عظني يا رسول الله ولا تطل !

عظني يا رسول الله ولا تطل !
أعرابي من البادية البعيدة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يريد موعظةً موجزةً مختصرةً أو قانوناً جامعاً مانعاً مصاغاً في جملة بليغة، وكأنه يسأل النبي أن يعطيه خلاصة الحكمة في كبسولة، فقال له: عظني يا رسول الله ولا تطل !
فماذا كان رد النبي الذي أوتي جوامع الكلم على سؤال هذا البدوي البسيط؟

نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجه الأعرابي وتلا عليه قوله تعالى :
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ
ثم سكت ولم يزد على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان البدوي يستمع و يتفكر بالآية القصيرة بإصغاء عميق، وما هي إلا لحظات أقصر حتى هبّ واقفاً وهو يقول : قد كُفيت، ثم انصرف.
عندها التفت النبي إلى أصحابه وجلساءه معلقاً على هذه الحادثة قائلاً: ” فقُهَ الرجل ” .
أي صار فقهياً .
لقد وصل هذا الاعرابي بآية واحدة من كتاب الله إلى الموعظة التي طلبها، وفقه وأدرك أعمق ما في هذه الآية.
لقد عرف أن عند الانسان حرية اختيار وأنه المسؤول عن جميع أعماله .. و أن عند الله العدل المطلق والجزاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأين أنتم اليوم يا حملة الشهادات الجامعية من ذاك البدوي الأمي البسيط؟
أين أنتم اليوم والآيات القرآنية والمحاضرات الدينية تتلى على أسماعكم صباحاً مساءً في عصر المعلوماتية وثورة الاتصالات ؟
أين أنتم اليوم والله يبث العلم في آخر الزمان حتى يعلمه الصغير والكبير والرجل والمرأة ، فإذا فعل هذا بكم أخذكم بحقه عليكم.
أين أنتم اليوم والآيات الكونية تتجلى من حولكم، والأحداث تتسارع، والعلامات يسابق بعضها بعضاً، والسماء من فوقكم تكاد تنطق أن الأمر قد أزف، والأرض من تحتكم توشك أن تزلزل زلازلها وتخرج أثقالها كي تحدثكم بأخبارها؟؟
هل بعد كل ما رأيتموه وترونه من علامات وآيات يستطيع أحدكم أن يقول ” كُفيت ” ويتبع العلم بالعمل؟
أم لا زلتم تسألون أسئلة أصحاب البقرة ؟
وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
لماذا بعد كل ما نراه من آيات و كل ما قرأناه من كتب وكل ما نشهده من أحداث سياسية وتحولات اجتماعية وأخلاقية و تغيرات مناخية لم نتحول إلى فقهاء في علم أشراط الساعة ؟
لماذا لم تثمر هذه المعرفة أي عمل منتج أو حركة هادفة للجوارح أو حتى سكينة في القلب أو سمواً بالروح؟
لماذا أنتم قلقون؟
لماذا تطالبونني دائماً بالمزيد من الأدلة والبراهين، وتلاحقونني بأسئلة تجر وراءها أسئلة ولا أحد منكم يقول “كُفيت”
لماذا بعد كل هذا العلم لا تزال تتالى على قلوبكم لطمات الدهيماء فتصبحون مؤمنين وتمسون كافرين؟
لماذا صرتم بسهولة تفقدون ايمانكم بكتاب الله إن قرأتم بالصدفة مقالاً يتحدث عن شكل الأرض إن كانت كروية أو مسطحة، أو قذف في وجوهكم ملحد خبيث شبهة تشكك بالعدل الإلهي عن أن المثلية الجنسية هي إجبار وأن هناك جينات أو مورثات في نواة خلية الانسان تفرض على المرء ميوله الجنسية و تحكم سلوكه ؟
لماذا صارت قلوبكم كرة تتلاعب بها أرجل المشككين والأشرار؟
سأقول لكم الجواب القاسي الذي تخافون جميعكم من سماعه
سأخبركم لماذا لم تتحول هذه المعرفة النظرية بعلم آخر الزمان إلى نور في قلوبكم ينتج حركة و يغير سلوك
سأقول لكم الجواب الذي ربما يخدش أصنامكم التي أنتم عاكفون على عبادتها في عصر الهوى المتبع والشح المطاع واعجاب كل ذي رأي برأيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن هذا العلم نور، و نور الله لا يؤتى لعاص.
ومن لم ينتفع بقليل العلم فهو من الانتفاع بكثيره أبعد
و من ضيع فرض ما يعلم فماذا يصنع بعلم ما يجهل !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد علمتم حتى الآن معظم الأمور الهامة والأساسية في علم آخر الزمان، وهي أمور كانت محجوبة ومخفية عنكم طيلة قرن من الزمان
لقد علمتم أنكم في مرحلة الحكم الجبري بأمرائه الظلمة ووزراءه الفسقة و قضاته الخونة و فقهاءه الكذبة، ومع ذلك لا يزال الكثير منكم يوالي النظام الجبري ويعينه على ظلمه فيكون له شرطياً أو جابياً أو خازنا أو عريفاً
لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهم أنه من صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه و لن يرد عليّ الحوض
ومع ذلك الكثير منكم يصدق وعودهم الكاذبة في الاصلاح و التغيير والتنمية ومكافحة الفساد وكأنكم زاهدون في حوض النبي أو كأن حوضه الشريف شيء من الكماليات.
لقد علمتم أن الخلافة على منهاج النبوة هي الشكل الوحيد المقدر لنا بعد مرحلة الحكم الجبري، ومع ذلك لا يزال معظم المفكرين والحركات والجماعات و التنظيمات الاسلامية يبددون جهودهم وأموالهم ووقتهم في البحث عن أنصاف وأشباه الحلول، و يخدعون أتباعهم من حدثاء الاسنان ببعض الرقع البالية التي لا تستر عورة الامة ولا تعيد لها عزها
وحتى القلة القليلة من الصادقين والشرفاء من دعاة الاصلاح تجد أن معظمهم لايزال محبوس فكرياً ضمن أقفاص سايكس بيكو، ولا تتجاوز أحلامه حدوداً أبعد من المصلحة القطرية أو المذهبية أو الطائفية أو العشائرية ، ولا أحد منهم يفكر بمصلحة أمة محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لذلك أنا أكاد أجزم أن هذا العلم لم يحدث في أكثركم أي تغيير في شخصيتكم أو أخلاقكم، ولم يولد عند معظمكم حتى مجرد الرغبة في إعادة جدولة أولويات الحياة.
بل أكاد أجزم أن معظمكم حتى أقرب المقربين مني لم يفهم حتى الآن لماذا أقوم أنا بهذا الأمر وما الغاية النهائية منه، ولماذا أحمّل نفسي هذا العبء الأخلاقي والنفسي؟
هل هو علم من أجل العلم أم هو علم من أجل التسلية والثقافة أو اشباع الفضول؟
هل من أجل أن يقال أن نور الحقير رجل ذو بصيرة توقع أموراً قبل حدوثها؟

