وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر.. علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما, وأبر قلوبا, وأقل تكلفا, وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل.. والله أعلم”
وهذا خلافا لقول “رشدي راشد”, وهو أحد “مكتشفي” ابن تيمية, حيث يقول:
“إنه (أي ابن تيمية) يعرف معرفة جادة ودقيقة المذاهب الفلسفية، ويعرف تقنياتها الداخلية في أحاديثه عن درء تعارض العقل والنقل وعن المنطق، ويتبين أنه يعرف بدقة آراء ثابت بن قرة وابن سينا وآراء كل الذين سبقوه، بينما الذين يتكلمون عنه لا يعرفون شيئاً عن ذلك ولا يستطيعون فهم هذه النصوص”.
فابن تيمية يرى أن معيار الكمال المعرفي ليس هو إتقان المصطلحات الفلسفية, و”مكتشفو” ابن تيمية يصرون على ذم الإسلاميين لأنهم لا يتقنون تلك المصطلحات. وهذا موضع آخر قد خالفكم فيه من ادعيتم اكتشافه.
* * *
“مكتشفو” ابن تيمية هؤلاء.. لم أتحدث إطلاقا عن أفكارهم نفسها حتى يستعرض لنا “المرزوقي” تاريخهم الفكري, لقد ذكرت أن “المرزوقي” يحسن التفكير, وذكرت أن ظهور هؤلاء هو تطور حدث في الطبقة المثقفة, وسيزداد هذا التطور كلما احتكوا بنا, ولم أدّعِ, تلميحا أو تصريحا, بأنني أول من تحدث في أمر العلاقة بين المسيحية والفكر الغربي, وتمرير الثويولوجيا المسيحية تحت رداء الفلسفة المزعومة عقلانية, لم أدع أنني أول من فعل ذلك حتى يؤكد “المرزوقي” أن أول من فعل ذلك هو “رشدي الراشد”, وبالإضافة لعدم وجود داع لكل ذلك.. فهو أمر أقل من أن يُتنافس عليه, فليس هو اكتشاف فكري يدل على عبقرية, كل من ديكارت وكانط وهيجل وكيركجور والتوماويين الجدد.. كلهم أعلنوا صراحة أنهم في خدمة الصليب, وكلمة تمرير تلك الواردة في النص مضللة لحد بعيد, فهي توحي بأن القوم كانوا يخفون علاقتهم بالكنيسة, وأن “رشدي راشد” كان ورائهم بالمرصاد. في حين أن الأمر لم يكن بحاجة لأي ترصُّد, وبالإضافة إلى ذلك..فليس “رشدي راشد” هو أول من تحدث في هذا الشأن, بل الشيخ “مصطفي صبري” في كتابه “موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين”, وذلك منذ عقود مضت.ولم تكن عبقرية منه أيضا, وليس مصطفى صبري ممن نُقِرّ له كل ما يقول, فلا يعدو في نظرنا أن يكون أحد فلول المتكلمين في العصر الحديث, وليس الأمر إلا أنه اطلع على كتاباتهم بلغتهم, فأخبر المسلمين بما أخفاه عنهم المترجمون في عصره, وكانوا قد أضمروا محاكاة الغرب في إلحاده وليس في تدينه.
* * *
الانفعال يظهر ضمائر النفوس, والمفروض أن دعوى “المرزوقي” هي “التخلص من الأفلاطونية المسيحية الغربية”, وذكرت لكم أن هذه دعوى وراءها إعجاب بالغرب نفسه, وسعي من المرزوقي لكسر حربة الأمة في مواجهته, وانفعال “المرزوقي” قد أكد هذا الإعجاب, فقد وصفت أنا “كانط” بأنه “تلميذ الحضارة الإسلامية البليد” وذلك لأسباب ذكرتها هناك وضحت فيها كونه “تلميذا” وكونه “بليدا”, والمفروض أن هذا يلائم مقاصد “المرزوقي”, وعليه أن يباركه أو أن يستحسنه. أو على الأقل.. يتجاهله, إلا أنني فوجئت به يقول:
“فإذا كان الأستاذ طه عبد الرحمن والأستاذ رشدي راشد والعبد لله المتكلم في هذه المحاولة إذا كنا جميعا من دون أخلاق وجبناء وغير موالين للحركة الإسلامية بمعنى الصحوة الإسلامية التي نحاول الانتساب إلى فعلها التاريخي العلمي فهل يمكن أن يكون متخلقا وشجاعا فينتسب إلى هذه الحركة غير حثالة الأمة الذين يقبلون بأن يقودهم أصحاب فكر يتزبب قبل أن يحصرم حتى يذهب بهم الكبر والعجب إلى حد وصف كنط بالبلادة؟”
ابن تيمية عندما كان يتحدث عن المنطق اليوناني, كان يقول: أنه “صنعه رجل من اليونان يقال له: أرسطو”, كان يريد بذلك تحجيم أمر ذلك المنطق وصانعه في النفوس قبل نقده أمام العقول, وعندما فعلت أنا ذلك مع “كانط”, قيل ما قيل, فأي تناقض هذا بين دعوى مواجهة هؤلاء مع الغرب, وبين واقع أصحابها.
كأن لسان حالكم يقول:
“أنتم أيها الإسلاميون لا شأن لكم بأمور الفكر, أنتم مجرد حركة نحن موجهوها, ولو كان الغرب حمقى.. فنحن من نقول ذلك لا أنتم”.
أخشى أن التعامل بهذا المنطق يفرض رد فعل هو:
“لا حاجة لنا بكم, فلم تقدموا لنا شيئا, وعصارة أفكاركم لم تكن يوما مرشدا لمواقفنا, وليس لدينا من الوقت ما نضيعه في فك طلاسم مصطلحاتكم, وقد علِِمنا أن كتاب الله وكلام نبينا أيسر منالا منها, فعندما قال لنا: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).. فهمناه, وعندما قلتم: “الإرهاب لا ينبغي أن يكون فعلا بل تهديد بالفعل”.. و”عنفوان الفكر.. غير العنف”..لم نفهمكم, بل ولم نر في أحوالكم ما يبعث الطمأنينة في قلوبنا تجاهكم, ولو قلتم لنا: نحن الفكر.. لقلنا لكم: نحن الإرادة, ولستم الفكر”
* * *
انتقل “المرزوقي” من القضية التي أثرتها والتي هي غموض علاقته بالإسلاميين وريبيتها, إلى أمر آخر في محاولة للنيل مني, هذا انفعال له دلالة إيجابية بالنسبة لنظرتنا لهم. لقد حاول البرهنة على أنني مختل العقيدة لا أصلح للحديث في أمرها, فلجأ إلى التدليس, وذكر أنني قلت أن: “الله صورة تالية عن الذات في عين الأمر”, وعلق على ذلك بقوله:
أما أن يزعم مسلم أن الله فكرته مشتقة من الذاتية فهذا لعمري عين السفاهة إن لم يمكن الكفر الصريح ! والله لو قال أحد عكسها لقيل إنه مثل المتصوفة إذ يشطحون فلا يلامون إذ لا لوم على المتكلم وهو في سكر. أما أن يزعم أن الله صورة تالية عن الذات في عين الأمر إذ هو لم يحترز فيقصرها على الوصول إلى فكرة الألوهية عند البعض ممن تأثر بمعنى الذاتية الحديثة فهذا من عجائب الأمور التي لا أكاد أصدقها من شيخ يتهم الناس في ولائهم للجماعة المسلمة التي صارت مقدمة على قيم القرآن التي لا تحدها جماعة مهما كانت سعتها.
