ما هي المحاكاة هل نعيش في مصفوفة ؟

العقل البشري يتعلق بما هو مألوف ويخاف التغيير، فقد شكَّلت تفكيره واستجاباته منذ آلاف السنين تجارب زَرَعت داخله سرعة التكيُّف، والاستجابة لدواعي الخوف والقلق أكثر من التمرد، لذا بات مستريحًا لما يألفه ومتعصبًا له، وأصبحت الاكتشافات العلمية والابتكارات التي تغير من طريقة نظرة الإنسان إلى نفسه والعالم بمثابة صدمة نفسية.

يبدو أن البشرية لم تتجاوز العصور الوسطى كثيرًا، فعندما قال عالم الرياضيات والفلك «كوبرنيكوس» (1473-1543) إن الأرض ليست محور الكون وإنها كسائر الكواكب، ورأى أنها فرضية تفسر الكثير من الظواهر الفلكية، رفض المجتمع المحكوم عن طريق الكنيسة تلك الفكرة وأجبره على إنكارها علنًا.

الآن، ونحن في بدايات الألفية الجديدة، طرح بعض العلماء فرضيات عدة لا تزال تُعامَل كأنها محض خيال، رغم أن بعضها يحل الكثير من المشاكل العلمية، ومع أنها تحفز العقل على ابتكار مزيد من الحلول، فما هي تلك الفرضيات التي تحاول تفسير وجودنا والكون الذي نعيش فيه؟
الفرضية الأولى: نحن كائنات محاكاة كشخصيات ألعاب الفيديو

كيف يرى إيلون ماسك احتمالات حياتنا في الماتريكس؟

ما هي المحاكاة هل نعيش في مصفوفة ؟

ربما تُصاب باضطراب نفسي إذا تأملت تقدم التكنولوجيا في الفترة الأخيرة أكثر من اللازم.

إحدى تلك الفرضيات الخيالية التي يزعم أصحابها أنها ستحل الكثير من المشاكل العلمية، ولكنها تقلب العالم الذي ألفناه رأسًا على عقب، هي أننا كائنات محاكاة مصنوعة من المعادن، صممها ذكاء فائق أو حضارة من كوكب آخر، تمامًا مثل الشخصيات التي نتحرك بها في ألعاب الفيديو، وأن ما نراه ونسمعه ونشمه ما هو إلا وهم أشبه بالماتريكس، تلك الكلمة التي تعني «المصفوفة» في الفيلم الأمريكي الشهير، وتعني، حسب هذه النظرية، عالمًا وهميًّا صنعته روبوتات ذكية لاستغلال البشر في استخراج الطاقة.

يشير تقرير علمي نشره موقع «بي بي سي» إلى أن العديد من خبراء التكنولوجيا وعلماء الفلك والفيزياء يصدقون فرضية المحاكاة، ويؤمنون بأننا روبوتات تعيش داخل كمبيوتر ضخم يشبه «الماتريكس»، ونعتقد خطأً أنه حقيقي، بينما الغالبية من العلماء لا يصدقون تلك النظرية، لكنهم لا يستبعدونها في الوقت ذاته.

هل فكرت في التقدم غير العادي للكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات خلال العقود الماضية؟ لقد منحنا الكمبيوتر ألعابًا واقعية خارقة، وشخصيات مستقلة تستجيب لخياراتنا نحن، وتعيش مغامرات في واقع افتراضي له محفزاته الخاصة والمقنعة بشكل قوي. هل تأملت ذلك؟ ربما ستصاب بالاضطراب النفسي إذا تأملت أكثر من اللازم.

في يونيو 2016، أكد رائد الأعمال التكنولوجي «إيلون ماسك» أن احتمالات عدم وجودنا في عالم حقيقي تقدَّر بـ«مليار إلى واحد» ضدنا، وأشار «راي كورزويل»، معلم الذكاء الآلي في شركة غوغل، إلى أنه «ربما يكون الكون كله تجربة علمية لطلاب المدارس الإعدادية في عالم آخر».
الفرضية الثانية: نحن في تجربة معملية

آلان غوث يجيب على سؤال «هل نعيش في محاكاة؟»

 في حضارة ما بعد الإنسان المتقدمة، سيحاسِب البشر السُّلطة.

يرى «آلان غوث» من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الكون كله ربما يكون غير حقيقي، وأنه نوع من التجربة المعملية. وتعود الفكرة القائلة إن الكون أنشأته كائنات فائقة الذكاء إلى البيولوجيين الذين أسسوا مستعمرات لكائنات دقيقة.

يوضح غوث أنه «من حيث المبدأ، لا يمكن استبعاد إمكانية تصنيع الكون في الانفجار الصناعي الكبير المليء بالمادة الحقيقية والطاقة».

