بندر الشويقي : حكاية السلفية الآفلة – الحلقة الثانية : التَّجديد بالشَّكِّ والحَيرة

2234e acheway9i
بندر الشويقي : حكاية السلفية الآفلة – الحلقة الثانية : التَّجديد بالشَّكِّ والحَيرة


حكاية السلفية الآفلة، قراءة في كتاب (ما بعد السلفية)  الحلقة الثانية: التَّجديد بالشَّكِّ والحَيرةالدكتور بندر بن عبدالله الشويقي20 رجب 1436هـ

   عُدْنا لمناقشة كتاب (ما بعد السَّلفيَّة)، لمؤلِّفَيه: أحمد سالم، وعمرو بسيوني.
وسوف أُوقف عرْضَ نماذج (السَّرقات العلميَّة) إلى الحَلْقة الثالثة، أو الرابعة– بإذن الله-؛ نُزولًا عند رغبة شريحةٍ من القرَّاء اقترحتِ الدخولَ في مناقشة آراء وتقريراتِ المؤلِّفَين- أصلحهما الله. 
وفي البَدء أُقدِّمُ الشكر للإخوة الذين بَعثوا إليَّ تعليقاتٍ كثيرةً كتبها المؤلِّفانِ في مواقِع التواصل بعدَ نشْر الحلقة الأولى؛ تلك التعليقات ألقتْ مَزيدًا من الضَّوء على جملةٍ مِن مُبهماتِ الكتابِ وغَمغماته.
وأودُّ هاهنا التَّنبيهَ إلى خطأ بعضِ الأفاضل الذين قرؤوا على غِلاف الكتاب عِبارة: “قراءة نقديَّة للخِطاب السَّلفي المعاصر”، فصاروا يتساءلون: ما المشكلةُ في نقْد الخِطاب السَّلفيِّ المعاصِر؟ ولمَ التحسُّسُ من نقْد خِطابٍ يتَّفقُ الجميعُ على وجود خللٍ فيه؟

هذه التساؤلات لن يقولها مَن قرأ الكتابَ جيدًا ولم يقتصرْ على عنوانه؛ مَن قرأ سيدرك أنَّ محتوى الكتاب لا تَعكسُه إطلاقًا تلك العبارةُ المضلِّلة المنقوشة على طُرَّته، الكتابُ تَوجَّه مِن بَدْء صفحاته الأولى إلى صُلب المعتقَد السلفيِّ، فأعْمَلَ فيه معولَ الزعزعةِ والتشكيك والتفكيك، كما سنرى أثناء معالجتنا مادة الكتابِ بإذن الله.
وأمَّا الخطابُ السلفيُّ المعاصر، فعلى ما فيه من إشكالاتٍ وخللٍ، إلَّا أنه لم يتوقَّف عن نقْدِ نفْسِه قطُّ، وإن شئتَ فقل: إنَّه لم يتوقَّف عن المبالغة في نقْد نفْسه، والمتابعُ يستطيعُ القولَ بثقةٍ تامَّةٍ: إنَّه ما من اتجاهٍ في الساحة العِلميَّة والدعويَّة أكَلَ نفْسَه بالنقد، كما يفعل الاتجاهُ السَّلفيُّ. 
لكن القِصَّة التي معنا الآن مختلفةٌ، ولها بُعدٌ آخرُ مختلفٌ.. 
قصَّتنا هنا معتقَد أهل السُّنَّة وأئمَّة السَّلف.


******

من بين ما وصَلني من تعليقاتِ المؤلَّفَينِ على كتابهما، عبارةٌ استوقفتْني لأحدِهما (أحمد سالم)… حين سُئلَ:
a5e3a fahr1

كتابٌ يُجدِّدُ للأمَّة أمرَ سلفيَّتها!!
اللهمَّ عفوكَ ومَغفرتك لأخوينا!
لَمَّا قرأتُ هذه العِبارة، علمتُ أنَّ الرَّجُلينِ لا زالَا يَعيشانِ سَكْرةَ وُثوقٍ عصيَّةً على الإفاقة، رُغمَ كثرة المحاولات التي بُذلتْ لإعادتهما إلى الوعْي والتعقُّل والتبصُّر.
لقد أخَذ الرَّجلانِ مكانَهما في صَفِّ الأئمَّة المجدِّدين. 
ولو صَدقتْ أوهامهما، فسيكونانِ أَصغرَ مُجدِّدَين في طول تاريخ الأمَّة وعَرْضه وعُمقه، كما أنَّ كتابَهما سيكون سابقةً في التجديد الميَسَّر، الذي لا يُكلِّفُ الكثيرَ من العناء، وقد يحفظ تاريخُ الوهم- أيضًا- أنَّ هذه أولُ حالة تجديدٍ يَشهَدُ بها صاحبُها لنَفْسه، دون أن ينتظرَ شهادةَ المسلمين له! واللهُ وحدَه الهادي.

****

الآن، وبعدَما أكَّدَ المؤلِّفانِ مرارًا- غفر الله لهما- أنَّ حديثَ (السَّرقات العلميَّة)، يُمثِّلُ هروبًا وعجزًا عن مواجهة أفكار كتابهما، سنجعلُ حديثَنا موجَّهًا للفكرة الرئيسة في الكِتابِ المتعلِّقة بمعنى (السَّلفيَّة)، وسنَعرِض تصوُّرَهما لحديث الفرقة الناجية؛ لنرى- من خلال هذه النقطة الرئيسة- درجةَ العُمق ومستوى النُّضج في تحرير القاعدة التي ارتكَز عليها الكتابُ في رسْمِه- بل طَمْسه- حدودَ المعتقَد السلفيِّ.
وسوف نرى- بجلاءٍ- أنَّ المؤلِّفينِ لم يكُن عملُهما موجَّهًا أصالةً إلى نقْد ممارساتٍ معاصرةٍ تُنسَبُ لطريقةِ السَّلف. بل فكرتهما تَحفِرُ في أساس المعتقَد السلفيِّ الممتدِّ في عُمقِ التاريخِ مذ تَقضَّى زمنُ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلم ومع أنَّ المؤلِّفَينِ لم يُخفيَا هذه الحقيقة، إلَّا أني رأيتُ بعضَ المعلِّقين توهَّموا ذلك وهُم يُعالِجون إشكالاتِ الكتاب والزوبعةَ التي أثارها. 
المؤلِّفان- هداهما الهادي- تحتَ اسم التمسُّك بإجماع الصَّحابة، استفرغا جُهدَهما في زعزعة معتقَد السَّلف، وفي سبيل هذا الهدف قامَا برسْم جملةٍ من المعالم والتصوُّرات الخطيرة جدًّا.. والسَّاذجة في الوقت نفْسِه!
سنقفُ الآن مع بعض هذه التصوُّرات؛ لنتلمسَ خُطورتَها.. وسذاجتها:
كُنْ نبيًّا؛ لتنجوَ من النار!!
تلك أهمُّ معالم خِطاب المرحلة الما بعد سلفيَّة.
فهل يُمكن أن يقول المؤلِّفان هذا؟

صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّ هذه الأمَّة ((ستفترقُ إلى ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً، كلُّها في النارِ، إلَّا واحدةً))، ومن المعلوم بداهةً ألَّا أحَدَ من أهل العلمِ يَفهمُ من هذا الحديثِ أنَّ مَن أخَذ بمعتقَد هذه الفرقة، فهو ناجٍ من العذاب لا محالةَ مهما اقترَفَ من الخطايا والآثام، بل معنى الحديث عندَهم أنَّ فرقةً واحدةً هي مَن سينجو مِن إثمِ هذا الافتراقِ وآثاره، ولا يلزمُ من ذلك ألَّا يَلحَق أفرادَها ذنبٌ وإثمٌ وعذابٌ لمعنى آخَرَ لا علاقةَ له بما حصَل الافتراق بسببه.
أمرٌ آخرُ نذكِّرُ به: 
وهو أنَّ وجود فِرقةٍ ناجيةٍ، لا يَعني عدمَ إمكان وقوع الخطأ من أفرادِها، بل المرادُ أنَّ الحقَّ موجودٌ داخلَ هذه الفِرقة، بحيثُ لا يفوتُ الحقُّ جميعَ أفرادها إنْ فات طائفةً منهم. 