“المعرفة بالله هي معرفة: تلقائية , حدسية , فطرية , مباشرة , تنبثق في الوعي بالضرورة من معرفة الذات أو الشعور بالافتقار”
فهناك فرق بين لفظ “الله” وبين لفظ “المعرفة بالله”, كما أن هناك فرق بين “صورة تالية عن الذات”, وبين “تنبثق في الوعي بالضرورة من معرفة الذات”, وهذا يتطابق تماما مع ما يعرفه المسلمون من أن المعرفة بالله معرفة فطرية, وقصدت بالعبارة التي ذكرتها.. أنني أعرف الله لا بعقلي, بل بفطرتي, ومعنى أنني أعرفه بفطرتي, أنني أعرفه من خلال نفسي, لأن المعرفة بالفطرة ليست معرفة قوامها الاستدلال على وجود الشيء, بل قوامها الشعور بنسبة مع الشيء, وهذه النسبة هي العبودية, وعلاقتها بالفطرة هي أن العبودية هي التوجه إلى الله بسد الافتقار إليه, والفطرة هي الشعور بالافتقار, فأنا أعرف الله كـ”رب”, ومعنى ذلك هو أنني أعرف نفسي “كمربوب” له سبحانه, وذلك على خلاف الطريفة العقلية التي يكتفى فيها بالبرهنة على وجود الله عقلا, وكنت فيما ذكرت متفقا تماما مع شيخ الإسلام في هجومه على الظن بأن الإيمان هو البرهنة العقلية على وجود الله, حيث قال:
“إثبات الصانع في القرآن.. بنفس آياته التي يستلزم العلم بها.. العلم به. كاستلزام العلم بالشعاع.. العلم بالشمس (يحيى: وهذا معنى ما ذكرته من أن معرفة الله هي معرفة مباشرة), من غير احتياج إلى قياس كلي يقال فيه: كل محدَث.. فلا بد له من محدِث, أو كل ممكن فلا بد له من موجِد, أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية (يحيى: هذا دليل أرسطو), ومن غير احتياج إلى أن يقال: سبب الافتقار إلى الصانع.. هل هو الحدوث فقط, كما تقوله المعتزلة؟ أو الإمكان, كما يقوله الجمهور؟”
ثم يقول:
“نفس الذوات المخلوقة.. مفتقرة إلى الصانع, وأن فقرها وحاجتها إليه.. وصف ذاتي لهذه الموجودات المخلوقة (يحيى: وهذا معنى ما ذكرته من أن الشعور بالافتقار هو نوع من إدراك الإنسان لوصف الذات), كما أن الغنى وصف ذاتي للرب الخالق, وأنه لا علة لهذا الافتقار غير نفس الماهية, وعين الأنية, كما أنه لا علة لغناه غير نفس ذاته. فلك أن تقول: لا علة لفقرها وغناه, إذ ليس لكل أمر علة, فكما لا علة لوجوده وغناه.. لا علة لعدمها, إذا لم يشأ كونها ولا لفقرها إليه إذا شاء كونا, وإن شئت أن تقول:علة هذا الفقر وهذا الغنى: نفس الذات, وعين الحقيقة”.
ثم يستطرد:
ويدل على ذلك أن الإنسان يعلم فقر نفسه, وحاجتها إلى خالقه من غير أن يخطر بباله أنها ممكنة.. والممكن الذي يقبل الوجود والعدم, أو أنها محدَثة.. والمحدَث هو المسبوق بالعدم,(يحيى: وهذا ما كنت أعنيه من أن الشعور بالافتقار إلى الله ليس متوقفا على دليل عقلي) بل قد يشك في قدمها أو يعتقده, وهو يعلم فقرها, وحاجتها إلى بارئها,(أي أن قدم النفس وحدوثها مستقل منطقيا عن فقرها إلى الله, وليس من الضروري التوصل إلى أحدهما عن طريق الآخر كاستدلال عقلي) فلو لم يكن للفقر إلى الصانع علة إلا الإمكان أو الحدوث لما جاز العلم بالفقر إليه, حتى تعلم هذه العلة, إذا لا دليل عندهم على الحاجة إلى المؤثر إلا هذا.وحينئذ: فالعلم بنفس الذوات المفتقرة , والأنيات المضطرة توجب العلم بحاجتها على بارئها وفقرها إليه.”
فليس فيما ذكرت ما يفيد أن عين الله هو فكرته التي في الوعي, والقارئ له القدرة على الحكم فيما إذا كان ما ذكرته يفيد ذلك.
* * *
وبعد أن دلس علي ما لم أقل.. اتهمني بأنني متوحد دون وعي بالمثالية الألمانية, أي فيتشة وهيجل, لا.. بل بأرسطو أيضا, ربما يتشابه هذا مع ما قرره “فيتشه” من أن معرفة الله مشتقة من الـ”أنا”, وكان هذا سبب طرده من الجامعة, لكن إذا جاز القول, حتى على سبيل الافتراض, بأنني قد توحدت دون وعي بـ”فيتشه”, فهل يجوز لعاقل أن يقول أن ابن تيمية أيضا قد توحد به؟!, ثم.. هل يجوز أن تلصق سيئات “فيتشه” كلها بي, من تثليث وحلولية.. لمجرد التشابه بين فكرة جزئية هنا وفكرة جزئية هناك؟!