تشير إحدى الفرضيات إلى أن طريقة تصنيع العالم تخلق فقاعة كونية خاصة بها، منفصلة عن التي انبثقت عنها، ثم تفقد تلك الفقاعة اتصالها بالكون الأم، ولكن وفقًا لمراسل «بي بي سي» العلمي «فيليب بول»، فهذا السيناريو لا يغير أي شيء، فاعتقادنا أن الكون صنعته كائنات فائقة في تجربة تشبه المعمل لا يغير شيئًا من العالم، لأنه في النهاية حقيقي فيزيائي كما لو كان طبيعيًّا، لكن كَون الإنسان نفسه كائنًا «مصطنعًا» سيغير الكثير على المستوى الفيزيائي والديني، لكن لماذا؟

سيهبنا هذا التصور معنًى مختلفًا لحياتنا على الأرض عن التفسيرات الدينية والعلمية التقليدية، ويمنحنا حماسةً وتقبلًا أكبر لصناعة الروبوتات والتلاعب بجيناتنا وخلايانا العصبية.
المحاكاة تغير قواعد لعبة الحياة

ريتش تيريل: هل نعيش في ماتريكس؟

إذا توقفنا عن الاعتقاد بوجود شيء خارق، مثل الآلهة مثلًا، هي التي منحت الإنسان وعيه بنفسه وبحياته، تلك الحالة التي تفتقر إليها الكائنات الحية الأخرى التي تشاركنا الأرض وتسميها معظم الأديان «الروح»، وإذا اعتبرنا أن هذا الوعي ناجم فقط عن بنية معقدة للغاية في تركيبة الدماغ البشري، سنكون قادرين على محاكاة هذه التركيبة، و«قريبًا لن يكون هناك عائق تقني في طريقنا إلى صناعة روبوتات لديها وعيها الخاص»، بحسب العالِم في مختبر ناسا للدفع النفاث، «ريتش تيريل».

إيماننا بالمحاكاة سيغير قواعد اللعبة تمامًا.

يطرح تيريل الفكرة باعتبار أنه بمعدل التطور الحالي في الآلات، سيكون لدينا بعد 10 سنوات أو أكثر بقليل أشخاص رقميون يعيشون في بيئة محاكاة أكثر من اليوم، وأكثر من البشر أنفسهم، كما ستكون لدينا ألعاب فيديو أكثر تعقيدًا، وسنمتلك كيانات محاكاة للوعي داخل اللعبة.

يقول تيريل: «بصراحة تامة، إن لم نكن نعيش في محاكاة فإنها ظروف مستبعدة وغير متوقعة»، أي أننا لا نستطيع أن نصنع روبوتات في محاكاة إن لم نكن نحن في الأصل نعيش بتلك الطريقة. ولكن إذا كنا كائنات محاكاة، فمن صنع تلك المحاكاة؟

يرى تيريل أننا، البشر، من سيفعل ذلك في المستقبل.

إن اعتقادنا بالمحاكاة سيغير قواعد اللعبة تمامًا، بحسب تيريل، مثلما فعل كوبرنيكوس عندما أدرك أن الأرض ليست محور الكون، ويصف ذلك بأنه «كان فكرةً عميقة، ولكن لم يطرحها أحد قبله كفرضية». قبل كوبرنيكوس، كان العلماء يحاولون شرح السلوك الغريب لحركة الكواكب عن طريق نماذج رياضية معقدة، ولكن «عندما أسقطوا الفرضية أصبح كل شيء أبسط بكثير من حيث الفهم».

قد يعجبك أيضًا: مسلسل «Westworld» يثير التساؤل: هل نعيش في واقع افتراضي؟
المحاكاة تفسر لغز «تأثير الوعي المراقب»

ما حقيقة حياتنا في محاكاة؟

ربما يكون الحل أننا بحاجة إلى كيان واعٍ، مثل وعي اللاعب الذي يمارس ألعاب الفيديو.

بحسب ريتش تيريل، تبدو فكرة أننا كائنات محاكاة تفسيرًا أبسط لوجودنا من الفكرة التي تقول إن الإنسان الأول تطور عن الطين البدائي من جزيئات، ثم جسم بيولوجي، وتدريجيًّا ذكاء ووعي ذاتي.

لا يقتصر الأمر على بساطة الفكرة، ولكنها مثل فرضية المحاكاة تعمل كذلك في خصائص ميكانيكا الكم، وتحل مشكلة بارزة هي القياس الكمي، إذ تصبح أمورًا مثل حركة الجزيئات ما دون الذرة محددة فقط عندما يلاحظها المراقِب، وتتحرك الجزيئات بطريقة مختلفة عندما نكُفُّ عن مراقبتها، وهي الفرضية التي طرحها عالِم الفيزياء «ماكس بلانك» بقوة، ورفضها آينشتاين وقال كلمته الشهيرة: «أفضِّل أن أعتقد أن القمر موجود حتى لو لم أرَه».

يقول تيريل، مشيرًا إلى رفض بعض العلماء فكرة تأثير المراقِب على حركة الجزيئات: «لقد ظلت مشكلةً لعقود، وأراد العلماء العودة إلى الوراء للقضاء على فكرة احتياجنا إلى وعي المراقِب، وربما يكون الحل الحقيقي أننا بحاجة إلى كيان واعٍ مثل وعي اللاعب الذي يمارس ألعاب الفيديو».

