كمال المرزوقي : جنايةٌ = استسهال العلم

0dfad kamalalmarzouki
كمال المرزوقي 
جنايةٌ = استسهال العلم (1):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(((أمسيتكم نكهة)))
قال الشّيخ: قل لي يا ولدي : هل يطهر جلد الميتة بالدّباغ أم لا ؟
قال الطّالب : (1- نعم / 2- لا )
قال الشّيخ : من أين قلت ما قلت ؟
قال الطّالب : ( 1- أحاديث تطهير جلد الميتة بالدّباغ / 2- حديث عبد الله بن عكيم في منع الانتفاع منها بشيء وفيه النّصّ على أنّه كان قبل موت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشهر)
قال الشّيخ : جواب هذه المسألة مبنيّ على إحدى عشر مقدّمة أصوليّة كما بيّنه ابن دقيق العيد رحمة الله عليه، وهي:
1- هل التّنصيص على بعض موارد العامّ بإثبات الحكم فيه يقتضي التّخصيص ؟
2- هل استنباط معنى من النّصّ يعود على اللّفظ بالتّخصيص يقبل أم لا؟
3- هل المؤرَّخ له يرجّح على المطلق في التعارض بين البيّنتين؟
4- هل يخصّ العموم بالعادة الفعلية؟ 
5- هل يجب في التّخصيص قصد الإخراج لمحلّ التّخصيص، وهل يشترط في التّعميم قصد الإدخال تحت العموم للفرد المعيّن؟
6- ما هي مراتب العموم في القوّة والضّعف ؟
7- هل القياس يخصّ العموم؟
8- هل العامّ بعد الخاصّ تخصيص أو نسخ ؟
9- إذا لم يعلم التّاريخ في العامّ والخاصّ أيّهما يقدّم ؟
10- إذا تردّد اللّفظ بين الحمل على الحقيقة الشّرعيّة، أو اللّغويّة فعلى أيّهما يحمل ؟
11- ما القانون المعتبر في التّأويلات وإزالة اللّفظ عن ظاهره ؟

فما جوابك عنها بنيّ؟
فقال الطّالب : (…) !
ربّ يسّر وأعن!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لمّا سئل الإمام مالك رحمة الله عليه عن مسألة فكان جوابه : لا أدري! راجعه السّائل بقوله: هي مسألة خفيفة .

فقال رحمة الله عليه: ليس في العلم شيء خفيف! 

:::::::::