لا أرى “المرزوقي” إلا أنه قد خالف شيخ الإسلام للمرة الثالثة, فرفض فكرة ما.. لمجرد أنها قد جرت على لسان بعض أهل الباطل, وهذا ما أخذه ابن تيمية على المتكلمين.. أنهم يرفضون فكرة ما.. لمجرد أن الفلاسفة قالوا بها, فقال في كتابه “الرد على المنطقيين” تحت عنوان “من بدع المتكلمين ردهم ما صح من الفلسفة”:
“وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك.. علم صحيح لا يدفع, والأفلاك مستديرة ليست مضلعة, ومن قال أنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام.. فهو وأمثاله ممن يرد على الفلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول, مع كونه موافقا للمشروع, وهذا من بدع أهل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه”
وعندما احتج عليه البعض بأن في المنطق الأرسطي ما هو حقا, لأن صور القياس صحيحة.. رد عليهم بأن كلام غير المسلمين لا يخلو من الحق, فقال:
فصورة القياس لا يُدفع صحتها, لكن يُبَيّن أنه لا يستفاد به علم بالموجودات, كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص.. شرط باطل, فهو, وإن حصل به يقين, فلا يستفاد بخصوصه نفس مطلوب شيء من الموجودات, بل ما يحصل به.. قد يحصل بدونه, وقد يحصل بدونه ما لا يحصل به, فنقول أن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة, فلا ريب أنه يفيد اليقين, وإذا قيل: كل أ.. ب, وكل ب.. ج, وكانت المقدمتان معلومتين, فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ.. ج, وهذا لا نزاع فيه, فصورة القياس لا يُتَكلَّم على صحتها”
حتى “ابن عربي”.. أعلن “ابن تيمية” أنه رأى فيه بعض الفائدة التي كانت سببا في حسن ظنه بالرجل في بادئ الأمر, فقال:
“. وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه, لما رأيت في كتبه من الفرائد مثل كلامه في كثير من “الفتوحات”, و”الكنه”, و”المحكم المربوط”, ,و”الدرة الفاخرة” , “ومطالع النجوم”, ونحو ذلك. ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه” ُ
الخلاصة: أن رد فكرة إسلامية لمجرد أن غربيين قالوا بها.. هو تقييم للفكر بدلالة عوارضه الحضارية (عربي أم غربي), وهو خطأ لا يقل شناعة عن تقييم الفكر بمعيار زمني (هل هو قديم أم حديث), ولا يقل عن تقييم الفكر بدلالة عوارضه الاجتماعية (هل هو فكر يستبد بنفسه أم يسمح بوجود غيره), والمرزوقي قد وقع ـ كما بينت في مواضع مختلفة من التعليق ـ في كل من الأخطاء الثلاثة في تقييمه للفكر, فكيف يأمنه الناس على عقولهم بعد ذلك؟
ثم.. كيف يمكن قبول حشر “ديكارت” مع “فيشته” في قائمة من توحَّدتُ بهم (!), رغم أنني لا أعتقد ما يعتقده “ديكارت”من أن الأنا تعرف الله بتوسط من فكرة الكمال, أي النظر لتلك الفكرة على أنها معلول لعلة خارجية هو “الكامل”, ورغم أنني رفضت أي استدلال عقلي على وجود الله عن طريق التوسط الفكري, واتفقت في ذلك مع شيخ الإسلام الذي قرر أنه: “ليس كل شيء له علة”, أهي مراوغة كلامية من “المرزوقي” غايتها إرباك القارئ الذي يظن هو أنه يسهل إرباكه بمصطلحاته؟ أم أن الأمر هو أن “ديكارت” يبدأ بـ”الأنا”, و”فيشته” أيضا يبدأ بـ”الأنا” فعجز “المرزوقي” عن التمييز بينهم؛ من حقه أن يعجز عن التمييز.. لكن “تجار الجملة” لا يصلحون لممارسة النقد الفلسفي الذي يتطلب التحليل والفصل بين كل فكرة وأخرى.
هذا عن إثبات وجود النفي في نظرية الوجود في الفكر الإسلامي, أما عن إثبات اختلاف النفي في الإسلام عن نفي هيجل فهو:
أولا: النفي عند هيجل ليس خاصا بالذات الحرة التي هي الإنسان, بل ينطبق على كل الأشياء, ولا ينطبق على الإنسان إلا من حيث هو شيء من الأشياء.
ثانيا: هيجل أراد بالنفي الانتصار للتثليث, فالنفي عنده ليس أمرا واحديا, أي ليس حاصله “وجود موجود واحد بفناء نقيضه” (كما يكون الله بعد فناء العالم), بل أمرا تثليثيا حاصله وجود الفكرة, ثم وجود نقيضها (دون فناء الفكرة, أي ظهور المسيح كنقيض للأب مع بقاء الأب في السماء), ثم وجود المركب منهما, وبذلك يكتمل التثليث, فليس هناك فناء عند هيجل, بل المركب هو عودة الفكرة إلى نفسها محمّلة بنقيضها, وعودة الفكرة إلى نفسها محملة بنقيضها هي رفع المسيح إلى الله بعد الصلب. هذه هي علاقة النفي بالتثليث عند هيجل وليست تلك الاستعراضات اللفظية التي مارسها المرزوقي حول الوجود والعدم والصيرورة, التي هي من قبيل: “قميص نفيسة نشف ولا لسة ما نشفش”, وليس هي إلا تمثلات ثانوية لفكرة الجدل.
ثالثا: النفي عند هيجل غايته وعي الفكرة بنفسها, وهذا الوعي يتمثل في الفلسفة في مآلها الأخير الذي يظن هيجل أنه يمثله بفلسفته, أما النفي في الفكر الإسلامي فهو تحقق للوعي, والوعي هو شهود الله لنفسه بالوحدانية, أي أن الوعي عند هيجل.. نهاية , أما في الفكر الإسلامي فهو البداية.
رابعا: ثم فرق جوهري آخر بين النفي التثليثي الهيجلي والنفي التوحيدي الإسلامي, الإسلاميون متعصبون ضد كل من سواهم, وحق لهم ذلك, فما سواهم إلا من دونهم, وهذا التعصب هو ذلك النفي الذي يستلزم عدم إقرار الباطل على وجوده, في حين أن هيجل معروف عنه أنه متسامح لدرجة التطرف, وعبارته الشهيرة: “كل ما هو موجود فهو عقلاني, وكل ما هو عقلاني فهو موجود”, تدل على ذلك, بل وتبريره للاستبداد على أنه متحقق, فهو حق.. يدل على ذلك أيضا. وسبب ذلك الاختلاف بين تعصب الإسلاميين, وتسامح هيجل.. أن هيجل لا يريد بالنفي افناء النقيض, بل على العكس, قبول النقيض في مركب, فهذا فرق ضاق نظر المرزوقي عن استيعابه.
فأين تلك التخاريف من اعتقاد المسلمين بأن جوهر الألوهية هي البقاء, وجوهر العالم هو الفناء, وأن العالم خلق ليكون تحققا لشيء قد انتفت عنه الألوهية, وأنه بعد فناء العالم لن يكون هناك بقاء لنقيض الفكرة, ولا للمركب منهما, ولا لأي شيء آخر, بل يقول الله عندها: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا يرد عليه أحد وقد فني العالم كله, فيجيب على نفسه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (غافر:16) وهذه هي الواحدية التي هي غاية النفي في الفكر الإسلامي.
أأكون أنا هيجليا لأنني قد ذكرت مطلق النفي, هل أنزل الله مفهوم النفي على الأرض وجعله حكرا لهيجل فيكون كل من ذكر النفي.. هيجليا؟!, إذاً.. فعلى “المرزوقي” ألا يتحدث عن المساواة.. حتى لا يكون ماركسيا, ولا يتحدث عن الحرية.. حتى لا يكون وجوديا, ولا يتحدث عن النقد.. حتى لا يكون كانطيا, ولا يتحدث عن العقل.. حتى لا يكون “ديكارتيا”, ولا يتحدث عن القوة.. حتى لا يكون نيتشويا, ولا يسعى لتحقيق مصلحة.. حتى لا يكون ميكافيليا, ولا يطلب اللذة.. حتى لا يكون أبيقوريا, ولا يتحدث عن الخير.. حتى لا يكون أفلاطونيا, ولا يحاول تعريف الفضيلة.. حتى لا يكون سقراطيا. أي لا يحاول أن يحيا لأن الغربيين أحياء, ولا يحاول شرب المياه لأن الغربيين يشربونه.
