سفيان ناصر الله : لولا الحمقى ما تمت منى العقلاء

91a4c soufian
سفيان ناصر الله :  لولا الحمقى ما تمت منى العقلاء

إنَّ أول ما يُطرَّز به المقال هو الدليل على آخر ما انتهى إليه الفكر ، والبديهيات عند أصحابها ، دُلُل على شخصياتهم عند غيرهم ، والعيونُ نظاراتُ القلوبِ ، وإن العين مهما اختلف لونها تبقى حبيسة ثنائية نظر القلب إلى الأشياء من حيث البياضُ و السوادُ ، الحق والباطل ، ومتى وَجّه المرء بصره إلى الشيء فإن صورته في العقل مُحدّدة الوجهة من طرف القلب باعتبار المقاصد المرادة منه ، وإن الأشياء ليست بذواتها وإنما بالعلل السّائقة لها ، فالخوف واحد غير أنه يعمل على زرع الإقدام في قلب المؤمن الشجاع ، ويعمل في الوقت ذاته في قلب الأزوح (١) عن فضيلة الحياة ، المقبل على ثماد العيش إحجاما ، ويكون في نفس الأول عاملا على الاطمئنان إنْ صاحب الخوفَ عمل ، ويعمل في قلب الثاني على زرع الاضطراب والحزن وإنْ صاحَبه عمل بإحجام ، فالأشياء بمواضع نزولها ، وليس كل ترباء القلوب تصلح للري والزراعة ، وإن القلب ذاته لا يمكن فصل العواطف فيه عن العقل ، إذ إن العقل فعل من أفعال القلب ، ولا ثبات للقلب إلا في عقله بنفسه ، فكما يسمع المرء بأذنيه ، يعقل بقلبه (٢) .



وإن النظر بهذه الثنائية المقيتة لكل شيء دون شاذٍ عن القاعدة لهو قاعدة الشذوذ في الكون ، فحتى الرياضيات التي تستمد قواعدها من النظر في الكون لم تترك المسألة عبثا للثنائيات ، فعندما يعبّر الرياضيون بهذه العبارة ” أكبر مِن أو يساوي ” فليس في هذا إلا أن معادلة الصراع قد تكون بين حقٍّ وباطل أو باطلين وليس أحسن من قولهم إلا قول ربنا { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } ، وليس في تمييز الحق من الباطل سوى تحديد موضع المرء من الكون ، إذ ليس وجود الباطل مشكلة ، فوجوده حتمي ، المعضلة في تمركز أهل الحق ، فالصفر يعمل دورًا إن عرف الواحد أين يتمركز . وفي فيزياء الذرة فيزياء لوجود الباطل ؛ إن الإلكترون وإن كان سالبا فهو يخدم النواة ، شرط يكون هناك بروتون .



وإن مقدِّر القدر وشارع الشرع واحد ، فإن سير المرء على الشرع يجعله يكون في القدر قدرًا ثانيا ، وهذا ما لا يفهمه الحمقى فيقفون إما شاجبين على القدر أو محاربين له وإن القدر ماض مستمر مثل التاريخ تماما ، غير أنه قلّ أن يكتب التاريخ صُنَّاعه .. والقدَر مكتوب و ليس صناع القدر إلا ألوية الحق ، والجحافل النضال ..
إذا كان الباطل ضرورة مقدرة ، فمواجهته سنة كونية . والتعلل للقعود بالقدر مخالفة للسنة الكونية ، فالقيام بالواجب الشرعي حينها هو القدر الثاني .



وليس ثمة تعارض بين تعارف الشعوب وصراع الحضارات ، ففي الصراع تتعارف الشعوب على مميزات حضارات بعضها ومساوئها .. وإن تاريخ الصراع في الكون في نفس الإنسان مختزَل ، فالمرء لا يكاد يعرف نفسه وغيره إلا حال الشدة وعند الابتلاء ،ثم إنَّ علم الإنسان أن خَلقه كان من ماء فيه لمحة دالة على أن فيه من الماء مادة الاحتراقه وفيه منه ما يمثل الأوكسجين له أيضا أعني مادة الحياة ، وكما قيل ” ليس من إنسان عظيم دون ألم عظيم ” .



ومن لم ير في الساجد وهو ينزل من الركوع اقترابه من قريب إلى أقرب من الله تعالى ، فلن يرى في المنع روح العفة وينبوع العطاء .. ومنه أنه سيقف على ظواهر الأمور ولن يرى في الماء إنسانا يموت على الحق ، أو رجلا يأبى الضيم فيفضل الحياة في سعة الروح على البقاء في سجن الجسد ، والماء حين يموت يخرج روحه من جسده السّائل فيعلو ذرات بخارية وكذا الإنسان ، وما كان حُكم الموت في البشر الانتهاء بل الانتقال . فهو انتقال من الطبيعة المادية السائلة إلى الجوهر الذي هو الروح ، والنظر إليه حال الشدة فيه تعليم للأجيال أن الإمعان في ذكر أن المرء مخلوق من طين دون ذكر أنه خلق من ماء أيضا سبيلا للركون إلى الطينية عند الضيم .