هذا الجمانة الدّرّيّة يكاد لا يتجاوز فهمها دائرة النّظر الأخرويّ الجزائيّ من جهة كون الكلام في دين الله بغير علم هو من أعظم الذّنوب، وأنّ ما كان الإنسان موقوفا عليه بين يدي الجليل جلّ شأنه لا يكون مسألة خفيفة!
لكنْ ههنا أيضا فهمٌ آخر معرفيّ بحت وعلميّ صرف لكلمة الإمام، وهو أنّ العلم نفسه متوالية هندسيّة كلّ مسألة فيه يتفرّع عنها مسائل، فينتج عن الخطأ في تصوّرها أو تقريرها أخطاء .
وهذه الأخطاء يتفرّع عن كلّ واحدة منها أخطاء وهكذا تترى … فينتج الخطأ في باب خطأ في أبواب، والخطأ في مسألة خطأ في مسائل، إذ مسائل العلم بنات علاّت بينها وشائج قربى وأرحام وإن بعدت .
وهكذا الصّواب في المسألة أيضا قد يكون منه الفتحُ لمغاليق ومخبّآت، فتنفتح لك غوامضُ ومبهماتٌ وعويصاتٌ بصوابٍ في مسألة واحدة (خفيفة!)
فمسألة واحدة من الحقّ تنتج مسائل منه ما خلا الاستنتاج والتّوليد عن أخطاء .
ومسألة من الباطل تفرز مسائل منه حتّى يغدو أغلب التّقرير لمسائله خطأ .
فأيّ شيء بعد ذلك قول القائل : ” هذه مسألة خفيفة! ” .
ألم تسمع قول الله تعالى لنبيّه :
” إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا ” .
ربّ يسّر وأعن!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعمق علم وأدقّه في جملة العلوم قاطبة هو علم الشّريعة .
وسبب استسهال علومها دون سائر العلوم في الغالب راجع لأسباب كثيرة يمكن إجمالها في الآتي :
1- داء التّعالم وحبّ الظّهور السّريع
ويحمل راية هذا الوباء صنفان :
أ- مغترّون بعقولهم من أشباه المثقّفين والعلماء في غير الشّريعة
ب- طلّاب علم دخلوه تسوّرا من الجدار لا من باب الأدب والإخلاص
2- الجهل بموضوع البحث ابتداء وهو الشّريعة
وسبب هذا صنفان من المدافعين ومثلهم من الطّاعنين :
أ- متصدّرون بلا أهليّة من المتشرّعين من وعّاظ وقصّاص ودعاة وعوامّ العلماء من سطحيّي الفهم عقدوا تعارضا بين الشّرع ( والعقل أو الحداثة أو الأخلاق أو السياسة المعاصرة أو الفكر أو الفلسفة أو العلم التّجريبي… ) فأخرجوا من الشّريعة ما هو منها من حسنات تلك الموضوعات
ب- مثقّفون وأشباههم وعلماء من المتخصّصين في غير الشّريعة عقدوا نفس التّعارض لكن أرادوا الدّفع ببيان أنّ تلك الموضوعات جاءت بها الشّريعة فجنوا بإدخال ما ليس منها إليها
ج- حاقدون من المستشرقين والتّنويريّين ومن دار في فلكهم عملهم التّلبيس بقصد وإرادة عرضوا أجزاء من الشّريعة يسلّم لهم كونها مستبشعة بالنّظر للجزئيّة عينها لكنّها غاية الحكمة كلّيّا، فتلقّفها عنهم بعض من أقنعه ذلك الاجتزاء ممّن أرومته مدخولة بلوثة غير شرعيّة فنافح عن ذلك الفكر وهاجم الشّرع قناعة لا بقصد التّلبيس .
د- عامّة من غبراء النّاس ودهمائهم استبشعوا بعض ما لم يحيطوا به خبرا فهاجموه عن غير دراية بانتمائه لصلب الشّريعة ( الحدود، طاعة وليّ الأمر، الجهاد، الحسبة، الموازنة بين المصالح والمفاسد، التّقيّد بفهم السّلف، الأسماء والأحكام … )
3- طغيان البراجماتيّة النّفعيّة على سلوكات أغلب المتشرّعين:
وهذه يتلقّفها الإعلام ليصوّرها كاريكاتوريّا ويحلّلها مايكروسكوبيّا منتهجا التّكرار متمثّلا كون ما تكرّر تقرّر، إلى أن يقع التّنميط ويخيل على المسلمين أنفسهم فيصير العالم الرّبّانيّ بحقّ عندهم استثناء من تلك الصّورة النّمطيّة .
وهذا من أخطر الصّور لشيوعه لا لقوّته في نفسه .
4- قلّة العالمين حقّا وصدقا بالشّريعة 
وهذا من دلائل النّبوّة الّتي تشهد بصدق الأخبار السنّيّة الّتي بيّنت انحسار العلم وتصدّر الرّؤوس الجهّال الّتي تفتن النّاس عن علمائها المتحقّقين بالعلم
5- عدم الاعتراف بعلم العالم وإن لاح شمسا
وسبب ذلك أغلبه الحسد والغرور والحقد والفجور في الخصومة والبغي وتغليب مصلحة الفرد على المصلحة العامّة، فيستوي قول العالم بقول الجاهل تحت مظلّة احترام الرّأي والرّأي الآخر الجائرة في الحكومة .
ربّ يسّر وأعن!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس بحمد الله في ديننا ممّا يحتاجه طالبٌ للعلم على سبيل النّجاة إلّا وهو مذلّل ميسّر يفهمه أقلّ النّاس عقلا، وليس عليه فيما افترض الله عليه من معرفة الحلال والحرام أكثر من أن يسأل به خبيرا من أهل الذّكر فيشفيه ويهديه، ولم يكلّف في معرفة من هو من أهل الذّكر بشيء يدقّ فهمه ولا يعزب علمه، فإنّه ما كلّف بإصابة الحقّ في نفس الأمر بل بذل الجهد المقدور عليه من مثله وتجريد إرادة الحقّ، وليس فوق ذلك ممّا يلزمه شيء.
فأمّا أن يجعل جميع جنس العلم بالشّرع مقدورا عليه لكلّ النّاس فهذا جهل محض قائله لا يدري ما العلم، أو كذب لمن عرفه، ولا ثالث.
والاستدلال عليه بأنّ العلماء كانوا يرغّبون النّاس في العلم ويبدؤون بصغار العلم قبل كباره ويؤلّفون لهم أمثال: (التّسهيل، والتّقريب، والتّيسير …)، فخلل تامّ في التّصوّر وتخليط بيانه كالآتي:
1- من المحكم قسمة الحظوظ في العقول، وأنّ فوق كلّ ذي علم عليما، وأنّه ما من أحد إلّا وهو راض عن الله في عقله، وأقلّهم عقلا أرضاهم به، وأنّ جماعة العلماء اتّفقوا على اشتراط جودة الذّهن لطالب العلم وامتناعه عن ذي الغباء، وأنّ من لم يكن جيّد الذّهن اشتغل بالعبادة، وقيل له:
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
يعرف هذا من فتح في دهره أيّ كتاب معتبر من كتب آداب الطّلب.
2- ابتداء النّاس بصغار العلم قبل كباره وترغيبهم في العلم هو أسمى مطالب من يحذّر من استسهال العلم ذاك الذّي يقفز ليطير ولمّا يريش، ويفتي وهو بالاستبراء جاهل، ويرجّح بلا مرجّح، ويقضي بلا بيّنة، ويتكلّم في أمر العامّة، فليت شعري من أين دلّ هذا على كون جميع العلم سهلًا؟!
والشّريعة فيها من محارات العقول المعجزة لذوي الألباب، والمعضلات المشكلات المضنية لأحلام أولي النّهى ذوي الانكباب، فمنها محكم ميسور للعامّة والخاصّة، ومنها متشابه نيط بأولي الرّسوخ لا يتعدّاهم لمن لم يفر في العلم فريهم، وفيهم قال ربّنا جلّ: ” وإذا جاءهم أمر من الأمن أوالخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم “.
وأولو الأمر ههنا العلماء وحدهم دون الأمراء، ومع ذلك ما قال لعلموه جميعا، بل خصّ المتأهّلين للاستنباط دون غيرهم “.
3- نفس تصنيف العلماء للتّسهيل والتّقريب والتّذليل والتّيسير دليل على قسمة العلم لميسور ومعسور، ومقدور عليه للكافّة، ومعجوز عنه للعامّة، وإلّا فماذا يسّروا إن لم يكن عسيرٌ، وماذا قرّبوا إن انتفى بعيدٌ، وماذا ذلّلوا إن لم يكن صعبٌ، وأيّ شيء سهّلوا إن لم يكن حَزْن؟!