لو كان “المرزوقي” أحسن قراءة مقالاتي جيدا, وقرأها قراءة من يريد الاستفادة, ولم يقرأها ليتصيد خطأ ينتقم به لنفسه, لاستفاد منها أن التشابه العرضي بين الأفكار عند سائر الحضارات.. بالإضافة لكونه أمرا محتملا باعتبار وحدة الدوافع الإنسانية أساسا, فهو, إذا كان الأمر يتعلق بالعلاقة بين الفكر الإسلامي وعصر النهضة, أمرا أكثر احتمالية, ليس ذلك لأن الإسلاميين متوحدين بالغرب دون وعي!!, بل العكس, لأن الفكر الإسلامي هو الذي توغل في تلك الحضارة, وذلك ما أعلنته أنا في أكثر من مناسبة, ولم أبرهن عليها برهنة كاملة بعد, وإن كنت قد أشرت إليه إشارات خفيفة خاصة بـ”نيتشة” و”كانط” و”روسو” و”فريدريك”, وخاصة بوضعية الحضارة الإسلامية بالنسبة للغرب في بدايات عصر النهضة كـ”نموذج حضاري مُلهِم”, علما بأن البرهنة مكتملة في ذهني والمشكلة في عرضها هي أنني كنت أهيئ ذهن القارئ أولا.
لكن خيال “المرزوقي” كان مجنحا لدرجة مبالغا فيها, فقد انتقل من اتهامي من التوحد بـ”فيشتة”, و”هيجل”, و”ديكارت” إلى اتهامي بالتوحد أيضا بـ”أرسطو”!, ولكن.. إذا كان خطأ “المرزوقي” فيما يخص تشبيهي بـ”هيجل” و”فيشته”, وذلك فيما يخص مسألة تحقق الذات بنفي الآخر.. خطأ شنيعا, فخطؤه بتشبيهي بأرسطو في نفس المسألة.. أشنع, فالتناقض عند أرسطو.. مسألة تخص نظرية المعرفة, والتناقض مع الآخر في الفكر الإسلامي كوسيلة لتحقق للذات المسلمة.. مسألة تخص نظرية الوجود, وبالإضافة لكون مجالي التناقض مختلفين, فمضمون كل منهما متباين, فالتناقض عند أرسطو.. تتحقق المعرفة بعدم تحققه في موضوعها, أي مبدأ الهوية, أي قول أرسطو أن الشيء هو هو, أما التناقض فيما ذكرته فتتحقق الذات بتحققه, أي أن الذات هي ليس غيرها, فأي خلط هذا؟ وأي استخفاف بعقول القراء هذا؟ ثم أي استخفاف هذا الذي يجعله يتهمني, فيما يخص مسألة النفي, بأنني متوحد بأرسطو وبهيجل في نفس الوقت, رغم أن كلا منهما على النقيض بالنسبة للآخر فيما يخص تلك المسألة تحديدا. فأرسطو يحاول رفع التناقض, وهيجل يريد قبول المتناقضات. لقد كنت أظنه رجلا له عقل قبل تعليقه على موضوع “بائعوا المياة”, فتكشف لي عن رجل امتلأ رأسه خبثا حتى لم يعد فيه مكان للحكمة, ثم امتلأ مراوغة حتى لم يعد فيه مكان للصدق.
* * *
ذكرت أن القصد البعيد لهؤلاء.. تضييع هوية الأمة, فلا مجال للتعجب عندئذ لهجومه الشديد على فكرة “الذات كنفي للآخر”, بالاعتراض على ما ذكرته من مفهوم “اللَّامماثلة” كأساس للهوية, باعتبار أن “اللَّامماثلة” هي نوع من النفي, اللافت للنظر أنه باعتراضه على اللَّامماثلة يكون قد فارق من يدعي أنه اكتشفه.. فراقا ليس بعده وصال, فابن تيمية (دون غيره.. وهذه مفارقة) قد أفرد للامماثلة مصنفا كاملا هو كتاب: “اقتضاء الصراط المستقيم.. مخالفة أصحاب الجحيم”, وإليك هذه العناوين من فهرس الكتاب:
[ في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم. … حكمة نسخ القبلة مخالفة الكافرين… التحذير من التشبه بالمغضوب عليهم والضالين…. نهي عمر عماله عن الاستعانة بغير مسلم في ولاية أمر المسلمين…. في جميع أعمال الكفار خلل يمنع من انتفاعه بها…. مخالفة الكفار مقصودة للشارع. (يحيى: أي المشرع)…. تفضيل جنس العجم على العرب نفاق….أدلة تفضيل العرب… بغض العرب آية النفاق…. نهي الشريعة عن التشبه بالعجم يدخل فيه القديم والحديث…. لا سبيل إلى ضبط الدين وفهمه إلا باللسان العربي والفكر العربي… تحريم ترجمة القرآن….تحري النبي مخالفة أهل الكتاب في عاشوراء….دلائل الكتاب والسنة تنهى عن التشبه بالكفار….لا يجوز موافقتهم في أعيادهم بحال…. الذبح بمكان عيدهم معصية….دين الرسول: المنع من مشاركة الكفار في عيدهم…. من شروط عمر.. ألا يظهر الذميون شعائر دينهم….النهي عن رطانة العجم ودخول معابدهم…. المشابهة تفضي إلى كفر أو معصية…. جنس الموافقة تلبس على العامة دينهم… المشابهة تورث مودة ومحبة…. لا تجاب الدعوة لأعياد الكفار ولا تقبل الهدية… (قل يا أيها الكافرون).. براءة من الشرك.]
فأين “المرزوقي” من شيخ الإسلام في أمر “المماثلة” و”اللَّامماثلة”؟ هذا أمر رابع قد خالفت فيه شيخ الإسلام.
ثم إن “المرزوقي” أراد أن يلزمني التناقض في قولي حين قال:
“وهل يعقل أن يقول إنسان صاح ويفهم ما يقول إن الذوات تتحدد بالتدافع طلبا للاتماثل بدل كونها تتحدد بالتجاذب طلبا للتماثل ثم يبقى محمديا؟”
يريد بذلك أن كوني “محمديا” يقتضي مماثلتي بنبي الله محمد, فكيف أقول أنا أن الذات تتحقق باللامماثلة مع الآخر, وفي نفس الوقت أظل متماثلا مع محمد صلى الله عليه وسلم, وهي حيلة مردودة عليه, إذ كيف يقول هو بتحقق الذات بالمماثلة.. ثم يخالف عبدة الشيطان؟!
