ثَرثَراتُ الجِهِاتِ المُنْفَكَّة

إنْ كانَ العلمُ وَحْدَهُ مَنَاطاً لدخولِ الجنة فَبَشِّر عَجائزَ أهلكَ بالنار!
حَرَّمَ الإسلامُ الحريرَ على الرجال..
إذا توضأتَ وصليتَ في ثوبِ حرير؛ صَحَّتْ صلاتُك، وأثِمتَ بارتداء الحرير.
أباحَ الإسلامُ الصوفَ والكتانَ للرجالِ والنساء..
إذا صليتَ في ثوبِ صُوفٍ- بغير وضوء- لَمْ تََصِح صلاتُك ولو لبستَ صُوفَ الأرضِ وكِتَّانَهَا!!
صُوفُ الأرضِ- وإن كان حلالاً- لا يُجزئُ عن الوضوء.. وحريرُ الأرضِ- وإن كان حراماً- لا ينقض الوضوء!!
صلاتُك بالوضوء لكَ.. وإثمُكَ بالحرير عليك!!
هذا- وغيره- ما يسميه الفقهاء: (انفكاكَ الجِهة).
تقول لأحدهم: فلانٌ أسمرُ اللونِ طويل
يَردُّ عليك: لا؛ بل هو ثرثارٌ مهذار!!
هذا- وغيره- ما يُسميه العقلاءُ: (فقع المرارة)!!
ما الرابط هنا؟! الجهةُ منفكة!!
أقولُ له: بَكْرَاً؛ فيسمعُ خَالداً
ويكتُبُه زَيَدَاً ويَقرؤُه عَمْرَا
(تحريرُ محل النزاع) و(انفكاك الجهة) قاعدتان أصوليتان عظيمتان لا يحتاج المثقفون هذه الأيام إلى أكثر منهما في نقاشاتهم التي قد تطول حتى لا تكاد تنتهي!!
إذا حَرَّرتَ محلَ النزاعِ فَكَكتَ الجِهة، وإذا فَكَكت الجهةَ حررتَ محلَّ النزاع!!
لاحقاً.. ستكتشف أن النقاش الذي قد يستغرق خمس ساعات- مع وصلات السب والشتم-؛ سينتهي في خمس دقائق مع غاية التقدير والاحترام!!
قرأتُ مرةً أن إمبراطور الصين سأل الحكيم كونفوشيوس عن الطريقة المثلى لحث شعبه على العمل والإنتاج؛ فقال كونفوشيوس: اصنع لهم معجماً.. إذا عرفوا دلالة الألفاظ ومعانيها وصلوا إلى المعنى المراد في أقصر وقت ثم انصرفوا إلى العمل والإنتاج.. يبدو أن الشعب الصيني كان شعباً مَكْلَمَانِيَّاً بطبعه!!
أفلاطون في حواراته كان يشدد قبل- بَدء الحوار- على الاتفاق على معاني الألفاظ ودلالاتها.. كان الحوار ينتهي في البحث عن معاني الألفاظ.. وكان هذا- في الأغلب- هو الهدف الأساس لأفلاطون!!
عِلمُ أصول الفقه- بقواعده المُقررة- علمٌ إسلاميٌ عظيمُ الخطر لا أظن- وقد أكون مخطئاً- أن أمةً من الأمم امتلكت مِثْلَهُ بتأصيلاته التي اجتهد الفقهاءُ في تأصيلها.. بيد أن كثيراً من شبابنا المثقف- في عصر التراجع هذا- لا يُطربهم زامرُ الحي، ولا يقنعهم رائدُ الأهل، ولا يُبهرهم إلا من يقول: قال دي سوسير، وتشومسكي، وأفلاطون، وكونفشيوس (كما فعلتُ أنا أعلاه).. فإذا سمعوا: قال الشافعي، والجويني وابن تيمية؛ لَوّوا رؤوسَهم ورأيتَهم يصدون وهم مستكبرون!!
يقول لك علمُ أصولِ الفقه: كفى هرتلة.. هذه الألفاظ وُضعت لهذه المعاني، وهذه المعاني تُعبر عنها هذه الألفاظ.. إن اتفقنا في المنطلق سنصل إلى النتيجةِ متفقين أو مختلفين، وإن اختلفنا في المنطلق لن نصل إلى نتيجةٍ أبداً!!