وإنّما هو مدخل الشّيطان لأعظم العظائم وكبرى الكبائر الّتي علت الشّرك وجاوزته = التّقوّل على الله بلا علم، مبدؤها من ههنا ومنتهاها الرّدّة والزّندقة، إلّا رحمة من الله ينتشل بها الموفّق كلّ الموفّق!
وأمّا زعم أنّ في هذا تنفيرا للنّاس عن اطّلاب العلم من مظانّه إذ يصوّر لهم كأنّما هو صعب المنال لن ينالوه قطّ، فجوابه الأهون:
إي نعم هو كذلك، فإنّ العلم الكفائيّ الّذي به تنال مقاعد الفتيا والتّرجيح والنّظر والاستنباط والاستدلال والتّقعيد والتّفريع ينفي خبثه، ولا ينال براحة الجسد، ولا يعطي بعضه حتّى تعطيه كلّك، ولا يسلمك منه ما ترتفع له الرّؤوس إلّا ما كان لك فيه عزم ونيّة ..
وأمّا كون معرفة هذه الحقيقة تنفّر النّاس فحقّ، ولذلك كان العلماء الأقلّين، وقد قيل:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا *** فعاند من تطيق له عنادا
أم يظنّ الظّانّ كما قال القائل إنّه يقضي يومه بالجمع وليله بالجماع ثمّ يصبح مفتي الجماعة وقاضي الحاضرة، إن هذا إلّا اختلاق، والله الهادي.
ربّ يسّر وأعن!

04/2015

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − ثمانية عشر =