إلا أن هناك ردا آخر لا يعتمد على تناقضه: فاللامماثلة المقصودة هي في علاقة الذات بما هو خارجها, لا بما هو داخلها, والذي نعنيه هو أن الذات تتكون بمماثلة داخلية, وهذه المماثلة الداخلية قد تكون على مستوى الشخص بتوحيد إرادته, وعلى مستوى الأسرة بالتشابه بين أفرادها, وعلى مستوى القبيلة بالانتساب لأصل واحد وعلى مستوى المجتمع بتمثل قيم مشتركة, وهذا التماثل الداخلي على أي مستوى من مستويات الذات, يكون وظيفته هي اللامماثلة مع ما هو خارج الذات, إذا فالذات لها مستويات بحسب الموضوع, وكل مستوى تتحقق به الذات باللَّامماثلة يخفي تحته مماثلة تناسب ذلك الموضوع, فالذات الحضارية تتحقق باللَّامماثلة مع الحضارات الأخرى, لك أفراد تلك الحضارة متماثلين من حيث نسبتهم لتلك الحضارة, والذات القبلية تتحقق باللاتماثل بالنسبة للقبائل الأخرى, ولكن أفراد هذه القبيلة متماثلون من حيث نسبتهم إلى قبيلتهم, والطبقة, سواء كانت اقتصادية أو حرفية أو اجتماعية, متحققة باللاتماثل مع الطبقات الأخرى, لكن أفراد تلك الطبقة متماثلين من حيث نسبتهم إلى طبقتهم, والأسرة, متحققة باللاتماثل مع الأسر الأخرى, لكن أفراد الأسرة متماثلين بالنسبة للأسرة, وهكذا, أما القول بأن ذاتي الحضارية لا تتحقق باللاتماثل لأنني متماثل مع نبي الله محمد, فهو خطأ, لأن تماثلي مع نبي الله هو ذاته عدم تماثلي مع أي حضارة أخرى, إذ نبي الله هو نبي أمتي أنا دون غيري من الأمم. وهذا لا تماثل.
ولكن.. وفيما يخص أمر المماثلة واللامماثلة, لنستبعد تنافي دعوى “المرزوقي” في المماثلة مع دعوى شيخ الإسلام باللامماثلة, ولنستبعد أيضا ذلك التناقض الذي محوره حتمية اللامماثلة مع عبدة الشيطان لتحقيق الإيمان, ولنستبعد أيضا ذلك التأصيل النظري لحتمية اللامماثلة, ولنتحدث عن الواقع المعاش, أي شخصية تلك التي تتمنى أن تتماثل مع الناس في كل شيء بلا استثناء؟, أي دولة تلك التي لم تميز نفسها بنشيد وطني, وبعلم رسمي, تتميز به عن غيرها؟ ألم تتميز اليونان بكونها (حسب زعمهم) موطن التفكير المجرد, ألم تتميز روما بأنها موطن القانون الروماني, ما الوظيفة الاجتماعية للفولكلور الشعبي إلا تمييز المجتمع عمن سواه, ما هو وظيفة الشعار بالنسبة لأمة من الأمم, النسر بالنسبة لأمريكا, الدب بالنسبة لروسيا, الأسد بالنسبة لبريطانيا, الذئب الأغبر بالنسبة لتركيا, ثم أليس مضمون كلمة “شعيرة” بالمعنى الديني هو مضمون تبايني تمييزي أساسا بالإضافة لكونه تعبدي؟ ثم ليسأل كل منا نفسه.. هل يحب أحدنا أن لا تكون له أي معالم خاصة تميزه عن غيره, ولو على مستوى الطباع والهوايات والميول؟
أما على المستوى الشخصي, أي على مستوى العلاقة بين الأشخاص في الحضارة الواحدة, فاللاتماثل هو آلية تحقيق الذات حتى بين نبي الله وبين غيره من الأشخاص, فأبو بكر هو محمدي من حيث هو عضو في الجماعة المسلمة, لكنه ليس هو محمد, كما أنه ليس هو عمر, كما أن عمر ليس هو أبو بكر, وهذا ما فهمه شيخ الإسلام حين سأل عن التشبه بالنبي في أمور شخصية بحتة, فقال بأن هذا ليس مطلبا دينيا, وضرب لذلك مثلا.. وذكر أن عبد الله بن عمر كان يتحرى موضعا كان الرسول يصلي فيه اتفاقا دون أي قصد ديني, فقرر شيخ الإسلام أنه لو كان في ذلك خير لكان الأسبق إليه هو أبو بكر وعمر, ولم يرد عنهما أنهما يتحريان ذلك الموضع, فدل ذلك على أن المماثلة مع نبي الله في أموره الشخصية.. ليس مطلبا دينيا.
الخلاصة: أن كل علاقة إنسانية تتضمن مماثلة داخلية تمثل “وجود” طرف العلاقة, ولامماثلة خارجية تمثل ماهية هذا الطرف بالنسبة للطرف الآخر, أي أن المماثلة مع نبي الله.. هي ذاتها تحقق اللامماثلة مع سائر الأمم, لأننا نتميز بعلاقتنا بمحمد, عليه الصلاة والسلام. فهذه مسألة خامسة لم يفهم فيها “المرزوقي” شيخ الإسلام.
* * *
بقيت مسألة مركبة من مسألتين, هما: مسألة خيرية الأمة المسلمة على الناس, ومسألة أفضلية العرب على الأجناس الأخرى.
الطريقة التي تناول بها “المرزوقي” لفظ “كنتم” في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: من الآية110).. طريقة شعبية ساذجة, والدرس اللغوي الذي انهال به عليّ.. درس ممل وفاشل, ومن يقرأ عبارته التي يقول فيها: “لست أشك في أن الآية 110 من آل عمران عسيرة التفسير”.. يهيأ له أن “المرزوقي” تناولها من ناحية تتأبى إلا على جهابذة الفكر, أو خرج منها بنتائج ممتنعة إلا على أساطين المعرفة, لكنه أخطأ في تحليله للآية, وأخطأ في النتائج التي خرج بها, وأخطأ في استخدامه لتلك النتائج. يقول:
“وتوجد خمس قرائن تؤيد هذا الفهم اثنتان من آية الخيرية ذات الصيغة الخبرية هذه واثنتان من آية الخيرية الإنشائية (الآية 104 من آل عمران) والخامسة جامعة بين الآيتين وتستمد من الآيات الخمس المتوسطة بين الآيتين 104 و 110 من آل عمران. فهو أولا فهم يخلص الآية 110 من حصرها في ظرفها خطابا لجماعة من المسلمين قد يكون الرسول توجه إليهم به في مكان وزمان محددين. إذ لو قرئت خطابا محددا بظرفيه الزماني والمكاني لكانت ربما دالة على لوم المخاطبين لتغير حصل فيهم نقلهم مما كانوا (كنتم) إلى ما اقتضى خطابهم بما يشبه العتب على عدم بقائهم على ما كانوا عليه من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر (فتكون “تأمرون وتنهون” كأنهما تضمران قبلهما جوابا على شكل”كنتم…لما كنتم…”). وهذه القرينة الأولى سلبية لأنها تعتمد على فرضية مستبعدة هي فرضية الطابع الظرفي للخطاب وهو ما يتنافي مع ما يتصف به الخطاب القرآني من كلية تتجاوز الظرفيات. (يحيى: ملحوظة: الخطاب القرآني قد يكون لشخص معين, والشخص المعين غير متجاوز للزمان والمكان, أي ليس كلي, ملحوظة أخرى: كل منادى بصيغة الماضي المسبوق بكلمة “اللذين” هو منادى معين, وليس نوعا ممتدا في الزمان والمكان” لذلك فالقرينة الثانية من نفس الآية تنفي حصر الخيرية في المسلمين لأنها تشير إلى أن بعض أهل الكتاب لهم الصفة الجامعة والمعللة للاتصاف بشرطي الخيرية أعني الإيمان بالله.