***
– كان (رحمه الله) مُلحداً عبقرياً!!
– ماذا؟!
– كان (رحمه الله) ملحداً عبقرياً!!
سَمِعْتُك.. ولكن جملة (رحمه الله) هذه، ما موقعها من الإعراب؟! ما الذي جاء بها هنا؟! (إيه اللي جاب القلعة جنب البحر)؟!!
المسلمون- ابتداءً- ليسوا مُغرَمِين ولا مشغولين بإدخال الناسِ النار؛ بل العكسُ هو الصحيح.. بيد أن لكل شيءٍ حدوداً وقواعدَ إن خَرجَ منها أو أُخرِجَ عنها لم يعد هو هو.
اللبنُ سائل، وكذلك الحبر.. اتفاق الحبر واللبن في السيولة لا يجعلهما شيئاً واحداً.. إن قَطَّرتَ قطراتِ حِبرٍ في كوب لبن؛ ستخسر اللبن ولن تكسب الحبر!!
الحدودُ فواصلُ تفصلُ الأشياءَ عن بعضها لتتمايز عن بعضها.. والحفاظ على الحدود والقواعد حفاظٌ على جوهر الأفكار وماهية المعتقدات؛ وليس جموداً يستنبته التعصب أو تعصباً يؤدي إلى الجمود!!
ما لا أصل له لا يُعول عليه.. وَرَدُّ الأشياء إلى أصولها يحفظها من أن تكون كالحرباء تتلون بما عليه تَطأ، وتتغير بما فيه تُكَنُّ!!
إذا عُبثَ في الأصل سَقَطَ بفروعه!!
الشيوعيةُ غيرُ الرأسمالية.. والتلقيح بينهما يُسقطهما معاً، أو يُنتجُ منهما شيئاً آخرَ فيهِ من هذه وتلك، لكنه ليس هذه ولا تلك!!
وقد ابتُلي الإسلامُ ببعض أهله من معتنقي دين الإنسانية، لا يكاد يظهر حُمقُهم إلا حين يتعلق الأمر ببغض الكفر وأهله؛ فتراهم يسارعون فينا يقولون: “نخشى أن تصيبنا دائرة”، أو تراهم- لطول تقلبهم في مستنقع عُقَدِ النقص الذي خلفته الانكسارات النفسية أمام الآخر المتغلب- يتطلعون إلى الظهور بمظهر التحضر والمعاصرة، أو مظهر المفكرين المتحررين؛ غير عابئين بانتهاك الحدود وإسقاط القواعد، في الوقت الذي يذيقهم فيه أهلُ الحضارة الإنسانيةِ المزعومة الويلاتَ في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأوطانهم!!
لن تجد نصرانياً عاقلاً مؤمناً بمعتقده يجامل مسلماً أو يهودياً؛ فيتطوع- رغبةً أو رهبةً- بإدخاله ملكوت السموات، (ولو فعل لكان كاذباً)، ولن تجد يهودياً يفعلُ ذلك مع مسلمٍ أو نصراني..
اليهودي تحديداً تشعر أنه لو استطاع إدخالَ مَجَرَّةِ دَربِ التبانةِ النارَ لفعل!!
أما الإسلام المظلوم بأهله فقد صار حقلاً للتجارب؛ كلما نبت منهجٌ في مستنقعٍ ورُزق استطالةً وعلواً بحبل من الله وحبل من الناس؛ سارع الإسلامبراليون إلى ترقيعه بالإسلام أو ترقيع الإسلام به.
شتان بين مَن يجعل الإسلام ميزاناً يزن به الأشياء ويردها إليه، وبين من يجعل الإسلامَ ثوباً مرقعاً لا تكاد تجد فيه رقعة تشبه أخرى؛ فهذه رقعة اشتراكية، وتلك رأسمالية، وأخرى ليبرالية، ورابعة ديمقراطية، وخامسة وطنية، وسادسة قومية.. وما شئتَ بعدها من رقاعٍ لا هدف لأصحابها سوى إخفاء الثوب ذاته؛ حتى إذا اختفى الثوب تحت الرقاع تَمَّتِ الغايةُ وحُققَ الهدف.. وكأنَّ المطلوب أن يتحول الإسلامُ إلى شيء هلامي لا شكل له ولا طعم ولا رائحة؛ يَقبلُ كُلَّ شيء؛ ليصير في النهاية لا شيء!!