أمرٌ ثالثٌ:وهو أنَّ الحُكم بالهلاك على الفِرق الثِّنتين والسَّبعين، من جِنس سائر أخبار الوعيد التي تُقرِّر قاعدةً كليَّةً يكون لنزولها على الأعيان شُروطٌ أو موانعُ تعترضها.
إذا عُلم هذا كله، فإن نتيجةَ هذا التصوُّر لمعنى حديث الافتراق وثمرتَه: أنَّ الحقَّ لا يُطلبُ من الفِرق التي حادتْ في مناهجها عن طريق الشَّرع؛ فلا يُطلبُ الصوابُ من المذاهب الكلاميَّة كالمعتزِلة، ولا المتشيِّعة، ولا الرافضيَّة، ولا الخارجيَّة، ولا المتفلسفة، أو الباطنيَّة، ونحوها.
لكنْ للمؤلِّفَينِ رأيٌ آخرُ، نمهِّد له بالتنبيهِ إلى أنَّ فهم الحديث بهذه الطريقة التي عرضتُها- لو فُرِض جدلًا أنَّ غيره أصحُّ منه- فلن يكونَ هناك إشكالٌ في معناه يوجبُ رفْضَه، والتحذير منه. غير أنَّه لَمَّا لم يُعجبِ المؤلِّفينِ، حرَصَا على جعْله فَهمًا خطيرًا، يُهدِّدُ الأمنَ القوميَّ لهذه الأمَّة!!

في (ص51)، ذكر المؤلِّفانِ الحديث بلفظ: 
“افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فِرقةً، وافترقت النَّصارى على اثنين وسبعين فِرقة، وستفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة. كلُّها في النار إلا واحدةً. قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي”. 
بعد الحديث مباشرةً يعلِّقُ المؤلِّفانِ، فيقولان:
“تَذهبُ السَّلفيَّةُ المعاصرةُ، تَبعًا لشيخ الإسلام ابن تيميَّة بدرجةٍ أساسيَّةٍ، إلى أنَّ هذا الحديثَ هو في قِسمة فِرق المسلمين، وأنَّ الخلافات الواقعة بين المسلمين في العقائد هي موردُ القِسمة والافتراق، وأنَّ ثَمَّة فِرقةً واحدةً هي الناجية…”.

وللقارئ أن يَعجبَ من قولهما: “تبعًا لابن تيمية بدرجةٍ أساسيَّةٍ”، يقولان هذا مع أنَّ الفَهم الذي يعترضانِ عليه لا يوجد غيرُه أصلًا، إلَّا أنْ يكون شذوذًا لا قيمةَ له! فلو لم يخلق اللهُ ابنَ تيميَّة، أو عُدِمت السلفيَّةُ المعاصرة كلُّها وأفَلَتْ، فلعلَّ المؤلِّفَينِ لن يجدَا في كتُب الإسلام سوى هذا الفَهم الذي حاولَا تقبيحَه وتضييقَ القائلين به؛ تمهيدًا لإلغائه؛ كي ينفتحَ الطريقُ لرأيهما الجديد الذي سنختبر الآن جودتَه. 
يُواصِلُ المؤلِّفانِ تفكيكَ الحديث، فنراهما (ص55) يَتحدَّثان عن “الفهْم الأخطر”.. “فَهْمُ مَن عيَّن مجموعةً من الأبوابِ، أو المسائل، كأصول الدِّينِ، أو أصول مسائل الاعتقادِ، وجعَلَها- حصرًا وقصرًا- مناط الافتراق. وبالتالي جعْل مَن الْتزم فيها قولًا معينًا كان من الفرقة الناجية، دون من خالف”. قالا: “وهذا غلطٌ ظاهرٌ”.
إذن: النُّقطة التي وصَلْنا إليها الآن مع الــ “ما بعد سلفية” أنَّ أئمَّة الإسلام لم يزالوا على مَرِّ القرون يَفهمون حديثَ الافتراق فَهمًا خاطئًا.. وخطيرًا أيضًا. وأنَّ (ما بعد السلفيَّة) جاءَ أخيرًا بالفَهمِ الصَّحيح، الذي سيُخرج الأمَّةَ من التِّيه الذي أوْقَعَها فيه فَهْمُ أئمَّتِها.

تأمَّلتُ كثيرًا في الكتابِ مُتلمِّسًا وجهَ خطورة ذاك الفَهمِ المستقرِّ للحديث، فلم أجِدْ إلَّا شيئًا واحدًا.. لم أجِدْ إلَّا أنَّ تفسير الحديث بهذه الطريقةِ يُشكِّلُ خُطورةً بالغةً جدًّا على الفِكرة التي يُريد المؤلِّفانِ تقريرَها.. هذا كلُّ شيءٍ.
المؤلِّفانِ لهما غايةٌ تَنتهي إلى أنَّ الدِّينَ الحقَّ ضاع وتشتَّت بين فِرقِ الأمَّة، فأصاب بعضَه مالكٌ والشافعيُّ، وأصاب بعضَه أبو الحسن الأشعريُّ، وبعضه الآخر لم يُعْثَر عليه إلَّا عند مِثل القاضي عبدالجبَّار المعتزلي، وهكذا. 
ولأنَّ هذا هدفهما المنشُود، فقد شَرِقَا بحديثِ الفرقة الناجية، فاحتاجَا إلى تفريغِه من معناه؛ كي يصحَّ لهما رسْمُ صورةٍ لا تسمَحُ بوجود شيءٍ اسمه “معتقَد السَّلف” جمَع الصوابَ كلَّه، وإنْ جاز الغلطُ من أفراده؛ لذلك حَرَصَا على تخويفنا من مخاطر فَهمنا للحديث، ثم انطلقَا يُقرِّران معنًى ذائبًا لا يُعكِّر صفوَ كتابهما… قالا:
“الحديثُ أتَى في كلِّ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم من العلم والعمل، وهذا يَشملُ أصولَ الاعتقاد وفروعه، وأصولَ الشرائع والأعمال وفروعها، وسائر أبواب الأخلاق والمعاملات، فإنَّها كلَّها يجبُ التزامُ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه. ولا يكونُ رجلٌ، أو تكونُ طائفةٌ من الفرقة الناجية غير متوعَّدٍ بالنارِ، حتى يخلوَ من كلِّ مخالفةٍ تكونُ سببًا للوعيد بالنارِ، في العقائد، والأخلاقِ، والعبادات والمعاملاتِ..”.
فالحديث- في رأي المؤلِّفَينِ- لا يختصُّ بالافتراقِ المنهجيِّ في العقائد، بل يَشمَلُ العقائدَ، والأخلاقَ، والعباداتِ، والمعاملات أيضًا. 
ونَلحَظ هنا أنَّهما لم يذكُرَا أيَّ مستندٍ لإلْغاء الفَهم الأوَّل، واعتبار هذا الفَهم الجديد (1)
جعَلَا القول الأوَّل خطأً ظاهرًا، وخطيرًا.. دون ذِكر سببٍ أو دليلٍ.
ثم ابتكرَا قولًا آخَر… ودون حُجَّةٍ أو دليلٍ أيضًا.

لكن إلى هنا.. نحنُ لم نصِلْ بعدُ لموضع الإشكال الأكبر، فالمؤلِّفانِ واصلَا (ص56) عرْضَ فَهمِهما لمعنى (الفرقة الناجية)، حتى انتهيَا إلى محلِّ الكارثة حين قالا:
“مصطلح الفِرقة الناجية مُرادفٌ تمامًا لمصطلح الإيمان الكامل بالواجبات، أي: إنَّ المرادَ به تحقيق الموافقة التامَّة لِمَا كان عليه النبي صلَّى الله عليه وسلم في العلمِ والعملِ… 
هذا المفهوم بهذه الصُّورة مفهومٌ ذِهنيٌّ، لا يكادُ يتحقَّقُ في الخارجِ، إلَّا في السَّابقين المقرَّبينَ، ممَّن يقبضهم اللهُ، وقد تقبَّل حسناتِهم، وغفَر لهم خطاياهم في الدنيا، وقد أدركوا الحقَّ الواجبَ كلَّه، لم يفُتْهُم منه شيءٌ، وهي منازلُ النبيِّين لا غير“.

إذن: كنَّا فيما مضَى نفهمُ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم يُخبر أمَّته بافتراقٍ سيقعُ بعدَه، وأنَّ فرقةً واحدةً ستنجو من تَبِعاتِ وإثمِ هذا الافتراق، والآن اكتشفْنا- مع المؤلِّفَينِ- أنَّ تلك الفرقة الناجية لا وُجودَ لها أصلًا، ولا يمكنُ أن يكونَ لها وجودٌ؛ هي مجرَّدُ فِرقة خياليَّة، فِرقة مثاليَّةٌ على الطريقة الأفلاطونيَّة! هي مفهومٌ ذِهنيٌّ يستحيلُ تحقيقُه بعد الأنبياء(2) !!
إذن: سقطتِ الفرقةُ الناجية، وأصبحَ كلُّ مَن سوى الأنبياء متوعَّداً بنار جهنَّم!! ولأنَّ النبوَّة خُتِمت، فقد صار عندنا ثِنتان وسبعون فِرقةً كلها في النار، وفِرقةٌ أخرى في النار أيضًا.
هذا الإبداعُ في الفَهم هو الذي ظلَّ المؤلِّفانِ يُردِّدان عجزَ مُخالفيهم عن مناقشته! وإني لأعجبُ- كلَّ العجب- كيف يَتورَّط مثلُ الأخوين في مِثل هذه التصوُّر السَّاذج، لكن حين يُعجَبُ المرءُ برأيه، يُنزَعُ التوفيقُ منه، وحينَها لا ينفعُه لا ذكاءٌ ولا جَودةُ فَهمٍ. 