أول خطأ في فهم الآية.. هو استبعاد فرضية توجه الخطاب القرآني لفئة معينة محددة بظرفي الزمان والمكان, وهذا الاستبعاد خطأ لأن المخاطب في القرآن قد يكون معينا محددا بظرفي الزمان والمكان, نحو كلمة “قل” التي يتوجه بها لشخص النبي صلى الله عليه وسلم, بل.. وكل خطاب جاء بصيغة الفعل الماضي المسبوق بكلمة “اللذين” في القرآن.. فهو خطاب لفئة معينة مشار إليها في الزمان والمكان, وذلك بخلاف الخطاب باشتقاق اسم من الفعل, وذلك هو الفرق بين لفظَيْ “المؤمنين” و”الذين آمنوا”.. و”المشركين” و”الذين أشركوا”… و”الكافرين” و”الذين كفروا”…. و”اليهود” و”الذين هادوا”… و”النصارى” و”الذين قالوا إنا نصارى”… و”المنافقين” و”الذين نافقوا”… ومما يدل على أن صيغة الماضي تدل على توجه الخطاب لوجود متعين, أن الوجود المتعين, المشار إليه بهذا, هو وجود قد تم تعينه بالفعل, فلا يشمل الخطاب به كل أفراد نوعه ممن بم يوجدوا بعد.
ثم استطرد المرزوقي في الأخطاء.. فقال بأن المخاطب لو كان متعينا.. لكان لفظ كنتم يفيد أن تحولا طرأ عليه في الخيرية, وأن الخطاب يفيد العتاب, في حين أن كلمة “كنتم” الواردة في الآية.. رغم أنها متوجه بها لأفراد معينين.. إلا أنها لا تفيد أي تحول, بل تفيد الاستمرارية, وهذا نوع خاص من الفعل “كان” الذي اشتق منه لفظ “كنتم”.. اسمه “كان التامة” التي منها وصف الله سبحانه نفسه في القرآن, وهو وصف لا يفيد التحول عن الصفة, نحو: “وكان الله عزيزا حكيما”.
ولكني لست مفسرا ولا المرزوفي مفسرا, فلنحسم المسألة بتفسير الطبري للآية:
[تفسير قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس..”..
قال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس.. نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام. وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة, وشهدوا بدرا والحديبية. وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم.. كان مثلهم. وقيل: هم أمة محمد, صلى الله عليه وسلم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل. وهم الشهداء على الناس يوم القيامة؛ كما تقدم في البقرة. وقال مجاهد: “كنتم خير أمة أخرجت للناس” على الشرائط المذكورة في الآية. وقيل: معناه كنتم في اللوح المحفوظ. وقيل: كنتم منذ آمنتم خير أمة. وقيل: جاء ذلك (يحيى: أي لفظ كنتم) لتقدم البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة. وقال الأخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين؛ وأنشد: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع وقيل: هي (يحيى: أي لفظ كنتم).. “كان” التامة، والمعنى: خلقتم ووجدتم خير أمة (يحيى: أي كنتم منذ بدئكم). “فخير أمة” حال (يحيى: أي حال وقت الخطاب). وقيل: كان زائدة، والمعنى: أنتم خير أمة. وأنشد سيبويه: وجيران لنا كانوا كرام, (يحيى: والمعنى أنهم كانوا ولا زالوا) ومثله قوله تعالى: “كيف نكلم من كان في المهد صبيا” [مريم: 29]. (يحيى: كان في المهد, ولا زال أيضا, فـ”كان” لا تفيد التحول), وقوله: “واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم” [الأعراف: 86]. وقال في موضع آخر: “واذكروا إذ أنتم قليل”( يحيى: أي لا خلاف في المعنى بين “كنتم قليلا”, وبين “أنتم قليل”).]
هذا بالنسبة للفظ “كنتم”, وعلى أي حال, فالرسول خاطب الأمة بلفظ “أنتم” في حديث آخر يحمل معنى الخيرية أيضا, فقال: (أنتم توفون سبعين أمة, أنتم خيرها وأنتم أكرم على الله عز وجل»
* * *
أما كون تلك الخيرية ليست مرسلة بل مشروطة بالإيمان, فهذا ما نتفق عليه, لكن.. “المرزوقي” حمل مشروطية الخيرية ما لا تطيق, فاستنتج منها أمران أحلاهما مر:
أولا: زعم إمكانية انتفاء الخيرية عن الأمة لو لم تحقق الإيمان, وانتفاء الخيرية عن الأمة مستحيل لأن انتفاء الإيمان عن الأمة مستحيل بالخبر النبوي: “الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة”, ” لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”, ” أمتي كالغيث.. لا يدرى أوله من آخره” , “لا يزال هذا الأمر ماضيا في أمتي ما بعث فيهم اثني عشر أميرا كلهم من قريش” قال المفسرون: آخرهم المهدي, والمهدي لم يبعث, فدل ذلك على أن الأمر قائم في الأمة لا زال. “خيرية المسلمين بالنسبة لسائر الناس.. وإن كانت مشروطة بالإيمان, إلا أن هذا الشرط يستحيل انتفاؤه من الأمة إلى يوم القيامة.”
ثانيا: زعم إمكانية دخول غير المسلمين في شرط الخيرية. فقال:
“فيكون الأمر والنهي المشار إليهما شرطي الخيرية ومن ثم فالخيرية تصبح وصفا عاما يستحقه كل من قام بالأمر والنهي المشار إليهما. فلا تكون خبرا يصف المسلمين بالمعنى الذي ينطبق على جماعة مشار إليها في التاريخ بل حدا ورسما لمن ينبغي أن يتصف بالخيرية فيعد مسلما”
وهذه مغالطة لفظية, وتلاعب بالألفاظ, فرغم أن الشرط متاح للبشرية كلها, إلا أنه القيام بهذا الشرط هو ذاته الدخول في الإسلام., وأما استدلاله بقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110) , وذلك حين قال:
“فالقرينة الثانية من نفس الآية تنفي حصر الخيرية في المسلمين لأنها تشير إلى أن بعض أهل الكتاب لهم الصفة الجامعة والمعللة للاتصاف بشرطي الخيرية أعني الإيمان بالله”
فهذا قول على الله بغير علم, فالطبري يقول في كلمة: “منهم المؤمنون”:
“يعنـي من أهل الكتاب من الـيهود والنصارى, الـمؤمنون الـمصدّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما جاءهم به من عند الله, وهم عبد الله بن سلام, وأخوه, وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه, وأشبـاههم مـمن آمنوا بـالله, وصدّقوا برسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم, واتبعوا ما جاءهم به من عند الله”.