وإن العبقرية لا تكمن في الأفكار الذكية ، بل في موضع الأفكار الأكثر غباء ، فإن أغبى فكرة عند اجتماعها في نسق من الأفكار الذكية لا تكون إلا أذكاها ، فالفطنة إلى الصعب يسير ، غير أن الفطنة إلى اليسير صعب عسير ، وليست العبقرية إلا النظر بعين الروح إلى ما ينظر إليه بعين العقل ، و شرط العبقرية رقة الشعور ورهافة الحس ، ولا يشترط فيها ذكاء العقل بل يقظته حال نظر بعين الروح .. وليس من العبقرية في شيء أن يعيش المرء يستفرغ جهده في البقاء على الخبث بل كل العبقرية في أن يموت المرء على الطهر ، وليس في الموت من معاني الانتهاء المتوهمة لعين الحمقى إلا الموت الذي يعيشونه في الدنيا ، فالعبقري الحق ليس الذي يدفع الموت عنه لكي يعيش عيش المواشي ، عيشا لا يذكر في قاموس الحياة ولا حتى في الحواشي ، بل العبقري الذي إذا رأى الإياب إلى الحق في الإقدام على الحياة في معرض الموت ، ومتى سعيت جهدَك في إقناع الأحمق بأن الأشياء قد توجد في أضدادها لن تفلح ، حتى تخلص إرادته ، فحتى سلب إرادة المرء يكون بإرادته وكذا حريته ، فالإقناع فعل و الإقتناع إرادة .



وخلاص الإرادة يكمن في التحليق بالروح بعيدًا عن فلاة الجسد التي لا يقتاث المرء فيها إلا على السراب ، وأكبر سراب يقتات عليه المرء هو العيش في ظل الذل للطواغيت ، والعيش في ظل الذل موت ، وفي خوف الموتِ الموتُ ، ولئن كان من معاني الذكاء لغةً زيادة ظهور لهيب النار فإن في صلب الذكاء احتراق الحطب الذي هو المادة ، فلا نور إلا عن احتراق وليس الذكاء إبداؤه بل الذكاء إخفاؤه ، فإن الغبي يتذاكى فيبدي الغباء الكامن فيه والذكي يخفي ذكاؤه بالتغابي .



و إن اختلاف القصد يجعل حماقات الحمقى جزءًا من خطط العقلاء ، فالعقلاء الذين يبَاصرون (٣) الجنة ، يباصرون الحمقى كي يكونوا وسيلة إلى المقصد ، وكثيرا ما يخيل لهؤلاء أنهم هم من يجعلون العقلاء وسائل لمقاصدهم فينال العقلاء الري الكامل بوجود السراب لدى الحمقى ؛ فكما يرى الحمقى في عفة العقلاء خلوًا للساحة للوصول إلى النساء ، فإنهم يرون في إرادتهم للآخرة سبيل لاحبًا للوصول إلى سراب الدنيا .. عندما ينتصب أحد الأقوياء في نظر الضعفاء للمفاخرة بعدِّ النساء اللاتي مارس بهن الفاحشة في مجمع تستهويه هذه الأفعال ؛ ولم يقدر على فعلها ؛ يعدّ فعله إنجازًا ، فكل ما يراه الضعفاء قويًا لا يكون إلا أضعفهم في نظر العقلاء ،لأنه حين يَعد للضعفاء إنجازته يصنفها العقلاء من سقطاته و إعلانه لسقطاته سقطة أُخرى .



فعمل الحمقى في الدنيا : اتباع السراب ، وعمل العقلاء تجفيفه ، وهنا نقطة الصراع .

وحصيلة الحديث أن : الحياة نص ، قيدهُ الموت ، فإن إقدام ملك الموت على أخذ روحك هو عينه إحجام الموت عنك ، فليس بعد الموتِ موتُ ، فانظر بما ملأت نصك فعن قريب إلى الإطلاق صائر .



وما الدنيا إلا رحم تخرج منه بعد انتهاء أجل التكوين إلى ما هو أوسع مكانًا و أجلا ، فحين تنفَذ سعة الوقت تنفُذ من الوقت إلى سعته ، وسعته الخلود .



كتبه / سفيان ناصرالله


(١) الأَزُوحُ من الرجال: الذي يستأْخر عن المكارم ، والأَنُوحُ مثله .

(٢) : فالعقل لجام العواطف ، فكما ينتج الخوف الإقدام والإحجام ، فالقلب ينتج العاطفة في انطلاقها والعقل في إحجامه ، والمعنى خفي دقيق يفهم من السياق ، والله تعالى قال : لهم قلوب لا يعقلون بها ، ولم يتبث قط أن ذكره بصيغة الاسم ، فالاسم فيه دلالة التبوث ، والفعل في المضارع حركي ، والفعل يُنفى ويُتبث ، لهذا يمكن للمجنون أن يعود له عقله كما يعود للضرير بصره .

(٣) باصَرَه : نظر معه إِلى شيء أَيُّهما يُبْصِرُه قبل صاحبه.


2012

 —

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 + ستة =