***
هناك خالقٌ مالكٌ مدبرٌ لهذا الكون.. سَمَّى نفسَه بأسماء حسنى، ووصف ذاته بصفات عُلا.. خَلقَ الكونَ وخَلقَ معه جنةً للمؤمنين به، وناراً للكافرين به.. هكذا أراد هذا الخالق المالك المدبر العظيم.. فإذا بَلَغَتْ رِقةُ نفسِكَ حَدِّاً ترى فيه أن اسم (الرحمن) يُسقط اسم (الجبار)، أو اسم (الرحيم) يُسقط اسم (المنتقم)، أو اسم (الغفار) يسقط اسم (القهار)؛ فقد- والله- ارتقيتَ مُرتقىً صعباً وأوردتَ نفسك المهالك حين تحامقتَ فأثبتَّ ما تظنه خيراً ومحوتَ ما تظنه شراً.. أو تسافهت؛ فأقررت له جل وعلا ما تظنه لائقاً ورفضت عليه جل وعلا ما تظنه غير لائقٍ مما أثبته هو جل وعلا لذاته.. وما أنت بالماحي ولا المثبت.. فكأنك ادعيتَ لنفسك- دون أن تدري- رحمةً فوق رحمته، ورأفةً فوق رأفته، وغفراناً فوق غفرانه.. وما أظنك تفهمُ أن هذا قد يؤدي إلى ذاك، ولكنكَ أعملتَ عقلكَ في سِدرةٍ لا إعمال لعقلٍ فيها.. والعقلُ- بعيداً عن الله- كالفيلِ في متجر خَزَف؛ كيفما تحرك أفسد!!

ثَرثَراتُ الجِهِاتِ المُنْفَكَّة

ما كنتُ أظن أنه سيأتي عليَّ يومٌ أقول لك فيه: الليلُ ليلٌ، والنهارُ نهارٌ، والمرأة امرأةٌ، والرجلُ رجلٌ!!
جنةٌ خلقها الله للمؤمنين به.. ورجلٌ ملحد لا يؤمن بالله ولا بجنته.. أَوَ كَبُرتْ في نفسِكَ نفسُكَ حتى وصلت إلى حَدِّ إجبار اللهِ على أن يُدخل جنتَه مَن لا يؤمن به ولا بجنته؟!
آللهُ يُجبر يا هذا؟!
ما هذا السفه والميوعة والرطرطة؟!
ما هذا الكفر والضلال والزندقة!!
سبحان الله!! أوصلنا إلى هذا الدرك؟!
كيف صار (العلم مع الكفر) مناطاً لدخول الجنة؟!
أوَ لا تعلم أن أول من تُسَعَّرُ بهم النار ثلاثة: عالمٌ تَعَلَّم ليقال عالم، ومجاهدٌ جاهد ليقال جريء، ومُنفقٌ مَالَه أنفق ليقال جوادٌ كريم!!
إن كان العلم ديناً أنبياؤه العلماء، أو رباً خلق جنةً وناراً؛ فليُدخل من شاء في جنته وليُلقِ من شاء في ناره!!.. وما كان ذلك ولن يكون!!
الجنةُ التي نعرف لن يدخلها إلا مَنْ آمنَ بخالقها الذي نعبد!!
العِلمُ مع الكفر ليس مناطاً لدخول الجنة..
تلميذٌ في القسم الأدبي حصل على الدرجة النهائية في الثانوية العامة.. أيقول عاقلٌ: لا بد من إلحاقه بكلية الطب لأنه حصل على الدرجة النهائية؟!
حصل على الدرجة النهائية في ماذا يا ابن أخي؟!
الجهة منفكة يا بُني!!
لكل شيءٍ شيءٌ يا سيدي.. وخَلْطُ الأوراق هكذا ضلالٌ في الذات وإضلالٌ للغير..