ثم إنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن أهل الكتاب كفارا كفرا أصليا, لا يشك في ذلك إلى كافر, وقد أخبر الله تعالى عنهم: “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة”, فكيف يحققوا شرط الخيرية التي هي الإيمان, مع بقائهم على الكفر؟!
* * *
مغالطة أخرى قام بها “المرزوقي”, هي الخلط بين مسألة خيرية المسلمين بالنسبة للناس, وبين مسألة أفضلية العرب على العالمين.
أفضلية جنس العرب على غيرهم مسألة ليست لها أي علاقة بالإيمان الذي هو أساس خيرية المسلمين, إنها مسألة متعلقة بالجنس نفسه, ولا ترتهن بأي شيء سوى بكونهم عربا, الاختيار الإلهي للعرب كان سابقا على التكليف, أي سابقا على تحمل الرسالة وتحقق شرط الخيرية بالإيمان, وهذا الاختيار لا بد له من علة تختلف عن الإيمان إذ هو سابق عليه, ولا بعد لهذه العلة من أن تكون سابقة على تحقق شرط الإيمان, لأنها علة الاختيار السابق على الإيمان, وعلة ذلك الاختيار.. هي أفضلية جنس العرب على غيرهم. (بعيدا عن شرط الإيمان)
لكن “المرزوقي”, لفرط إنسانيته, كصاحبه “البوطي”, (ولو عرفهما “كوفي عنان” لأحبهما كثيرا لإنسانيتهما تلك) يعترض على تفضيل العرب لمجرد أنهم عرب, فيقول المرزوقي:
” ولست أظن أن حوصلة الأستاذ يحي تضيق بهذه البنية المنطقية البسطية في عرف المناطقة للعلاقة بين الآيتين على ما فيها من عمق وبلاغة لا تضاهى هي عين ما يحرر الخيرية بمعناها القرآني من المرضين اللذين وصفنا في ما يمكن أن يؤول إليه موقف الأستاذ إذا واصل القول بخيرية شعب من حيث هو ذلك الشعب أو ملة من حيث هي تلك الملة (يحيى: الاعتراض على خيرية العرب من حيث هم عرب.. قد يكون موضع نقاش, لكن هل خيرية الإسلام من حيث هو إسلام.. أيضا موضوع للنقاش؟!) وهي خيرية لا تختلف في شيء عن خيرية الشعب المختار دينيا (الصهيونية) وخيرية الشعب المختار فلسفيا (النازية) (يحيى: لا والله تختلف ياعم) بل هو يذهب إلى الجمع بين الخيرتين بهذا المعنى العنصري لمجرد تعيين المتصفين بها تعيينا حصريا” (يحيى: أحرجتني)
إذا فالمرزوقي يقول بأن العرب ليسوا مفضلين على الناس من حيث هم عرب, ولقد ذكرت أنا في الفقرة التي تسبقها مباشرة.. أن تفضيل العرب من حيث هم عرب.. أمر لا بد من القول به, إذ هو العلة الوحيدة لاختيار النبي محمد لهم, وذلك قبل تحقق شرط الإيمان, وهذا ما أتفق فيه مع شيخ الإسلام, بل ومع كل سلف الأمة, إذ نقل في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم.. مخالفة أصحاب الجحيم” تحت عنوان “أدلة تفضيل العرب:
“والدليل على فضل جنس العرب، ثم جنس قريش، ثم جنس بني هاشم: ما رواه الترمذي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه, قال: قلت: « يا رسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق الخلق.. فجعلني من خير فرقهم، ثم خير القبائل.. فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت.. فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا »(…)فأخبر صلى الله عليه وسلم: أنه خير الناس نفسا ونسبا. وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: « جاء العباس إلى رسول الله, صلى الله عليه وسلم، فكأنه سمع شيئا، فقام النبي, صلى الله عليه وسلم, على المنبر, فقال: “من أنا؟” قالوا: أنت رسول الله, صلى الله عليه وسلم, قال: “أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب”، ثم قال: “إن الله خلق الخلق.. فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل.. فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا »
ثم تحدث شيخ الإسلام في معنى الفرقتين: هل هي الإنس والجن, ثم العرب والعجم, ثم بني هاشم من العرب؟ أم أن العرب والعجم مباشرة, ثم قال:
“وعلى كل تقدير ، فالحديث صريح بتفضيل العرب على غيرهم”.
ثم رد على من زعم بأن العرب مفضلون على الناس ليس من حيث هم عرب ولكن بسبب البعثة المحمدية, فقال:
“فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم، روميهم وفرسيهم، وغيرهم. وأن قريشا.. أفضل العرب، وأن بني هاشم.. أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أفضل بني هاشم. فهو أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا. وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي, صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه أفضل نفسا ونسبا، وإلا لزم الدور.
والدور.. هو نوع من المغالطات المنطقية, وهي تلك المغالطة التي ستترتب على قولنا: “إن العرب أفضل الناس لتحقق شرط الإيمان فيهم”, وذكرت أنه إذا كان الأمر كذلك, فعلى أي أساس كان اختيارهم لحمل رسالة الإيمان من البداية. وذكرت أنه لا بد لعلة أخرى لهذا الاختيار هي أفضلية جنس العرب.. قبل تحقق شرط الإيمان. أي أنه إذا كان العرب أفضل لأنهم حملوا رسالة الإسلام.. فما الذي أهلهم أصلا لحمل تلك الرسالة؟ فلا بد أنهم أفضل قبل الرسالة (ومن الممكن العودة لمقالة “مفهوم المساواة” لفهم هذا الأمر جيدا) فهذا موضع سادس خالف فيه “المرزوقي” شيخ الإسلام.
* * *
ذكرت أن الغاية البعيدة للفئة المذكورة الدخيلة على التراث هي: سلب الخاصية الجوهرية للفكر الإسلامي, والتي هي: نفي الآخر, تعرضت في المقالة المذكورة للمرزوقي لبعض الوسائل لتحقيق هذا الهدف:
نفي حصر الخيرية في المسلمين.
القول بإمكانية انتفاء الخيرية عنهم.
رفض الاعتراف بفضل جنس العرب على سائر الأجناس.
نقض أي أساس فكري للمواجهة المسلحة مع الغرب.
سنتعرض هنا لأسلوب آخر يدور في نفس الفلك.. رفض فكرة الاستعلاء بالعقيدة من الخارج, كانت محاولة المرزوقي رفض فكرة الاستعلاء عن طريق تفسير بعض آيات القرآن.. كانت محاولة داخلية, ولكنه هنا يلجأ لتحقيق هذا الهدف لرفض الاستعلاء من خارجه, أي رفضه من حيث الشكل, ونعني بهذا المدخل الخارجي الشكلي لنقض الاستعلاء.. تشبيهه بالصهيونية والنازية, وعقد مقارنة بينه وبين مقولة “شعب الله المختار”.