حين أتأمَّلُ تفسيرَهما للحديث بهذه الطَّريقة، تقفزُ أمامي تلك العباراتُ التي شُحِنَ بها الكتابُ، عن عجْز، وسطحيَّة، وبساطة، وسذاجة، وضعْف أدوات العقل السلفيِّ البدويِّ!!
متوسِّطُ الفَهم يُدرك أنَّ ما قرَّره المؤلِّفان يعني- باختصارٍ- أنَّ الله سبحانه كلَّف عبادَه ما لا يُطيقون؛ فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلم يُخبرُ بافتراقٍ سيقعُ بعدَه، ويذكرُ أنَّ فِرقةً واحدةً فقط ستنجو من إثمِ هذا الافتراق.. ثم يأتي الما بعد سَلفيَّيْنِ ليُعلِنَا أنَّه: لن يُطيقَ أحدٌ طريقةَ هذه الفِرقة إلَّا إذا كان نبيًّا!! فأصبحتِ النجاةُ عند اللهِ مُعلَّقةً بمعنًى مستحيلٍ غيرِ قابلٍ للتحقيق أبدًا!
اللهُ سبحانه ختَم النبوَّة بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم ، وفي الوقتِ نفْسه حَكَم بألَّا نجاةَ لغير الأنبياء!
لَيْتَهما- أصلحهما الله- حين رفضَا طريقةَ أهل العلم في فَهْم الحديث، ليتَهما عرَضَا فَهمَها على كتاب الله- تعالى- إذنْ لوجدَا الشفاءَ في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. 

أين غابتْ هذه المعاني القرآنيَّةُ عن المؤلِّفَينِ، وهما يَتحذلقانِ في تحريف حديثِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ؛ كي يَصحَّ لهما هدفُ تذويبِ معنى وحدود معتقَد السَّلف؟! 
مَن قرأ الكتابَ بتمعُّنٍ يُدرك بسُهولةٍ سببَ لجوء المؤلِّفَينِ إلى هذا المعنى الباطل؛ الكتابُ كلُّه- كما أسلفتُ- غايتُه الكبرى رسمُ صورة لفِرَقٍ بعدَ جيل الصَّحابة كلُّها- بلا استثناءٍ، أفرادًا وجماعاتٍ- مُلوَّثةٌ بالضَّلالِ والانحراف، لكنِ الفَرقُ بينها في تركيز هذا الضَّلال ونِسبته.

هذا المعنى لخَّصتْه عبارةٌ ذُكرت في حاشية (ص56) حين قال المؤلِّفان: “قد يكونُ أحمدُ بن حنبلٍ من الفرقة الناجية في بابٍ، والقاضي عبدالجبَّار (المعتزلي) من الفِرقة الناجية في بابٍ أو مسألةٍ. وكِلاهما من الفرقةِ المتوعَّدة بالنارِ في أبوابٍ أخرى حصَل فيها الذنبُ أو الخطأ الموقوفة معذرته على العُذر”.
هذا الكلامُ فيه مِن خَطَلِ الرأي وبلادتِه ما يُضحِك ويُبكي؛ لا لأجْل خَطئِه شرعًا فقط، بل لأجْل تناقُضِه مع نفْسه؛ فمن المعلوم أنَّ النجاةَ لا تتجزَّأ بهذه الطريقة؛ لأنَّ مَن كان ناجيًا في بابٍ هالكًا في بابٍ، فهو في المُحصَّلِ غيرُ ناجٍ! 
هذا التفصيل الذي يَذكُره المؤلِّفانِ إنما يَصلُحُ في بيان أنَّ الإصابة والخطأ تَقبَلُ التَّجزِيء، أمَّا عند الكلام عن فِرقةٍ ناجيةٍ وفرقٍ أخرى هالكةٍ، فإنَّ مِثل هذا الفَهمِ الذي يَطرحانِه يعني ألَّا أحدَ ناجٍ، بل الجميع مُتوعَّدٌ بالعذاب.

وبعد كتابة هذا كله، رأيت أحد المؤلفَين (أحمد سالم) يقول في صفحته بإحدى مواقع التواصل:
“أضعف التفسيرات وأقلَّها حظًا من البينة، هو التفسير السائد عند السَّلفيين، وهو تفسيرٌ لا يوجد ما يكفي لدعمه حتى من نصوص القرون المفضلة”. 
هنا نرى أخانا –غفر الله له- يتلاعب بأدوات الاستدلالِ، فهو ينكر القول الأول بناءً على أنه لا يوجد ما يدعمه من نصوص القرون المفضلة، حسب تصوره.
لكن لم يبيِّن لنا إن كان في القرون المفضَّلة من يرى الفرقة الناجية معنى ذهنيًّا مستحيلًا!

*****

من المعالِم ما بعد السلفيَّة:
الصَّحابة ليسوا فِرقةً ناجية!!

مع أنَّ المؤلِّفَين ركَّزَا كثيرًا على مرجعية “إجماع الصحابة”، إلَّا أنَّ هذا التركيزَ كان له هدفٌ واضحٌ في الكتاب؛ هدفُه زحزحةُ مكانة معتقَد أئمَّة السُّنَّة ممَّن جاؤُوا بعد جِيل الصحابة، بحُجَّةٍ أنه لم يثبتْ عن الصحابة شيءٌ يدلُّ على جُمَلٍ مِن مُعتقداتـهم. ولأنَّ هذه غايةُ الكتاب وغرضُه الرئيس الأهمُّ، فإنَّ المؤلِّفَينِ لا يَجِدان غضاضةً- عند الحاجة- في التنازُل عن موقع الصَّحابة في سبيل تحقيق هذا الغرضِ. 
نرَى هذا جليًّا في التفسير المتقدِّم الذي قدَّمه مؤلِّفَا الكتاب لحديث الفِرقة الناجية؛ فإنَّ مِن نتيجته المباشرة: أنَّ أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسائر العشرة لم يَعودُوا مُبشَّرين بالجنة بعدَ التجليَّات الما بعد سلفية؛ هؤلاء جميعًا، ومعهم سائرُ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلم ، كلُّهم بلا استثناءٍ صاروا مُتوعَّدين بنار جهنَّم؛ لأنَّهم خرَجوا من بعضِ مواصفاتِ الفرقة الناجية، التي لن يُحقِّقها- في رأي المؤلِّفينِ- إلَّا مَن كان نبيًّا. 
المؤلِّفان- باختصارٍ- أَلغيَا وجود شيء اسمه “فرقة ناجية”، وحوَّلَا كلام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم إلى عِيٍّ تُنزَّه عنه فصاحةُ المصطفى صلَّى الله عليه وسلم ؛ فقد جعلَا معنى كلامه أنَّ أمَّته ستفترقُ بعدَه إلى ثلاثٍ وسبعين فِرقةً، كلُّها في النارِ إلَّا فِرقة الأنبياء، التي ختمت به!

وعلى طريقة المؤلَّفينِ لن تَقتصرَ المقارنةُ على أحمد بن حنبل، والقاضي عبدالجبار المعتزليِّ، بل بالإمكان القول: قد يكون أبو بكر الصِّدِّيق- رضي الله عنه- من الفرقة الناجية في بابٍ، هالكًا في بابٍ، حالُه في هذا لا يختلفُ عن حال سائر أئمَّة الضلالِ، الفَرقُ بينهم فقط في عددِ الأبواب التي تَحقَّقت فيها النجاة، لكن الجميع في النِّهاية متوعَّدٌ بنار جهنَّم!
حسَبَ رأي المؤلفَين، فإنَّ الصحابة، وجميعَ الصِّدِّيقين، والشهداء، والصالحين، كلُّ هؤلاء مُتوعَّدون بنار جهنم! فإياك إياك أن تدعو الله أن يحشرك معهم!
هذا الإبداعُ هو ما يُفاخرُ المؤلِّفانِ بعَجزِ الناقِدين من مناقشتِه!!
اللهمَّ ارضَ عن أبي بكرٍ، وسائرِ صحْبِ نبيِّك صلَّى الله عليه وسلم .