وقد كان فيمن كان قبلنا مَن هُم أشد منا قوة وعلماً وآثاراً في الأرض؛” فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا، سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ، وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ”.
ثم هَبْ- وهذا غير صحيح- أننا أمة متخلفة جَرَتْ عليها سُنةُ الله في الاستبدال.. أَوَ كَانَ لِزاماً علينا أن نخرس فلا نُبينَ للناسِ الحقَّ الذي نؤمن به؛ لأننا أمة متخلفة؟!!
إن كان أبوك الفَلَّاحُ الأُمي قد يَسَّرَ اللهُ له بكده وعرقه أن يدخلك جامعةً تتعلم فيها قليلاً من العلم مع كثيرٍ من السفسطة؛ أو كان لزاماً عليه أن يخرس؛ فلا يحذرك- بخبرته الحياتية السابقة- من شؤم أخلاقك السيئة مع الناس؛ لأنك صرتَ أعلم منه بِفَكِّ الخطِ ومضغِ الكلام؟!!
أَتَفَهَّمُ حِرصكَ على الاحتفاء بالعلم إن كان علماً، وبالعلماء إن كانوا علماء.. كما أتفهم حرصكَ على الاستفادة من مناصرة هؤلاء العلماء لقضايانا الإسلامية أو العربية إنْ كانوا فعلاً مناصرين لنا.. وعلى الرغم من أنني لا أجد نصيراً كالسيف بعد التوكل على الله وحسن الإعداد.. إلا أنني أجد من العقل والحكمة أن نستغل مناصرتهم هذه استغلالاً حسناً؛ فنرفع من شأنهم بها، ونفيد من خير علمهم، وألا نَجبَهَهَم بإلحادهم أو كفرهم إن كان السياق مطلق المناصرة أو مطلق الإفادة من العلم.. فما كان السلف الصالح يقولون- كل حينٍ- حين كانوا ينقلون عن علماء الكفار مثلاً: قال الكافر أرسطو لعنه الله!! ما كانوا يفعلون هذا.. وإنَّ المسارعة إلى التذكير بالكفر أو الإلحاد دون ضرورة؛ تصرفٌ فيه شيء من مراهقة فكرية لا تُستحب في غير سياقها.. بيد أن المبالغة في الامتنان والشكر أدت- عند المغرضين والجهلة- إلى حد إدخال الملحد الجنة؛ فصاروا كالأحمق الذي أنقذ الطبيب زوجتَه من الموت؛ فبالغ في شكره حتى وهبها له!! وما كانت الزوجة متاعاً يوهب، ولا الجنة مَشاعاً يُقَسَّم.. وصاحب الجنة الذي خلقها وَضَعَ لدخولها شروطاً؛ فمن حققها كان قميناً أن تُدركه رحمتُه، ومن أسقطها كان حرياً أن يَمَسَّهُ عذابُه.. والأمر له أولاً وآخراً.. “لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون”.
****
ثم أخبرني بالله عليك..
كيف صار (عدم إيذاء البشرية مع الكفر) مناطاً لدخول الجنة؟!
أَوَ لا تعلمُ أن هذا الذي لم يؤذ البشرية آذى رَبَّ البشرية حين كَفَرَ بهِ منكراً وجودَه بالكلية.. أو جاعلاً له صاحبةً وولداً.. أو جاعله هو ذاته ثلاثة أقانيم!!
أَوَ تَرضَى- وللهِ المثلُ الأعلى- أن يؤذيَ أحدٌ أباك أو أمك أو بعضَ أهلك ثم لا تكتفي بالسكوت عنه بل تتخذه خِدنا وصاحباً وحبيباً؟!
لِمَ تجعلُ اللهَ أهونَ الناظرين إليك؟!
التوحيدُ الذي تستهين به عليه قامت السموات والأرض.. هو حق الله الذي لا يغفر لمنتهكه أبداً.. كيف تطاوعك نفسك أن تتساهل مع من ينتهك جناب حق الله الأعظم؟! وقد أخبر الله عن نفسه أنه لا يغفر أن يُشركَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. كما أخبر أيضاً أن من يشرك بالله ” فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار”.. هذا لمن أشرك به.. فكيف بمن أنكر وجوده بالكلية؟!!