أنا أعلم أن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة “رجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار.”

هل أنا أحمق إلى الدرجة التي أضحي بها بالجنة من أجل سكووب أو سبق صحفي أو لإرواء شهوة سخيفة تافهة بحب الظهور؟
اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني، وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذاً لماذا أفعل كل هذا؟
و ماهي غايتي من تعلم هذا العلم وتعليمه؟
عن ماذا أبحث ؟ وماذا أرتقب ؟
بكل تأكيد ليست الغاية الأساسية من هذا العلم هي النجاة بأجسادنا من هلاك محقق وشيك.
و ليست الغاية الأساسية أيضاً معرفة متى يجب أن نخزن الطعام لسنة الجوع ومتى يجب أن نحول عملاتنا الورقية إلى ذهب أو فضة ، أو توقع توقيت اندلاع حرب كنز الفرات التي سيستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل كي نبني الملاجئ التي تحمي من الاشعاعات أو نتجنب انجاب الاولاد في تلك السنة وقايةً من التشوهات الولادية بالأشعة الذرية
لا، ليست الغاية من الترقب هي الأخذ بالاسباب المادية للوقاية من موت الاجساد أو جوعها أو تشوهها
فالموت سوف يدركنا و لو كنا في بروج مشيدة.
ولا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ولا يكون شيء في الأرض حتى يُـقضى في السماء.
فما هي الغاية من كل هذا إذاً ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغاية الحقيقية هي تجنب موت القلوب خلال هذه السنوات الصعبة
لأن الهلاك الحقيقي هو هلاك القلوب وليس هلاك الأجساد.
و نحن الآن في الفتنة التي وصفها حبيبي حذيفة بأنه يهلك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك
نحن الآن في الفتنة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يصبح فيها المرء مؤمناً و يمسي كافراً إلا من أحياه الله بالعلم
نحن الآن في الزمن الذي يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير، الزمن الذي لا يستطيع الرجل فيه أن يقول مه مه.
لذلك فالعمل البطولي الذي ينبغي على كل فرد منا الحرص على القيام به هو أن نصبح مؤمنين ونمسي مؤمنين.
عند ذلك كل ما تشعرون به من غربة الآن، و كل ما يبدو لكم أنه أصعب من القبض على الجمر سينزل عليكم برداً و سلاماً.
الغاية من هذا العلم الآن هو أن لا تحرف لطمات الفتنة وجوهنا عن الغاية الاساسية لوجودنا في هذه الدنيا.
لماذا جعلنا الله هنا، ولماذا قال للملائكة إني أعلم ما لا تعلمون؟
الغاية الحقيقية من المعرفة المتبصرة هي أن لا يغوينا الشيطان فنبدد حياتنا على علم لا ينفع أو أعمال لا تقربنا من الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لذلك ما سأكتبه في المرحلة القادمة أنا بحاجة له أكثر منكم
سأكتب لنفسي الرعناء أولاً ..
وسأكون أنا ضمير المتكلم ، و سأكون أنا ضمير المخاطب
فأشقى الناس عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار
اسلوب الكتابة سيكون موجز وبليغ ومكثف، ولاسيما بعد استكمال الحلقات الأخيرة من بعض السلاسل الطويلة التي لا زالت مفتوحة.
ولن نكون بعد اليوم مع سلاسل طويلة لأن المواضيع الكبيرة سيكون مكانها هو الكتب، والدفعة الأولى منها ستكون بتوفيق الله و بإذنه مطلع السنة القادمة.
ـــــــــــــــــــ
المقالات التي سأنشرها هنا ستشبه الخواطر اليومية التي قد تبدو للوهلة الأولى ذات مواضيع مبعثرة ، لكنها مجرد أجزاء صغيرة سترسم مع بعضها البعض ملامح الصورة الكاملة، وبهذه الطريقة سأكون أكثر غزارة بالنشر، و لن أكون مضطراً بعد اليوم على لجم نفسي عن الكلام فترة طويلة من الوقت حرصاً على وحدة مواضيع السلسلة وعدم تشتيت القارئ بمواضيع مستجدة.
 والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
ــــــــــــــــــــــــــ نـور ــــ

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 2 =