إن فرضية المحاكاة لها «آثار جميلة وعميقة» بالنسبة إلى ريتش تيريل، فهي أولًا توفر أساسًا علميًّا للحياة الأخرى، ما بعد الحياة، أو مجالًا أكبر من الواقع يتجاوز عالمنا، ولا نحتاج إلى معجزة أو إيمان أو أي شيء خاص لنؤمن به، إنها فكرة طبيعية تخرج من قوانين الفيزياء.

ثانيًا، باعتقادنا أننا محاكاة، ستكون لدينا قريبًا نفس القدرة على خلق محاكاتنا الخاصة: «ستكون لدينا قوة العقل، والمادة، وسنكون قادرين على خلق ما نريد، ونحتل عوالمنا».


علماء فضاء يرجحون نظرية المحاكاة

هل نحن روبوتات فضائية؟

تجد فكرة المحاكاة دعمًا من علماء الفضاء كذلك، وإن كان بطريقة أخرى، إذ باتت لديهم أخيرًا القدرة على إرسال روبوتات إلى الفضاء لاكتشافه. أليس من الممكن في عالم عمره 13.8 مليار سنة أن يوجد كائن ذكي أقدم منا بكثير، ومهندس فضائي أرسلنا نحن إلى الأرض؟

تعود تلك الفكرة إلى مسبار «فون نيومان»، المسمَّى على اسم عالم الرياضيات «جون فون نيومان»، الذي كان يبحث في أربعينيات القرن العشرين حول الروبوتات المتماثلة ذاتيًّا، «التي تنجب نفسها بنفسها مثل الكائنات الحية، ولكن دون أنثى»، وتخيل وجود عالَم آلي غير بيولوجي، وأجهزة تنسخ نفسها بنفسها.

لم يطبق فون نيومان الفكرة على المركبة الفضائية، لكن فعل ذلك الكاتب المعني بتطور مستقبل التكنولوجيا، «جورج دايسون». ويشير تقرير نشره موقع «يونيفيرس توداي» إلى وجود مواد خام لا عَدَّ لها ولا حصر للمركبات الفضائية قادرة على التماثل الذاتي، لكنه لم يقدم أي تفاصيل عنها.

يبلغ قُطر مجرة درب التبانة 120 ألف سنة ضوئية، وتضم 400 مليار نجم، ويمكن لمصانع روبوتات ذاتية التماثل تسافر بسرعة 10% من سرعة الضوء أن تستعمر المجرة في 10 ملايين عام. ويطرح علماء الفلك هذا التساؤل: ألا يوجد مهندس فضائي واحد استطاع عمل ذلك خلال نحو 14 مليار عام هي عمر الكون؟

هل يكون عقلنا، بما اعتاده وتكيف معه، عقبةً أمام قبول مثل هذه النظريات؟

خَلَصَ العالم المهتم بشؤون الكون «فرانك تيبلر»، في ورقة كتبها عام 1980، إلى أن «الكائنات الذكية خارج الأرض لا وجود لها»، وكانت حجته أن الكائنات الفضائية إذا كانت اخترعت البشر كي تختبر الحياة على كوكب الأرض قبل أن ترحل، ستكون معنية بالانهيار البيئي، وستقيد استخدام هذا النوع من التكنولوجيا الذي يدمر البيئة، حتى تتمكن في النهاية من تحقيق هدفها: الانتقال للعيش على هذا الكوكب.

هذا الخيال وضعه لأول مرة كاتب الخيال العلمي «فريد سابرهاغين»، حين تخيل أن كائنات فضائية أرسلت مركبة روبوتية إلى نظام نجمي لاكتشاف الحياة والتأكد من احتمالات استعمار المجرة، وبرمجتها بحيث أنها إذا عثرت على منافس محتمل على كوكب صالح للحياة، أي كائنات ذكية أخرى، ستوجه مجموعة من الكويكبات لتحولها إلى نيازك تمطر بها ذلك الكوكب، ثم تنتقل الكائنات الفضائية للعيش فيه.

رغم عدم تحول تلك الفرضيات المتعلقة بوهمية العالم الذي نحياه، أو كوننا محاكاةً صنعتها كائنات أخرى، إلى نظريات علمية تحظى بقبول واسع، مثل نظريتي الكم والنسبية، إلا أن التساؤل يظل مطروحا: هل يقف عقلنا، بما اعتاده وتكيف معه، عقبةً أمام قبول مثل هذه النظريات؟

ما هي المحاكاة هل نعيش في مصفوفة ؟

وفي حالة قدرة هذه الفرضيات على حل مشاكل علمية مستعصية، هل سنشهد في هذه الحقبة من التاريخ حلقةً أخرى من الصراع بين المجتمعات المحكومة بالدين والنظريات العلمية التقليدية من جهة، وهؤلاء الداعين إلى تلك الفرضيات من العلماء ومؤيديهم؟

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × 3 =