*****

من معالِم ما بعد السلفية:
السلفيَّة مستحيلةٌ.. لكنْ سهلةٌ أيضًا!! 

أيُمكنُ أن يكونَ المستحيلُ سهلًا ميسورًا؟ 
قبل صدور كتاب (ما بعد السلفيَّة) كان تصوُّرُ هذا محالًا، لكنَّه الآن أضْحَى ممكنًا في ظلِّ حركة التجديد السَّلفيَّة التي يقودُها المؤلِّفانِ!!
المؤلِّفانِ في سبيل تشويش الصِّلة بين سلفيَّة الصَّحابة- رضي الله عنهم-، وبين معتقَد السَّلف، كمالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ، ونُظرائهم. سلَكَا نفْسَ الطريقة التي استعملَاها في تفريغِ حديث (الفرقة الناجية) مِن معناه؛ فقد اجتهدَا في جعْل مفهوم السلفيَّة معنًى ذهنيًّا يستحيلُ تحقيقُه.

في (ص9) يُحدِّثنا كتاب (ما بعد السَّلفيَّة)، فيقول: 
“السَّلفيَّة: هي طلبُ ما كان عليه صحابةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم . وهي منهَجٌ يُطلبُ، وليست حقيقةً تُحاز”. “ومَن زعم اكتمال سلفيَّته كَذب”.
هذا الكلام معناه أنَّ السلفيَّة شيءٌ يُطلَبُ ويُسعَى إليه، لكن مِن المحالِ أن يصِلَ إليه أحدٌ، تمامًا كما أنَّ (الفرقة الناجية) نُقطةٌ مستحيلة لا يمكن أن يُصيبَها أحدٌ بعد الأنبياء!
والغاية من هذا التقرير رسْمُ صورة محكومٍ عليها بالنَّقصِ المحتوم للسَّلفيَّة التي سار عليها أئمَّةُ الإسلام، منذُ زمن التابعين إلى اليوم؛ فكلُّ هؤلاء سلفيتهم ناقصةٌ حتمًا.

يَزيد المؤلِّفانِ في البيان والشرح، فيقولان (ص9):
“السَّلفيَّةُ المرادُ بها: الإيمانُ بما أجمعتْ عليه صحابةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم إيمانًا بالقولِ، والعملِ، وعدمُ اعتبار خِلاف مَن خرج عمَّا أجمعُوا عليه”.
ويقولانِ (ص10): “المتمسِّكُ بإجماع الصَّحابة هو السلفيُّ”
(ولنحتفظْ بهذه العبارة التي سوف تَهدِمُ معمارَهما من أساسه بعدَ قليلٍ).

بعد ذلك شرَعَ المؤلِّفانِ في وضْع القيود الثِّقال التي تُؤكِّدُ- في رأيهما- أنَّ السلفيَّة معنًى مستحيلٌ، فيقولان (ص11): “السلفيَّةُ ليستْ مجرَّد مضامين معرفيَّةٍ، مَن حازها فهو سلفيٌّ. بل إنَّ من أعظم البلايا: أن تتحوَّل السلفيَّةُ إلى حالةٍ معرفيَّةٍ مجرَّدةٍ، ليس معها مقتضياتها الإيمانيَّة من التحقُّقِ بأعمال القلوب، وعِبادات الجوارح، ومكارم الأخلاق”.
مِن أعظم البلايا- في رأي المؤلفَين- حصْرُ السَّلفيَّة في مضامينَ معرفيَّة (الاعتقاد).
وعند هذا الموضِع نرجعُ لمغالطة “رجُل القشِّ”، التي أشَرْنا إليها في الحلقة الأولى. فالمؤلِّفان يُصوِّرانِ العالَمَ الذي يَتحدَّثُ عن المعتقَد السلفيِّ يُصوِّرانه في هيئة مَن أهدر أعمال القلوب، وعبادات الجوارح، ومكارم الأخلاق، مع أنه لا أحدَ يُريد هذا المعنى إطلاقًا، والذين قرَّروا المعتقَدَ السلفيَّ كانوا أعظمَ الناس إيمانًا وعملًا، وأكثرَهم دَعوةً للخير وأمرًا به.
غير أنَّ الحديثَ عن السلفيَّة حديثٌ عن مُصطلحٍ علميٍّ عقديٍّ له حدودٌ ومعالمُ، وهذا يختلفُ عن البحث في مُقتضياته ومُتعلَّقاته الإيمانيَّة. 

وطريقة المؤلِّفَينِ في الاعتراضِ على هذا تُشبه طريقةَ مَن إذا رأى فقيهًا يتحدَّث في مُصنَّفٍ فقهيٍّ عن تعريف الصَّوم، ويقول: “الصوم: معناه الإمساك بنيَّةٍ عن المُفطِّرات…”. فيأتي المعترضُ ليقول بخُشوعٍ وألمٍ: إنَّ مِن أعظم البلايا أن يتحوَّل الصومُ إلى عملٍ آليٍّ، بعيدٍ عن مُقتضياته من التقوى وحبْس النفس عن المحرَّماتِ!!
أو مَن يرى فقيهًا يُعرِّفُ الحجَّ بأنَّه “قَصْدُ مكَّةَ لعملٍ مخصوصٍ..”، فيعترضُ بحسرةٍ وبعينين تَفيضانِ من الدمع: مِن أعظمِ البلايا تحويلُ الحجِّ إلى مجرَّد تحركاتٍ وتنقُّلاتٍ خاليةٍ من معاني الإيمانِ وتعظيمِ شعائر الله!!
هذا كلُّه إنْ لم يكُن عبثًا ومناورةً، فهو نوعٌ من القصورِ في الإدراك والفَهم، لكنه قصورٌ خاصٌّ، صادرٌ ممَّن سيُجدِّدانِ للأمَّةِ أمْرَ سلفيَّتها!!


******

هنا نتوقَّفُ مع نُقطةٍ تبلغ الغايةَ في الطَّرافة المؤلِمة.
نقطة جعلتْني أستحضِرُ ثانيةً أحاديثَ المؤلِّفَين عن عجْز، وقصور، وبساطة، وسطحيَّة، وضعْف العقل السلفيِّ!!
مؤلِّفا (ما بعد السلفية)- بما يَمتلكانِ من أدواتٍ عقليةٍ ومعرفيةٍ متينةٍ- أرادَا تذويبَ معنى السلفيَّة من خلال تحويلها إلى نُقطةٍ خرافيَّة يستحيلُ الوصولُ إليها؛ كي يصحَّ لهم توزيعُ الحقِّ بين الفرق. وكانت الأداة التي استعملاها وضْعَ قيود ثقيلة تُضيِّق باب السَّلفيَّة، فاحتاجَا إلى إدخال السُّلوك وعمل الجوارح في مفهومها؛ ليقولا في النهاية: إنَّ مِن المحال على أحدٍ أنْ يَبلُغَ في عمله منزلةَ الصَّحابة؛ فلذلك لن يستطيعَ أحدٌ أن يكون سلفيًّا كاملًا. والنتيجة النهائيَّة: كلُّ الأمَّة بفِرقها لديها سلفياتٌ ناقصة، سواء في ذلك مالك والشافعي، أو القاضي عبدلجبار المعتزلي، أو مَن هو أضلُّ منه.
ما لم يتنبَّه له العقلُ (ما بعد السَّلفي) أنَّه- من حيثُ لم يشعُرْ- لَمَّا أرادَ جعْل السلفيَّة معنى مستحيلًا، سلَك طريقًا جعَلَها أسهلَ مِن شُرْب الماء البارد! 
السلفيَّة مستحيلةٌ حسَب رأي (ما بعد السلفية)، لكنَّها- حسبَ رأي المؤلِّفَينِ أيضًا- منهجٌ لا يَقتضي من المكلَّف أيَّ الْتزامٍ بفِعل الواجبات أو ترْك المحرَّمات.
كيف ذلك؟
وهل مِن الممكن أن يقَع عاقلٌ في تناقُضٍ مكشوفٍ كهذا؟
نعم.. مِن الممكن، بشَرْط أن يَخرُج من رِبقة وأغلال مالكٍ والشافعيِّ وأحمد؛ لينطلقَ بعد ذلك في فضاء أحمد سالم وعمرو بسيوني.
المؤلِّفان سبَق أنْ قرَّرَا أنَّ السلفية تعني: “التمسُّك بإجماع الصَّحابة”. ومعنى هذا أنَّ كلَّ مَن لم يخرقْ إجماع الصحابة، فهو سلفيٌّ. والآن: يُقرِّرانِ أنَّ إجماع الصحابة المقصود لا يَنحصِرُ في مضامينَ معرفيَّة (عقائد)، بل يشمل أيضًا: أعمال الجوارح.