أأنتَ أرحمُ مِنَ الله؟!
هل أضلَّكَ عقلكُ فرأيتَ مِنْ كمالِ تنزيه الله أن تُثبتَ له (غافرَ الذنبِ وقابلَ التوب)، وتنفي عنه (شديدَ العقاب).. وكلاهما أثبتهما الله الذي لا يُمحَى ما أثبت ولا يُثبَتُ ما مَحَا.
يقيني أنك لا تُدرك فداحة الجُرم الذي ترتكبه في حق الله لأنك ربما لا تُدرك عِظَم قَدرِ التوحيدِ عند الله!!
نَفْعُ البشرية مع الكفر ليس مناطاً لدخول الجنة.. هذا غير ذاك يا بُني.. الجهة منفكة!!
المسيخ الدجال سينفع البشرية بإحياء الموتى وشفاء المرضى وإخراج الكنوز والإتيان بالعجائب.. فَهَلُمَّ إذن فَلنُدخله الجنة!!
لقد نهى اللهُ نبيَّهُ عن مجرد الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى؛ فكيف بالملحدين؟! ” مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ”.
إن المسلمين لا يحكمون (لمسلمٍ معين) بجنةٍ ولا بنار، ولكنهم يحكمون للكافر والمشرك والملحد بالنارِ إن مات على ما عاش عليه.. فإذا بلغ بك الاستظراف حَدَّ أن تقول لي: ألا يمكن أن يكون هذا الكافر قد آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ويومه الآخر وقدره خيره وشره قبل أن يموت بدقيقة.. إنْ قلتَ لي هذا فاسمح لي أن أخبرك أن الحذاء لا يُلبس في الرأس؛ بل في القدم.. وإني ليَحزُنني أن أراكَ حافياً!!
إنما يُحكَمُ على الناس بالظاهر يا ابن أخي.. أما الباطن فعلمه عند الله.. وما هذا الإرجاء الذي تتقلبُ في مستنقعه إلا مظهراً من مظاهر فساد العقيدة، استنبته الجهلُ بالعقيدة أولاً، وضغطُ الواقع ثانياً، والهزيمةُ النفسية ثالثاً، وإعمالُ عقلِكَ فيما لا إعمالَ للعقل فيه رابعاً.. وإني أعيذك بالله من الخامسة!!
***
لقد كان إبليسُ عبداً صالحاً ولم يكن ملحداً ولا كافراً ولا مشركاً.. بيد أنه عصى الأمرَ حين أَعملَ عقلَه فيه.. فظن ظناً فاسداً أن النارَ أفضلُ من الطين، ثم بنى على هذا الظن الفاسد ظناً آخرَ فاسداً؛ فرأى أن المخلوق من المادةِ الأفضل أفضلُ من المخلوق من المادة المفضولة؛ فحكم لنفسه بالأفضلية على آدم، ثم امتنع عن السجود لأنه رأى أن الفاضل لا يمكن أن يسجد لمفضول (وهكذا يفعل العقلُ غالباً بعيداً عن الله)؛ فاستحق ما استحق بعصيانه الأمر؛ لا بكفره ولا بشركه ولا بإلحاده.. وكيف يُنكِرُ وجودَ الخالق أو يكفر به من وقف بين يديه واعترف بخلقه له قائلاً:” خلقتني من نارٍ وخلقته من طين”، ثم أقسم بعزته جل وعلا على إغواء بني آدم ” قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين”؟!
أَوَ يُعذرُ إبليسُ باجتهاده؟!
لِمَ لا تَعذرُ إبليسَ باجتهاده كما تُريد أن تعذر الملحدين والمشركين والكافرين باجتهادهم؛ إن بلغتهم الرسالة فلم يقتنعوا بها، أو بلغتهم مشوهةً فلم يبحثوا عن أصلها الصحيح؟!
إنه الأمر يا ابن أخي.. إبليسُ لم يُبْلَس إلا بسبب عصيانه الأمر؛ فكيف بإنكار وجودِ صاحبِ الأمرِ أو الكفر به أو إشراكِ غيرِهِ مَعَه؟!