الحقيقة أنه ساذج في تلك المقارنة, لأنه تناول الأمر تناولا شعبيا, فكل ضعيف الفكر يسمع كلمة “الاستعلاء”.. يتجه بذهنه نحو اليهود والنازية, وعلى ذلك.. فهو يكرر مقولة البسطاء, لكنه يضفي على ذلك التناول مسحة من التفكير, فيدعي أن دعوى الاستعلاء بالعقيدة هي نوع من التوحد بالخصم الحضاري, ولا ينسى أن يضفي على ذلك التفسير نوعا من العمق, فيدعي أن هذه التوحد هو توحد “لا شعوري”(!), لكن هناك مشكلة تقف أمام ذلك التفكير الطفولي, فإذا كان القول بالاستعلاء فيه نوع من التوحد بالخصم الذي يقول نفس المقولة, فالقول بالمساواة في نوع من التوحد كذلك بالمسيحية التي اختفت فيها تلك النزعة نحو العلو, وعلى ذلك.. فنحن متوحدون بغيرنا لا محالة!! لكن دعنا من هذا, ولنتناول الأمر بعيدا عن ملابساته, ولنطرح سؤالا بسيطا: هل الاستعلاء هو الاستكبار؟
المعطيات الدينية تفرض علينا ذلك السؤال, صحيح أن الاستكبار مذموم في القرآن, لكن “الأفضلية على العالمين” نعمة يمن الله بها على من فضله الله, ومن حيث هي نعمة.. فهي مطلب إنساني: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:47) فكيف يكون الاستكبار مذموما, ثم هو نعمة من الله؟ لا بد أن التفضيل على العالمين ليس هو الاستكبار.
الآية: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”.. بغض النظر عن الأبعاد التي أشرنا إليها آنفا بخصوص تلك الآية, والتي هي: هل الخيرية في المسلمين فقط, وهل الخيرية يمكن أن تنتفي عنهم, وهل الخيرية هي لنوع المسلمين أم للفئة المخاطبة بالآية.. فهناك بعد يتعين أن ننتبه إليه, أن الخيرية مطلب إنساني, فكيف يقر الله بالخيرية بالنسبة للناس, ثم يكون الاستكبار مذموما؟ لا بد أن الخيرية بالنسبة للناس أمر آخر يختلف عن الاستكبار.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”, أفلا يدل ذلك على أن السيادة قد تكون دون فخر؟ وأن الخلط بينهما هو خلطا بين مفهومات متميزة في معناها؟
هذه بعض الملاحظات التي تفرض تساؤلا حول طبيعة الفرق بين الاستعلاء بالعقيدة وبين الاستكبار الذي عرف به اليهود والنازيين. ولكن.. بعد إثارة مبررات التساؤل حول ذلك الفرق.. ما هي إجابة التساؤل الذي أثير؟ ما هو الفرق بين الاستعلاء بالعقيدة وبين الاستكبار؟
الاستعلاء بالعقيدة.. هي رؤية الآخر كشيء يخلو من القيمة, الشعور الديني يتضمن أن المعبود هو مصدر القيمة في الوجود, والاتصال بالمعبود هو الطريقة الوحيدة لرفع قدر المرء أمام نفسه, لاحظ أن ذلك لا يتنافى مع التذلل أمام المعبود كجوهر للاتصال, لأن الإنسان تختفي قيمته في حضور مصدر القيمة ذاته, لكن.. ارتفاع القدر هذا إنما هو بالنسبة لحياة الباطل التي فارقها الإنسان لحظة اتصاله بالمعبود مصدر القيمة, والآخر يندرج بوجوده في مسمى “الباطل”, إذ أن آخريته هي ذاتها انقطاعه عن مصدر القيمة, فآخريته لا تنفك عن صغاره أمام الإنسان العابد.
الاستكبار هو.. “بطر الحق, وغمط الناس”, ومعنى ذلك أن هناك فرق جوهري بين الاستعلاء بالعقيدة وبين الاستكبار, الاستعلاء بالعقيدة هو استمداد القيمة من الحق, لكن الاستكبار هو وقوف الإنسان في مواجهة الحق رفضا وعنادا, الاستعلاء بالعقيدة يتضمن الاعتراف بوجود قيمة مطلقة مفارقة للإنسان, لكن الاستكبار هو اعتقاد الإنسان تلك القيمة المطلقة في نفسه.
لكن.. ألا يمكن أن يقال أن اليهود أيضا ينسبون قيمته المزعومة إلى مصدر مفارق هو الله, ويعتقدون أن تلك الصلة التي خولت لهم الزعم بالعلو.. هي البنوة مع الله؟ فما الفرق بين الادعاءين؟ الفرق هو فرق في الصدق, وفي أساس الصلة, فنحن حين نعلن أننا أعلى من غيرنا لعلاقتنا بالله.. فنحن صادقون. أما اليهود فقد كذبهم الله في ادعائهم هذا, فهم لا يوقرون الله على الحقيقة, فكيف يفاخرون به أمام الناس! إذا فلسنا متشابهين مع اليهود لمجرد أننا نقول قولهم, بل نختلف عنهم اختلاف الصادق عن الكاذب, وإن ادعى كل منهما أمرا واحدا, وعلى ذلك.. فمن الحمق أن ندع قول الاستعلاء بالعقيدة طلبا لمخالفة اليهود, لأن المخالفة متحققة كما ذكرت, بصدقنا وكذبهم في نفس الدعوى.
هناك فرق آخر.. هو الفرق في طبيعة تلك الصلة المزعومة, نحن نعتقد أننا الأعلى قدرا بين الناس, لأننا نعبد الله, في حين أن اليهود يزعمون أنهم أبناء الله, والفرق بين العبادة والبنوة واضح, فعلاقة البنوة تسوغ لهم الخروج على الحق, لكن علاقة العبادة هي إحقاق الحق. وهذا كان أساس تكذيب الله لهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة:18)
مما سبق.. يتضح أن الاستكبار متعة ليس لغير النفس فيها نصيب, أما الاستعلاء بالعقيدة فهو واجب قبل أن يكون شيء تتحقق به السعادة. الاستعلاء بالعقيدة أمر واجب لأنه يدل على احترامنا لله, أما رفض دعوى الاستعلاء بالعقيدة, فهي كقولهم لله: “يارب.. سجودنا لك لم يرفع قدرنا شبرا واحدا”.
نفس ما يقال عن تميز الاستعلاء الإسلامي عن الاستكبار اليهودي يمكن أن يقال عن التمييز بين الاستعلاء الإسلامي وبين النازية.
* * *
خاتمة:
ليس إلا أنه يجب علينا الحذر, من قوم يتحدثون بألسنتنا, لكن.. لا يحترموننا, ولا يضمرون لنا إلا الشر.
2010