السُّؤال الآن: هل أجمَعَ الصَّحابة في أعمال جوارحِهم على شيءٍ؟!
نحن نستطيعُ حكايةَ إجماع الصحابة على (مضامين معرفيَّة) حسَب تعبير المؤلِّفين، لكن هل يستطيعُ أحدٌ أن يَحكي إجماعَهم على سلوكٍ ما؟!
الصَّحابة رضي الله عنهم مجمعون مثلًا على تحريم الرِّبا، والزِّنا، وشرب الخمرة، وقتل النفس المعصومة، والسرقة، والظلم، والبغي، وسائر المعاصي المعلومة تحريمها.
لكن على مستوى السُّلوك والعمل، هل اتَّفقوا كلُّهم على العملِ بذلك؟ 
نحن نُدرك أنَّ الصَّحابةَ مع فضْلهم على مَن بَعدَهم، إلَّا أنَّهم ليسوا معصومِين، وقد وقَع زمنَ النبوَّة وبعدَها مِن بعض الأصحاب ذُنوبٌ ومعاصٍ مرويَّةٌ في أحداثٍ معروفةٍ مشهورةٍ. وما لم يُنقَل وقوعُه، يبقَى احتمالُه قائمًا؛ إذ ما من معصيةٍ- كبيرةٍ، أو صغيرةٍ-، إلَّا ويكون وقوعُها ممكنًا، ولا يمكن لأحدٍ ادِّعاءُ أنَّ المعصية الفلانية- أي معصيةٍ- لم يَتلبَّس بها أحدٌ زمنَ الصحابة الكِرام رضي الله عنهم.
فنحنُ إذا أَدْخَلْنا السلوك والعمل في مفهوم السلفيَّة التي هي إجماعُ الصحابة؛ فمعنى هذا أنَّ مَن جمَع معاصي الأرض كلَّها- دون الكفر بالله-، فلا يمكنُ القولُ بأنَّه خرَق إجماعَ الصحابة السلوكيَّ.

وعليه: يستطيعُ الفاجرُ أن يُمعنَ في فجوره ويَزيدَ عليه ما شاء، دون أن يَنقُصَ من سلفيَّته مثقالُ ذرةٍ؛ فقط عليه أن يتحاشَى ما أجمع الصحابةُ على ترْكه سلوكيًّا، وهذا شيءٌ لا يمكنُ الوقوفُ عليه.
فهل هناك سلفيةٌ أسهلُ من هذه؟!
فلِمَ أعْلَنَ المؤلِّفانِ أنَّ مَن زعم كمالَ سلفيَّته كذَب؟!!!
هذه حقيقةُ قولِ مَن يريدُ أن يُدخِلَ في مفهوم السلفيَّة سلوكَ الصحابة وعمَلَهم، لكن العقل الما بعد سلفيّ، لم يتفطَّن لهذا اللزوم، رُغمَ انعتاقه من بساطة، وسذاجة، وسطحيَّة، وضعْف أدوات العقل السلفيِّ الآفِل.
هذه الورطاتُ والإشكالات لم يَتنبَّه لها العقل الـ “ما بعد سلفي”، حين غشيتْه الحماسةُ والاندفاع، وهو يَجهَد في زعزعةِ الصِّلة بين المعتقَد السَّلفيِّ وأصولِه الصحابيَّة.

تجديد المتحيِّرين

صادَفني أثناء تتبُّع أصلِ الكتاب ومواردِه، تعليقٌ على (الفيسبوك) كُتِب قبل عامين، شرَح فيه أحمد سالم حدودَ المعتقَد السلفيِّ بشيءٍ يُقارِبُ ما في كتابه، غير أنَّه أتْبع كلامه بملحوظةٍ استوقفتْني طويلًا … فبعدَ شرح معنى السلفيَّة، والمعتقَد السلفيِّ قال:
 

f3628 fahr

هذا الكلام عُمرُه سنتان .. 
سنتانِ فقط تَفصِلان بين مرتبة مَن لم يَتحرَّر له معيارُ التصنيف العقديِّ، وبين مرتبةِ مَن سيَجري علي يديه ويدي صاحبه تجديدُ سلفيِّةِ أمَّة محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم ، تلك السلفيَّة المشوَّهة التي يرَى المؤلِّفانِ أنَّها فسدتْ بسبب أغلاطِ مالكٍ، وجناياتِ الشافعي، وبغْي أحمدَ بن حنبلٍ، وسطوة ابن تيمية..

مَن يَستحضرُ هذا التردُّدَ والتوقُّف، سوف يَفهم مغزى تلك المواضع الضبابيَّة الحائِرة في كتاب (ما بعد السلفيَّة)، حيث نرى المؤلِّفينِ في عِدَّة مواضع من الكتاب، إذا واجهَا أهمَّ مسألة، وهي مطابقةُ معتقَد السَّلف لمعتقَد الصحابة- ولو في الأصول- ابتعدَا عن هذه النقطة بحُجَّة أنَّ دورهما دورُ (مؤرِّخ الأفكار) الذي يقتصر عملُه على الدِّراسة التاريخيَّة لأطوارِ السَّلفيَّة، دون أن يكونَ من مَهامِّه تحريرُ حدود “السلفيَّة الشرعيَّة”، مع أنَّ المفترَض أن تكونَ هذه رأسَ مَهمَّاتِ الكتاب الذي سيُجدِّد لنا سلفيتَنا المتآكِلة. 
فلنتأمَّل بعض التردُّدات والتذبذات الشائِعة في الكتاب. 
ففي (ص692)، نجِد المؤلِّفينِ يَشرحانِ المصطلحاتِ المستعملةَ عندهما، ومنها مصطلح “أهل الحديث”، فيقولان: “المرادُ بهم الطبقةُ المشتهرةُ بالنقد والمعرفة في الحديثِ في القَرنَين الثالث والرابع الهجريِّ، وأشهرهم: مالك، وسفيان الثوري، والشافعيُّ، وأحمدُ، والبخاريُّ، والدارميُّ، ونحوهم”.

هؤلاء أعيانُ أئمَّة أهل السُّنة، فلننظرْ بعد ذلك كيف تناول المؤلِّفان الخلافَ العقديَّ بينهم وبين الطوائف الكلاميَّة. ففي (ص10) نجد موافقةً على قَضيةٍ بدهيةٍ تتعلَّق بمخالفة الروافض والخوارج والجهميَّة والمعتزلة أصولَ الصحابة، لكن نقرأ بعد ذلك:
“وإنما وقَع الإشكالُ بين أهل الحديثِ، وبين الأشاعرةِ والماتُريديَّةِ في تعيين ما هو مذهبُ السَّلفِ. وبالتالي: ما هو الواجب في نصوص الوحي في التوحيد والقدَر، فادَّعى كلٌّ منهم تمثيلَ الصحابة”
يُعلِّق المؤلِّفانِ هنا بالتأكيد على أنَّ الأشعريَّة لا يَرونَ طريقتَهم مباينةً لطريقة الصحابة. 
إذن: أهل الحديث يَدَّعون. 
الأشعرية يدَّعون. 
الماتريدية يدَّعون .. ثم ماذا؟ 
عند هذا الحدِّ توقَّف المؤلِّفان..

في الصفحات التالية انتقلَا لحديث جديدٍ، فقالَا (ص11):
“إذا اعتبرْنا أنَّنا في هذا الكتابِ نؤرِّخُ للأفكار= فقد انطلقنا من مسلَّمةِ أنَّ أهل الحديث في أبواب التوحيد والقدَر: أصدقُ تمثيلًا للصحابة ومنهجهم من الأشاعرة والماتريديَّة. وهي مسلَّمةٌ لا يهُمُّ إنْ كنا نرى على المستوى الذاتي صحَّتَها من عدمه، فنحن نُسلِّمُ بها تنزُّلًا”.
ثم يُضيفانِ: “مهما سلَّمنا لهم بكثرةِ ما أصابُوا فيه اتِّفاقَ الصحابةِ في هذه الأبوابِ= فإنَّهم لا يكونون ممثِّلينَ مطابقينَ تمامًا لما عليه الصَّحابة”.