لقد جَعَلَ اللهُ الدهرَ يومين: يوم أول (وهو الدنيا)، ويوم ثانٍ (وهو الآخرة).. وَوَضَعَ لكل يومٍ مقاييس وأحكام وقواعد وسنن، ثم أطلق سبحانه وتعالى حريةَ الاختيار لخلقه في اليوم الأول، وقَيَّدَ اليومَ الآخر بإرادته ومشيئته المطلقة؛ فجعله يوم جزاءٍ على هذا الاختيار.. ثم لم يترك خلقه دون أدلةٍ تُرشد ومنارات تُنير؛ فأرسلَ الرسلَ بالتوحيد ونبأ الأنبياء بالشرائع، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقومَ الناسُ بالقسطِ ويحكموا بالعدل.. ثم جعل الشيطانَ والنفسَ والهوى فتنةً لهم واختباراً؛ إذ لا يتم الجزاء في اليوم الآخر إلا بالامتحان في اليوم الأول؛ ولهذا رُكِّبَ الإنسانُ من قبضةٍ من طين الأرض ونفحةٍ من روح السماء؛ فأي التركيبين غَلبَ على الإنسان في الدنيا لاقى جزاءَه في الآخرة.. وأنتَ- مع الاختبار والامتحان- أُعطيتَ حريةَ الاختيار؛ فإن اخترت ما اختار إبليس؛ صِرتَ من حزبه وشيعته، وإن اخترتَ الانصياع لأمرِ الله؛ صرتَ أعلى من الملائكة قَدْرَاً حين تغلَّبْتَ على قبضةِ الأرضِ التي لم يُبتلوا بها.
إننا نتحاكم في الدنيا بالقواعد والأصول والأسس التي أنزلها الله تعالى؛ فإن لم نفعل التبسَ عندنا الحِلُ بالحُرمة، والكفرُ بالإيمان، وطبيعةُ اليومِ الأول بطبيعةِ اليوم الثاني.. واليوم الثاني لله وحده مطلق المشيئة والإرادة فيه؛ لا يُقال له فيه لماذا ولا كيف!!
انتبه جيداً..
أنتَ تعيشُ في اليومِ الأول وأمامك يومٌ ثانٍ.. فإذا خَدَعَتْكَ ضلالاتُ عقلك واستزلتكَ أوهامُ نفسك؛ فَرُحْتَ تُرتب اليومَ الأولَ على ما تُحبُّ وتهوى؛ صِرتَ كالتلميذ الذي استصعبَ أسئلة الامتحان فأراد أن يختار أسئلتَه بنفسه.. وأنَّى له هذا؟!
إعادةُ ترتيب اليومِ الأولِ على ما تُحب؛ مراهقةٌ عقليةٌ نتجت عن جهلك بطبيعته التي جعلها الله للابتلاء والاختبار.. فكأنك تريد أن تحصل على جنة الآخرة في اختبار الدنيا، ولا يكون الجزاءُ وقتَ الاختبار، بل بَعْدَه!!
وكم مرةٍ سمعتُك تقول: (آه لو لم يأكل آدمُ من الشجرة!!).. فقد أكلَ آدمُ من الشجرة، وانتهى الأمرُ، ونزلنا من الجنة إلى الأرض.. ولو لم يأكل مَا كانَ يومٌ أول ولا يومٌ ثانٍ.. فانظر لنفسك واحذر أن تفعل فِعلَ أبيك؛ فتأكل من شجرة الدنيا؛ فتكون لائماً ملوماً، وتنزل من الأرضِ إلى النار؛ فيكون نزولك أنكى من نزول أبيك الذي تاب الله عليه.. وليس بعد النار دار اختبار.. إنما هي نارٌ أبداً أو جنةٌ أبداً.
إنْ دَخَلتَ إلى عِلمِ اليومِ الأولِ من غير هذا الباب؛ خسرتَ اليومين معاً.. وذلك هو الخسران المبين!!
اقرأ وتَعَلَّمْ.. ولكن:
“اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربُكَ الأكرم، الذي عَلَّمَ بالقلم، عَلَّم الإنسان ما لم يعلم”.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة − 7 =