حِين نَجمعُ أطرافَ الكلام، نرى صورةً تقولُ: 
مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وسائرُ أهل الحديث يَدَّعونَ تمثيلَ منهج الصحابة. 
وفي المقابل الأشعريَّةُ والماتُريديَّة يدَّعون الشيءَ نفسه. 
ومؤلِّفَا الكتاب يقولان: لا يهُمُّ على المستوى الذاتيِّ إنْ كنَّا نرى أيُّهما الأصدقُ تمثيلًا، لكنَّنا نُسلِّمُ تنزُّلًا أنَّ أهل الحديثِ (وهم: مالك، وسفيان الثوري، والشافعيُّ، وأحمدُ، والبخاريُّ، والدارميُّ، ونحوهم) أصدقُ تمثيلًا!!

ولنتنبَّه هنا إلى أنَّ الكلام ليس عن كون طريقةِ أهل الحديث مُطابقةً لطريقة الصحابة، مطابقةً تامةً،البحث فقط في مُجرَّد كونهم أقربَ و”أصدق تمثيلًا” من الأشعريَّة والماتريديَّة!
وفي أيِّ شيءٍ؟ في أبواب القَدَر والإيمان!!
المؤلِّفان هنا: يُسلِّمان تنزُّلًا وجدلًا.. 
وإنْ كانا يَعرفانِ معنى (التنزُّل الجدليِّ)، فهو كلامٌ يَلجأ إليه مَن يُنازِع ولا يُسلِّم تسليمًا حقيقيًّا، لكن لا يُريدُ التشاغُلَ بالمناقشة؛ لأنَّه يُريدُ نقْل الكلام إلى اتِّجاهٍ آخَرَ.

هذا المسلكُ الحائِر يَتكرَّرُ كثيرًا في الكتابِ؛ ففي (ص86)، بعدَما شرَحَ المؤلِّفانِ طريقةَ أئمَّة السلف في استنباط إجماع الصَّحابة على معتقداتهم، نجِد المؤلِّفَينِ يتساءلان:
“لكن هل كلُّ ما بينَ أيدينا اليوم من العقائد السلفيَّة تمَّ تحريرُه بنفس الطريقة؟
الجوابُ: لا. وبعضُ ما تمَّ ترسيخُه كعقائدَ سلفيَّةٍ في التحقُّقات التاريخيَّة المتتاليةِ= لا يمكنك أن تجِدَ عليه بيِّنةً بنفس هذا التركيب”.

تقرأ هذا الكلامَ فتقولُ: لعلَّهما يُريدانِ بعضَ فروع الاعتقادِ التي لم يستطعِ المؤلِّفانِ معرفةَ كيف استنبطَ السَّلفُ إجماعَ الصحابة عليها، لكنَّ المؤلِّفَينِ أقفلَا هذا الباب، فتشكَّكَا حتى في أصولِ الاعتقادِ، وبطريقةِ التسليم الجدليِّ نفْسها قالا:
“إلا أن أصول العقائد السلفيَّةِ التي تصنعُ الفارقَ الأساسيَّ بينهم، وبين سائر الفرقِ العقديَّة، قد استطاع السلفيُّون أن يُقدِّموا عليها بينةً بهذه الصورة”. 
وقبل أن تفرحَ بهذا الكلام، يَحرِص المؤلِّفان على قطْع فرحتك ببيان مرادهما، فيقولانِ: “بقطْع النظر عن التسليم لهم بذلك من عدمِه”
إذنْ حتى بناء أصول العقائد السَّلفيَّة على إجماع الصَّحابة، يتعامَل معه المؤلِّفان ببرودٍ كاملٍ، فقط بتسليمٍ جدليٍّ يُشعِرُ- في أحسن الأحوال- بعدمِ الوثوق.

فكيف لمِثل هذين أن يُجدِّدَا للأمَّة سلفيَّتها؟!

في (ص160) ترَى الصفحة مصدَّرةً بعنوان بارزٍ:
“ما مدى صحَّة تمثيل ابن تيميَّة لمذهب السَّلف؟”.
ثم مباشرةً يَبدأانِ بالإشارة إلى أنَّ الأشعريَّة وغيرهم لا يُسلِّمون بهذا لابن تيميَّة. 

فأصبح أمامنا عنوانٌ يتضمَّنُ سؤالًا عن علاقة ابن تيميَّة بمُعتقَد السَّلف.
وتحت هذا العنوان اعتراضٌ أشعريٌّ. 
فما رأيُ المؤلِّفَينِ؟
قالا: “ولن نَعتنيَ بتحرير هذه القضيَّة، فليست موضوعَ بحثنا”!

إذنْ: ما غرضُ السُّؤالِ المصدَّر في واجهةِ الصفحة؟!
قبل ذلك بثلاث صفحات، في (ص157) عِندَما يَتحدَّثانِ عن جهود ابن تيميَّة في تقرير مُعتقَد السَّلف، تراهما يقولان:
“قبل ابن تيميَّة لم يكُن هناك مِعمارٌ سلفيٌّ تامُّ البُنية. وإنما أحجارٌ وأعمدةٌ مُفرَّقة، تتابع على إظهارها على سطح الأرض (مع التسليم الجدليِّ بأنَّ أساسها التحتيَّ موجودٌ في الوحي، بيَّنهُ الوحيُ بحسَب طريقته في البيان) الصحابةُ والتابعونَ وأتباعهم وطبقة أحمد وأصحاب الحديث ….”
تسليمٌ جدليٌّ، لا أكثر!
لا تتوقَّفُ هذه التقريراتُ القلِقةُ عند خِلاف الأشعريَّة وأضرابهم، لكنَّها تتوسَّع لتمسَّ توحيدَ العبادة نفْسَه عندما يتناولُ المؤلِّفانِ مدَى سلفيَّة دعوة الشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، التي استعملَا لقَبَ (الوهابية) في التعبير عنها.
وليس الحديث هنا عن موقِف المؤلِّفَينِ من دعوة الشيخ؛ فمع هذه البلايا التي نُتابعها يصبحُ الكلامُ في هذا مع المؤلِّفَينِ من فُضولِ الكلام.
الحديثُ هنا عن تصوُّرِ المؤلِّفَينِ لتوحيد العبادة نفْسِه، وهل الاستغاثةُ بالمقبورين شِركٌ، أو لا؟ بل هل الاستغاثةُ بالمقبورين تُشرَعُ، أو لا تُشرَع، فضلًا عن كونِها شركًا. 
حين تقرأ طريقةَ المؤلِّفَينِ في عرْض المسألة تجِدُ إشكالَ العَرض القلق الحائِر يَتكرَّر من جديد حتى في هذه المسألةِ الكبرى!

في (ص174)، طرحَا التساؤلَ نفْسَه الذي سبَق طرْحُه في حقِّ ابن تيميَّة:
“ما مدَى صِدق تمثيلِ الدَّعوة الوهابيَّة للسلفيَّة المنهج الذي كان عليه إجماع؛ صحابة النبي صلَّى الله عليه وسلم “.

تحت هذا العنوان يبدأ المؤلِّفانِ بشَرْح إشكالٍ بدَا كبيرًا- في نظرهما- وهو عدمُ وجود نُقولٍ عن الصَّحابة يُعرَفُ من خلالها رأيُهم في الاستغاثةِ بالمقبورين!

ثم قالا: “غايةُ ما يملكه الوهابيَّةُ أربعةُ أمورٍ (لن يذكرَا سوى أمرينِ):
الأوَّل: نصوص الوحي في منْع صرْف العبادةِ لغير اللهِ، وأنَّه شركٌ، وتحقيقُ مناط هذا الصرَّف، وأنه يصدقُ على الاستغاثة بغير الله.
الثاني: نصوص ابن تيميَّة في أن الاستغاثة شركٌ وكفرٌ”
.

هنا لا ترى أيَّ موقِفٍ للمؤلِّفَين، فقط قرَّرَا أنه لا توجَدُ نقولٌ عن الصحابة في عَدِّ الاستغاثة بغير الله شركًا، ولا حتَّى معصيةً؛ وعليه فإنَّ “الوهابية” لا يَملِكون إلَّا نصوصًا من الوحي، ليستْ في الاستغاثة خاصةً، وإنَّما في مُطلَق المنع من صرْف العبادة لغير الله أَدخلتْ فيها “الوهابية” الاستغاثةَ بالموتى، مُستندين على نُصوصٍ عن ابن تيميَّة تؤيِّدهم. 

بعدَ هذا العَرضِ البارد يَسرُد المؤلِّفانِ نصوصَ ابن تيميَّة المؤيِّدة لـ “الوهابية”، ثم يبدأان في تفصيل مواقِف المعارِضين، فيَذكرانِ ما خلاصتُه أنَّ المخالِفين لـ “الوهابية” أربعةُ أنواع:
– مَن لا يَرَى بأسًا في الاستغاثة بغير الله، ويعدُّ ذلك من التوسُّل المشروع.
– مَن لا يرى جوازَها، لكن يعدُّها بِدعًا، وليس شركًا بالله.
– مَن يعدُّها شِركًا، لكن يَعذُر فاعليها بالجَهل والتأويل.
– مَن لا يؤمن بوجود هذه المظاهِر أصلًا زمنَ الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ويرَى أنَّ القصَّةَ كلها تتعلَّقُ بدوافعَ سلطانيَّة.
بعدَ عرْض هذه المواقف الأربعة، ترى المؤلِّفَينِ يقولان (ص177):
“ليس موضوعُ بحثنا تحليلَ هذه الاعتراضات، ومدى صحَّتها من خطئها”. 
فما الموضوعُ إذنْ الذي لأجْلِه سِيقت اعتراضاتُ المخالِفين.


******

وبعدَما ترَك المؤلِّفانِ شِرْك القبور متردِّدًا بين الجوازِ وعَدَمِه، وبين كونه شِرْكًا أو بدعةً، انتقلَا لمقارنةٍ تاريخيَّةٍ مجرَّدة؛ مقارَنة بين تصوُّراتِ “الوهابيَّة”، وبين المحاولات السلفيَّة السابقة عليها بدايةً من زمن ابن حنبلٍ، التي سبَق أنْ حَكَما بأنَّها لا تمثِّل بالضرورة سلفيةَ الصحابةِ.
فقط مقارنة بين أحمد وابن تيميَّةَ، وبين “الوهابيَّة”، في بحثٍ تاريخيٍّ صِرفٍ بعيدٍ عن الحُكم بالصواب والخطأ!! أو كما يُعبِّران دائمًا: بحث معرفي إبستمولوجي.

يتساءل المؤلِّفانِ (ص177) : إن كان لرأيِ “الوهابيَّة”- في جعْل الاستغاثة كُفرًا- نظيرٌ في تصرُّفات السلفيَّات المتقدِّمةِ عليهم. ثم يُجيبان:
يجيبان: “نعم”. 
وقبل أن يفرَحَ السلفيُّ بهذا الجواب الما بعد سلفي، يُضيف المؤلفانِ: 
“فتقريرُ التكفيرِ بهذه الأفعال لا يمكن القطعُ بنفيِه عن السَّلَف”.

“لا يمكنُ القطعُ بنفيه”!!
إنْ لم يخطئِ المؤلِّفانِ في التعبير، فمعنى كلامهما أنَّ من الممكن نفْيَ ذلك، لكن لا يمكن القَطْعُ بالنفيِ! فيُصبح من الجائز أن يكون السلفُ- قبل ابن عبدالوهابِ- يَرونَ الاستغاثةَ بالموتى شِركًا بالله، كما أنَّ من الجائز أنَّهم لا يرونَ ذلك!

تبحث عمَّا يُزيل هذا الغموضَ، فترى تساؤلًا آخرَ يتْلو التساؤلَ الأوَّل. فبعد أن قرَّرَا عدمَ إمكانيَّةِ القطع بنفي الصِّلَة بين رأي “الوهابية”، والسّلَف في حُكم الاستغاثة بالمقبورين. يتساءل المؤلفانِ:
“هل يمكنُ القطعُ بإثباتِه للسَّلف، بحيثُ يكون مُعتقَدًا سلفيًّا، ويخرجُ المخالفُ فيه من السلفيَّة. 
الجواب: ليست هذه وظيفةَ مؤرِّخِ الأفكار. وإنما هذا بحثُ الفقيه والكلاميِّ”.

النتيجة: 
– موقِفُ الصَّحابة من الاستغاثة بالقُبور مفقودٌ. و”الوهابية” وخصومُهم يَتنازعون في هذا، لكنْ ليس البَحثُ في تحقيق ذلك من وظيفةِ مُجدِّدَيِ السلفيَّة! 
– تركْنا الصحابةَ، وجئنا لمن بعدَهم من السَّلفِ. فما موقفهم من شِرْك القبور. هل سيرونه شِركًا كما رآه ابن عبدالوهاب. بالإمكان النفيُ، لكن لا يمكن القطعُ بالنفي. وأمَّا الإثباتُ، فليست هذه وظيفةَ مؤرِّخ الأفكار.

إذن الكتابُ- الذي سيجدِّدُ للأمَّة أمْرَ سلفيَّتها- ليس من اهتماماته: هل تجوز الاستغاثةُ بالقبور، أو لا تجوزُ، فضلًا عن كون ذلك شِركًا!! فلا تستحقُّ هذه المسألةُ إشارةً عابرةً، ولو حتى في حاشيةِ الكتاب! لكنَّ الذي يستحقُّ الإشارةَ والتفصيل آراءُ المخالِفين واعتراضاتُهم. أمَّا هل هي اعتراضاتٌ صحيحةٌ أو لا؟ لا يُهِمُّ.

– وانتسابُ مُعتقَد السَّلَف في الإيمان والقَدَر للصحابة رضي الله عنهم، يُسلِّم به الكتابُ تسليمًا جدَليًّا، على اعتبار أنَّ تحريرَ هذا- في رأي المؤلِّفَينِ- لا أهميَّةَ له بالنسبة للكتابِ الذي سيُجَدِّد السلفيَّة!!

ما معنى هذه التصرُّفات الحائرة؟
وما الرِّسالةُ الكبرى التي يُوصلها الكتابُ للقارئ؟

من العجائب بعَد هذا كُلِّه، أنْ تقرأَ لعمرو بسيوني في صفحته بتويتر:
“نحنُ قرَّرْنا بجَلاءٍ أنَّ أصولَ الدِّين الكبرى: الإيمانَ والقَدَر، لم تَقْدِر أيُّ فِرْقةٍ منهجيَّةٍ أن تؤسِّسَ لها تأسيسًا كالتحقُّقاتِ السلفيَّة”!!
قرَّرنا بجلاءٍ!! 
هل قرأ بسيوني كتابَه؟!


******

مِن أين جاء البلاءُ؟

تردَّدَ في الكتاب أنَّ المؤلِّفَينِ يبحثان بحثًا معرفيًّا “إبستمولوجيًّا”. فما مرادُهما؟

هناك نمطٌ سائدٌ في الدِّراسات الغربية في تناوُلها لتاريخ الأديان وتطوُّراتها. وهذا النمطُ تسرَّبَ من الباحثِينَ الغربيِّينَ إلى كتاباتِ جُمْلةٍ من العلمانيِّين المنتسبين للإسلام.
في البيئة الأكاديميَّة الغربيَّة العلمانيَّة، تجِد الباحثينَ- حتى مَن يؤمِنُ منهم بالنصرانيَّة- يُقيمون أبحاثَهم على أساسِ البُعد المعرفي “الإبستمولجي”، المعزول عن القناعة الدِّينيَّة. وكلُّ دراسةٍ يدخل في تشكيلِها تصورٌ دينيٌّ، فهي عندهم دراسةٌ ذات طابَعٍ “أيديلوجي”، يَسُدُّ طريقَ الوصول إلى المعنى “الإبستمولوجي”.
لذا غالبًا ما ترى الدَّارسَ الغربيَّ في أبحاثه المتعلِّقة بتاريخ الأديان غيرَ معْنيٍّ بالوصولِ إلى أحكامٍ بالخطأ والصَّوابِ دِينيًّا، فتراه يتعامل مع الأديان وتطوُّراتها تعاملًا معزولًا عن إيمانه أو كُفْره بها. حتى لو كتبَ في دِيانته النصرانيَّة، فليس بالضرورة أن يُحرِّرَ عَلاقتَها بدِين المسيح، بقَدْر ما يَعتني بتحرير تطوُّراتها وتقلُّباتها التاريخيَّة، بصفتها ظاهرةً بشريَّةً.

هذا المسلكُ في البحث فَرَضَتْه في الغرب أمورٌ؛ أهمُّها: غَلَبَةُ المِزاج العلمانيِّ في البيئة الأكاديميَّة، وساعَد على ذلك طبيعةُ الدِّيانةِ النصرانيَّةِ التي تفتقر للصَّلابة في تكوينها. وحين انتقَل الباحثون الغربيُّون لدراسةِ الإسلام وتاريخ عقائِدِه وتشريعاته، كتَبوا بالطريقَةِ نَفْسِها.

هذه المنهجيَّة في الكتابة، تسرَّبَت إلى العلمانيِّين العرب، فصاروا يبحثونَ في دِين الإسلام بمنهجٍ ببَّغائيٍّ، بطريقة مَن لا يُبالي بالخطأ والصَّواب من الوِجْهة الشرعيَّة. 
والذي يَعتادُ القِراءة لهؤلاء سيكون عُرضةً لتشرُّبِ مناهجهم البحثيَّة التي تتناول أخطرَ المسائل الدِّينيَّة بحيادٍ قاتلٍ في أحسنِ الأحوال. هذا المرَضُ هو ما رأيتُه جليًّا في تناوُلِ كتاب (ما بعد السلفية) لمعنى السلفيَّة ومحدِّداتها. وقد رأينا آنفًا أمثلةً لمباحِثَ عَقَديَّة بالغةِ الأهميَّة، ترى المؤلِّفَينِ يَمُرَّانِ عليها بإعراضٍ مُتعمَّدٍ ومبرَّر بالبَحْث المعرفي!! 

يتناولان خِلافاتٍ حول أصولٍ عَقَديةٍ كُبرى وكأنَّها لا تعنيهم في شيءٍ. فالكتاب يَحرِصُ- كلَّ الحرص- على المقارنة بين سلفيَّة أحمد، وسلفيَّة البربهاريِّ، وسلفيَّة ابن تيميَّةَ، وسلفيَّة ابن عبد الوهَّاب، وأخيرًا السلفيَّة المعاصرة. فإذا جاء عند المحكِّ وهو محلُّ هذه السلفيَّات المتتالِيَة من السلفيَّة الشرعيَّة؛ سلفيَّةِ الصَّحابة، بَرَزتْ عباراتٌ؛ مثل: “تنزُّلًا”، “مع التَّسْليمِ الجَدَلي”، “ليست هذه وظيفَةَ مؤرِّخِ الأفكار”.

ولأجلِ هذا المعنى رأيْنا المؤلِّفَينِ يؤكِّدان في أوَّل الكتاب على أهميَّة تَصنيفِ الأفكار معرفيًّا، من أجْل تبريرِ تلك التَّصنيفاتِ الموجودة في كتابهما: سلفيَّة علميَّة، جهاديَّة، مَدْخليَّة، حرَكيَّة. يقول المؤلِّفان (ص68): “التصنيفُ العِلميُّ والفكريُّ لأقوال النَّاس، ضرورة معرفيَّة، والغَرَض منها فصلُ ما بين أقوال الناسِ؛ منعًا للاختلاط. ولا ينبغي أن يقودَنا غلوُّ أقوامٍ وبغيُهم ووضْعُهم التصنيفَ في غير مواضِعِه إلى تضييعِ التصنيفِ، وإهدارِ أهميَّتِه المعرفيَّة في نقد العقائد والأقوال والأفكار والرِّجالِ”.

لكنَّ هذا التَّصنيفَ الذي يؤكِّدان أهميَّتَه يحضُرُ فقط في توصيفاتهم التي يُسمِّيانِها معرفيَّةً “إبستمولجيَّة”. أماَّ عند الكلام عن السلفيَّة الشرعيَّة، فلا ترى إلَّا محاولةً مستميتةً في إلغاء ثمرة التصنيف العَقَديِّ، ومحاولةً في إدْماجها في المذاهِب المخالِفَة لها؛ فقد انتهوا إلى أنَّ السلفيَّة هي الإسلامُ، ولا يخرُجُ منها أحدٌ حتى يخرجَ من الإسلامِ نَفْسِه، كما أعلنَ ذلك أحمد سالم في صفحته على تويتر. يسأله أحَدُ النَّاسِ:

هل تُنازعُ في أنَّ هناك حُزْمةً من “الأصول الاعتقاديَّة” يؤدِّي إخلالُ المرءِ بإحداها إلى خروجه من مُطْلَقِ التسلُّف، دون الإسلامِ؟
يجيب: “كتصنيفٍ معرفيٍّ متعلِّق بتاريخ الأفكار العَقَديَّة يفصل بين السلفيَّة والأشاعِرَة والمعتزلة= لا أنازع.
كتصنيف فِقهيٍّ دِينيٍّ متعلِّقٌ بالحُكم الشرعيِّ على الشخص= السلفية عِلْمٌ وعملٌ. ولا يخرجُ الإنسانُ منها إلَّا إذا خرج من الدِّينِ نَفْسِه، وطالما معه دِينٌ وإيمانٌ فمعه سلفيةٌ بِقَدْر هذا الدِّين والإيمان”.

يُسْأَل: “هل تُسمِّي الخوارجَ على عليٍّ سُنَّةً على قَدْرِ ما عندهم؟ وهل تسمِّي الخُميني سُنِّيًّا على قَدْرِ ما عنده؟
الجواب: “الحُكم عامٌّ في كلِّ مسلمٍ، ما دام الرجلُ مسلمًا فهو سُنيٌّ بقدر سُنِّيَّته، مبتدعٌ بقَدْر بِدعته.
الاسمُ غالبُ ما يُحتاجُ له هو لأجْل التصنيف المعرفي، هذا يكفي فيه مجرَّد المخالَفَة لأصلٍ كبيرٍ من الأصول التي أجمع عليها الصحابةُ”.

إذن اسمُ السُّنَّة والسلفيَّة غالِبُ ما يُحتاجُ إليه في التصنيف المعرفيِّ، أمَّا التصنيفُ الدِّينيُّ، فالسلفيَّة اسمٌ فضفاضٌ لا يخرج منه أحدٌ حتى يَخْرجَ من الإسلام نفسِه. وبهذا سيكون عندنا: سلفيٌّ سَلفيٌّ، وسَلَفيٌّ صوفيٌّ، وسلفيٌّ جَهْميٌّ، وسلفي رافضيٌّ، وسلفيٌّ خارجيٌّ .. كل هؤلاء لم يَخرجوا من السلفيَّة، حتى مع آرائهم البِدْعيَّة الضَّخمة، فما داموا لم يَخرجوا من الإسلام، فهم لا يَزالونَ في دائرة السلفيَّةِ الشَّرعية؛ سلفيَّةِ الصَّحابة الكرامِ!!

فأيُّ ضلالٍ وزَيْغٍ بعد هذا؟!


******

غيرَ أنَّ مَسلَكَ المؤلِّفَينِ اتَّسم بمنهجية مضطربةٍ للغاية؛ فلا هو الذي استمرَّ على دعوى البحثِ المعرفيِّ، ولا هو الذي حرَّر مُعتَقَد أهلِ السُّنَّة بعباراتٍ واضحةٍ. يكفي فقط أنَّ المؤلِّفَينِ صارَا يُعْلنان الآن أنَّهما كتبَا بغَرَض تجديدِ السَّلفيَّة، وهذه الدَّعوى وحْدَها كفيلةٌ بإسقاط كلِّ إمكانيَّةٍ للبحث المعرفيِّ الذي هدَفُه المعرفةُ لا غيرُ.

هذا التناقضُ يجعلُ القارئَ يستنتجُ أنَّ دعوى البحثِ المعرفيِّ التاريخيِّ لم تكن سوى ستارٍ لشكوكٍ مرتبطةٍ بالحدود التي تفْصِل المعتَقَد السلفيَّ عن الطرائِقِ البِدعيَّة؛ لذلك تمَّ تمريرُ جُملة من التشكيكاتِ في الكتابِ، ثم في مواقِعِ التواصُلِ، حول تفرُّدِ المعتَقَد السلفيِّ بالمنهج الحقِّ، مع أنَّ المفترَض أنَّ هذه ليست وظيفةَ مُؤَرِّخ الأفكار. وإلَّا فما عَلاقةُ مؤرِّخ الأفكار بتعويمِ معنى حديثِ الفِرْقة الناجِيَة؟!

في حلقتنا الثالثة- بإذن الله- سنرَى كيف زرعَ المؤلِّفان ألغامًا من الشُّكوكِ حَوْل معتَقَدِ السَّلَف، من خلالِ كتابٍ يقولانِ: إنَّه يُجدِّدُ أمْرَ السَّلَفيَّة!!

الحلقةُ الثالثة .. لن يطولَ انتظارُه كما طالَ انتظارُ هذه المقالَةِ إن شاء اللهُ.

———————
(1) مع ملاحظة أنهما (ص53) ضعَّفا الزيادةَ الواردة في آخِر الحديث، زيادة “ما أنا عليه اليوم وأصحابي”، التي يمكنُ أن يَتشبَّثَا بما فيها من عُمومٍ.
(2) على أنِّي أعجبُ كيف يستطيع العقل “ما بعد السلفي” الجمْعَ بين وصف شيء بأنه مفهومٌ ذِهنيٌّ، ثم يذكر أنه تحقَّق في الأنبياء؛ المفهوم الذهني يُفترض ألَّا يتحقَّق أبدًا، وإلَّا لم يعُد ذهنيًّا!

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × أربعة =